أولئك الذين قبلوا هذا السر الغالب في وضع يسمح لهم أن يعرفوا أن الكلام والمراسم التي ترافق إتمام السر ترمي إلى هدف واحد وواضح أن المتقدم إلى السر لا يكون قبل اقتبال المعمودية لا مصالحاً مع االله ولا معتقاً من العار القديم. لذلك وقبل المباشر بإتمام السر يضرع متمم السر أن ينعتق المستنير من الشيطان المتسلط عليه. ولا يخاطب متمم السر االله وحده بل ينهال على العاتي موبخاً ويطرده بالسوط جالداً. “والاسم الذي يفوق كل اسم” هو السوط الذي يستعمله.
أنه لفائق العجب أن يصبح الموعوظ في الحياة ابناً ووارثاً بالمعمودية وهو الذي كان قبل لحظات عبداً للشيطان. قد يتمكن أن يبعد الشيطان عن االله من ارتبط باالله. وهذا يعادل الموت الكلي. لذلك ينفخ الكاهن في وجه المتقدم للحصول على الحياة والنفخة ترمز للحياة الحالة من فوق. ثم يكمل ما تبقى كما يأتي: نرفض الحاضر وكل ما نمسكه بأيدينا ونتجه إلى حقائق جديدة ويشعر الموعوظ بالزحمة لاحتقار العالم وتقدير عالم آخر. يتنكر لحياة ليحتضن أخرى، يهرب من معلم حياة ليفتش بحرارة عن معلم حياة أخرى. وبتنكره للماضي يدل على ما يشعر به وقت دخوله بالنعمة. وبتفضيله لما يقدمه له السر على الماضي يبرهن أنه بالمعمودية يبتدئ بالحياة الجديدة التي تهمنا.
نلبس الوشاح الملوكي ونصعد إلى من كان نقطة انطلاقنا بالطريق التي سلكها آدم في سقوطه إلى الأرض. والتعري يعني أنك تسير إلى النور الحقيقي وأنت لا تحمل شيئاً لأن ظل الموت وكل ما يفسد على النفوس الأشعة الإلهية، كالثياب، حجاب قائم بين النور والأجساد. لا شك أن المسحة بالزيت لها رمز خاص ولكنها تتضمن المعنى الآتي: أنها تذكّر بسلّم يعقوب الذي بعد أن مسحه بالزيت اعترف لرب. تذكر بالملوك والكهنة الذين كانوا يمسحون أمام شعب االله والذين كانوا يعيشون لا لنفوسهم بل من اجل االله ومن اجل المجتمع الذي كانوا يكرسون نفوسهم لخدمته ونحن نتنكر لوجودنا الخاص بنا لكي لا نكون إلا الله هذا ما يعني التعري من الشكل الخاص، أي أن نصبح مطابقين الله.
أن المسحة هذه هي رمز خاص وفي تمام الموافقة مع الاسم” مسيحي” لأننا قد مسحنا والمسيح نفسه هو الذي مسحنا وسكب مسحته الإلهية على البشرية والمسحة هي التي تشركنا به، ومسحة المعمودية ترمز إلى هذه المسحة الإلهية، ومتمم السر يعبر عن ذلك علناً أثناء مسحه للموعوظ بترديده كلمات النبي داود التي تشير إلى المسحة والملكوت الإلهي. يقول الكاهن: ” يمسح عبد االله بزيت البهجة” ويرتل داود للمسيح: ” الإله الذي مسحك إلهك بزيت الابتهاج ليفضلك علـى رفاقـك”، ويقصد بالرفاق نحن أنفسـنا الذين جعلنا المخلص بصلاحه مشاركين له في ملكوته.
حتى الآن لم نقتبل الحياة. كل ما جرى لم يكن إلا رمزاً، توطئة وتقدمة للحياة. ولكن بعد التغطيس الثلاثي يظهر المستنير حديثاً على أنغام الثالوث الكلي القداسة ويدخل تواً إلى ملكية ما يطلبه. يولد، يأتي إلى النهار، كما يقول داود ويأخذ الطابع المقدس ويحوز على كل التسهيلات المرغوبة ويصبح نوراً بعد أن كان ظلمة، وكأس االله يقبله ويتبناه بعد أن كان عدماً، ومن السحق السحيق والعبودية المظلمة ينتقل إلى العرش السماوي.
إن مياه المعمودية تقضي على حياة لتعطي حياة أخرى. تخنق الإنسان العتيق وتقيم الإنسان الجديـد. ويتضح هذا تماماً عند الذين خبروها. وبالإضافة فأن السر بحد ذاته يهب ذلك، فالاختفاء فـي المـاء بواسطة التغطيس يعني القضاء على الحياة في الهواء، أي الموت، أما العودة إلى الهواء والنور فيعني العودة إلى الحياة وحقيقة الحصول عليها. لذلك نستدعي هنا الخالق لأنه هو مبـدأ الحيـاة، والحـادث حادث استيقاظ على الحياة وخليقة ثانية أسمى من الخليقة السابقة، والصورة تنقش في النفس بـصورة أدق من الصورة الأولى، وينحت التمثال على شكل االله بصورة أكثر وضوحاً من الـصورة الـسابقة فيظهر الرسم القديم أنقى وأبهى لذلك لا يستدعي متممو الأسرار اسم االله وحده كواحـد مـن التثليـث يشترك فيه التثليث بل يستدعون بكثير من الدقـة والوضوح اسم كل أقنوم من التثليث، وإذا جرى عكس ذلك فالأمر قد يستدعي خللا عقائدياً بسبب الغموض والإبهام.
