“فماذا إن خان بعضهم؟ أتبطل خيانتهم
وفاء الله”؟ (رو 3: 3)
رسالة وشهادة:
ما هو الكتاب المقدس؟ هل هو كتاب كالكتب الأخرى المعدَّة للقارئ العادي الذي ننتظر منه أن يستوعب معناه مباشرة؟ إنه بالأحرى كتاب شريف موجَّه إلى المؤمنين أولاً. وممَّا لا شك فيه أن المرء يقدر أن يقرأ أي سفر مقدَّس كما يقرأ “النصوص الأدبية” عادة. لكن هذه القراءة لا علاقة لها بهدفنا المباشر، فنحن لا نهتم بالحرف بل بالرسالة. هذا ما عبَّر عنه بقوة القديس إيلاريون في قوله: “الكتاب المقدس ليس بقراءته، بل بفهمه” (Scriptura est non in legendo, sed in intelligendo). هل نجد في الكتاب المقدَّس، مأخوذاً كلاًّ، وكتاباً واحداً، رسالة معيَّنة؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فإلى من تكن هذه الرسالة موجَّهة بشكل خاص؟ أ إلى أشخاص مؤهَّلين لفهم الكتاب وتفسير رسالته؟ أم إلى الجماعة والأشخاص بصفة كونهم أعضاء في هذه الجماعة؟
مهما كان أصل النصوص التي يشتمل عليها الكتاب المقدس فمن الواضح أنه في مجمله من خلق الجماعة في التدبير القديم والكنيسة المسيحية على حد سواء. فهو لا يشتمل على كلِّ النصوص التاريخية والتشريعية والتعبّدية الموجودة، بل على نخبة منها. وهذه النخبة أصبحت ذات سلطان من خلال استعمالها -وعلى الأخص في الليتورجيا- وفي وسط الجماعة ومن خلال القيمة التي أعطتها لها الكنيسة. لقد كان هناك هدف واضح يحدِّد هذه “النخبة” ويعيِّنها: “وصنع يسوع أمام تلاميذه آيات أخرى غير مدوَّنة في هذا الكتاب. أمَّا الآيات المدوَّنة هنا، فهي لتؤمنوا بأن يسوع هو المسيح ابن الله. فإذا آمنتم نلتم باسمه الحياة” (يوحنا 20: 30-31). ينطبق هذه الهدف على الكتاب كلِّه. فما حصل هو أن بعضاً من الكتابات اختير وجُمع وسُلِّم بعد ذلك إلى المؤمنين ليكون نسخة عن الرسالة الإلهية يجد اعتمادها. إن الرسالة إلهية وآتية من الله، بل إنها كلمته، لكن المؤمنة هي التي سلَّمت بصحة الكلمة التي قيلت وهي التي شهدت لحقيقتها. لذلك فإننا نؤكد الصفة المقدسة للكتاب بواسطة الإيمان. ولأن الكتاب أُلِّف ضمن الجماعة بهدف بنيانها، فلا نقدر أن نفصل الكنيسة عن الكتاب المقدس. فالكتاب والعهد متصلان اتصلاً وثيقاً، والعهد يفترض وجود شعب، ولذلك ائتُمن الشعب على كلمة الله (رو3: 2) في التدبير القديم. أمَّا في التدبير الجديد فائتُمنت كنيسة الكلمة المتجسد على رسالة الملكوت. فالكتاب هو حقاً كلمة الله، لكنه يستند إلى شهادة الكنيسة التي وضعت قانون الكتاب وثبتته.
على المرء ألاَّ يغفل الخلفية التبشيرية للعهد الجديد الذي تجسَّدت ودُوِّنت فيه “البشارة الرسولية” بهدفيها: بنيان المؤمنين وهدي العالم. إذن، العهد الجديد ليس كتاب الجماعة حصراً كما كان العهد القديم. فهو ما زال كتاباً تبشيرياً، لكنَّه يبقى مع ذلك في حمىً عن الغرباء. كان موقف ترتليان من الكتاب المقدس نموذجياً، لأنه لم يكن مستعداً للبحث مع الهراطقة على أسس كتابية في المواضيع الإيمانية التي لم يكونوا على اتفاق فيها. فالكتاب يخصّ الكنيسة، ولذلك كان احتكام الهراطقة إليه غير شرعي، إذ لا حقّ لهم في ملك غريب. هذه الحجَّة الرئيسة نجدها في مبحثه الشهير “معارضة الهراطقة” (De praescriptione haereticorum) حيث يؤكد أن غير المؤمن لا يحقّ له لمس الرسالة، لأنه لم “يستلمها”. فلا “رسالة” له في الكتاب المقدس.
لم يكن مصادفةً إعتبار منتخبات متعدَّدة ومدوَّنة في أوقات مختلفة وعلى يد مؤلفين عديدين كتاباً واحداً. فلفظة ta biblia بصيغة الجمع، في حين أن لفظة Bible (الكتاب) بصيغة المفرد. وهذا دليل على أن هذه الأسفار تؤلف كتاباً مقدساً واحداً، ذا موضوع رئيسي واحد ورسالة واحدة، بل تؤلف رواية العلاقات بين الله وشعبه المختار، ومدوَّناً يودر أفعال الله وعظائمه (Magnalia Dei). فالله ابتدأ بالمسيرة، إذ هناك بداءة ونهاية تكون الهدف والغاية، أي هناك نقطة إنطلاق كامنة في كلام الله “في البدء” (تكوين 1: 1) ونهاية يشير إليها كلام الرؤيا الختامي: “تعالي أيها الرب يسوع” (رؤيا 22: 20). إذن، هناك قصة كاملة تبتدئ من سفر التكوين وتنتهي بسفر الرؤيا، وهذه القصة هي تاريخ، ومسيرة تتحرك بين هاتين النقطتين. ولهذه المسيرة إتجاه معيَّن. وهناك هدف أساسي ورجاء إكتمال سيتحقق في آخر الأزمنة. فهذه القصة ذات مراحل وكل مرحلة ترتبط بطرفي المسيرة ولها مكانة صحيحة وفريدة في القصة كلِّها. لذلك تُفهم كلّ مرحلة من السياق كلِّه والمنظور كلِّه.
