Facebook
Twitter
Telegramm
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

أ-حاملو الوديعة الحقيقيون

يُذَكِّر بولس الرسول تيموثاوس بوجوب المحافظة التامة على “الوديعة” التي ائتُمن عليها، واجتناب كلام الهراطقة الفاسد والمتلبس بالبدع (1 تيم 6: 20). ويقول له: “احفظ الوديعة بعون الروح القدس الذي حلّ فينا” (2 تيم 1: 14)، أي الوديعة الكريمة التي أودعها الله فيه. وهو يعتبر هذا الأمر أساسياً جداً، لذلك يضيف انه من دون هذه “لوديعة” يتعرَّض الإنسان لأن “يحيد عن الإيمان” (1 تيم 6: 21).

نرى في هذه النصوص أن حقيقة الخلاص بالمسيح ليست حرفاً جامداً يمكن حفظه في كتاب من الكتب. إنها كنز أعطاه الرب للرسل حتى يكون اتّحادهم الضمانة الأكيدة لامتلاكهم حقيقة الخلاص. وقد نقل الرسل هذا الكنز إلى الأساقفة ليكمِّلوا الرسالة، في اتّحادهم بالكنيسة-جسد المسيح، حيث يعمل الروح القدس (يو 14: 16، 5: 26، 16: 13). وهم بذلك لا يعبّرون عن رأيهم الخاص، بل عن مشيئة الروح القدس الحالّ في الكنيسة (أع 15: 28، يو 16: 13، أنظر مز 81: 1-8).

وهكذا يظهر أن الحقيقة الخلاصيّة بالمسيح لا يمكن أن تتحقق إلا في العلاقة العضويّة بالكنيسة. وعندما نتحدث عن العلاقة العضويّة بالكنيسة، إنما نعني الكنيسة بأكملها، أو كما تذكر كتبنا الليتورجية الشركة “مع جميع القديسين”.

“الوديعة” التي تحدث عنها الرسول ليست كتاباً، بل هي نتيجة الحضور المستمر للروح القدس الذي يقود إلى الحقيقة الشاملة (1تيم 3: 15). وقد أُعطيت هذه “الوديعة” للقدّيسين، ولا يستطيع أن يحصل عليها إلاّ من يكون في شركة مع “القديسين” (يهوذا 3).

أمّا الذين خرجوا على هذه الشركة فهم أناس جاحدون وأصحاب بدع ولا يمتلكون الحقيقة. وهذا ما يشهد له يهوذا في رسالته، إذ يذكر أنه قد اضطر إلى كتابة الرسالة “لكي يحضهم على الجهاد في سبيل الإيمان الذي سُلم إلى القدّيسين مرّة واحدة، لأنه قد تسلل إليكم أناس….” (يهوذا 3-4).

لا يستطيع الإنسان أن يرتوي من خارج روح الله الفاعل في الكنيسة، وبعيداً عن حياة القديسين لأنه يكون قد ابتعد عن “الماء والروح” (يو 3: 5) اللذين يصيران “ينبوع ماء يتفجّر حياة أبدية” (يو 4: 14). فالكتاب المقدّس نفسه لا يمكن أن يُفهم باستقامة خارج الكنيسة، لأنه حينئذ لن يقود إلى الخلاص بل إلى الهلاك والضياع (2 بط 3: 16).

ب – علاقة الربّ بالكتاب المقدّس

لم يأتِ المسيح ليكتب الكتاب المقدس أو أي كتاب آخر. ولكنه تجسّد وعلّم وصُلب ومات ثم قام، فأكمل عمل خلاص الإنسان في الكنيسة التي هي جسده الإلهي المتأنس ذاته، ثم صعد إلى السموات وأرسل الروح القدس يوم العنصرة، وأوصى تلاميذه أن يذهبوا إلى الأمم كافة، ليدعوا البشر إلى الإيمان ويعمِّدوهم حتى يصيروا أعضاء في الكنيسة، مؤكّداً لهم أنه سيكون معهم “طوال الأيام إلى انقضاء الدهر” (متى28: 20)، وأن المعزّي “سيبقى معهم إلى الأبد” (ي14: 16) ليقودهم إلى المسيح نفسه (يو14: 26، 15: 26) أي إلى الحقيقة بكاملها (يو16:13).