ومن الأسباب التي تستدعي ذكر كل أقنوم من الأقانيم بوضوح، كل بحد ذاتـه، مـا يـأتي: اذا كـان الثالوث قد خلص الجنس البشري بتحننه فأن كل أقنوم من الاقانيم الثلاثة لعب دوراً خاصـاً. فـالآب قَبِلَ المصالحة والابن صالح والروح القدس هو الهدية لأصدقاء االله. الآب اعتق والابـن كـان البـدل والروح القدس هو الحرية، ” حيث يكون روح االله تكون الحرية” (2 كورنثوس 3 : 17) يقول صوت بولس. الآب يعيد جبلة الحياة، وبالابن أعيدت جبلتنا، أما الروح القدس فهو المحيي. وبما أن الثـالوث كان في الخليقة الأولى ظلا فالواحد جبل، واليد كانت الجابلة، أما المعزي روح الحـق فكـان نفخـه معطي الحياة. ولماذا أقول هذا؟ أن االله كان ظلا لولا هذه الخليقة الجديدة. أن الخيرات التي نشرها االله في العالم كثيرة ومع ذلك ليس من صلاح نسب للآب وحده، أو للروح القدس وحده، او للابن وحـده بل كل شيء كان مشتركاً بين الاقانيم الثلاثة. أن الثالوث خلق الكل بفضيلة واحـدة وحكمـة واحـدة وعمل واحد، أما في التدبير الخلاصي فالأمر معكوس. لا شك أن الثالوث قد أقام الجنس البشري وأن الثالوث هو الذي أراد خلاصي والذي سبق ورأى وجودنا الا انه لم يعمل مشتركاً فالعمل هنا لا يعـود إلى الآب ولا إلى الروح القدس بل إلى الابن فقط.
الابن الوحيد اتخذ وحده جسداً ودماً وعذب وامتهن ومات وقام، وهكذا استعادت البشرية الحياة وصارت المعمودية ولادة جديدة وخليقة جديدة، ويجدر بأولئك الذين أصابوا مغنماً من هذه الخليقة الجديدة حيث ظهر االله في أقانيمه الثلاثة أن يستدعوا االله على هذا الغسل الخلاصي باستدعاء الآب والابن والروح القدس.
لماذا لا نتمم، أثناء المعمودية، التدبير الخلاصي؟ اننا نتمه أن لم يكـن بـالقول فبالفعـل. فـالتغطيس الثلاثي والتعويم يمثل ـ كما لا يخفى على أحد ـ الموت الثلاثي الأيام وقيامة المخلص وهمـا تتمـة المخطط الإلهي الخلاصي، وأننا لا نعلن بدون سبب عقيدة التثليث بصوت عال. نفعـل ذلـك لنعبـر بالصمت والأعمال عن تدبير خلاصنا. فالعقيدة تصبح في متنـاول معرفـة الإنـسان عـن طريـق المبشرين بالإنجيل بينما أبصر البشر العمل الخلاصي بأم أعينهم ولمسوه بأصابعهم إذا جـاز القـول. لذلك نـرى يوحنـا العـارف بازدواجية طبيعـة مخلصنا يقول: ” الذي كان منذ البدء وما سـمعناه”، ثم يقول ” ما رأيناه بأم أعيننا وما لمسناه بأيدينا من جهة كلمة الحيـاة” (1 يوحنـا 1: 1). ويكفـي أن نؤمن بالعقيدة ونشهد بالكلام بإيماننا به: ” فإذا شهدت بلسانك أن يـسوع رب، وآمنـت بقلبـك أن االله أقامه من بين الأموات نلت الخلاص” (رومية :10 9). في حين أن التدبير الخلاصي يفرض إظهـاره وتكراره عملياً. فقد قيل ” فأن المسيح تـألم مـن أجلكـم وجعـل لكـم مـن نفـسه قـدوة لتقتفـوا آثاره” (1بطرس 2: 21).
لهذا نعلن، من ناحية، اسم الثالوث بالصوت، ومن ناحية أخرى نعيـد بواسـطة المـاء عمليـة الآلام والصلب وموت المسيح. وهكذا نطبع في أنفسنا الصورة والشكل الإلهـي. ويـستنتج ممـا قيـل أن المعمودية، من جميع نواحيها، ألقابها ومراسيمها والأناشيد التي ترافق إتمامها، هي النقطة الجوهريـة في الحياة بالمسيح. يبقى علينا أن نعرف ما تقوم عليه هذه الولادة في الحياة.