كلَّم الله آباءنا “مرَّات كثيرة وبمختلف الوسائل” (عبر 1: 1) وكشف عن نفسه خلال العصور باستمرار قائداً شعبه من حقيقة إلى حقيقة. فهناك مراحل في إعلانه واستزادة (per incrementa). وهذا التنوع يجب ألا يُهمل أو يُغفل. ولكن يبقى الله في هذا الإعلان المتعدِّد الأنواع هو هو ورسالته السامية هي هي. فتماثل الرسالة هو الذي يعطي الكتابات المختلفة وحدتها الحقيقية، رغم تنوع أساليبها. لقد أُدرجت في الكتاب روايات مختلفة دون أن تُغيَّر، حتى أن الكنيسة عارضت كلّ المحاولات لاستبدال الأناجيل الأربعة بإنجيل واحد يؤلِّف بينها، أي عارضت تحويل “الأناجيل الأربعة” (Tetraevangelion) إلى “الإنجيل الرباعي” (Diatessaron)، رغم الصعوبات الناجمة عن “الاختلافات بين الإنجيليين” (التي تصارع معها المغبوط أوغسطين). والسبب هو أن الأناجيل الأربعة تثبّت وحدة الرسالة تثبيتاً تاماً، ربما بشكل أكثر تماسكاً من أي جامع يجمعها.
إن الكتاب المقدس سِفر عن الله، لكّن إله الكتاب ليس مخفيّاً (Deus absconditus) بل معلن (Deus revelatus) يكشف عن ذاته ويفعل في صميم الحياة الإنسانية. فما الكتاب مجرّد مدوَّن إنساني عن أعمال الله وأفعاله، بنوع من التدخل الإلهي نفسه. فالكتاب يحمل في طيّاته الرسالة الإلهية. وبما أن أعمال الله تؤلّف رسالة، فإننا لا نحتاج إلى تجاوز الزمان أو التاريخ حتى نلاقي الله. فهو يلاقي الإنسان في التاريخ، أي في العنصر الإنساني، في وسط وجود الإنسان اليومي. فالتاريخ ينتسب إلى الله، والله يدخل التاريخ الإنساني. إن الكتاب المقدس في جوهره مرلَّف تاريخي يدوّن أعمال الله، من غير أن يكشف أسراره الأزلية، لأن هذه الأسرار لا تُدرك إلاّ عن طريق التاريخ: “ما من أحد رأى الله. الابن الأوحد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه” (يوحنا 1: 18). وأخبرنا عنه بدخوله التاريخ، أي بتجسده المقدّس. ولذلك يجب ألاّ نتخلّص من الإطار التاريخي للإعلان، لأننا لا نحتاج إلى تجريد الحقيقة المعلَنة لنا عن الإطار الذي حصلت فيه الإعلانات. فتجريد كهذا يلغي الحقيقة ذاتها التي ليست فكرة بل شخص هو الرب المتجسد.
ما يستوقفنا في الكتاب هو تلك العلاقة الخالصة بين الله والإنسان، فهي أُلفة العهد، أُلفة اختيار وتبنٍّ. وهي تبلغ أوجها في التجسد عندما “أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة، مولوداً في حكم الشريعة” (غلاطية 4: 4). في الكتاب لا نرى الله وحده، إذ نرى الإنسان أيضاً. إنه إعلان الله، لكن ما أُعلن هو اهتمام الله بالإنسان. فالله يعلن للإنسان عن نفسه ويظهر له ويكلّمه، ويكشف له عن المعنى الخفي لوجوده وعن الهدف الأسمى لحياته. إننا نرى الله آتياً ليعلن عن نفسه ونرى الإنسان يلاقيه ويسمع صوته ويجيبه، أي إننا لا نسمع صوت الله فقط، بل صوت الإنسان مجيباً بكلام الصلاة والشكر والعبادة والرهبة والمحبة والحزن والنم والتهليل والأمل واليأس. ففي العهد شريكان، الله والإنسان، يجتمعان في سرّ اللقاء الإلهي – الإنساني الحقيقي، الموصوف والمدوَّن في قصة العهد، حتى إن الإجابة الإنسانية تندمج في سرّ كلمة الله. في الكتاب حوار يشترك فيه الله والإنسان، لأنه ليس مونولوجاً إلهياً. فهما يتكلمان، ولكن تكون صلوات كاتب المزامير وتضرعاته، مع ذلك، “كلمة الله”. فالله يريد ويتوقع ويطلب هذا الجواب أو الاستجابة من الإنسان، لأنه يكشف له عن نفسه ويحاوره ويقيم العهد مع أبناء الناس، من دون أن تعرَّض هذه المودة والأُلفة تعالي الله للخطر. “فمسكنه نور لا يُقترب منه” (1 تيمو 6: 16). لكن هذا النور “حاء العالم لينير كلّ إنسان” (يوحنا 1: 9). هذا هو سرّ الإعلان و”غرابته”.
ولأن الإعلان تاريخ للعهد، فالإعلان المدوَّن -الكتاب المقدَّس- هو قبل كلّ شيء تاريخ. فالشريعة والأنبياء والمزامير والنبوءات أمور محبوكة في النسيج التاريخي الحيّ. إن الإعلان الإلهي ليس مجموعة أقوال إلهية وحسب بل هو في الأساس بيان عن الأعمال الإلهية وممرّ لله إلى التاريخ. وهذا الإعلان بلغ أوْجَه عندما تجسَّد كلمة الله وتأنَّس. لكنَّ كتاب الإعلان مصنَّف عن المصير الإنساني أيضاً، لأنه يقص حوادث خلق الإنسان وسقوطه وخلاصه. وبما أن الكتاب يقصّ تاريخ الخلاص فالإنسان ينتمي عضوياً إلى هذه القصة، فيظهره لنا الكتاب في طاعته وثورته العنيدة وفي سقوطه ونهوضه. ويتلخَّص المصير الإنساني كلّه في مصير إسرائيل القديم والجديد الذي هو شعب الله المختار. إن لحدث الاختيار أهميَّة بالغة، لأن شعباً قد اختير وفٌرز عن الأمم الأخرى وصار واحة مقدسة وسط الفوضى الإنسانية. فالله أقام عهده مع شعب واحد وأعطاه شريعته المقدسة. ومن هذا الشعب برز كهنوت حقيقي وإنْ كان كهنوتاً مؤقتاً، ومنه ظهر أنبياء حقيقيون نطقوا بكلمات ملهمَة من روح الله. فكان هذا الشعب مركزاً مقدَّساً وإن كان مركزاً خفيّاً للعالم كلّه، وواحة حبْتنا بها رحمة الله في عالم ساقط وخاطئ وضال وغير مخلَّص. كل هذه الأمور لا تشكِّل حرف الرسالة الكتابية، بل قلبها، فهي لم تكن عملاً بشرياً، بل أتت من الله. لكنها كانت “من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا”. إن الميزات التي أُعطيت لإسرائيل القديم خضعت لهدف أسمى وهو الخلاص الكوني “لأن الخلاص يجيء من اليهود” (يوحنا 4: 22). كونيٌّ هدف الخلاص، لكنه يتمّ عن طريق الفرز والاختيار، عندما يُوجِد الله في وسط السقوط والدمار الإنسانيين واحة مقدَّسة. فالكنيسة أيضاً هي واحة مفروزة لكنها غير منفصلة عن العالم، لأنها ليست ملجأ وحمى فقط، بل حصن أماميّ وطليعة جيش الله.
