Facebook
Twitter
Telegramma
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

1. مقدمة في التطويبات

الهروب من حب التظاهر والاستعراض

“ولما رأى (يسوع) الجموع صعد إلى الجبل، فلما جلس تقدم إليه تلاميذه، ففتح فاه وعلمهم قائلاً: طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات” (مت 5: 1-2).

1. انظروا كيف كان (الرب) رزينًا بغير تفاخُر، إذ لم يجمع الناس حوله، بل كلما تطلَّب الأمر شفاءهم كان يذهب هو بنفسه يجول في كل مكان، يفتقد المدن والقرى. وإذ أصبح الجمع الآن عظيمًا جدًا، جلس في بقعة محددة، لا في وسط أية مدينة أو ساحة، بل على جبلٍ وفي برية صحراوية، ليعلمنا ألا نفعل شيئًا لمجرد التظاهر والاستعراض، وحتى نعزل أنفسنا عن ضوضاء الحياة العادية، خاصة إذا كنا نتدارس الحكمة، ونتباحث في أمورٍ نحن في أمَسّ الحاجة إلى فعلها.

شوق إلى التعليم لا إلى المعجزات

لكنه حين صعد إلى الجبل وجلس، وتقدم إليه تلاميذه نرى مقدار نموهم في الفضيلة وكيف أنهم في لحظة قد صاروا إلى حالٍ أفضل، إذ كانت الجموع تلهث فقط خلف المعجزات، أما هم فقد اشتاقوا منذ تلك اللحظة أن يسمعوا أمرًا عظيمًا له شأنه. وكان هذا فعلاً هو السبب الذي جعله يجلس ليعلِّمهم، ويبدأ معهم هذا الحديث. لأنه لم يهتم بشفاء الأجساد فقط، بل كان يقوِّم نفوس البشر أيضًا، وما أن ينتهي من العناية بنفوس هؤلاء حتى يهتم بأجساد آخرين. ولهذا قام على الفور بتنويع العون المقدم لهم، وبالمثل كان يمزج التعليم الذي تحويه كلماته بإعلان مجده الذي تظهره أعماله.

يهتم بأجسادنا كما بنفوسنا

كما قام بإسكات أفواه الهراطقة الذين لا يعرفون الخزي، معلنًا أنه يهتم بأجسادنا ونفوسنا معًا، لأنه جابل الخليقة كلها. ومن هنا يدبر بعنايته الإلهية الفائقة كل طبيعة روحية وجسدانية، فيصلح هذه مرة، ويقوِّم تلك مرة أخرى.

يعلم بالصمت كما بالكلام

هكذا كانت طريقته في العمل، إذ قيل في الإنجيل: “فتح فاه وعلَّمهم قائلاً“. ونسأل لماذا أضيفت عبارة “فتح فاه“؟ ليخبركم أنه حتى في صمته الكامل كان يعلِّم، وليس فقط حين كان يتكلم، بل مرة حين “يفتح فاه“، وأخرى حين كان ينطق صوته بأعماله.

يعلِّم الجميع من خلال تلاميذه

حين تسمعون أنه علَّمهم، لا تفتكروا أنه كان يعظ تلاميذه فقط، بل كان بالأحرى يعلِّم الجميع من خلال تلاميذه.

لأنه حين كان الجمع عظيمًا جدًا من حشود كبيرة تزحف على الأرض، جعل تلاميذه صفوفًا (خوارس). فكان يسلمهم العظة، وإذ يتحدث إليهم كان يضمن أن ينتقل درسه عن إنكار الذات إلى بقية الحاضرين، الذين كانوا في مواضع بعيدة جدًا عن مكان حديثه. وقد أشار القديس لوقا حقًا إلى هذا الأمر حين قال: “رفع عينيه إلى تلاميذه وقال” (لو 6: 20). أي أنه كان يوجه كلماته مباشرةً إلى التلاميذ. وأعلن أيضًا القديس متى وبنفس الوضوح فكتب: “تقدم إليه تلاميذه، ففتح فاه وعلمهم، قائلاً”، لأنه هكذا كان الآخرون أيضًا يضمنون أن يكون اشتياقهم والتفاتهم إليه أكثر، مما لو وجّه حديثه إلى الجمع مباشرةً.

2. فمتى كان يبدأ حديثه إذن؟ وما هي الأسس التي أرساها لأجلنا حين كان يعلمنا؟ فلننصت بانتباهٍ شديدٍ إلى ما يُقال. لأنه وإن كان هذا الكلام قد قيل لهم، إلا أنه كُتب لأجل الآتين فيما بعد. ولهذا السبب وبالرغم من أن الرب كان واضعًا في اعتباره تلاميذه الأعضاء عندما كان يلقي عظته العامة، إلا أنه لم يحصر أقواله فيهم وحدهم، بل نطق بكل تطويباته بلا تحديد، فهو لم يقل: “طوباكم أنتم يا من صرتم مساكين” ولكن “طوبى للمساكين”. بل ويمكنني أن أقول: حتى وإن كان يعنيهم بالذات فيما قال، إلا أن العظة ستظل مشاعًا للجميع.

وبالمثل ما يقوله (الرب): “ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (مـت 28: 20)، فالوعد هنا لم يكن موجهًا لمن سمعوه وحدهم، بل أيضًا لكل العالم من خلالهم.

وعندما يطوّب المضطهدين والمطرودين من أجل البرّ، لم يكن يعني تلاميذه وحدهم فقط، بل أيضًا من نال هذا الامتياز مثلهم، فهو يُعد إكليله لأجل كل الذين يبلغون نفس الدرجة من السمو.

لكي يكون هذا الكلام أكثر وضوحًا لديكم، ولكي يحثكم على المزيد من الاهتمام بأقواله، وهكذا أيضًا تفعل البشرية كلها… اسمعوه كيف يبدأ بالكلمات العجيبة: (التطويبات)

تطويب المساكين

“طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات” [ع 3]

· فماذا يعني بـ “المساكين بالروح“؟ إنهم المتواضعون ومنسحقو القلب. لأنه يعني “بالروح” هنا نفس الإنسان وملكة الاختيار. ذلك لأنه يوجد كثيرون متواضعون ومذَلون ولكن ليس عن اختيار وطواعية، بل مُجبَرين تحت وطأة ظروف الحياة. إنه لا يقصد مثل هؤلاء في هذا الصدد، بل يطوِّب أساسًا هنا أولئك الذين باختيارهم يتواضعون ويذلون أنفسهم.

ولكن لماذا لم يقل “طوبى للمتواضعين”، بل “للمساكين”؟ لأن هذه الأخيرة أكثر اتساعًا من تلك. فهو يعني هنا: أولئك الذين يمتلئون بالخشية والرهبة لدى سماعهم وصايا الله. هؤلاء أيضًا الذين يقول الله عنهم بفم نبيِّه إشعياء قابلاً إياهم بحق: “إلى هذا أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي” (إش 66: 2). لأنه بالحقيقة توجد أنواع من التواضع: فيوجد المتواضع على قدر قامته، وآخر ينزل إلى أقصى حدود التواضع. هذا الأخير (الذي هو من القلب) يمتدحه النبي المبارك مصورًا لنا، لا مجرد خضوع النفس، بل انكسارها كلية، وذلك عندما يقول: “الذبيحة لله روح منسحق، والقلب المنكسر المتواضع لا يرذله الله” (مز 51: 17). وها الفتية الثلاثة يقدمون انسحاقهم هذا كذبيحة عظمى لله قائلين: “ولكن في نفس منسحقة وروح متواضعة ليتنا نكون مقبولين لديك” (دا 3: 39) هذا هو ما يطوِّبه المسيح الآن.

3. ولما كانت أكثر الشرور جسامة هي Orgoglio، تلك التي بسببها دخل الذين جلبوا الخراب على العالم: لأن إبليس إذا لم تكن له فضيلة التواضع الأولى، بل تبع الكبرياء، صار شريرًا، كما يعلن ذلك بولس الرسول بكل صراحة ووضوح قائلاً: “لئلا يتصلف، فيسقط في دينونة إبليس” (1 تي 3: 6). كذلك أيضًا الإنسان الأول لما انتفخ بواسطة الشيطان الذي أوعز إليه بتلك الأمنيات الكاذبة جُعل عبرة، وصار قابلاً للفناء (بعد أن أُعد أن يكون إلهيًا خالدًا)، وورث هؤلاء الذين جاءوا بعده الكبرياء والطمع وقد أقحم كل منهم بنفسه في طريق الضلال متوهمًا وراغبًا أن يكون مثل الله، لهذا أقول إن هذه الرذيلة هي أصل آثامنا، ومنبع كل شرورنا.

ولكي يعد الله الدواء الناجح للداء، وضع قانون التواضع أولاً كقاعدة قوية ومأمونة، وهذه إذ ترسخ كأساس فإن البناء الذي يُقام عليها سيكون مضمونًا ومأمونًا كله. أما إذا غاب الأساس، فلو بلغ الإنسان حتى عنان السماء في سيرة حياته، فإن كل شيء يتلف لا محالة ويهوي إلى نهاية سحيقة. لو اجتمع الصوم والصلاة والصدقة والعفة وكل صلاح آخر مهما كان – لو اجتمعت فيك كل هذه – ولكن بدون تواضع فإن كل شيء سيتلاشى حتمًا وينتهي إلى زوال.