ولكن هذا لا يعني أن المسيح قد ألغى نواميس العهد القديم وأنبياءه، فهو قد أشار مراراً إلى أقوالهم مؤكّداً إنها تمَّت وتحققت في شخصه (لو 4: 21، يو 5: 38-39).

وبكلمة أخرى، فان أهميّة الكتاب المقدس الحقيقية لا تكمن في حرفه، بل في الروح الذي يُحيي ذلك الحرف (2 كو 3: 6) ويقود إلى معرفة الابن والى الاتحاد الشخصي به داخل الكنيسة.

شخص يسوع المسيح هو محور الكتاب المقدس كله. فالعهد القديم يضمّ الأسفار المقدّسة التي كُتبت قبل تجسّده، وهي تسرد قصة خلق العالم والإنسان، ثم سقوط الإنسان، واختيار إسرائيل شعباً لله، والخلاص من عبودية مصر، وعهد الله على جبل سيناء، وإرسال الأنبياء، والسبي إلى بابل، والعودة من الأسر حتى عهد الإسكندر الكبير وخلفائه.

وهذه الأحداث التاريخية التي جرت في العهد القديم تتمحور كلها حول وعد الله بإرسال ماسيّاً “المسيح” وجمع شمل شعب الله الجديد في الكنيسة. في العهد القديم يتكلّم الله المثلث الأقانيم، أو بالأحرى يتكلّم الآب بواسطة الابن في الروح القدس، ليبشِّر مسبقاً بفم الأنبياء أن خلاص الإنسان سيتّم في شخص يسوع المسيح. وهذا ما يذكره بطرس الرسول بوضوح: “عن هذا الخلاص كان فحص الأنبياء وبحثهم، فأنبأوا بالنعمة المعدّة لكم وسعوا إلى الكشف عن الزمان والأحوال التي دلّ عليها روح المسيح فيهم، حين شهد من ذي قبل بآلام المسيح وما يتلوها من المجد، وأوحى إليهم أن قيامهم بهذا الأمر لم يكن من أجلهم، بل من أجلكم. وقد أخبركم الآن بذلك الأمر الذين بشَّروكم به، يؤيدهم الروح القدس المرسَل من السماء، والملائكة يشتهون أن ينظروا إليه” (1 بط1:10-12، انظر2 بط 1: 21).

إلاّ أن العهد القديم بقي “ظلاً” للعهد الجديد (عب 10: 1) واستمر معناه العميق داخل “قناع” لا ينزعه إلاّ المسيح (2 كو 3: 14). وهذا ما أكّده الربّ نفسه حين قال لليهود: “الآب الذي أرسلني هو يشهد لي”، لكن “كلامه لا يستقر فيكم، لأنكم لا تصدّقون من أرسل. تتصفّحون الكتب، وتحسبون أن لكم فيها الحياة الأبدية، وهي تشهد لي. وأنتم لا تريدون أن تُقْبلوا إليّ لتكون لكم الحياة” (يو 5: 38 -39).

الشعب الجديد الذي يذكره الكتاب المقدس ليس وقفاً على أمة معيّنة، لأن لا تمييز فيه بين الشعوب والأمم (رو 10: 12-13، 1كو 12: 13، غلا 3: 28). ولا يمكننا فهم المعنى العميق للعهد القديم إلاّ إذا أدركنا أن محوره الماسيّا المنتظر وشعب الله الجديد، ونظرنا إليه دائماً بمنظار علاقته بهذا الهدف المركزي: المسيح والكنيسة.