في الكتاب المقدس هناك خط الأحداث الزمنية مركز أو نقطة حاسمة تكوِّن بداءة جديدة، لكنها لا تقسم المسيرة إلى مرحلتين، بل تزيدها تماسكاً واتحاداً، حتى إن التمييز بين العهدين ينتمي إلى وحدة الإعلان الكتابي. يجب أن نميِّز بين العهدين تمييزاً واضحاً دون أن نخلط بينهما، رغم ارتباطهما العضوي. وهذا الإرتباط لا يقوم فقط على كونهما منهجين، بل أساساً على شخص يسوع المسيح. إن يسوع المسيح ينتمي إلى العهدين كليهما. فهو يُتمّ التدبير القديم ويكمل “الشريعة والأنبياء” ويدشِّن العهد الجديد، وبالتالي يكمل العهدين، أي الكل. هو مركز الكتاب المقدس نفسه لأنه هو البدء (arche) والنهاية (to telos). هذه الوحدة السرِّية بين البدء والمركز والنهاية تعطي المسيرة الزمنية بشكل غير متوقَّع واقعيتها الأصيلة ومعناها التام، من دون أن تهدم الحقيقة الوجودية للزمن. فلا يوجد مجرَّد أحداث تعبر، بل وقائع ومآثر وأمور جديدة تبرز دوماً إلى الوجود: “ها أنا أجعل كلّ شيء جديداً” (رؤيا 21: 5).
في النهاية يجب أن نعتبر العهد القديم “كتاباً لميلاد يسوع المسيح، ابن داود، ابن إبراهيم” (متى 1: 1)، لأنه كان فترة وعود وانتظار وزمن عهود وتنبوءات. فلم يكن الأنبياء وحدهم الذين يتكلَّمون بالنبوءات، بل الأحداث. كان التاريخ كلّه نبوياً و”نموذجياً” وعلامة نبوية تشير إلى الاكتمال المستقبلي. أمَّا الآن فقد انتهت فترة الانتظار وتحقَّق الوعد وجاء الرب ليقيم مع شعبه إلى الأبد. انتهى تاريخ اللحم والدم وظهر تاريخ الروح: “وأمَّا بيسوع المسيح فوهبنا النعمة والحق” (يوحنا 1: 17). إنه إكمال للقديم وتحقيق له وليس هدماً. “إن العهد القديم يمتد إلى العهد الجديد” (Vetus Testamentum in Novo patet). والفعل “patet” يعني “أُعلن” و”أُكمل”. وهكذا تبقى أسفار العبرانيين مقدَّسة حتى عند إسرائيل المسيح الجديد، ويجب ألاَّ نتخلَّى عنها أو نهملها، لأنها ما زالت تروي لنا قصة الخلاص وعظائم الله (Mangnalia)، وتشهد للمسيح. ولذلك يجب أن تُقرأ في الكنيسة ككتاب تاريخ مقدَّس، من دون أن تتحوّل إلى مجموعة من النصوص الإثباتية والشواهد أو المواقع اللاهوتية (Loci theologie) أو إلى كتاب أمثال وحِكَم. فالنبوءات تحققت والنعمة حلَّت محلّ الشريعة، لكن لم يزُل أيّ شيء، لأن “الماضي” في التاريخ المقدَّس لا يعني ما “انقضى” أو “زال”، بل أساساً ما أُنجز وأُكمل. “والإكمال” هو المقولة الأساسية في الإعلان الإلهي. فكلّ ما تقدَّس يبقى مكرَّساً إلى الأبد وحاملاً ختم الروح القدس الذي ما زال ينفخ في الكلمات التي أوحى بها. وقد يصح أن نقول إن العهد القديم ليس أكثر من كتاب عندنا وعند الكنيسة، لأن الإنجيل أخذ مكان الشريعة والأنبياء. أمَّا العهد الجديد فهو أكثر من كتاب، لأننا ننتمي إليه، مؤلِّفين شعب الميثاق الجديد. ولذلك نحن نفهم الإعلان في العهد القديم ككلمة الله “ونشهد للروح الذي تكلَّم بواسطة الأنبياء”. لأن الله تكلَّم بواسطة ابنه في العهد الجديد، ونحن نُدعى لا لأن نسمع فقط، بل لأن ننظر إليه: “الذي رأيناه وسمعناه نبشِّركم به” (1 يوحنا 1: 3). فنحن نُدعى لأن نكون “في المسيح”.