كان هذا هو نفس الحال في مثل الفريسي، لأنه حتى بعد أن بلغ الذروة (في تقواه) رجع خاسرًا كل شيءٍ، إذ لم تكن له دعامة الفضائل، فكما أن الكبرياء هي أساس كل الشرور، هكذا التواضع هو مبدأ كل انضباط للنفس، من أجل ذلك أيضًا نجد أن الرب يبدأ باقتلاع التعالي من جذوره، من داخل نفوس سامعيه.

ورُب سائلٍ يقول: “وكيف يكون هذا وتلاميذه كانوا على أي تقدير متواضعين، لأنه في الحقيقة لم يكن لهم شيء يتفاخرون به، لكونهم صيادين فقراء، وليسوا ذوي حسب أو نسب، وأُمِّيين”. لكن حتى ولو كانت تلك الأمور لا تعني تلاميذ الرب، إلا أنها بالتأكيد كانت تهم الحاضرين، والذين سيؤمنون به بواسطة التلاميذ فيما بعد، حتى لا يحتقرهم أحد بسبب هذا الأمر حال كونهم فقراء وضعاء.

مع هذا كان من الأصوب أيضًا أن نقول إن تعاليم الرب كانت تعني تلاميذه، فحتى لو لم يكونوا حينذاك ؟؟؟؟ لكن من المؤكد إنهم كانوا سيحتاجون بعد قليل إلى هذا الدعم بالآيات والعجائب التي يجرونها، والكرامة التي ينالونها من العالم وثقتهم في الله، لأنهم لم يكونوا قد حصلوا على الثروة ولا القوة ولا السلطان الملوكي بالكمال حتى الملء، ومع هذا وهو أمر طبيعي حتى وقبل صُنع الآيات أن يرتفعوا حينما كانوا يرون الجماهير الغفيرة من تابعيهم والمستمعين ملتفين حول معلمهم، لابد وأنهم كانوا يشعرون بشيء من الزهو الناجم عن الضعف البشري. لذا أراد الرب أن يقمع زهوهم على الفور.

كان يقدم أيضًا أقواله هذه لا بطريق إسداء النصح أو الوصايا، بل بطريق المدح والتطويب، جاعلاً كلمته هكذا أقل وطأة، وفاتحًا للجميع مجال تطبيق تعليمه الضابط للسلوك والعمل فلم يقل هذا الشخص أو ذاك مُطوَّب، بل قال: “أولئك الذين يعملون هكذا جميعهم مطوَّبون (طوباهم)”. حتى وإن كنت عبدًا رقيق الحال، أو متسولاً، أو مسكينًا، أو غريبًا، أو جاهلاً، فلا شيء يمكنه إعاقتك من أن تكون مطوبًا إذا ما تمثَّلت بهذه الفضيلة (المَسْكنة بالروح).

تطويب الحزانى

“طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ” [ع 4]

4. حين كانت الحاجة مُلحَّة فإنه كما ترون يبدأ في التقدم إلى وصية أخرى، والتي تبدو ضد أحكام العالم أجمع، لأنه بينما يظن الكل أن الفرحين هم محل حسد الناس، وأن المرفوضين والفقراء والحزانى هم البؤساء، فإن الرب يدعو هؤلاء البؤساء مطوَّبين أكثر من غيرهم قائلاً: “طوبى للحزانى” [ع4].

الحزانى هم الذين يصفهم الجميع بأنهم تُعساء، ولهذا يصنع السيد المعجزات قبل أن يضع تشريعاته حتى إذا ما سن هذه التشريعات لهم يكتسب ثقتهم. (ما دخل هذه الجملة بما قبلها؟؟)

لا يتحدث هنا عن كل الحزانى، بل عن الذين يحزنون بسبب خطاياهم، لأن غير ذلك من الحزن مُحرَّم، مثل الأحزان لفقدان أشياء العالم. وهو ما أوضحه بولس الرسول صراحة حين قال: “حُزن العالم يُنشئ موتًا، أما الحزن الذي بحسب مشيئة الله (الصالح) فيُنشئ توبة للخلاص” ( قابل 2 كو 7: 9-10). فالذين لهم الحزن للتوبة هم الذين يطوِّبهم الرب، وليس الذين يحزنون وحسب، بل يحزنون حزنًا عميقًا، لهذا لم يقل: “طوبى للذين يتأسفون”، بل “طوبى للحزانى”، أي الذين يئنون حزنًا على الدوام. هذه الوصية مناسبة لتعليمنا ضبط النفس الكامل. لأنه إن كان الحزانى لأجل فقدان أولاد أو زوجة أو قريب رحل عنهم لا يجنون من وراء أحزانهم هذه ربحًا أو متعة ما أثناء حزنهم، ولا يسعون وراء مجد، ولا تؤثر فيهم إهانات، ولا يتملك عليهم حسد، ولا يتأثرون بأي هوى، بل يستحوذ عليهم الحزن فقط إلى أقصى الحدود، كم بالأحرى أولئك الذين يحزنون بسبب خطاياهم كم ينبغي أن يكون الحزن، إنما يظهرون إنكارًا للذات أكثر من غيرهم.

وما هي مكافأة الحزانى؟ “إنهم يتعزون”. اخبروني إذن أين يتعزون؟ أقول لكم يتعزون هنا وهناك أيضًا، لأنه إذ يرى أن ما أُمر به يفوق القدرة والطاقة، فإنه يعد أن يجعل هذا الحمل خفيفًا. لهذا إن أردتم تعزية احزنوا. ولا تحسبوا في هذا القول انقباضًا، لأن الله حين يعزيكم فمهما توالت عليكم الأحزان بغير عدد كسقوط الثلج ندفأ، يجعلكم ترتفعون فوقها جميعًا. ولما كانت المنافذ التي يضعها الله أكبر من أمثالنا دائمًا، فقد أعلن حينذاك أن الحزن مطوَّب، ليس بحسب استحقاق ما نفعله، بل بحسب محبته الخالصة لنا. لأن الذين يحزنون على سوء أعمالهم ويكفيهم أن ينعموا بالمغفرة، وأن ينالوا سؤل قلبهم وما يطلبون، ولأن الرب يفيض حبًا نحو الإنسان، فإنه لا يحد مجازاته سواء من جهة رفع العقوبات عنا أو خلاصنا من خطايانا، بل يباركنا أيضًا، ويمنحنا تعزيات وفيرة. وهو يأمرنا أن نحزن لا بسبب خطايانا نحن فقط، بل بسبب خطايا الآخرين أيضًا. هكذا كانت نفوس القديسين مثل موسى وبولس وداود، فإن هؤلاء جميعًا قد حزنوا حقًا بسبب شرور لم يصنعوها.

تطويب الودعاء

“طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض” [ع5]

5. اخبروني عن أي أرض يتكلم الرب؟

يقول البعض إنها أرض رمزية. كلا ليس الأمر كذلك، لأننا لا نجد في الكتاب المقدس كله أي ذكر لأرضٍ رمزية، فما معنى القول إذن؟

إن الرب يُعد لنا مكافأة حسية، مثلما يقول القديس بولس الرسول أيضًا: “أكرم أباك وأمك” (أف 6: 2). ويضيف: “وتكونوا طوال الأعمار على الأرض”. والرب نفسه يقول للص أيضًا: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 23: 43).

فهو لا يعدنا بالبركات العتيدة فقط، بل وبالحاضرة أيضًا. لأجل الذين يسعون وراءها من سامعيه ذوي الطبيعة الأرضية جدًا، أما الآخرون فيعدهم ببركات عتيدة: فمثلاً يقول في موضع آخر: “كن مراضيًا لخصمك” (مت 5: 25)، ثم يُعين مكافأة هذا الانضباط للنفس، فيقول: “لئلا يسلِّمك الخصم للقاضي، ويسلِّمك القاضي إلى الشرطي” (مت 5: 25). هل ترون كيف ينذرنا بالحواس، وبما يحدث أمام عيوننا؟ ويقول أيضًا: “من قال لأخيه رقا (يا أحمق) يكون مستوجبًا المجمع” (مت 5: 22). وبولس أيضًا يصف بالتفصيل الجوائز الحسية، ويستخدم أمورًا حاضرة في مباحثاته، مثلما يحدث عندما يتناول موضوع البتولية. فإذ لم يقل شيئًا عن السماوات هناك، فإنه يحثنا على بلوغها في الزمان الحاضر، قائلاً: “لسبب الضيق الحاضر”، “وأما أنا فإني أشفق عليكم، وأريد أن تكونوا بلا همّ” (1 كو 7: 26، 28، 32). هكذا السيد المسيح أيضًا يمزج الأمور الروحية بالأمور الحسية، إذ بينما نظن أن الإنسان الوديع يفقد كل ما لديه، يعده الرب بالنقيض قائلاً: كلا، بل الوديع هو من يمتلك خيراته في أمان، أعني هذا: الشخص الذي لا يكون مشهورًا أو متباهيًا، فإن مثل هذا النوع من الناس من غير الودعاء، غالبًا ما يفقد ميراثه وحياته كلها.

