لم يأتِ الدين الإسلاميّ بجديد حين رفض أهمّ العقائد المسيحيّة كالإيمان بالآب والابن والروح القدس، والتجسّد الإلهيّ، وصلب السيّد المسيح. فقد ظهر عبر التاريخ المسيحيّ، هنا وثمّة، الكثير من الهرطقات التي رفضت الإيمان المستقيم، فابتدعت لها تعاليم مخالفة للإيمان الذي استودعه الرسل الكنيسة. سنعرض هنا لمسألة إنكار حقيقة الصلب في الإسلام وما قبله لدى بعض البدع المسيحيّة.
منذ القرن الأوّل للمسيحيّة حارب القدّيس اغناطيوس الأنطاكي البدعة المسمّاة بـ”المشبّهة” الذين كانوا يعتقدون أنّ الربّ يسوع قد تألّم ظاهريّاً فقط. فيؤكّد قدّيسنا حقيقة التجسّد والصلب والقيامة. كذلك يحارب القدّيس إيريناوس أسقف ليون (202+) بدعة باسيليدس الذي كان يعتقد أنّ المسيح لم يُصلب، بل سمعان القيروانيّ هو مَن صُلب مكانه. فيقول باسيليدس: “وسمعان هو الذي صُلب جهلاً وخطأ، بعد أن تغيّرت هيأته فصار شبيهاً بيسوع، بينما تحوّل يسوع إلى هيئة سمعان”…
ثمّ يأتي الدين الإسلاميّ فيرفض الصلب في آية واحدة من القرآن هي الآية 157من سورة النساء التي تقول: “وقولهم (أي اليهود) إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم. وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه، ما لهم به من علم إلاّ اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً”. فنجد في الآية القرآنيّة، للوهلة الأولى، ترداداً لألفاظ استعملها الهراطقة المسيحيّون ناكرو الصليب، كلفظ “شبّه” و”ما قتلوه يقيناً”. من هنا، يسعنا القول إنّ واضع القرآن، في هذه المسألة تحديداً، تبنّى تعاليم المسيحيّين المنحرفين عن الإيمان القويم. والقرآن لا يورد تفاصيل في كيفيّة إنقاذ المسيح من الصلب، لذلك سنعرض للروايات الرائجة في التراث الإسلاميّ حول خاتمة أمر المسيح.
يورد المفسّرون المشهورون ذوو الثقة لدى المسلمين روايات متناقضة في هذه المسألة يمكن إيجازها في وجهين: الوجه الأوّل يحدّده فخر الدين الرازي (ت 1209) في تفسيره “مفاتيح الغيب” بقوله: “إنّ اليهود لمّا قصدوا قتل المسيح، رفعه الله تعالى إلى السماء. فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامّهم، فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبّسوا على الناس أنّه المسيح”. وحتّى تكتمل هذه الرواية أضاف الرازي قائلاً إنّ الناس “ما كانوا يعرفون المسيح إلاّ بالاسم لأنّه كان قليل المخالطة للناس”.
أمّا الوجه الثاني ففيه احتمالات أربعة، وأساسه أنّ الله ألقى شبه المسيح على إنسان آخر: 1) إنّ اليهود لمّا علموا أنّ المسيح حاضر في أحد البيوت، دخل عليه رجل من أصحاب يهوذا اسمه طيطايوس ليلقي القبض على يسوع. فلمّا دخل عليه أخرج الله عيسى من السقف وألقى على ذلك الرجل شبه المسيح فظنّوه هو فصلبوه وقتلوه. 2) وكّل اليهود بالمسيح رجلاً يراقبه، فألقى الله عليه شبه المسيح، فقتلوه وهو يصيح: “لستُ بعيسى”. 3) إنّ اليهود لمّا همّوا بأخذه وكان مع المسيح عشرة من “أصحابه”، فقال لهم: مَن يشتري الجنّةَ بأن يلقى عليه شبهي؟ فقال واحد منهم (في بعض الروايات هو بطرس): أنا. فألقى الله شبه عيسى عليه، فأُخرج وقُتل. 4) كان رجل يدّعي أنّه من “أصحاب عيسى عليه السلام” (في بعض الروايات هو يهوذا الإسخريوطيّ)، وكان منافقاً فذهب إلى اليهود ودلّهم عليه، فلمّا دخل معهم لإلقاء القبض عليه، ألقى الله شبهه عليه فقُتل وصُلب. ويعترف الرازي بعد أن يعرض لهذه الاحتمالات الأربعة أنّها “متعارضة متدافعة، والله أعلم بحقائق الأمور”.
تضارب هذه الأخبار عن صلب المسيح يستمر عند الحديث عمّا حلّ بالمسيح بعد إنقاذه من الموت صلباً، وبخاصّة مع ورود آية قرآنيّة تقول: “إذ قال الله يا عيسى إنّي متوفّيك ورافعك إليّ” (آل عمران 3، 55). فمن المفسّرين مَن قال إنّ “متوفّيك” تعني “مميتك حتف أنفك” أي بصورة طبيعيّة لا قتلاً. والبعض الآخر اعتبر أنّ المقصود هو النوم، فتقول إحدى الروايات: إنّ الله تعالى رفع عيسى إلى السماء وهو نائمٌ رفقاً به. وآخرون قالوا إنّ المعنى هو “أجعلك كالمتوفّى”. وبعضهم لم يروا سوى المعنى الروحيّ لهذا التعبير، فقال الواسطيّ إنّ المقصود “إنّي متوفّيك عن شهواتك”. وثمّة مَن قال إنّ الله توفّى المسيح ثلاث ساعات أو سبع ساعات ثمّ أحياه ورفعه إلى السماء… غير أنّ البعض ممّن يعتقد أنّ المسيح رُفع إلى السماء حيّاً وسوف يعود ثانيةً إلى الأرض ليموت، فاعتبر أنّ ثمّة في الآية تقديماً وتأخيراً، أي أنّ المعنى يصبح “إنّي رافعك إليّ ومتوفّيك بعد إنزالي إيّاك في الدنيا”.
لذلك، يبدو جليّاً عدم وضوح القرآن واختلاف التفاسير الإسلاميّة وتناقضها في مسألة جوهريّة من مسائل العقيدة المسيحيّة التي لا تستقيم من دونها مسيحيّة المؤمن. لكنّ ذلك يدفعنا، نحن المسيحيّين، إلى التوبة أكثر من حيث إنّنا كثيراً ما نهمل معاني الصليب في حياتنا اليوميّة. نؤمن بحقيقة صلب الربّ يسوع وقيامته عقائديّاً، ونرفع الصليب في كنائسنا ومنازلنا ونزيّن به صدورنا. مع ذلك، يبقى السؤال مطروحاً: كم مرّة يجحد المسيحيّ صليبه الذي دعاه المسيح إلى حمله بين شروق شمس كلّ يوم وغروبها؟
Из моего приходского вестника 2005 г.