إن ملء الإعلان الإلهي هو يسوع المسيح، والعهد الجديد هو تاريخٌ كالعهد القديم. فهو التاريخ الإنجيلي عن الكلمة المتجسد وبدء التاريخ الكنسي، وهو التنبؤ الإعلاني (apocalyptic) أيضاً. الإنجيل تاريخ والأحداث التاريخية هي أساس الإيمان ومصدره وقاعدة الرجاء المسيحي، لأن العهد الجديد يقوم على وقائع وأحداث وأعمال وليس على تعاليم ووصايا وكلمات فقط. منذ البدء، في يوم الخمسين، عندما شهد القديس بطرس، بصفته شاهد عيان، على أن ملء الخلاص قد تمَّ بالرب الناهض قائلاً: “ونحن كلُّنا شهود (martyres) على ذلك” (أعمال 2: 32)، كانت للبشارة الرسولية صفة تاريخية أكيدة. وعلى أساس هذا الشاهد التاريخي تقوم الكنيسة. إن للعقائد المسيحية بنية تاريخية أيضاً، لأنها ترجع دائماً إلى الأحداث والواقع التي تشكّل التاريخ المقدس. وفي سرّ المسيح “يحل ملء الألوهية كلّه حلولاً جسدياً” (كولوسي 2: 9). هذا السرّ لا يُفهم على الصعيد الأرضي فقط، لأن له بعداً آخر، لكنَّ الحدود الأرضية لا تُلغى، بل تظهر بعض العوامل التاريخية بجلاء في صورة المسيح المقدسة. كان التبشير الرسولي دوماً سرداً لما حصل، هنا وفي هذه اللحظة (Hic et nunc)، وما حصل كان جديداً وجوهرياً، لأن “الكلمة صار بشراً” (يوحنا 1: 14). فالتجسد والقيامة والصعود هي أحداث تاريخية، لكنَّها لا تحمل معنى أحداث حياتنا اليومية نفسها ولا تكون على المستوى نفسه. لكنَّها لم تكن أقل تاريخية وواقعية، لأنها كانت تزخر بالواقعية أكثر من تلك. من الطبيعي ألا نستطيع تأكيدها إلاَّ عن طريق الإيمان. لكن هذا التأكيد لا يبعدها عن إطارها التاريخي. فالإيمان يكتفي بالكشف عن بعد جديد ويفهمنا المعطى التاريخي في عمقه وحقيقته الكاملة. إن الإنجيليين والرسل لم يكونوا مؤرخين عاديين حتى حتى يوردوا كل أعمال يسوع وأفعاله يوماً فيوماً وسنة فسنة. إنهم دوَّنوا سيرة حياته وسردوا أعماله ليقدِّموا لنا صورته التاريخية والإلهية بوقت واحد. فهذه الصورة لم تكن صورةً لملامح جسده، بل أيقونة تاريخية للإله المتجسد. الإيمان لا يخلق قيماً جديدة، بل يكشف عن قِيَمٍ موجودة. إنه نوع من الرؤيا “وتصديق ما لا نراه” (عبرانيين 11: 1). (يفسِّر الذهبي الفم لفظة elenchos “التصديق” أو “الإيقان” مثلما يفسِّر لفظة opsis “وجه”). فما “لا يُرى” لا يقلّ واقعية عمّا “يُرى” ولعلّه أكثر واقعية. “لا يقدر أحد أن يقول إن يسوع رب إلاّ بإلهام من الروح القدس” (1 كور 12: 3). أي إننا لا نقدر أن نستوعب عمق المعاني الإنجيلية إلا عن طريق الخبرة الروحية. وما يكشفه الإيمان يُعطى بحقّ. ولأن الأناجيل كُتبت في الكنيسة فهي شهادة الكنيسة ومدوّنات خبرتها وإيمانها، كما أنها سرد لأحداث تاريخية وشهادة لوقائع حدثت فعلاً في مكان معيَّن وزمن محدَّد. وإذا كنَّا نكتشف “بالإيمان” أكثر ممّا نكتشف “بالحواس” فهذا دليل واضح على عدم كفاية الحواس في معرفة الأمور الروحية، خصوصاً أن ما حدث كان عملاً جبَّاراً قام به إلهنا المنقذ، وتدخلاً إلهياً في مجرى الأحداث التاريخية. لكن يجب ألاَّ نفصل بين “الحدث” و”معناه” لأنهما يقدِّمان لنا الحقيقة.
بما أن الكنيسة تحفظ الإعلان فهي تفسِّره تفسيراً صحيحاً. ولا شك أن الإعلان يُصان بالكلمات المدوَّنة، لكنَّ هذه الكلمات لا تستنفد الإعلان كله، لأن الكلمات البشرية ليست سوى علامات ومدلولات لا تحييها إلاَّ شهادة الروح. إننا لا نعني بهذا إنارة الروح القدس لعدد من البشر في وقت معيَّن، بل العون الدائم الذي يهبه الروح القدس لكنيسة الله، “عمود الحق ودعامته” (1 تيمو 3: 15). يحتاج الكتاب المقدس إلى تفسير وشرح، لأن الشيء الجوهري هو رسالة الكتاب لا كلامه. هنا يقوم عمل الكنيسة التي أقامها الله لتشهد دائماً للحقيقة المطلقة وللمعنى الكامل للرسالة، لأنها تنتمي إلى الإعلان بكونها جسد الرب المتأنس. بل إن نشر الإنجيل والتبشير بكلمة الله ينتميان كلاهما إلى جوهر (esse) الكنيسة التي تعتصم بشهادتها. وما هذه الشهادة رجوعاً إلى الماضي أو تذكراً لأحداث غابرة وحسب، بل كشف مستمر عن الرسالة المعلنة إلى القديسين والمصونة بالإيمان. فالرسالة تتحقَّق من جديد في حياة الكنيسة حيث يكون المسيح حاضراً كمخلِّص وكرأس لجسده، مكملاً عمله الخلاصي فيها. ولذلك، لا يُعلن الخلاص في الكنيسة فقط، بل يتحقَّق فيها، لأن التاريخ المقدس ما زال مستمراً وعظائم الله باقية. هذه العظائم (magnalia Dei) لا تقتصر على الماضي، بل يستمر حضورها ووجودها في الكنيسة وبواسطتها في العالم. الكنيسة جزء لا يتجزأ من رسالة العهد الجديد وهي قسم من الإعلان الإلهي وقصة “المسيح التام” (“المسيح التام، رأس وجسد”، totus Christus caput et corpus على حد تعبير أوغسطين) والروح القدس. لكنَّ نهاية (telos) الخلاص لم تبرز إلى حيِّز الوجود بعد. إن خبرة الكنيسة وحدها تُبقي العهد الجديد حيّاً، لأن تاريخ الكنيسة هو قبل كل شيء تاريخ الخلاص. ولذلك تُعلَن وتُثَبَّت حقيقة الكتاب بنمو الجسد الذي هو الكنيسة.
تاريخ ومنهج:
يجب أن نقبل مباشرة كون الكتاب المقدس صعباً ومختوماً بسبعة أختام. وكلَّما مرَّ الزمان أصبح أكثر صعوبة. ولكنَّ صعوبته لا ترجع إلى أنه مدوَّن “بلغة مجهولة” أو إلى احتوائه “كلمات سرِّية لا يُسمح لنا بتلاوتها”. فبساطته التامة هي حجر عثار لنا، لأن أسرار الله موضوعة في قوالب الحياة اليومية عند الإنسان العادي، حتى إن التاريخ كلّه يظهر بشرياً مثلما كان الرب المتجسد.