وقد اعتاد النبي في العهد القديم أن يقول باستمرار: “أما الودعاء فيرثون الأرض” (مز 37: 11). فإن الرب ينسج في عظته الكلمات التي اعتادوا على سماعها، حتى لا يتحدث إليهم بلغة غريبة. وهو يقول ذلك لا بغرض اقتصار المكافأة على أمور الزمان الحاضر، بل ليربط بها عطايا من نوعٍ آخر. فهو لا يستبعد الزمنيات عند حديثه عن الروحيات، ولا يجعل وعده قاصرًا على عطايا الزمان الحاضر. لأنه يقول: “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم”. وأيضًا: “ليس أحد ترك بيتًا أو إخوة، إلا ويأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية ” (مز 10: 29-30، لو 18: 29، 20).

تطويب الجياع والعطاش إلى البرّ

“طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ” [ع6].

6. أي نوعٍ من البرّ؟

إنه يعني إما كل الفضائل أو تلك الفضيلة المضادة للاشتهاء. لأنه وهو مزمع أن يعطي وصيته عن الرحمة، ليعلمنا كيف نصنع الرحمة، لا بغرض السلب أو الاشتهاء، يطوِّب المتمسكين بالبرّ.

ولنتأمل كيف يطرح الوصية بكل قوة، إذ لم يقل: “طوبى للذين بالبرّ يحفظون صومًا”، بل “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ”، أي الذين لا يصنعون برًا هكذا ببساطة، بل يشتاقون من كل القلب إلى إكماله. ولما كانت تلك هي أعظم صفة تميز الاشتهاء، ولما كنا غير مفتونين إلى هذا الحد بالطعام والشراب، مثلما نشتهي الربح، فنجمع لأنفسنا المزيد والمزيد، يأمرنا أن ننقل هذه الرغبة إلى شيء جديد، هو التحرر من الشهوة المادية. ثم يعين المجازاة أيضًا من الأمور الحسِّية قائلاً: “لأنهم يُشبعون“. هكذا لأنه من المعتقد أن الأغنياء يُشبعون من الاشتهاء – لكنه يقول كلا – بل النقيض هو الصحيح، لأن البرّ يُشبع النفس. لهذا إن كنتم تصنعون البرّ، فلا يرهبكم فقر ولا يرعبكم جوع. لأن الغاصبين هم الذين يخسرون كل شيء، تمامًا مثل من يشتهي البرّ ويحبه يمتلك كل خيرات الأرض في أمان. فإن كان الذين لا يشتهون خيرات الآخرين ينعمون هكذا بفيض البركة العظيمة، فكم بالأحرى وبالأكثر الذين يتخلون عن كل ما يخصهم للآخرين!

تطويب الرحماء

“طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ.ّ” [ع7].

يبدو لي أن الرب لا يتحدث هنا عن الذين يصنعون الرحمة فقط بتقديم المال، بل الرحماء في أعمالهم أيضًا، لأن للرحمة طرق عديدة، وهذه الوصية واسعة، لكن ما هي مجازاة عمل الرحمة؟ “لأنهم يُرحمون“. تعويض عادل لكنه شيء أبعد مما يكون عن فعل الخير، لأنه بينما يصنع الناس رحمة كبشرٍ، ينالون رحمة من إله الجميع، وليست رحمة الإنسان كرحمة الله مطلقًا، فالفارق بينهما شاسع وكبير جدًا كبعد الشر عن الخير.

تطويب أنقياء القلب

“طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله” [ع8]

لاحظوا هنا أيضًا أن المكافأة روحية، فهو يدعو من بلغوا قمة الفضائل ولم يُضمروا في نفوسهم أي شر “أنقياء“، وكذلك من يضبطون أنفسهم في كل شيءٍ، ويتعففون عن الشهوات. لأنه ما من شيءٍ نحتاج إليه بالأكثر لنعاين الله مثل هذه الفضيلة الأخيرة. حيث يقول القديس بولس الرسول أيضًا: “اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب” (عب 12: 14).

هنا يتكلم عن إمكانية رؤية الله بشكلٍ نسبيٍ ومحدودٍ، أي على قدر ما يتحمل الإنسان بسبب محدوديته البشرية. فكثيرون يمارسون عمل الرحمة ولا يسلبون أحدًا ولا يشتهون ما للغير، ومع هذا يوجدون متلبسين بخطايا الزنا والنجاسة. فلكي يُظهر (السيد الرب) أن عمل الرحمة وحده غير كافٍ، أضاف هذا التطويب. وهو نفس ما يعنيه بولس الرسول تمامًا في رسالته إلى أهل كورنثوس شاهدًا للمقدونيين أنهم كانوا أسخياء ليس فقط في العطاء، بل وفي كل فضيلة، لأنه بعد أن تكلم عن روحهم النبيلة التي أظهروها من جهة كرم عطاياهم الحاوية، يقول أيضًا: “بل أعطوا أنفسهم أولاً للرب، ولنا” (2 كو 8: 5).

تطويب صانعي السلام

“طوبى لصانعي السلام” [ع9].

7. هنا لا يُزيل عنا فقط الخصام والكراهية اللذين نحملهما في نفوسنا، من جهة بعضنا بعضًا، بل بجانب ذلك يطالبنا بشيءٍ أكبر، هو أن نجتهد لمصالحة الآخرين، أما المكافأة التي يكشف لنا عنها فهي أيضًا روحية: فما نوعها إذن؟ “لأنهم أبناء الله يدعون”. نعم، لأن هذا هو عمل الابن الوحيد، أن يوحِّد المتفرقين، ويصالح المتباعدين. ولئلا نتوهَّم أن السلام في كل الأحوال بركة مطوبة، أضاف قائلاً: “طوبى للمُضطهدين من أجل البرّ” أي من أجل الفضيلة، وإعانة الآخرين، ومن أجل كل عملٍ صالحٍ. فقد اعتاد الرب أن يعني بالبرّ كل عمل حكيم تمارسه النفس.

“طوبى لكم إذا عيّروكم وطردوكم، وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين، افرحوا وتهللوا” [ع11-12].

 ويعني بقوله هذا: حتى وإن قالوا عنكم إنكم لصوص وغشاشون وخارجون على القانون، أو أي اتهام آخر، فطوباكم. هكذا يقول ولكن ما الشيء الأكثر حداثة من هذه الوصايا؟ بينما يتحاشى الآخرون هذه الأمور عينها، فإنه يعلن أنه علينا أن نرغب في أن نكون فقراء حزانى مضطهدين، وموضع شرور الناس وأقاويلهم. والرب بذلك لا يقنع حفنة من الناس بل العالم أجمع. وإذ سمع الجموع أمورًا محزنة ومؤلمة بعكس ما اعتادوا أن يسمعوه كانوا “مبهوتين” (قابل مت 7: 28)، إذ كان سلطان المتكلم عظيمًا.

وبالرغم من ذلك، وحتى لا تفتكروا أن مجرد الحديث بكلام الشر علينا يجعلنا مطوّبين، فقد وضع شرطين: أن يكون ما قيل من كلامٍ كذبًا، وأن يكون هنا الكلام أصلاً بسببه هو. بدون هذين الشرطين، يكون من تحدث الناس عليه بشر، من التعساء، ولا ينعم ببركة أبدًا.

ثم تأملوا المكافأة مرة أخرى: “لأن أجركم عظيم في السماوات“.

لكنكم حتى وإن لم تسمعوا أيّ ملكوت يُعطى لكم من الرب من بين بركاته، لا تيأسوا. لأنه بالرغم من تعدد أسماء المكافآت، فإنه يأتي بها كلها إلى ملكوته. فإن قال: “طوبى للحزانى لأنهم يتعزون”، و “طوبى للرحماء لأنهم يرحمون”، و “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله”، و “طوبى لصانعي السلام لأنهم يدعون أبناء الله”، فإن لا شيء يمكن أن يعطي كل هذه العطايا وبسخاء إلا الملكوت، لأن جميع الذين ينعمون بتلك المكافآت سينالونها في الملكوت. فلا تظنوا أن هذه المجازاة هي للمساكين بالروح فقط، بل للجائعين من أجل البرّ، وللودعاء، ولأجل الجميع بلا استثناء، لأنه وهب بركته لهم جميعًا. حتى لا تفتكروا في أي أمور حسية. لأن مثل هذا الإنسان لن يُبارك، الذي يشغل رأسه بمثل تلك الأمور الزائلة في هذا الدهر الآتي والتي تبلى سريعًا كالظل.

8. لكنه حينما قال “لأن أجركم عظيم” أضاف أيضًا تعزية جديدة قائلاً: “فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين كانوا قبلكم“، لأنه إذ كان الوعد أولاً بالملكوت هو وعد عتيد وكل ما يتعلق به ننتظره ونرجوه، فإنه يقدم لهم تعزية وراحة من عناء هذا الدهر ومن شركة الذين كانوا قبلهم يعانون من سوء المعاملة.

