يتميّز إنجيل يوحنّا عن غيره من الأناجيل الأخرى بأمور عدة، إلاّ أنّنا في هذه المقالة سوف نتحدث عن سرّ الشكر الذي تقيمه الكنيسة مجتمعة في القداس الإلهي. وإنجيل يوحنا هو خاتمة الأناجيل من حيث تاريخ تدوينها، لذا شدّد كاتبه على الأسرار وأهمّيتها اللاهوتية ومكانتها في تحقيق الكنيسة وبنائها على أسس ثابتة، فأتى إنجيله تعليميّا بامتياز وموجّها بصورة أساسية الى المؤمنين، بعكس الأناجيل الأخرى التي توجّه كاتبوها الى الأمم لتبشيرها بعمل يسوع المسيح الخلاصي. وقد أفرد يوحنا الإنجيلي مقاطع عدّة من بشارته للحديث عن سرّي المعمودية (الحديث مع نيقوديمس في الفصل الثالث) والشكر (الفصل السادس).
يبدأ الفصل السادس من إنجيل يوحنا بسرد معجزة تكثير الخبز والسمكتين، ويوحنا يؤكد على كونها آية كباقي الايات. وهذه الحادثة موجودة في الأناجيل الاخرى ايضا، إلاّ أنّ كاتب الإنجيل الرابع تعمّد ذكرها هنا في فاتحة الفصل السادس كمدخل لحديثه الطويل عن سرّ الشكر وخبز الحياة. الجدير بالذكر أنّ يوحنا لم يأتِ على ذكر العشاء السري كما في باقي الأناجيل، فلم ترد فيه العبارتان المؤسستان لسرّ الشكر: “خذوا كلوا، هذا هو جسدي” و”اشربوا منها كلكم، هذا هو دمي”. غير أنّه في آية إكثار الخبز يستعمل يوحنا الأفعال ذاتها التي يستعملها الإنجيليون الآخرون في العشاء السري، وهي “أخذ” و”شكر” و”وزّع” (يوحنا 6: 11). وهذه لا ريب إشارة الى العشاء السري، ذلك أنّ الكاتب يستفيض بعد ذلك في الكلام على فاعليّة الاشتراك في جسد الرب ودمه. ولوقا الإنجيلي يستعمل هذه الأفعال أيضا في حديثه عن تلميذي عمّاوس بعد قيامته من بين الأموات (24، 30)، والإشارة هنا الى سرّ الشكر واضحة أيضاً، ذلك أنّ التلميذين “انفتحت أعينهما وعرفاه” بعد كسر الخبز، أي أنّ معرفة المسيح والاتحاد به انمّا يتمّان في الاجتماع الشكري والمشاركة في القدسات.
يقول يسوع للحشود التي أطعمها أنّ الخبز الحقيقي الذي يستمرّ الى الأبد هو خبز الحياة. ومَن هو خبز الحياة؟ يجيب يسوع: “أنا خبز الحياة. مَن يقبل اليّ فلن يجوع ومَن يؤمن بي فلن يعطش أبداً” (يو6: 35) .
ويؤكد أنّ خبز الحياة ليس سوى جسده: “أنا الخبز الحيّ الذي نزل من السماء مَن يأكل من هذا الخبز يحيَ للأبد. والخبز الذي سأعطيه أنا هو جسدي أبذله ليحيا العالم” (6، 51). وينهي يسوع كلامه على سرّ الشكر بتعابير واضحة حول أهمية المشاركة بجسد الرب، فيقول: “إذا لم تأكلوا جسد ابن الانسان وتشربوا دمه فلن تكون فيكم الحياة. مَن أكل جسدي وشرب دمي، فله الحية الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير. لأنّ جسدي طعام حقّ ودمي شراب حقّ. مَن أكل جسدي وشرب دمي ثبتَ فيّ وثبتُّ فيه” (الآيات 53-56). يجعل يسوع المشاركة في جسده ودمه شرطاً للحصول على الحياة الأبدية. ويؤكد على كون هذه المشاركة حقيقية وتصل بالمؤمن الى حياة أبدية لا نهاية لها.
لقد علّق الآباء على هذا الخطاب وإن بصورة غير مباشرة. فالقديس يوحنا الذهبي الفم (+407) يقول: “أراد يسوع أن يتحد بطبيعتنا حتى يجعلنا جسده الخاص”. وفي هذا كان الأب نيقولاي أفاناسييف يكرر القول: “حيث الافخارستيا (سر الشكر) هناك تكون الكنيسة”. ويتابع الذهبي الفم قائلاً: “لم يكتفِ المسيح بتقديم نفسه ذبيحة من أجل أحبائه، بل وضع نفسه بين أيديهم، في أفواههم وتحت أسنانهم”. اما القديس كيرلس الاسكندري (+444) فيقول: “جسد المسيح ودمه يبعدان عنّا كل فساد، ويطردان الموت الذي يسكن جسدنا البشري، وذلك لأن الدم الذي نتناوله ليس دما بشرياً قابلا للموت بل هو دم الحياة نفسها”. وننهي بقول القديس كيرلس الاورشليمي (+386): “المشاركة في جسد المسيح ودمه تجعلنا جسدا واحدا ودما واحدا معه. وبامتزاج جسده ودمه بجسدنا ودمنا نصير “حَمَلَة المسيح”. وهكذا بحسب القديس بطرس الرسول، نغدو “شركاء الطبيعة الإلهية” (رسالة بطرس الثانية 1 :4) .
لقد أعطانا الله أن نشاركه في طبيعته الإلهية، وذلك بسبب تجسد كلمته في يسوع المسيح، فأتاح لنا بتناولنا خبز الحياة الأبدية أن نصبح جسداً واحداً رأسه المسيح. يوضح الرسول بولس هذا المفهوم اللاهوتي لاتحادنا بالمسيح من خلال مشاركتنا في سر الشكر، فيتساءل بقصد التأكيد: “أليست كأس البركة التي نباركها مشاركة في دم المسيح؟ أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح؟ فلمّا كان هناك خبز واحد، فنحن على كثرتنا جسد واحد، لأننا نشترك كلّنا في هذا الخبز الواحد” (1كورنثوس 10: 16-17). الله كريم لا يبخل بنفسه من أجل خلاصنا، والانسان يبادل هذا الكرم ببخله، حين يبقى لامبالياً أمام جود الله وعطائه اللامتناهيَين. يقول القديس إيريناوس أسقف ليون (+202): “إن المسيح، لأجل محبته اللامتناهية، قد صار مثلنا لكي يجعلنا مثله”، فهل نريد نحن أن نصير مثله؟
عن نشرة رعيتي 1998