الكتاب “موحى به” من الله، فهو كلمته. لكنَّ بحث ماهية الوحي بدقة أمر مستحيل، لأنه محاط بسر، بسر مواجهة الله للإنسان. إننا لا نستطيع أن نفهم الطريقة التي سمع بها “قديسو الله” كلمة سيدهم، ولا كيفية تعبيرهم اللغوي عمَّا أوحى به الله إليهم. وحتى في عملية تعبيرهم الإنسان كان صوت الله معهم. هذه هي معجزة الكتاب وأسراريته: إنه ظهور كلمة الله مدوَّنة في لغة بشرية. ومهما كانت الطريقة التي نفهم بها الوحي الإلهي فعلينا ألاَّ تغفل عاملاً أساسياً وهو أن الكتاب ينقل إلينا كلمة الله في لغة بشرية. فالله كلَّم الإنسان بالفعل، وهذا يفترض وجود من يسمع الكلمة ويعيها. ولذلك ترتبط “التشبيهية” (anthropomorphism خلع الصفات الإنسانية على الله) بهذا الأمر، لأنه لا مجال هنا لانزلاق نحو الضعف البشري، لأن اللسان البشري لا يفقد خصائصه الطبيعية عندما يصير عربة للإعلان الإلهي. فإذا ما أردنا أن تكون كلمة الله مدوِّية، فلساننا يجب أن يبقى لساناً بشرياً. إن الإلهام الإلهي لا يمحو العنصر البشري، بل يغيِّر وجهه فقط. فكل “ما يفوق الطبيعة” لا يهدم “ما هو طبيعي”: “ما هو فوق الطبيعة” (hyper physin) لا يعني “ما هو بخلاف الطبيعة” (para physin). واللغة الإنسانية لا تخون الإعلان الإلهي ولا تقلِّل من شأنه أو تقيِّد قوة كلمة الله. وما دام الإنسان مخلوقاً على صورة الله ومثاله فهو يقدر أن يعبِّر عن كلمة الله بكلماته البشرية بشكل كافٍ وصحيح، لأن كلمة الله لا تخفت عندما ينطق بها لسان بشري. أمَّا قبول الله مخاطبة الإنسان فقد أكسب الكلمة البشرية قوة وعمقاً جديدين، وأعطاها شكلاً مختلفاً.
وعندما ينفخ الروح في نظام اللغة البشرية يقدر الإنسان أن ينطق بكلام الله وأن يتحدَّث عن العلي، أي يكون “اللاهوت” ممكناً. فاللاهوت (Theologia) هو كلام على الله (Logos peri Theou). وهو ممكن من خلال الإعلان الإلهي فقط. إنه استجابة بشرية لما تكلَّم به الله أولاً، وشهادة إنسانية لله الذي كلَّمه ولمن سمع كلمته وحفظها. وهو يدوِّنها ويردِّدها الآن. تبقى طبعاً هذه الاستجابة غير كاملة، لأن اللاهوت يتكوَّن باستمرار. لكنَّ منطلقه يبقى هو هو: كلمة الله والإعلان. يرجع اللاهوت دائماً إلى الإعلان الإلهي ويشهد له بطرق متعدِّدة: بقوانين الإيمان والعقائد والطقوس والرموز الكنسية. فالكتاب هو بمعنى من المعاني كلمة الله والاستجابة الإنسانية بآن واحد، أي كلمة الله المعبَّر عنها من خلال استجابة الإنسان الإيمانية. لذلك نعثر دائماً على تفاسير بشرية في العرض الكتابي لكلمة الله، لأن هذا العرض يتأثر دوماً بالظروف التي يتكوَّن فيها. فهل يقدر الإنسان أن يفلت من وضعه البشري؟
لخصت الكنيسة رسالة الكتاب المقدس في دساتير إيمانها وفي طرق أخرى، فأصبح الإيمان المسيحي منهجاً من القناعات والاعتقادات. وفي منهج كهذا تتضح البنية الداخلية للرسالة الأساسية وتظهر كلّ البنود الإيمانية في علاقاتها المتبادلة. إننا نحتاج إلى منهج للإيمان مثلما نحتاج إلى خارطة في أسفارنا، ونحتاج إلى ربط المنهج العقيدي بالإعلان الإلهي مثلما ترشدنا الخارطة إلى أرض واقعية. ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن الكنيسة لم تفكِّر يوماً في أن منهجها العقيدي يقدر أن يحلّ محلّ الكتاب المقدس. بل آمنت أنه يجب حفظهما جنباً إلى جنب. إذن، عندنا من جهة عرض عام للرسالة الأساسية في إطار منهجي أو في دستور إيماني، وعندنا من جهة أخرى كلّ المراجع الخاصة التي تشير إلى مراحل معيَّنة من مراحل الإعلان. يمكن القول إنه لدينا المنهج والتاريخ.
هنا تظهر لنا مشكلة مُهمة وهي إلى أي مدى نقدر أن نضع التاريخ في قالب منهجي؟ وكيف نستخدم الكتاب المقدس إستخداماً لاهوتياً؟ وكيف نستخدم الشواهد المتعدِّدة التي تغطي مئات السنين لرسم شكل واحد؟ يجب أن نتذكر دائماً أن الكتاب المقدس واحد، رغم كونه مجموعة من الأسفار. فحلّ هذه المشكلة يعتمد على فهمنا للتاريخ ورؤيتنا للزمن. والحلّ الأسهل هو محاولة إغفال تعددية الأزمنة وتجاوز الحقبة الزمنية التي وقعت فيها العملية كلّها. هذه التجربة واجهت المسيحية منذ زمن مبكر. فإننا نجدها متأصلة في جذور التفاسير الاستعارية منذ أيام فيلون الإسكندري وبرنابا المنحول (Pseudo-Barnabas) إلى أيام ما بعد الإصلاح البروتستانتي، عند إحياء النزعات الاستعارية. كما واجهت هذه التجربة جميع الصوفيين. لقد نظروا إلى الكتاب كمجموعة من الأمثال المقدَّسة المدوَّنة بأسلوب رمزي خاص. لذلك كانت مهمة التفسير الكشف عن المعاني الخفية والإفصاح عن الكلمة الإلهية التي عُبِّر عنها بأساليب متعدِّدة وأُخفيت تحت حجب مختلفة. أمّا الحقيقة التاريخية والمنظور التاريخي فلا صلة لهما بالأمر. كما أن الملموسية التاريخية عندهم هي إطار تصويري أو خيال شعري، لأن ما يهمَّهم هو المعنى الأبدي. هذه النظرة تحوِّل الكتاب المقدس إلى مصنَّف لأمثال بنَّاءة ورموز عظيمة تشير إلى الحقيقة الأبدية. أوَليست حقيقة الله هي هي على الدوام وإلى الأبد؟ في هذه الحال يكون البحث في العهد القديم عن شواهد لكل المعتقدات المسيحية البارزة أمراً طبيعياً. فيذوب بذلك كلّ عهد في الآخر وتنطمس ميزاته الخاصة. إن عيوب المنهج التفسيري ومخاطرة ظاهرة بوضوح، لذلك لا تتطلَّب دحضاً مطوَّلاً. أمَّا علاجه فهو تصحيح النظرة التاريخية. فالكتاب Data وليس منهجاً إيمانياً ويجب ألاّ يُستعمل “كخلاصة لاهوتية” (Summa Theologiae). كما أن ليس تاريخ الإيمان البشري، بل تاريخ الإعلان الإلهي. لكن المشكلة الأساسية تبقى من غير حلّ وهي: لماذا نحتاج إلى تاريخ ومنهج؟ ولأي سبب حفظتهما الكنيسة معاً؟ هنا أيضاً الجواب الأسهل هو الأقل إرضاء. وهو أن نزعم بأن الكتاب المقدَّس هو النص الأوحد الذي يعوَّل عليه بالنسبة للإعلان وبأن كلّ ما تبقَّى هو تفسير له فقط علماً أنه لا يمكن أن يكون للتفسير السلطان الذي للنص الأصلي. هناك شيء من الحقيقة في هذا الكلام. لكنَّ الصعوبة الحقيقية التي نواجهها هي: لماذا تبطل المراحل الحديثة في الإعلان المراحل القديمة؟ وهل نحتاج في عهد المسيح إلى الشريعة والأنبياء؟ وهل تظلّ تحتفظ بالسلطان الذي تتمتَّع به الأناجيل وكتابات العهد الجديد الأخرى؟ إنها ما زالت فصولاً أساسية في الكتاب الواحد كما كانت سابقاً، لأنها لم تُدرج في قانون الكتاب المقدَّس كوثائق تاريخية فقط، أو كأسفار تتعلَّق بمراحل تاريخية عابرة. وهذا الشيء يصحّ في العهد القديم خاصة: “فإلى أن جاء يوحنا كان هناك نبوءات الأنبياء وشريعة موسى” (متى 11: 13). إذن، لماذا نحتفظ بالشريعة والأنبياء؟ وما هو الاستخدام الصحيح للعهد القديم في كنيسة المسيح؟
أولاً يجب أن نستخدمه استخداماً تاريخياً إلاَّ أن هذا التاريخ مقدَّس، لأنه ليس تاريخ قناعات بشرية وتطوراتها، بل تاريخ أعمال الله وعظائمه. فأعمال الله هذه ليست تدخلاً إليهاً وعشوائياً في الحياة البشرية، بل أعمال متكاملة قادت الشعب المختار إلى هدف الله السامي، أي إلى المسيح. لذلك نرى الأحداث الأولى تنعكس على الأحداث اللاحقة، لأن هناك استمراراً في العمل الإلهي ووحدة في الهدف والقصد. هذا الاستمرار هو أساس المنهج التفسيري الذي يرتكز على دراسة رموز الكتاب (Typology). فالمصطلحات الآبائية كانت وفيرة في هذا المنهج التفسيري. لكن يبقى التمييز بين منهجين تفسيريين واضحاً، لأن الاستعارة (allegory) منهج تفسيري أيضاً. فيه يسعى المفسِّر إلى البحث في النصوص والمقاطع والجمل وحتى الكلمات ليتوصل إلى المعنى الخفي الذي يوجد فيها، “وراء الحرف”. أمَّا في منهج “دراسة الرموز” فيسعى إلى شرح الأحداث وتفسيرها دون شرح النص نفسه. ولذلك ما كانت منهجاً فيلولوجياً فقط، بل كانت منهجاً تاريخياً يهدف إلى إبراز التوافق الضمني بين الأحداث في العهدين، الذي يجب كشفه وتثبيته وتقويمه. إن المفسِّر “الرمزي” لا يسعى إلى بحث الأمور المتشابهة، لأننا لا نجد لكلّ أحداث العهد القديم “ما يُشبهها” في العهد الجديد، مع أن بعض الأحداث الأساسية في التدبير القديم كانت صوراً ورموزاً أو “نماذج” لأحداث أساسية في العهد الجديد. وكانت نتيجة قصد إلهي لأنها تشير إلى مراحل التدبير الخلاصي الواحد. مارس بولس الرسول نوعاً من هذا التفسير حين قال في غلاطية (4: 24): “في ذلك رمز” (estin allegoroumena Hatina). هناك غاية واحدة إلهية وراء أفعال الله وقد أُعلنت كلّها في يسوع المسيح. يقول أوغسطين في هذا الصدد: “يجب أن نفتِّش عن السرّ في الفعل نفسه، وليس في الكلمة فقط” (In ipso facto non solum in dicto, mysterium requirere debemus) (العظة 6، 2 في المزمور 68). كان المسيح “سرّ” العهد القديم، لا لأن موسى والأنبياء “تحدَّثوا” عنه فقط، بل لأن مجرى التاريخ المقدس كلّه يتجِّه إليه. وبهذا المعنى كان تتمَّة لكل النبوءات. ولذلك لا نقدر أن نفهم العهد القديم بدقّة أو أن نكشف عن “أسراره” إلاَّ على ضوء المسيح، وقد كُشفت فعلاً بمجيء “المنتظر”. فالمعنى النبوي الحقيقي للنبوءات لا يُرى بوضوح إلاّ بعد أن تتحقق، لأن النبوءة التي لم تتحقق تظل مبهمة وغامضة (كما هو الحال في سفر الرؤيا الذي تشير نبوءاته إلى ما سيأتي “في النهاية”). هذا لا يعني إضافة معنى جديد إلى النص القديم، فالمعنى موجود فيه، لكننا لا نراه بوضوح. فمثلاً، عندما نماثل في الكنيسة الخادم المتألم في سفر أشعيا بالمسيح المصلوب، فإننا لا “نطبِّق” رؤية من رؤى العهد القديم على حدث من أحداث العهد الجديد، إنما نوضح معناها الذي لم يكن ممكناً أن يُفهم بوضوح قبل المسيح. فالذي كان أولاً رؤية (أي “توقّعاً أو حدساً”) أصبح الآن واقعاً تاريخياً.