وهو يقول ما معناه: “لا تظنوا أنكم تقاسون هذه الأمور لعيبٍ ما في كلامكم وأفعالكم وقراراتكم، أو كأنكم معلِّمون لتعاليم شريرة ولهذا يضطهدونكم، بل بسبب شرور سامعيكم، فلا لوم عليكم إذا عانيتم من سوء أفعالهم، بل اللوم يقع على من يسيء معاملتكم. وتشهد كل الأزمنة الماضية على هذه الحقيقة، لأنهم لم يجدوا علَّة على الأنبياء من تعدي للناموس، أو لم يعثروا على مخالفات من عدم التقوى، ولكنهم رجموا البعض وطردوا البعض الآخر، وعذبوا آخرين بآلام بغير حصر. لهذا لا تدعوا هذه الأمور تزعجكم، لأنهم الآن يعاملونكم بنفس الفكر عينه.

أرأيت كيف يرفع السيد الرب معنوياتهم، بأن يجعلهم في شركة مع موسى وإيليا، وهكذا قال القديس بولس في رسالته إلى أهل تسالونيكي: “فإنكم صرتم شركاء كنائس الله التي هي في اليهودية، لأنكم تألمتم أنتم أيضًا من أهل عشيرتكم تلك الآلام عينها، كما هم أيضًا من اليهود الذين قتلوا الرب يسوع وأنبياءهم واضطهدونا نحن، وهم غير مرضيين لله، وأضداد لجميع الناس” (1 تس 2: 14-15). وهي نفس النقطة أيضًا هنا التي أرساها السيد المسيح، والتي في تطويبات أخرى قال: “طوبى للمساكين” و”للرحماء” وهو هنا لا يخاطب عموم الناس، بل يوجِّه حديثه إليهم هم أنفسهم، قائلاً: “طوبى لكم، إذا عيّروكم وطردوكم، وقالوا عليكم كل كلمة شريرة“، مشيرًا إلى أن هذه ميزة خاصة بهم، وأن المعلّمين يختصون بها عن سائر البشر. وفي نفس الوقت فإنه هنا وبشكل سري يشير إلى كرامته الخاصة، ومساواته مع الآب في الكرامة، إذ يقول: لأنهم مثلما تكبدوا لأجل الآب، هكذا أنتم أيضًا تحتملون هذه الأمور لأجلي. ولكنه حين يقول: “الأنبياء الذين قبلكم” فإنه يؤكد ضمنًا أن التلاميذ قد صاروا أيضًا أنبياء في هذا الزمان. وبعد أن شرح أن ذلك ينفعهم ويمجدهم لم يقل: “إنهم سيتجمهرون عليكم ويضطهدونكم ولكني سأمنعهم”. لأن الرب يمنحهم الثبات والاطمئنان، لا بهروبهم من كلام الشر عنهم، بل تحملهم لهذا الشر في شرفٍ، وتفنيدهم لهم بأعمالهم. فهذا أعظم بكثير من هروبهم. على سبيل المثال عندما يضربك الناس ولا تؤذيهم، فهذا أعظم كثيرًا من الهروب من تلقي الضربة.

عظمة المكافأة

“لأن أجركم عظيم في السماوات” [ع12]

9. ويذكر القديس لوقا البشير أن الرب قال ذلك في حزمٍ، وفي تعزية كاملة، لأنه كما تعلمون، لم يطوِّب فقط أولئك الذين يتكلم عنهم الناس بالشرور لأجل الله، بل يضيف: من يقول الناس عنهم قولاً حسنًا أنهم بؤساء. إذ لم يقل: “الويل لكم، إذا ما قال الناس فيكم حسنًا”، بل حين يفعل كل الناس ذلك؛ لأنه من غير الممكن أن الذين يحيون وهم يعلمون صالحًا يتكلم الناس عنهم حسنًا، يقول مرة أخرى: “إذا أخرج الناس اسمكم كشرير، افرحوا وتهللوا” (قابل لو 6: 22-23).

والرب يحدد المكافأة العظيمة، ليس لأجل المخاطر التي يواجهونها فحسب، بل لأجل ما وقع عليهم من تشويه السمعة، لهذا لم يقل: “إذا اضطهدوكم وقتلوكم”، بل “إذا عيَّروكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة“. لأنه من المؤكد فعلاً أن كلام الناس بالشرور على الآخرين هو أشد قسوة من أعمالهم الشريرة نفسها. لأننا مهما واجهنا من أخطارٍ، فإن هناك أمورًا كثيرة تخفف من وطأة الألم، مثلما يشترك الجميع في إدخال الفرح على نفوسنا، أو حين يصفق لنا الكثيرون، أو حين نكلل، أو يمدحنا الآخرون ويثنون علينا جهارًا. بينما حين يوبخنا الناس نفقد مثل هذه التعزيات، لأننا نبدو أمامهم وكأننا لم نحقق شيئًا عظيمًا. الأمر الذي يثير غضب الخصوم أكثر من إثارة مخاطرهم. فعلى الأقل نعلم أن كثيرين شنقوا أنفسهم، غير محتملين أن يقول الناس عنهم شرًا!

فلماذا تتعجبون من الآخرين؟ فإن هذا الخائن العاري من الخجل، والملعون الذي توقف إحساسه بالخجل، قد أسرع بعد فعلته إلى حبل المشنقة. وأيوب أيضًا، العنيد الذي لا يلين، الأصلب من الصخر، حين فقد كل أملاكه، وكابد تجارب مروعة وأسقامٍ يستحيل علاجها، وأصبح فجأة محرومًا من أطفاله، وقد نضح جسده بالدود في كل أجزائه، ولم تكف زوجته عن مهاجمته، لم يخضع لكل هذه البلايا، بل نفض عنه كل شيء أليم، لكنه حين جاءه أصدقاؤه يوبخونه ويدوسون عليه، ويقولون فيه رأيًا شريرًا متلذذين بتوبيخه، وأنه عانى كل هذه الآلام بسبب معاصيه، وأنه كان يدفع ثمن شروره، تعب الرجل العظيم كريم القلب وانزعج وتوتر.

وداود أيضًا بعد أن تجاوز محنته، توسل إلى الله طالبًا أن يُنزل عقابًا على تشويه سمعته وحدها. إذ يقول “دعوه يسب، لأن الرب قال له. لعل الرب ينظر إلى مذلتي، ويكافئني الرب خيرًا عوض مسبته بهذا اليوم” (2 صم 16: 11-12).

ويعلن القديس بولس عن نصرة أولئك الذين يجلبون على أنفسهم المخاطر أو الذين يُحرَمون من خيراتهم. بل الذين يحتملون أيضًا، إذ قال: “تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعدما أُنرتم صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة” (عب 10: 32-33). ويكمل “من جهة مشهرين بتعييرات وضيقات”. علي هذا الأساس وصف المسيح إذن المكافأة بأنها عظيمة. وبعد هذا ولئلا يقول أحد هنا أنتم لا تعطون تعويضًا، ولا تسكتون أفواه الناس، فهل تعينون لهذا الأمر مكافأة؟

لقد وضع السيد أمامنا مثال الأنبياء ليُظهر أن الله لم يقدم تعويضًا في حالتهم، وإذا كانت المكافآت جاهزة ومتاحة، فقد أدخل المسرة عليهم بأمورٍ مستقبلة. وأكثر منها الآن، حينما يصبح هذا الرجاء أكثر وضوحًا، ويزداد إنكارنا للذات.

لاحظوا أيضًا أنه وضع هذه الوصية بعد عدة وصايا مثلها، وقد فعل ذلك عن حكمة دون شك، ليظهر أنه من غير الممكن لإنسانٍ لا يتسامح ولا يتزود بالفضائل الأخرى، أن يواجه مثل هذه الصراعات والضيقات لهذا ترون أنه في كل حالةٍ، وبإعداد وصية ما لتمهد الطريق أمام وصية أخرى تالية، قد نسج لأجلنا عقدًا من ذهب. فنرى أن التواضع أولاً “يحزن” بسبب خطاياه، ومن يحزن يكون “وديعًا” و”بارًا” نادمًا ندمًا حقيقيًا. يكون أيضًا نقي القلب، ونقي القلب يكون صانع سلام. والذي يبلغ كل هذه الفضائل يصمد ضد الأخطار ولا يزعجه شر يتقوَّل به الناس عليه ويحتمل ضيقات شديدة بغير حصرٍ.

عمل على مستوى العالم كله “ملح الأرض”

2. الملح والنور

10. وبعد أن قدم الرب النُصح اللائق في الوقت المحدد أخذ ينعش نفوسهم مرة أخرى بالثناء، ولما كانت وصاياه أعظم من وصايا العهد القديم، وحتى لا يضطربوا ويتحيروا متسائلين: كيف لنا أن نحققها؟ يقول لهم:

“أنتم ملح الأرض” [ع13].

 يُلمح الرب بهذا إلى مدى أهميتهم القصوى للآخرين وكأنما به يقول: إن قيمتكم الاعتبارية ليست في حياتكم الخاصة منعزلين عن الناس. فها أنا أرسلكم لا إلى مدينة واحدة أو عشر مدن أو عشرين أو إلى أمة بأجمعها كما أرسلتُ الأنبياء قديمًا، بل إلى كل الأرض والبحر والعالم بأسره الذي انغمس في الفساد.

وبقوله: “أنتم ملح الأرض” يشير إلى أن الطبيعة البشرية كلها تفقد مذاقها الجيد وتفسد بسبب خطايانا، ولأجل هذا يطلب منهم تلك الفضائل لضرورتها القصوى لتقويم الجنس البشري كله، لكونهم صاروا قادة روحيين لهم ومَثل أعلى يُحتذى.