ويوضح بولس الرسول ذلك فيقول أن الشريعة، أي العهد القديم، “كانت مؤدَّباً لنا إلى أن يأتي المسيح، فننال البرّ بالإيمان) (غلا 3: 14)، (لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع. فإذا كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم وأنتم الورثة بحسب الوعد” (غلا 3: 28-29).

إن الله لا يتكلّم في العهد الجديد بلسان الأنبياء بل “بلسان الابن”، أي بشخص المسيح (عب 1: 2). ولا يمكننا نحن أن نفصل الكتاب المقدّس عن شخص المسيح، وإلاّ تحوّل الكتاب إلى وثيقة ناموسية ذات مقاطع جافة يفسِّرها كلٌ بحسب طريقته الخاصة، فنكون قد ابتعدنا عن الروح الذي يحيي وبقينا في الحرف الذي يميت.

ج – مكانة الرسل

أخذ تلاميذ الرب يسوع منه رسالة محدَّدة، فأكملوها في حياتهم. وهكذا كرزوا وعلّموا وعمّدوا من آمن ونظّموا الحياة الروحية في الكنائس المحلّية التي أسّسوها. ولكنهم لم يبقوا دائماً إلى جانب هذه الكنائس. فكانوا يعالجون الحاجات التي تنشأ فيها بتوجيهات يبعثونها بشكل رسائل أو كتب موجَّهة إمّا إلى الكنائس نفسها أو إلى رؤسائها أو إلى أشخاص محددين فيها. ثم جُمعت هذه الكتب والرسائل فيما بعد، فتشكَّل منها العهد الجديد.

وهذا يعني أن أصحاب الأسفار والرسائل لم يكتبوها بهدف تأليف عهد جديد، إنما كُتبت في مناسبات محدّدة وبهدف الاستجابة إلى حاجات معيَّنة نشأت في كنيسة محلّية أو أكثر (كنيسة كورنثوس – كنيسة تسالونيكي…. الخ).

ولكن المؤلّفين القدّيسين نقلوا إلى الكنائس التي راسلوها، كلمة الله المكتوبة بإلهام من الروح القدس. وتأكيد بولس الرسول على أن “الكتاب كله من وحي الله” (2 تيم 3: 16) لا يسري على أسفار العهد القديم وحدها، بل على الكتاب المقدّس كله.

د – مَن يشرح الكتاب المقدّس؟

إنه لأمر ضروري وأساسي أن يعرف كل مسيحي أن الكتاب المقدّس ليس موجَّهاً إلى أفراد مشتَّتين، بل إلى مسيحيين مرتبطين في جسد واحد هو جسد المسيح. وتالياً فان تفسير أسفار الكتاب المقدّس المختلفة هو عمل أشخاص معيّنين يختارهم الروح القدس ليرعوا الكنيسة (أع 20: 28)، ولا يستطيع أي إنسان أن يفسّر الكتاب المقدّس بمفرده أو كما يشاء هو، لأن المفسّر الوحيد له هو الروح القدس الذي يوجّه الكنيسة (يو 16: 13، 14: 26) ويجعلها “عمود الحق وقاعدته” (تيم 3: 15).

وهكذا يبقى الكتاب المقدّس، في وسط الكنيسة، كلمة الله الأبدية التي تبعث وتجدّد وتخلِّص. إنها ليست كلاماً بشرياً بل كلام من الله ألقاه الروح القدس في قلوب المؤلفين القدّيسين. وحتى نفهم هذا الكلام الإلهي، الذي هو بمثابة هدّية عظمى من الله، لا بدّ أن يكون لدينا “فكر المسيح” (1 كو 2: 16) و”الروح الذي من الله” (1 كو 2: 12)، أي أن يسكن فينا روح الله (1 كو 6: 19). ولا يمكن أن يحصل ذلك ألاّ داخل الكنيسة وفي أحشائها (1 يو 2: 18-28).