نقطة أخرى مهمة وهي أن “الصوَر” في نظر المشتغل بتفسير الاستعارات ليست سوى انعكاسات للنموذج الأصلي الموجود سابقاً أو وصف “لحقيقة” أزلية مجرَّدة، أي أنها تدلّ على ما يفوق الزمان. أمَّا دراسة الرموز فتتجه إلى المستقبل، لأن “الرموز” توقعات وتصورات مسبقة لأمور ستحدث في المستقبل. لذلك، كانت دراسة الرموز منهجاً تاريخياً أكثر منها منهجاً فيلولوجياً، لأنها تفترض وجود حقيقة تاريخية موجَّهة من الله وترتبط بفكرة العهد. فيرتبط الماضي والحاضر والمستقبل بالهدف الإلهي الأوحد الذي هو المسيح. لدراسة الرموز إذن معنى خريستولوجي (أي ذو صلة بالكنيسة أيضاً كونها جسد المسيح وعروسه). لكن من حيث التطبيق لم يُحفظ التوازن الحقيقي بشكل دقيق. فحتى في الاستخدام الآبائي أٌفسدت دراسة الرموز كثيراً بانحرافات استعارية وإضافات خارجية خاصة بالعبادة والوعظ. والمهم أنه في تقليد الكنيسة الأولى التعليمي الذي يرتبط بإقامة الأسرار حٌفظ هذا التوازن الأسراري. هذا هو تقليد الكنيسة، أمَّا الانحرافات فنعزوها إلى فضول العلماء الشخصية وتخيُّلاتهم. لقد وعت الكنيسة الأمور تاريخياً، ولذلك قُرئ الكتاب المقدَّس دائماً في الكنائس مع عرض العقيدة (أي المنهج) لكي يذكِّر المؤمنين بالأسس التاريخية لإيمانهم ورجائهم.
يعتقد أوغسطين أن الأنبياء تكلَّموا على الكنيسة بشكل أوضح من كلامهم عن المسيح أي ماسّيا (في المزمور 30، 2 و ennaratio 2، مجموعة الآباء اللاتين مين 36، 244). كان هذا بمعنى من المعاني أمراً طبيعياً، لأن الكنيسة كانت موجودة بادئ ذي بدء. فإسرائيل، شعب الله المختار وشعب الميثاق، كان كنيسة أكثر منه أمَّة “كالأمم” الأخرى. في الكتاب -وفيما بعد- استعملت اللفظتان ta ethne وgentes (الأمم) لتصفا الأمميين أو الوثنيين، بخلاف الشعب الواحد (أو الأمة) الذي كان أيضاً وأساساً كنيسة الله. إن الشريعة أُعطيت لإسرائيل بوصفه كنيسة كي تشمل الحياة “الروحية” “والزمنية” للشعب، لأن الوصايا الإلهية تضبط الوجود الإنساني كله وتنظِّمه. وبذلك يكون تقسيم الحياة بين ما هو “روحي” وما هو “زمني” تقسيماً لا أساس له. كان إسرائيل جماعة مؤمنين أقامها الله، متَّحدة بالشريعة الإلهية والإيمان الحقيقي والطقوس المقدسة والسلطة الكهنوتية. هنا نجد كلّ عناصر التحديد التقليدي للكنيسة. لكنَّ التدبير القديم وجد كماله في التدبير الجديد، عندما أقام الله عهداً جديداً ورفض إسرائيل القديم لقلة إيمانه. وهذا ما جعله يخسر يوم الرب أو يوم الافتقاد. وأتت كنيسة المسيح لتكون الاستمرار الحقيقي الأوحد للعهد الذي أقامه الله قديماً. (فلنتذكر أن لفظتي “الكنيسة” و”المسيح” هما من أصل عبري. “الكنيسة” هي qahal و”المسيح” يعني Messiah). فهي إسرائيل الحقيقي بحسب الروح (Kata Pneuma). وبهذا المعنى رفض القديس يوستينوس رفضاً قاطعاً الفكرة التي تقول إن العهد القديم هو صلة الوصل بين الكنيسة والمجمع اليهودي. فالعكس هو الصحيح في نظره، ولذلك يجب أن نرفض الإدِّعاءات اليهودية من أساسها، لأن عدم إيمانهم بيسوع المسيح جعل العهد القديم لا ينتمي إليهم، وجعله ملك الكنيسة وحدها. فلا يحق لأي شخص بعد أن يدَّعي الانتماء إلى موسى أو الأنبياء، إذا لم يكن أولاً مع يسوع المسيح. فالكنيسة هي إسرائيل الجديد والوارث الأوحد للوعود القديمة. في هذا الكلام العنيف الذي صرَّح به هذا المدافع المسيحي القديم نجد مبدأً تفسيرياً ذا أهمية بالغة وهو أننا يجب أن نقرأ العهد القديم ونفسِّره بكونه كتاب الكنيسة وربما يجب أن نضيف إلى هذا فنقول أنه كتاب عن الكنيسة.