فالودعاء والمسالمون والرحماء والأبرار لا ينغلقون أبدًا على أنفسهم، ولا يقصرون أعمالهم الصالحة على ذواتهم، بل يعملون بكل ما في وسعهم أن تفيض هذه الينابيع الصالحة لخير الآخرين.

ثم أيضًا من هو نقي القلب، وصانع السلام، أو المطرود والمضطَهد لأجل الحق، إنما يضع حياته من أجل الصالح العام، وكأن الرب يقول لتلاميذه لا تظنوا إذًا أنكم قد خرجتم لأجل جهاد هيِّن أو أنكم صرتم مسئولين عن أمور تافهة بسيطة، بل أنتم “ملح الأرض”.

وماذا إذن؟ هل سيُصلحون ما فسد؟ كلا! لأنه لا يمكن إصلاح ما تلف مهما نثرت عليه من ملحٍ. فهذا ليس واجبهم، بل الذين قد سبق وتجددوا واُستعيدوا بالمسيح، وأوكل إليهم أمر رعايتهم – بعد تحررهم من المذاق الرديء – هؤلاء يملِّحونهم لصيانتهم وحفظهم وبقائهم على استمرارية جدة الحياة العذبة (freshness) التي قبلوها من الرب، لأن العمل الصالح الذي أتمه السيد المسيح هو أن يحرر أولئك الناس من فساد خطاياهم، أما (الرسل) فهم بخدمتهم الدؤوبة وعملهم الغيور، إنما يَضمنون عدم عودتهم مرة أخرى إلى فساد خطاياهم.

سموهم على الأنبياء

أترى كيف يتدرج الرب في الكشف عن سموهم على الأنبياء؟ في دعوته لهم ليكونوا معلمين، لا لفلسطين وحدها، بل للعالم أجمع. وليسوا كمعلمين بسطاء بل ذوي مهابة وسلطان يرهبه الجميع. وهذا هو العجب؛ أنه ليس بالمداهنة والإطراء والملاطفة، بل بشحذ هممهم بقوة كملح الأرض ليكونوا محبوبين وأعزاء على قلوب الناس جميعًا.

وكأن الرب يقول لهم:

“لا تندهشوا الآن إن كنتُ أخصكم أنتم بحديثي دون الآخرين، وأدفعكم إلى مخاطر عظيمة بهذا القدر”، حتى تدركوا إني سأرسلكم لا لترأسوا مدنًا وقبائل وأممًا كثيرة وأقيمكم رعاة عليها. حيث لا أريد أن تكونوا أنتم أنفسكم حكماء، بل أن تجعلوا الآخرين أيضًا كذلك. فإن مثل أولئك الأشخاص الذين اُستؤمنوا على خلاص الآخرين هم في حاجة شديدة أن يكونوا على قدر كبير من الفطنة، وينبغي كذلك أن تكون حياتهم زاخرة بالتقوى لينفعوا الآخرين أيضًا. لأنه إن لم تصيروا أنتم هكذا، لن تنفعوا حتى أنفسكم.

فلا تضيقوا ذراعًا بكلامي لكم، حتى وإن بدا لكم صعبًا بعض الشيء، فبينما من السهل على الذين فقدوا مذاقهم الطيب أن ينصلحوا بكم، فإنكم أنتم إن فسدتم تفسدون آخرين معكم، فأنتم بحاجة إلى اجتهاد أعظم بقدر ما كان ما اُستؤمنتم عليه جسيمًا.

فلهذا يقول الرب:

“ولكن إن فسد الملح فبماذا يُملَّح؟ لا يصلح بعد لشيءٍ إلا أن يُطرح خارجًا ويُداس من الناس” [ع13].

لأن عامة الناس (من غير المعلمين) حتى وإن تكرر سقوطهم، إلا أنه يمكنهم بسهولة نوال المغفرة، أما المعلم فإن سقط فهو بلا عُذر، بل ويُحرم من كل عفوٍ، ويكون عقابه أشد على كل إثم ارتكبه. ولئلا يتجنبوا ويحجموا عن الانطلاق للكرازة من قوله لهم: “إذا ما عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة”، يصارحهم قائلاً: “ما لم تستعدوا بالمضمون أمام كل ضيقة فقد صار اختياركم عبثًا، فلا ينبغي أن تخيفكم السمعة السيئة، بل أن تخشوا المظاهر الكاذبة التي تفسد ملوحتكم وعندئذ تُداسون بالأقدام. أما إذا ظللتم تحتملون كل ما يأتي عليكم من محنٍ في وعيٍ روحيٍ يقظ، مهما قيل عنكم من كلامٍ شريرٍ، افرحوا وتهللوا. لأن تلك هي منفعة الملح؛ أن يكون ترياقًا للفساد ويجعل الفاسد عديم فساد. فإن جاءتكم من الناس ملامة أو تعنيف، لا يقدر أحد أن يضركم بأي حال، بل يشهد على ثباتكم. لكن إن تخليتم بسبب الخوف عن رزانتكم اللائقة بكم، لدفعتم الثمن باهظًا خصمًا من سمعتكم الطيبة فتصيرون سيِّئي الصيت، محتقرين من الجميع فهذا هو معنى “تداسون من الناس”.

عمل على مستوى العالم كله “نور العالم”.

11. ثم يسمو بهم إلى صورة أعلى:

“أنتم نور العالم” [ع14]

ومن جديد، هم “نور العالم” ليس لأمَّة واحدة أو لعديد من الدول، بل للمسكونة كلها.

وهم نور الذهن الأسمى كثيرًا من أشعة الشمس، كما سبق وشبههم “بالملح الروحي”. أما الآن فيدعوهم “نورًا” ليكشف لنا عن مدى عظمة وكمال التحلي بهذه المبادئ والنفع الجزيل الذي يجلبه العليم السامي الضابط للنفس وحافظها من الثروى إلى طريق الهلاك والذي يوضح الرؤية أمام البشر آتيًا بهم إلى الحياة الفضلى.

تدريبهم على حياة التدقيق

“لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت مكيال” [ع13-14].

بهذا الكلام يدربهم أيضًا على حياة التدقيق. ويعلمهم أن يكونوا شديدي الحرص في سعيهم كمن تتجه إليهم أنظار الجميع. وكأبطال يجاهدون في وسط العالم.

وكأنه يقول لهم “لا تنظروا إلى كوننا الآن جالسين هنا في بقعة صغيرة من أرجاء الأرض، لأنكم ستكونون محط أنظار العالم أجمع، كمدينةٍ قائمةٍ على قمة جبلٍ عالٍ، وكسراجٍ في بيتٍ على منارةٍ ينير لكل من فيه.

أين هم الآن الذين يصرون على إنكار الإيمان بسلطان المسيح؟ ليتهم يسمعون هذه الأمور، ويمجدون قدرته، ويندهشون لهذه الرؤية النبوية لما هو عتيد أن يكون. فهؤلاء الذين كانوا مجهولين حتى في وطنهم الخاص سوف يوفهم البرّ والبحر، وسيبلغ صيتهم إلى أقاصي المسكونة، ليس كمجرد شهرة، بل بسبب أعمال الخير التي سيصنعونها. فليس مجرد الشهرة، أو الاسم هو الذي يذيع في كل مكان صيتهم، بل ممارستهم فعلاً للأعمال الصالحة. والتي كانت واضحة للعيان – أمام الكل – وكأن لهم أجنحة يطيرون بها أسرع من أشعة الشمس، يجوبون المسكونة كلها يبذرون نور التقوى والصلاح.

ويبدو لي في قول الرب لهم: “لا يمكن أن تُخفى مدينة على جبل“، أنه يدربهم على الجرأة في الحديث وقوة كرازتهم وقدرته التي سيعلنها بواسطتهم. لأنه مثلما لا يمكن إخفاء مدينة قائمة على جبل، هكذا من المستحيل أن يلف الصمت كرازتهم ويحيطها الغموض. وكما سبق وتكلم معهم عن الاضطهادات والوشايات والمكايد والحروب المزمع أن يواجهوها، وحتى لا يظنوا أن تلك الأمور يمكنها أن تعوق كرازتهم، ولكي يشجعهم نجده يقول: إن حياتهم وكرازتهم بالإنجيل لا يمكن أن تُخفى، بل تنير كل العالم، ولهذا ستطير شهرتهم إلى الآفاق، و يُذاع صيتهم في كل الدنيا.

بهذا يعلق الرب عن قوته الشخصية التي ستُستعلن للعالم بواسطتهم.

“ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت مكيال، بل على منارة ليضيء لكل من في البيت. فليضيء نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات” [ع15-16]

وكأني به يقول لهم:

الحق إنني أشعلت النور من جانبي، أما اجتهادكم في الخدمة فهو الذي يحفظ دوام توهجه. ليس لأجل أنفسكم وحدكم، بل أيضًا من أجل أولئك الذين يمكنهم أن ينتفعوا بهذا الضوء الذي به يهتدون إلى الحق. لأن الوشايات لا يمكن أبدًا أن تحجب بهاء ضيائكم، إن كنتم تحيون حياة الاستقامة. فأنتم الملتزمون أن تهْدوا العالم أجمع إلى معرفة الحق. أظهروا إذًا للعالم حياة جديرة بنعمته، حتى إذا ما كُرز بها في العالم أجمع يرافقكم هذا النور نفسه على الدوام.