يقول بولس الرسول: “لهذا أجثو على ركبتي للآب، فمنه كل أبوّة في السماء والأرض، وأسأله أن يؤيّدكم بروحه على مقدار سعة مجده ليقوى فيكم الإنسان الباطن، وأن يقيم المسيح في قلوبكم بالإيمان، حتى إذا ما تأصّلتم في المحبة وأُسَّستم عليها أمكنكم أن تدركوا وجميع القدّيسين ما هو العرض والطول والعلو والعمق، وتعرفون محبة المسيح التي تفوق كل معرفة وتتسعوا لكل ما عند الله من سعة. ذاك الذي يستطيع أن يبلغ بنا، بقوته العاملة فينا، مبلغاً أبعد ممّا نسأله أو نتصوره، له المجد في الكنيسة وفي المسيح يسوع على مدى الأجيال والدهور. آمين” (أف 3: 14-21).

غير أن حقائق الكتاب المقدّس تكون غير مفهومة ويُساء تفسيرها أو تشوَّه، بعيداً عن الكنيسة، أي جسد المسيح، “فمن ذا الذي يعرف أسرار الإنسان غير الروح الذي في الإنسان؟ وكذلك ما من أحد يعرف أسرار الله غير روح الله. ولم ننل نحن روح العالم، بل نلنا الروح الذي أتى من الله لنعرف ما أنعم الله به علينا من المواهب” (1 كو 2: 11-12).

من يشرح الكتاب المقدّس إذن، هو الروح القدس وحده. فان جميع ما قاله وعمله المسيح، يشرحه الروح القدس ويعلّمه باستقامة (يو 14: 26). عندما ينفصل الكتاب المقدّس عن روح الله، فانه لا يكون بالنسبة إلى الناس سوى حروف جافّة. فيشرحه كل فرد بصورة مختلفة، ويصل إلى نتائج تختلف عن شرح الآخر وعن المعنى الحقيقي للكتاب المقدّس الذي لا يوجد إلاّ في داخل الكنيسة وفي أحشائها. وخطأ الهراطقة الأساسي لا يكمن في عدم دراستهم الكتاب المقدّس، بل في فصله عن حياة الكنيسة، وهكذا يعجزون عن شرحه شرحاً صحيحاً.

يقول بطرس الرسول أن في رسائل بولس، كما في أسفار الكتاب المقدّس كلها “أمور غامضة يحرِّفها الذين لا علم عندهم ولا ثبات، كما يفعلون في سائر الكتب، وإنما يفعلون ذلك لهلاكهم. أمّا انتم، أيها الأحباء، فقد بُلِّغتم، فتنبهوا لئلاّ يجتذبكم ضلال المارقين فيهوي عنكم ثباتكم” (2 بط 3: 16-17).

عندما نَفْصُل الكتاب المقدس عن الكنيسة نكون قد جعلنا كلام الله المكتوب من غير أساس ثابت بالنسبة لنا نحن البشر. فمَن سيؤكّد لنا حينئذ صحة الكلام الإلهي الذي أوحى به الله في أسفار العهد الجديد التي لم يكتبها تلاميذ الربّ كإنجيل لوقا وأعمال الرسل اللذين صنّفتهما الكنيسة بين أسفار العهد الجديد، بالرغم من أن لوقا كاتبهما، لم يكن تلميذاً للربّ؟

أمّا نحن فنعلم أن هذه الأسفار ذات أساس ثابت، لأن الكنيسة هي التي حدّدت أسفار الكتاب المقدّس، وجعلت أساسه حضور روح الله الذي يرشد الكنيسة إلى الحق (يو 16: 13، 1 تيم 3: 15).