اتُّخذ الحق بدلاً من الشريعة، لأنها وجدت فيه كمالها. ولهذا أٌبطلت الشريعة ولم يبقَ حفظها واجباً على المهتدين حديثاً. فإسرائيل الجديد كان له دستوره الخاص. وصار هذا الجزء من العهد القديم وكأنه مهجور، لأنه يرتبط أساساً بالوضع التاريخي -لكن لا بمعنى النسبية التاريخية العامة، بمقدار ما هو بمعنى التدخل الإلهي والعناية الإلهية. فالرب أوجد الوضع الافتدائي الجديد ودشَّنه، فهو أوْجَدَ وضعاً جديداً في المنظور المقدّس للخلاص. كلّ ما انتمى إلى الحالة السابقة فَقَدَ معناه، وإذا ما احتفظ بهذا المعنى فكسابق تصوّر فقط. حتى إننا لا نستثني الوصايا العشر من هذه القاعدة لأن “الوصية الجديدة” قد نسختها. والآن يجب أن نستخدم العهد القديم من خلال علاقته بالكنيسة فقط. ففي التبرير القديم اقتصرت الكنيسة على أمَّة واحدة. أمَّا في التدبير الجديد فأُبطلت الفوارق القومية وزال التفريق بين اليوناني واليهودي وصار الجميع واحداً في المسيح الواحد. وبكلام آخر، لا يجوز أن نُبعد بعض أجزاء العهد القديم التي تتعلَّق بحياة الكنيسة، ولكن لا يحق لنا في الوقت ذاته أن نجعل منها نماذج كتابية لحياة الشعوب الزمنية. فإسرائيل القديم كان كنيسة مؤقتة، لكنه لم يكن نموذجاً للأمم. طبعاً، إننا نقدر أن نتعلَّم الشيء الكثير من الكتاب المقدس عن العدالة الاجتماعية التي كانت جزءاً من رسالة الملكوت الآتي، وعن التنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي عند اليهود عبر العصور. وقد تكون هذه الأمور عوناً لنا في مناقشاتنا الاجتماعية. لكن لا يجوز أن نجد في الكتاب المقدس وخاصة العهد القديم نموذجاً مثالياً ودائماً للتنظيم السياسي والاقتصادي في عصرنا هذا أو في أي عصر آخر. ولعلَّنا نتعلَّم أموراً كثيرة من التاريخ العبري، لكنها تبقى درساً تاريخياً، وليس درساً لاهوتياً، لأن الكتاب ليس مرجعاً للعلم الاجتماعي أو العلم الفلكي. فالدرس الاجتماعي الأوحد الذي نأخذه منه هو حقيقة الكنيسة التي هي جسد المسيح. لذلك لن نقول إن الاستناد إلى الكتاب في الأمور “الدنيوية” هو “شاهد كتابيّ”، لأن “الشواهد الكتابية” هي في الأمور اللاهوتية فقط. هذا لا يعني عدم وجود توجيهات وإرشادات في الكتاب، لأن بحثاً من هذا النوع لا يمكن أن يُعتبر “استعمالاً لاهوتياً للكتاب المقدس. ولعلَّ أمثولات التاريخي العبري القديم لا تفوق أمثولات الشعوب الأخرى. إذن، يجب أن نميِّز بكثير من الانتباه، الوقتي (المرتبط بحالة معيَّنة) عن الدائم في الميثاق القديم (وعلينا قبل كل شيء أن نتجاوز حدوده القومية)، وإلاَّ فإننا نقع في خطر إغفال ما هو جديد في الميثاق الجديد. وعلينا في العهد الجديد أن نميِّز بوضوح الوجهين التاريخي والنبوي، لأن موضوع الكتاب الرئيسي هو المسيح وكنيسته، وليس الأمم والمجتمعات ولا السماء والأرض. كان إسرائيل القديم رمزاً للجديد الذي هو الكنيسة الجامعة، وليس رمزاً لأي أمة معيَّنة. فشمولية الخلاص ألغت الإطار القومي لكنيسة العهد القديم. وصارت هناك بعد المسيح “أمة” واحدة، الأمة المسيحية (genus christianum) – وبتعبير قديم “أمة ثالثة” (tertium genus) – أي الكنيسة شعب الله الأوحد. وكل وصف قومي آخر لن يجد ضمانة كتابية له. فالفروقات القومية تنتمي إلى نظام الطبيعة، لكنها لا تتعلق بنظام النعمة.
الكتاب المقدس كامل وتام، لكنَّ التاريخ المقدس لم يكتمل بعد. فقانون الكتاب يحوي سفر الرؤيا النبوي، وهذا دليل على أن هناك ملكوتاً سيأتي واكتمالاً سيتحقَّق. ففي العهد الجديد إذاً نبوءات، كما في العهد القديم، بل إن كيان الكنيسة كلَّه نبوي بمعنى من المعاني، لكنَّ للمستقبل معنى مختلفاً “بعد مولد المسيح” (post Christum natum). إن التوتر بين الحاضر والمستقبل يأخذ في كنيسة المسيح معنى وصفة غير اللذين اتخذهما في التدبير القديم لأن المسيح لا ينتمي إلى المستقبل فقط، بل إلى الماضي أيضاً وبالتالي إلى الحاضر. هذا المنظور الانقضائي له أهمية بالغة لفهم الكتاب بشكل صحيح. بل يجب أن نفحص كل “مبادئ” التفسير و”قوانيه” من خلا هذا المنظور. لكن علينا أن نتجنَّب خطرين كبيرين:
In primul rand: إننا لا نقدر أن نقول بوجود تشابه دقيق بين العهدين، لأن “الوضع الميثاقي” الجديد يختلف جذرياً عن القديم، فصلة الواحد بالآخر كصلة “الصورة” بـ “الحقيقة”. والفكرة التي تسود الشرح الكتابي عند الآباء تدور حول كون كلمة الله تكشف عن نفسها باستمرار وبمختلف الوسائل في العهد القديم بمجمله. لكن يجب ألاَّ نضع هذه الظهورات الإلهية (theophanies) على مستوى تجسد الكلمة وحجمه، خوفاً من أن يتحوَّل حدث الخلاص العظيم إلى ظل استعاري. “فالرمز” ليس سوى “ظل” أو صورة. ففي العهد الجديد نجد الفعل نفسه، لأنه أكثر من “صورة” عن الملكوت الآتي. فهو في جوهره حقل للإنجازات الإلهية.
in al doilea rand: من السابق لأوانه أن نتحدَّث عن “الانقضائية المحقَّقة” (realized eschatology). فالانقضاء (eschaton) لم يأت بعد والتاريخ المقدَّس لم ينته إلى الآن. لذلك نفضِّل عبارة “الانقضائية المدشَّنة” (inaugurated eschatology)، لأنها تصف بكل دقة تحليل الكتاب المقدس، ألا وهو أن الحدث الحاسم في الإعلان الإلهي وقع في الماضي. “الحاسم” (أو “الجديد”) قد دخل التاريخ، وإن كانت المرحلة الأخيرة لم تحدث. في العهد الجديد ما عدنا في عالم الرموز، بل في عالم الحقيقة، ولكن تحت علامة الصليب. الملكوت دُشِّن، لكنه لم يتحقق كلياً. إن قانون الكتاب الثابت نفسه يرمز إلى إنجاز. فالكتاب المقدس أُغلق، لأن كلمة الله تجسَّد، وأصبح مرجعنا شخصاً حيّاً وليس كتاباً. مع هذا يحتفظ الكتاب المقدس بسلطانه ليس فقط كمصنَّف عن الأحداث الماضية، بل كمؤلف نبوي مليء بالإشارات إلى المستقبل والنهاية.
ما زال تاريخ الفداء مستمراً حتى يومنا الحاضر، لأنه تاريخ الكنيسة التي هي جسد المسيح. والروح-المعزِّي يقيم فيها دائماً. لكننا لا نقدر أن نجد منهجاً كاملاً للإيمان المسيحي، لأن الكنيسة مازالت في محجتها. أمَّا الكتاب فقد احتفظت به الكنيسة كمصنَّف تاريخي يذكِّر المؤمنين بطبيعة الإعلان الإلهي الفاعل “مرَّات كثيرة وبمختلف الوسائل” (عبر 1: 1).
كُتب هذا المقال عام 1951