شهادة المقاومين لهم

يضع الرب بعد ذلك أمامهم نوعًا آخر من الربح، فبجانب خلاص البشر الجدير بأن يجعلهم يسعون بكل ما في عزيمتهم وجهدهم، هكذا يقول لهم، فليس فقط تُقوِّمون شأن العالم إذ ما عشتم بالاستقامة، بل أيضًا ستهيئون الفرصة لأن يتمجد الله بكم. أما إن فعلتم العكس تكونون سببًا في هلاك البشر، وبسببكم يُجدَّف على اسم الله.

ورُبَّ سائلٍ: كيف يمكن أن يتمجد الله بنا حتى لو تقاول الناس علينا شرًا؟ ليس كل الناس بل حتى الذين يفعلون ذلك بدافع الحسد فإنهم في قرارة أنفسهم سيعجبون بكم ويمتدحونكم.

ماذا إذن؟ هل يأمرنا الرب بالتفاخر والمجد الباطل؟ حاشا! فهو لم يقل: “اجتهدوا أن تروا أعمالكم الصالحة” ولم يقل: “أظهروها لهم”، لكنه قال: “ليضئ نوركم“، أي لتنْمُ فضيلتكم وتتوهج نارها، وينتشر نورها الفائق الوصف. لأنه عندما تتسامى الفضيلة لا يمكن أن تظل مخفية حتى ولو حاول الخصم أن يحجب نورها آلاف المرات. هكذا قدموا للناس حياة بلا لوم ولا عيب، فلا يجد العدو فيها فرصة ليقول عليكم كلامًا شريرًا بعد. حينذاك حتى إن وجد آلاف من المتكلمين بالسوء، فلن يستطيع إنسان أن يلقي عليكم أي ظل، ولن يقدر أن يحجب نوركم.

حسنًا قال: “نوركم“، فلا شيء يرفع من شأن الإنسان مثل الفضيلة حتى ولو تحايل الفرد على إخفائها. وكأن صاحبها مدَّثر بالشمس، وهكذا فإنه يلمع بنور أكثر بهاءً منها، فيسطع نوره على كل الأرض بل ويرتقي إلى عنان السماء نفسها.

هكذا كان يكثر من تعزيته لهم، وكأنه يقول: مهما كان التشهير يؤلمكم، فإن لديكم آخرين كثيرين يمجدون الله بسببكم وفي كلا الأمرين تكون مجازاتكم عظيمة. من جهة، لأن الله تمجد بكم، ومن جهة أخرى لأن الناس افتروا عليكم لأجل الله.

ولئلا نتعمد أن يوبخنا الآخرون عندما نسمع أن لنا بسبب ذلك مكافأة، فإنه في بادئ الأمر، لم يعبر عن هذا الرأي هكذا ببساطة، بل جعل له شرطين: أعني، حين يكون ما يُقال غير صحيح، وأن يكون لأجل الله. ثم يقرر بعد ذلك أن هذا الأمر ليس بالأمر الوحيد، بل إن هذا الكلام الطيب له ربحه العظيم، حين يعطي الإنسان المجد لله. ويُظهر الرب لهم هذه الأماني المباركة إذ يقول: “الدخول في الباب الضيق يجلب تشويهًا لسمعتكم، لكنه لا ينتشر بهذا القدر فيضع آخرين في الظلمة ولا يرون نوركم، (ياريت يقرأ هذا البراجراف مرة ثانية) لأنه حين يفسد ملحكم أي تفقدون مذاقكم يدوسونكم تحت الأرجل، لكن ليس حين يتهمونكم باطلاً، يفعلون حسنًا، بل بالحري يلتف حولكم كثيرون معجبون بكم، لا لأجلكم أنتم فقط، بل لأجل أبيكم الذي في السماوات. لم يقل الرب: “الله” بل “يمجدون أباكم” مُظهرًا أصل هذا الميلاد الشريف مسبقًا، والذي كان عتيدًا أن يجلبه لهم. وحتى يشير أيضًا إلى مساواته في كرامة الآب مثلما قال قبلاً “لا تحزنوا إذا ما قال عليكم الناس كلامًا شريرًا لأنه يكفيكم أنهم تكلموا عليكم بسببي” لهذا يذكر هنا الآب موضحًا مساواته له كما يفعل في كل موضع آخر.

12. وإذ نعلم مدى المنفعة التي نجنيها بسبب جديتنا هذه، وخطر تراخينا (لأنه لو كان الناس يجدفون على الرب بسببنا لصار حالنا أسوأ بكثير من هلاكنا).

علينا ألا “نكون عثرة لليهود وللأمم ولكنيسة الله” (1 كو 10: 32). وبينما تكون حياتنا التي يراها الناس أكثر إشراقًا من الشمس، فحتى إن تقوَّل الناس علينا بشرٍ لا نحزن لأنهم يشهدون بسمعتنا، فقط نحزن لأنهم شهروا بنا عن حق، لأنه من جهة إن كنا نحيا حياة الشر، ولم يتحدث علينا أحد بسوء لصرنا أشقى جميع الناس، ومن جهة أخرى إن كنا نسلك حسب الفضيلة حتى وإن تقوَّل العالم كله بشر، نصير في الوقت عينه محل حسد الناس أكثر من الآخرين، فنجذب إلينا الذين اختاروا أن يخلصوا، لأن حياتنا الصالحة هي التي تسترعى انتباههم وليس تشهير الأشرار بنا. لأنه ما من بوق يشهد على استقامتنا أكثر من أعمالنا التي نمارسها، فإن الحياة النقية أكثر شفافية من النور نفسه، حتى وإن فاق الذين يشهِرون بنا كل حد.

وأقول إن كانت كل الخصال السابق ذكرها هي من نصيبنا، وإن كنا ودعاء ومتواضعين ورحماء وأنقياء القلب وصانعي سلام، إن كنا نسمع التوبيخ ولا نخاصم أحدًا، بل بالحري نفرح ونسرّ، فإننا نجذب جميع الذين يلاحظون سيرتنا مثلما تجتذبهم المعجزات ويتعاطف الكل معنا حتى ولو كان وحشًا كاسرًا أو شيطانًا أو أي شيءٍ آخر. فإن كان البعض يتكلمون عليكم بالشر، فلا تنزعجوا آنذاك. حتى إن هم وبخوكم علانية، فاهتموا أن تفتشوا في ضمائرهم، ستجدونهم يهتفون لكم، ويعجبون بكم، ويمدحونكم مديحًا لا حدود له.

تأملوا مثلاً، كيف يمتدح نبوخذنصر الفتية في أتون النار رغم عدواته وخصوماته معهم، لكنه حين رآهم واقفين في شموخ أعلن عن انتصارهم وكللهم بالتيجان، لا لشيء، إلا لأنهم لم يطيعوه وأطاعوا ناموس الله. لأن الشيطان حين لا يحقق شيئًا، يهرب خشية أن يكون سببًا في حصولنا على مزيد من الأكاليل. وبرحيله، فإن الذي كان الجميع يكرهونه وكان يحيا في عزلة بينهم نراه يسلك طريق الفضيلة، إذ انقشع الضباب من أمامه. فإن كان الناس لا يزالون يتجادلون ضدكم، ستنالون من الله أعظم مديحٍ وإعجابٍ. فلا تحزنوا بعد، أرجوكم لا تيأسوا، لأن الرسل أنفسهم كانوا بالنسبة للبعض “رائحة موت” (1 كو 2: 16)، ولآخرين “رائحة حياة” وإن لم يكن في نفوسكم شيء تتمسكون به، فيكفي أنكم تخلصتم من كل اتهاماتهم لكم، أو بالحري قد صرتم مطوَّبين بالأكثر. فليضيء نوركم إذن في حياتكم ولا تهتموا بالذي يقولون عنكم شرًا. لأنه من المستحيل، أقول من المستحيل أن من يمارس الفضيلة تخلو حياته من الأعداء – مع ذلك فإن الرجل الصالح لا يهتم بهذه الأمور – لأنه يزداد بها بريقًا ويفيض إشراقه بالأكثر.

السمو بالانشغال بالحياة السماوية

 فإن كنا نشغل بالنا بهذه الأمور، فلنضع نصب أعيننا كيف نضبط حياتنا بالرصانة والجدية. لأننا بهذا نحيا الحياة السماوية ونقود معنا الجالسين في الظلمة، فهذه هي خاصية النور: أن ينير هنا وأن يقود تابعيه إليه. لأن الناس حين يروننا نزدري بكل شيء في هذا الزمان الحاضر. ونعد أنفسنا للدهر الآتي، تحثهم أعمالنا أسرع من أية عظة، لأن الإنسان حتى بعد انعدام أساسه، حين يرى من كان يعيش في بذخٍ يومًا ما، يتجرد الآن من كل الترف، ويتشح بأجنحته ويستعد لقبول الفقر والجوع والصعاب والأخطار والذم والذبح وكل شيء رهيب، يستطيع – إذا عاين كل هذا – أن يكتشف أمور الزمان العتيد، المستقبل الأبدي، لكن إن كنا ننغمس في أمور الزمان الحاضر، وننزلق فيها أكثر فأكثر لا يقتنع الآخرون بأننا مرتحلون في عجالة إلى وطن آخر.