نخلص، ممّا ذكرناه، إلى انه لولا الكنيسة لما كان لدينا اليوم عهد جديد، أي كتاب مقدّس. فالكنيسة شيء أرحب كثيراً من الكتاب المقدّس، ولا يمكن حصرها في نصوص مدوَّنة. فالكنيسة هي المسيح نفسه، وحياة الكنيسة هي حياة المسيح، نفسها، حياة المسيح كلها لا جانباً منها وحسب (أنظر يو 21: 25). وحياة المسيح تسلَّم إمّا مكتوبة “الكتاب المقدّس” وإمّا تقليداً للكنيسة غير مكتوب. ومن أنكر الكنيسة لن يستطيع القول: “لديّ كلام الله”.

هـ – تقليد الكنيسة المقدّس

يشارك المسيحي المؤمن، الذي يعيش حياة الكنيسة، في تجربتها الحيّة المستمرة، أي في ذاكرة الكنيسة المقدّسة التي حفظت فيها الحقيقة: رسالة خلاص الإنسان. وليس المقصود ذاكرة شخص بمفرده أو تجربته، بل الإيمان الحي وضمير الكنيسة اللذين يبقيان ثابتين وغير متحوّلين عبر العصور (1 تيم 3: 15، متى 16: 18). وليس المقصود أيضاً الرأي الشخصي بل الشهادة الجامعة التي تسميّها كنيستنا: التقليد الشريف المقدس.

لذلك يخاطب بولس الرسول أهل كورنثوس قائلاً: “أجل، قد اتّضح أنكم رسالة المسيح، أنشأناها ولم نكتبها بمداد، بل بروح الله الحي، ولا في ألواح من حجر، بل في ألواح من لحم ودم، أي في قلوبكم. تلك ثقتنا بالمسيح لدى الله، ولا يعني ذلك انه بإمكاننا أن ندّعي شيئاً لأنفسنا، فإن إمكاننا من الله، فهو الذي مكّننا من خدمة العهد الجديد، عهد الروح لا عهد الحرف، لأن الحرف يميت والروح يحيي” (2 كو 3: 3-6).

ليس المقصود بهذا الكلام “الوصايا والتعاليم البشرية” (متى 15: 9، أش 29: 13) التي أدانها الربّ لأنها تُلغي وصيّة الله (مر 7: 8) بل “رسالة المسيح” المكتوبة في قلوب المؤمنين “بروح الله الحيّ” (2 كو 3: 3). المقصود هو “الذاكرة المقدّسة” للكنيسة، أي “الذاكرة” التي تضمن وجود روح الله في الكنيسة الطاهرة النقيّة.

لا يحتوي الكتاب المقدّس كامل عمل الربّ (يو 21: 25) ولا كرازة الرسل كلها. وهذا ما يؤكّده يوحنا الرسول: “في خاطري أشياء كثيرة أرغب في أن أكتب بها إليكم. على أني آثرت ألاّ أجعلها ورقاً وحبراً راجياً أن آتيكم فأكلمكم مشافهة ليكون فرحنا تاماً” (2 يو12 3 يو 13-14، 1 كو 11: 34). أمّا بولس الرسول فيكتب إلى تيموثاوس: “تمسّك بالأقوال السليمة التي سمعتها مني، وتمسّك بها في الإيمان والمحبة التي ليسوع المسيح” (2 تيم 1: 13). “وأنت يا بني، فتشدّد بالنعمة التي في المسيح، أمّا الكلام الذي سمعته مني بمحضر كثير من الشهود فاستودعه أناساً أمناء وجديرين بأن يعلِّموا غيرهم” (2 تيم 2: 1-2). ويحض أهل تسالونيكي أن يحافظوا على ما أخذوه، سواء بالمشافهة أم بالمكاتبة (2 تس 2: 15)، ويثني على الكورنثيين لأنهم “يذكرونه في كل أمر ويحافظون على التقاليد كما سلّمها إليهم” (1 كو 11: 2).

