أن إقتبال المعمودية يعني بالضبط الولادة حسب المسيح، قبول الكيان بالذات، أن نخلـق مـن العـدم، ويمكننا أن نعرف ذلك بالعديد من الأدلة. أولاً: من الترتيب الذي تحظى به، أنها تتم أولاً وقبـل كـل الأسرار وبها يدخل المسيحيون إلى الحياة الجديدة. ثانياً: من الأسماء التي نعطيها لهـا. ثالثـاً: مـن الطقوس والأناشيد المرعية أثناء إتمامها. الترتيب هو كما يأتي: أولاً الغسل، ثانياً مـسحة الميـرون، وأخيراً الوليمة الشكرية. والبرهان القاطع على أن الغسل هو المبدأ والشرط الأولي لهذه الحياة يقدمـه السيد نفسه. أن السيد قبـل بدئـه بعمله الخلاصي وتحمله الآلام من أجلنا قبل المعمودية أولاً. أيمكن أن يكون للألقاب التي نعطيها للمعمودية معان مختلفة: ولادة، إعادة الولادة، إعـادة تكـوين، الخـتم، الحمام، اللباس، المسحة، الموهبة، الاستنارة، المعمودية؟ أن كل هذه الألقاب تعنـي شـيئاً واحـداً أي الذين يعيشون حسب االله باقتبالهم لهذا السر كشرط أساسي لهذه الحياة، ويبدو لـي أن كلمـة”ولادة” لا تعني إلا ما تعنيه كلمة” إعادة الولادة”، وكلمة إعادة تكوين لا تعني إلا ما تعنيـه” الـولادة” و”إعـادة الولادة” أي إعادة ولادة أولئك المولودين والمبروئين الذين فقدوا شكلهم فأعادوا شـكلهم الأول. حـدث ما يحدث مع تمثال مشوه أعاد إليه الفنان شكله الأول. المعمودية هي الفنان الذي أعاد للإنسان شـكله وهيئته وطبع صورة في النفس ونحت شكلا وجعلها مطابقة للمسيح بالموت والقيامة. ومن أجل ذلـك تسمى ختماً يدمغنا على صورة الملك وشكله المغبوط. وبما أن الشكل يكتنف المادة ويقضي على عدم شكلها كذلك السر لباساً أو معمودية يعطيها شكلا، وقد أشار الرسول بولس إلى ذلك فأكّد أن المـسيح يطبع في أرواح المسيحيين صورته وشكله وكذلك يسترهم بلباس رمزي. وأن المستنيرين حديثاً لبسوا وتعمدوا” يا بني أنتم الذين أتمخض بهم مرة أخرى حتى يـصور فـيهم المـسيح” (غلاطيـة 4: 19) وأيضاً: ” أنتم الذين خُطت نصب أعينهم صورةُ المسيح المصلوب” (غلاطية 3: 1) ويكتب إلى أهـل قورنثية: “أنتم الذين بـالمسيح اعتمدتم المسيح لبستم).
أن الذهب والفضة والنحاس تبقى مادة وتسمى كذلك ما دامت في حالة الانصهار، ولكنها عندما تتحول إلى أشكال مختلفة تحت ضربات المطرقة لا تبقى مادة خاماً بل مادة ذات شكل فنقول مثلا تمثالاً، حلقه، ديناراً… أسماء لا تستهدف المادة كمادة بل شكلها، وهكذا الحال أيضاً مع اللباس حول الجسد. وقد تكون تسمية اليوم الخلاصي من قبل المسيحيين بيوم التسمية ناتجة عن خلقتنا بالضبط في هذا اليوم وتشكيلنا وحصول النفس على شكل ووجود بعد أن كانت قبلا غامضة ومبهمة وبدون شكل، بالإضافة إلى أننا عرفنا من الذي يعرف خاصته كما يقول بولس الرسول:” عرفنا االله بل عرفنا االله” (غلاطية 4: 9). أن تكون معروفاً يعني أن يعرفك االله، لذلك يعلن داود قائلا عن أولئك الذين لا رابط مشترك يربطهم بهذه الحياة: “أن شفاهي لا تذكر أسماءهم” لأن الذي يبقى بعيداً عن هذا النور يبقى مجهولاً وغير منظور.لا شيء يظهر للعين بدون النور ولا يعرف االله أحداً إذا لم يقتبل خواص المعمودية، والسبب هو عدم وجوده بالنسبة للحقيقة، عدم وضعه في النور بواسطة هذه الشمس. والمقصود من القول: ” أن السيد يعرف خاصته، (تيموثاوس 11: 19)، المخلص لا يتعرف على العذارى الجاهلات، (متى 25: 13) هو ما ذكرنا.
المعمودية استنارة لأنها تعطي الكيان الحقيقي وتجعلنا معروفين من االله وتقود الإنسـان وتبعـده عن الظلمـة الشـريـرة وتمنـح أيضاً النور، ولهذا سميت حمام النور، لأنها تنير الأنوار في نفوسنا لتبعد كل غيمة من دنس تتوسط بيننا وبين الشعاع الإلهي، وتهد كل حائط متوسط بيننا وبين االله.
المعمودية موهبة لأنها ولادة. من يستطيع أن يحمل فكرة عن ولادته؟ يحدث في الولادة الروحية مـا يحدث في الولادة الطبيعية. حتى الإرادة نفسها لو حاولت أن تعرف خيرات العمادة قبل حـدوثها لمـا تمكنت. أن نريد يعني أن نتذكر والتذكر غير أن نريد. القلب البـشري لا يــمكنه أن يـصعد أو أن يفكر قبل أن يمر بالتجربة. عندما نسمع الكلام عن الحرية وعن الملكوت السعيد نفكر بحياة يتصورها العقل البشري مع أن الحياة التي تهبها المعمودية تفوق كل إدراك بشري وكل رغبـة مـن رغباتنـا الإنسانية.
يقال عن المعمودية أيضاً أنها مسحة لان الممسوح عنّا، المسيح، ينطبع في من يتممها. والختم يعني المسيح المخلّص الذي يختم النفوس، والمسحة الشاملة لكل أقسام الجسد تحدد الهيئة وتبقى كختم أصيل.
مما تقدم يستنتج أن الختم مرادف للولادة، والثياب والتغطيس للختن. ومن ناحية أخـرى مـا دامـت الاستنارة والغسل والموهبة المجانية مرادفة لخلقه وولادة تصبح كل الألقاب التي تعطـى للمعموديـة واحدة تقود إلى الشيء ذاته، تقود لان نعرف أن هذا الغسل الروحي يجدد الولادة وانه بداية الحياة في المسيح لأرواحنا.