فما هو عذرنا بعد إن لم نعش في مخافة الرب كما يليق، مثلما ساد مجد البشر بين فلاسفة الأمم. إذ تخلى بعضهم عن ثروتهم، واحتقروا الموت، ولكن كان غرضهم التباهي أمام الناس، لهذا كان رجاؤهم باطلاً.

فما العذر الذي ينجينا إذن، رغم عِظَم الأمور الموضوعة أمامنا، ورغم المبدأ السامي لإنكار الذات المتاح لنا نجد أنفسنا عاجزين حتى عن إتيان ما أتوه هم من أعمال، بل ونُهلك أنفسنا والذين معنا؟

خطأ المسيحي أخطر من خطأ الأممي

لأن الأممي (الوثني) إذا ارتكب خطية لا يقع عليه ضرر كبير، مثلما يخطئ المسيحي بنفس الخطية. فالأمم أصلاً قد فقدوا أخلاقياتهم، لكننا وبنعمة الله مكرَّمون ومطوَّبون بين الأشرار. لهذا إذا تقولوا علينا شرًا، وزاد كلامهم الشرير علينا إلى حد كبير، ونادوا علينا في تهكم مرير ساخرين: “يا مسيحي”، فإنهم ما كانوا يستعملون هذا النداء التهكمي لو توفرت لديهم سرًا فكرة سديدة عن عقيدتنا.

ألم تسمعوا كيف أن السيد المسيح قد أوصى وصايا عظيمة وكثيرة؟ فمتى تقدرون أن تنفذوا إحدى هذه الوصايا، هل وأنتم عازفون عنها كلها، منصرفون إلى اللهث وراء اللذة، متكالبون على جمع أموال الربا الفاحش، جالسون عند عتبات الصفقات التجارية متاجرون في قطعان العبيد، جامحون في دأب للتحف الفضية، مبتاعون بيوتًا وحقولاً وبضائع لا نهاية لها؟

وكنت أتمنى أن يكون هذا كل شيء، ولكنكم حين تضيفون إلى هذه المساعي التي لا لزوم لها، ظلمًا ونهبًا بإزالة علامات الأراضي واغتصاب بيوت الناس بالعنف، تعملون على تفاقم الفقر وازدياد حالات الجوع. فمتى تقدرون أن تثبِّتوا أقدامكم على هذه الأعتاب؟

لا تنتظروا المكافأة مني!

13. لكنكم ترحمون المساكين أحيانًا: أعرف ذلك مثلما تعرفون أنتم – لكن حتى هذا المسلك سيئ أيضًا – لأنكم تفعلون ذلك إما من باب الكبرياء أو المجد الباطل، فلا تنتفعون حتى بأعمالكم الصالحة، فأي حال أتعس من حالكم هذا، إنكم تحطمون سفنكم وأنتم في مرفأ الأمان. فإن فعلتم صلاحًا وأردتم منع ذلك، لا تنتظروا مني شكرًا لأن الله هو المدين لكم. إذ يقول: “اقرضوا الذين لا ترجون أن تستردوا منهم” (قابل لوقا 6: 34).

 فإن كان الله هو المدين لكم، فلماذا تتركونه وتطالبونني أنا المسكين المائت بهذا الدين؟

ماذا؟ إن الله يُسرّ أن تأخذ الدين منه فهو ليس بالفقير، ولا الرافض أن يفي بالديون. ألا ترون عظم كنوزه الفائقة الوصف؟

ألا تنظروا سخاءه الذي لا يُنطق به؟

تمسكوا إذن بطلب الدين منه، فإنه من غير اللائق أن نتركه ونطلب سداد الدين من آخر سواه، فإنه يرى فيما تفعلونه خطأ، وكأنه يقول لكم: لماذا تفعلون هذا وبأي جحود تتهمونني، هل تزعمون أنني فقير؟ حتى إنكم تعتزمون أخذ الدين من آخرين؟ فهل تقرضون (الله الواحد) ثم تطلبون من آخر أن يسدد هذا القرض؟ لأنه رغم أن الإنسان هو الذي أخذ القرض، فإن الله هو الذي أوصاكم أن تعطوه، ومشيئته أن يكون هو المدين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وفي الحقيقة، إن الرب يعطيكم أضعاف أضعاف الفرص لاسترداد الدين منه في كل حين وفي كل مكان. فلا تدعوا هذه الفرصة السانحة تضيع منكم هكذا بسهولة، ولا تبددوا هذا السخاء الوفير طالبين الدين ممن لا يملكون شيئًا. فلأي غرض تظهرون رحمتكم بالمساكين؟ ماذا؟ ألم أكن أنا الذي قلت لكم أعطوا، ألم تسمعوا ذلك مني، أن تستردوا عطاياكم مني أنا، ألم أقل “من يرحم الفقير، يقرض الرب” (أم 19: 17) وأنتم قد أقرضتم الله، فضعوا هذا الدين على حسابه، حتى لو لم يسدد لكم الدين كله الآن، حسنًا، إنه إنما يفعل ذلك لخيركم أيضًا. فيا له من مدينٍ، ليس ككثيرين يرغبون هكذا ببساطة أن يردوا ما اقترضوه من دين، بينما الرب يدبر كل شيء، لاستثماره في أمانٍ لأنه قرض مُعطى للرب. لهذا كما ترون يسدد بعضه هنا ويؤجل الدين للبعض الآخر.

لا تجبن عن أن تنقذ إنسانًا الظالم والمظلوم

14. وإذ نعلم هذه الأمور، فلنرحم بسخاء ووفرة، ولنقدم دليلاً على محبتنا الكثيرة للإنسان باستخدام أموالنا تارة، وأفعالنا تارة أخرى، فإن رأينا إنسانًا تُساء معاملته ويتلقى الضرب في ساحة السوق، فإن كنا نقدر على سداد الدين عنه فلنفعل. وإن كنا نقدر بالكلمات وباللسان أن نفض المشاجرة، فلا نجبن. فحتى الكلمة لها مكافأة، وما أكثر الكلمات التي ترفع التنهدات، حسبما يقول المطوَّب أيوب: “ألم أبكِ لكل متعثر، ألم أتنهد حين رأيت إنسانًا في ضيقة” (أي 30: 25 LXX).

 لكن إن كانت هناك مجازاة للدموع والتنهدات، وللكلمات أيضًا، والاجتهاد الدؤوب وأعمال أخرى نضيفها، تكون المكافأة عظيمة جدًا. أجل، إذ كنا نحن أيضًا أعداءً لله، فصالحنا الابن الوحيد، طارحًا نفسه في الوسط متلقيًا عنا الجلدات والضربات ومحتملاً الموت لأجلنا.

فلنفعل نحن مثله، فنجتهد أن نخلصهم من شرور أصابتهم بغير حصر، وليس كما نفعل الآن، حين نرى البعض يمزقون ويضربون بعضهم أعمال، فنقف مكتوفي الأيدي. نتلذذ باحتقار الآخرين، صانعين حلقة “فرجة” شيطانية حولهم. إنه مشهد في منتهى القسوة حين ترون أشخاصًا يتخاصمون ويتنازعون، ويمزقون بعضهم بعضًا ويقطعون ملابسهم، ويلكمون وجوه بعضهم بعضًا، ورغم ذلك تحتملون مشاهدة هذا الشجار في هدوء؟ ما هذا؟ هل الذي يتصارع أمامكم دب؟ حيوان مفترس؟ حيَّة؟ إنه إنسان، شريك لكم في كل شيء، أخوكم في عضويته معكم (قابل أف 4: 25). فلا تقفوا متفرجين، بل فضوا المشاجرة، لا تتلذذوا بها، بل بالحري فرقوا المتجمهرين.

إن المتلذذين بهذه الفرجة هم من السادة والعبيد، يرفضون شركة المصالحة لأسباب واهية، أقول لكم هل إذا رأيتم إنسانًا يسلك بعدم لياقة، لا يعنيكم سلوكه – وكأن الأمر لا يعنيكم – ألا تتدخلون وتمزقون قوات الشيطان وتضعون حدًا لمشقات مثل هذا الإنسان؟

ورُبَّ سائلٍ: “ربما تلقيت أنا نفسي بعض اللكمات”، هل هذا هو تبريرك لعدم مشاركتك؟ ألا تقبل هذه المعاناة أيضًا. ألا تعلم أنك إذا احتملت آلام الآخرين، حُسب احتمالك هذا نوعًا من الاستشهاد. لأنك تتألم لأجل الله. فإن كنت متباطئًا في تلقي الضربات تذكر أن ربك لم يبطئ في تحمل آلام الصليب لأجلك. فالمتنازعون سكارى يسيرون في ظلمة، قد أعمى الغضب مشاعرهم، فسادَ عليهم وطغى، يحتاجون إلى سليم العقل ليساعدهم. ففاعل الشر والواقع عليه الأذى، كلاهما في حاجة إلى عون وتقويم: الأول حتى يكف عن شره والثاني حتى نخلصه من آلامه ومعاناته.