لقد قامت كرازة الكنيسة دائماً على أساس هذه “الذاكرة المقدّسة” (لو 1: 2-4)، أي على أساس كامل الحقيقة الكائنة في المسيح. وهكذا ندرك أن مقياس هذا التقليد الشريف هو الكنيسة نفسها. فتجربة الكنيسة، والتقليد المقدّس، ورأي البشر، والحقيقة الخلاصية التي تبقى باستمرار غير متحولة وملزمة للجميع، والزمني والمتحوّل، هي أمور لا يمكن تحديدها إلاّ على أساس الكنيسة الجامعة.

فالكتاب المقدّس ليس كافياً وحده. فهو يحوي عناصر زمنية عديدة لم تحفظها الكنيسة (تحديد عدد الشمامسة بسبعة (أع 6: 3) – سجلّ الأرامل (1 تيم 5: 9) – تغطية رأس النساء (1 كول 11: 5) – غسل الأرجل (يو 13: 14)). ففي حياة الكنيسة المستمرّة لا يجب التمييز فقط بين التقليد المقدّس الذي ينبغي أن تبقى ثابتين فيه (2 تسا 2: 15) وبين “الوصايا البشريّة” (متى 15: 9، أش 29: 13) التي يجب تحاشيها، بل التمييز أيضاً بين ما هو أبدي وما هو زمني.

وهكذا تبقى الكنيسة دائماً ثابتة على أسسها الأولى، حافظة هويتها الذاتية، فتستمر وحدة إيمانها عبر الدهور، حسب مشيئة الربّ (يو 17: 20-21).

ولا بدّ من الانتباه جيّداً إلى هذا الأمر الأخير لأنه يساعدنا على إدراك سبب تشتّت الهرطقات التي لم تحافظ على تقليد الكنيسة المقدّس، وعجز أفرادها عن المحافظة على الوحدة فيما بينهم، في حين بقي المسيحيّون الأرثوذكسيّون متّحدون في الإيمان والحياة بالرغم من كونهم عاشوا منفصلين خارجياً، بسبب الأوضاع السياسية.

إن العقائد التي صاغتها الكنيسة في مجامعها المسكونية لم تكن آراء فردية للآباء الذين ساهموا فيها، بل هي تجربة قدّيسي كنيستنا الذين حملوا المسيح والروح (1 كو 2: 16)، تلك التجربة التي ساهم فيها آباء المجامع أيضاً لأنهم مشتركون في جسد الكنيسة الواحد.

وعندما نتحدث عن تقليد الأرثوذكسية، لا نعني شيئاً منتمياً إلى الماضي أو شيئاً يجب أن يوضع في المتاحف، بل كلمة الله الحيّة الباقية أبداً داخل الكنيسة، والموجّهة إلى كل إنسان وفي كل عصر بغية إحيائه.

وبكلام آخر، أن التقليد المقدّس هو حضور الروح القدس المحيي والفعّال وداخل الكنيسة، والذي لا تستطيع الكنيسة من دونه أن تفسّر الإعلان الإلهي تفسيراً دقيقاً وصحيحاً، أو أن توجّه وترشد المؤمنين إلى امتلاك ملء الحقيقة (يو 16: 13، 1 تيم 3: 15).

من ينكر تقليد الكنيسة إنما ينكر طبيعتها الإلهية، أي أنه ينكر الكنيسة نفسها والكتاب المقدس الذي هو وديعة الكنيسة المكتوبة، لأن هذا الكتاب لا يجد سنده الأمين وتفسيره الحقيقي الصحيح إلاّ في داخلها (أنظر 2 بط 3 : 16-17).


حاشية مرتبطة مع عنوان الفصل “الوديعة المقدسة للكنيسة”: راجع أيضاً: (الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد ) للأب جورج فلورفسكي، ترجمة الأب ميشال نجم، منشورات النور، 1984 ( الناشر ).

Facebook
Twitter
Telegramm
WhatsApp
PDF

Informationen zur Seite

Seitentitel

Abschnittsinhalte

Stichworte

de_DEGerman
Nach oben scrollen