اقتربوا إذن، مدوا أيديكم أيها المنتبهون لنفوسكم لمساعدة ذلك الغافل كالسكير لأنه تحت سيطرة غضب أخطر من سكر الخمر. ألا ترون البحارة حين يواجهون حادثة تحطم سفينتهم، يفردون قلاعهم ويستعدون بأقصى سرعة لإنقاذ زملائهم من نفس المهنة من خطر الأمواج العاتية، فإن كان أبناء المهنة الواحدة هكذا يهتم بعضهم ببعض، فكم بالأكثر يكون واجب المشتركين في نفس الطبيعة أن يفعلوا كل هذه الأمور، لأننا هنا أمام سفينة محطمة فعلاً، تتعرض لخطر أكبر من ذاك، أمام إنسان تحت ثورة الغضب والاستفزاز يجدف ويلعن، ويطرح كل شيءٍ ويلقيه أرضًا، أو تحت ثورة الغضب يحلف كذبًا، وهو طريق يقود إلى جهنم. أو أن يضرب ضربته ويقترف جريمة القتل، فنراه كالذي يعاني من حطام سفينته.

انطلقوا إذن وضعوا حدًا للشر، أنقذوا الغرقى. حتى إذا نزلتم إلى أعماق الأمواج الهائجة تحطمون مسرح الشيطان، وتعزلون كل واحدٍ بمفرده، وتنصحونه أن يخمد نيران الغضب وأن يهدئ من ثورة أمواجه.

وحتى إن بَدت كومة النار مشتعلة بنار شديدة، وبدأ الأتون مشتعلة بضراوة، لا تخافوا ولا تفزعوا! لأن معكم كثيرين يهرعون لمساعدتكم. فابسطوا أيديكم وأنتم في بداية النزاع، وإله السلام يكون معكم قبل كل شيء. فإن بدأتم في إخماد النيران أولاً، فإن كثيرين آخرين أيضًا سيحذون حذوكم وتنالون أنتم مكافأة أعمالهم الحسنة. اسمعوا السيد المسيح وهو يوصي اليهود والذين كانوا يزحفون علي الأرض لنجدة حمار: “إذا رأيت حمار عدوك واقعًا تحت حمله لا تعدل عنه، بل ارفعه” (خر 23: 5).

وعليكم أن تدركوا أن الفصل بين شخصين متنازعين ومصالحتهما، لهو أهون كثيرًا من حمل حمار ساقط. فإن كان لزامًا علينا المساعدة علي رفع حمار عدوّنا، فكم بالأحرى نفوس أصدقائنا، وكم بالأحرى يكون سقوط المتخاصمين عظيمًا لأن أولئك لا يسقطون في الأوحال – بل في نيران الجحيم – غير حاملين أثقال غضبهم، فأنتم حين ترون أخاكم ساقطًا تحت الثقل والشيطان واقف بجواره يزكي نيران الكوة، فإنكم تجرون هاربين، في قسوة وبلا رحمة.

وهو تصرف ليس من الأمان فعله، حتى إن اختص الأمر بضرر واقع علي حيوانات ضارية، فالسامري الصالح حين رأى إنسانًا جريحًا لا يعرفه ولا يمت له بصلة قرابة لا من بعيد ولا من قريب، وقف وحمله علي حمارٍ، وأتى به إلي بيتٍ، إلى حانةٍ، واستأجر طبيبًا، وأعطاه بعض النقود ووعده بالمزيد، أما أنتم فترون إنسانًا لا يسقط بين لصوص، بل بين براثن عصابة من الشياطين قد استشاطوا غضبًا، وليسوا في برية، بل في وسط ساحة ولستم مضطرين إلى دفع نقود لفض النزاع، ولا إلى استئجار حمار، ولا أن تأتوا به عبر طريق طويل، بل أن تقولوا فقط بضعة كلمات: فهل تحجمون عن فعل ذلك؟ هل تمتنعون وتفزعون في قسوة وبلا رحمة؟ هل تظنون أن الله ليس هو صانع الخيرات؟

كيف انقلبتم إلى حيوان مفترس؟

15. لكن دعوني أخاطبكم فإنكم تجلبون علي أنفسكم الخزي هكذا علنًا، وأن أخاطب كل من يسلك سلوكًا مزريًا تشوبه الأخطاء. هل توجهون اللكمات؟ اخبروني، وهل تركلون بالأرجل وتعضون غيركم؟ هل أصبحتم خنزيرًا بريًا متوحشًا أو حمارًا بريًا؟ ألا تخجلون من أنكم انقلبتم إلى حيوان مفترس، وأنكم تخونون شرفكم الخاص؟ فبالرغم من أنكم فقراء، فأنتم أحرار. وبالرغم من أنكم أُجراء فأنتم مسيحيون.

كلا! بل لأنكم فقراء وجب عليكم أن تكونوا مسالمين، لأن التقاتل من طبع الأغنياء لا الفقراء. فإن الأغنياء أكثر من سبب يدفعهم إلى الصراع، أما أنتم فلا تعانون من ملذات الغنى، ولكنكم تنشغلون بجمع شرور الثروة والعداوة والمنازعات فتخنقون أخاكم من حلقه، وتحاولون شنقه، وتطرحونه أرضًا هكذا علنًا أمام الناس جميعًا، أفلا تظنوا أنكم بهذا تجلبون الخزي علي أنفسكم حينما تقلدون نزعة العنف عند البهائم، بل هذا أسوأ إذ تشتركون معًا في صفات وسلوكيات القطيع من فوضى ومشاجرات وصراعات ومنافسات وعداوة وإهانات، فلا نوقر السماء التي تتجه إليها دعوتنا جميعًا، ولا الأرض التي وهبها الرب لنا كلنا مجانًا بلا ثمن، ولا نُكرم طبيعتنا كبشرٍ، بل نغضب حين يكتسح حب المال كل ما نملك.

ألم تروا الذي ملك المواهب بغير حصر ولكنه مدين، وحينما سومح عن ذلك الدين خنق الخادم زميله بسبب مبلغ زهيد (مائة وزنة)، وكان شره عظيمًا فعوقب عقابًا أبديًا. ألا ترتعدون من هذا المثل، ألا ينتابكم خوف خشية أن يقع عليكم نفس الأمر، لأننا نحن أيضًا مدينون لربنا بديون هذا عددها، ومع ذلك فإنه يسامحنا ويتأنى طويلاً ولا يضايقنا، مثلما نفعل مع أتباعنا ورفقائنا، فلا يخنقنا ولا يمسك برقابنا، بل يسعى ليصلح فينا ولو أصغر عضوٍ أفسدناه.

اعفوا عن المدينين!

16. هيا أيها الأحباء – ونحن مفتكرون في هذه الأمور – أن نتواضع وأن نكون شاكرين للمدينين إلينا. لأننا إن عاملناهم برفق، تصير لنا فرصة اغتنام صفح وخير. وإذ نعطي قليلاً، نأخذ كثيرًا.

فلماذا نلجأ إلي العنف؟ رغم أن الآخرين مستعدون للسداد، بينما في استطاعتكم مسامحتهم لنوال كل الدين من الله. لكنكم تلجأون الآن إلى العنف والمخاصمات الكثيرة، فلا تسامحون فيما لكم من ديون. وتفتكرون في احتقار جيرانكم فيقع السيف علي رقابكم أنتم، وتزداد عقوبتكم في الجحيم، بينما لو أظهرتم جميعًا قليلاً من ضبط النفس هنا لجعلتم حسابكم يسيرًا. لأن الله يريدنا حقًا أن نكون أُمناء في هذا النوع من الخير، ليكافئنا بزيادة في حينه.

 فإن كان لكم كثيرون مدينين بمالٍ أو بتعديات، أسقطوها كلها، واطلبوا من الله أن يعوضكم عن شهامة أعمالكم، لأنهم إن ظلوا مدينين لكم طويلاً، يكون الله أيضًا مدينًا لكم، لكن إن أطلقتموهم تحتجزون الله لديكم، وتطلبون منه التعويض العظيم المقدار عن ضبط النفس.

لأنه إن افترضا أن إنسانًا جاء وراءكم وأنتم تلقون القبض علي أحد المدينين لكم، وطلب منكم أن تعتقوا وتأخذوا الدين منه شخصيًا، مظهرًا أنه عادل يريد نقل حساب الدين عليه، فكيف لا يقدر الله أن يعوضنا مئة ضعف، بل أكثر من هذا بكثير لأجل وصيته، إن كان أحد مدينًا لنا ولم نشتكيه مهما كانت قيمة الدين كبيرة أو صغيرة، بل نعفيه من كل ما عليه من ديون؟

فلا تفكروا إذن في تلك الفترة الوقتية التي تنالونها حين تسوُّون ديونكم، بل بالحري، نفكر في فداحة الخسارة التي نتكبدها في الحياة الأخرى، فنؤذي نفوسنا بشدة فيما يخص الأمور الأبدية. ولكن إن ارتفعنا فوق الجميع، فلنسامح الذين يجب عليهم سداد الديون لنا، من أموال أو إساءات حتى نجعل من حسابنا حساب صفح وتسامح.

وما لا نقوى على فعله بالفضيلة، نناله إذا كنا لا نحمل أية ضغينة ضد أحد جيراننا، فننعم بالبركات الأبدية، بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للإنسان، الذي له المجد والقوة الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين.

Facebook
Twitter
Telegramma
WhatsApp
PDF
it_ITItalian
Torna in alto