كانت تسالونيكي قديما (وهي سالونيك حاليا) عاصمة ولاية مكدونية. أنشأها أحد قوّاد الإسكندر الكبير حوالى العام 30. ق.م. وأعطاها اسم زوجته التي كانت شقيقة الإسكندر من أبيه. تقع المدينة في خليج ترماييك وتستند الى سلسلة من التلال. تصل اليها طرق رومانية من الدرجة الاولى أهمّها طريق إِغناطية الآتية من رومية والمتوجّهة الى آسيا الصغرى والبحر الاسود، تمرّ فيها وتتوجه نحو الشمال، الى نهر الدانوب. بعد العام 42 لُقّبت تسالونيكي بالمدينة الحرّة لأنها تشيّعت لأوكتافيوس الذي أصبح، في العام 27 ق.م، الامبراطور أغسطس، فاغتنت وحمكت نفسها بنفسها، وتنوع سكانها فكانوا من اليونانيين والايطاليين والسوريين والمصريين واليهود.
زار بولس المدينة في رحلته التبشيرية الثانية، وذلك بعد أن ترك فيلبي مطرودا. فبدأ، حسب عادته، بإعلان البشارة في مجامع اليهود. غير أن الجالية اليهودية سرعان ما اشتكت على الرسول واضطرّته الى مغادرة المدينة (اعمال 17: 1-10). وواقع الحال أن بعض اليهود الذين استمعوا الى بولس مدة “ثلاثة سبوت”، وهو يعلّمهم “مبيّنا لهم (من العهد القديم)… أن يسوع… هو المسيح”، امتعضوا “من الحسد”…، واتّهموه والذين قبلوا بكرازته بأنهم “يخالفون أوامر قيصر اذ يقولون بأن هناك مَلِكا آخر هو يسوع”، مما حدا بالإخوة أن أجبروا بولس وسيلا، خوفا على سلامتهما، على ترك المدينة. فتوجه الرسولان الى بِيرية ليلا، ثم ذهب بولس وحده الى اثينا، ومن المرجح أن ثيموثاوس اتصل به هناك، فطلب منه الرسول الذهاب الى تسالونيكي ليطمئنه عن كنيستها. وانتقل هو الى كورنثوس حيث وافاه تلميذه بأخبار سارة أراحته جدا. ويبدو أن المسيحيين حمّلوا تيموثاوس بعض الأسئلة -قد تكون كُتبت في رسالة- كانت قد أثارتهم بعد أن غادر الرسول ديارهم، فقرر بولس، حوالى العام 50، أن يكتب لهم ليثبتهم في الرب ويبعدهم عن كل انحراف.حراف.
بدأ الرسول رسالته -وهي أول مؤلفاته وباكورة نصوص العهد الجديد- بشكر الله، ثم أخذ يتذكر، وهو يصلي، أهل تسالونيكي ونشاطهم في الإيمان، وجهادهم في المحبة ورجاءهم الثابت، فدل على أن المسيحية الحق -التي زرعها في تسالونيكي- تتجسد في الحياة اليومية. ثم فسّر الطريقة التي عَرفت بها هذه الجماعةُ الفتيةُ الاضطهادَ، فرأى فيها علامات تدخُّل الله، وذلك أن “الشدة الكبيرة” لم تمنعهم من أن يتقبّلوا “كلمة الله بفرح من الروح القدس” (1: 4-6)، وإنما إيمانهم بالله وإنجيله (الذي طهرهم من الوثنية وهداهم الى “الحقِّ الحيّ” يسوعَ القائمِ من بين الأموات…) قد انتشر خبره “في جميع الأماكن” (7-10) .
يوحي الرسول، في الإصحاح الثاني، أن أعداءه ما زالوا يتابعون حملتهم في تشويه سمعته، مما اضطره الى الدفاع عن نفسه بتذكير المسيحيين بما حدث حقيقة حين جاء اليهم وكلّمهم “ببشارة الله”. فأكد لهم أن لا ضلال في وعظه “ولا فجور ولا مكر” ولا تملق، ولا طلب “المجد” من أحد. وقد عانى من الآلام والجروح…، ولم يقبل بأية مساعدة مالية (سوى تقدمة مؤمني فيلبي 4: 15-16)، وكان، وهو “رسول المسيح”، يعمل “في الليل والنهار” لئلا يثقّل “على أحد”. ثم ذكرهم كيف كان يعامل كل واحد منهم “معاملة بارة عادلة لا ينالها لوم”، وكيف وعَظهم وشدّدهم وناشدهم أن يسيروا “سيرة جديرة بالله الذي يدعوكم الى ملكوته ومجده” (1-21). ثم تكلم بولس (13-16) على جماعة اليهود بقسوٍة يستحقونها (“فهم الذين قتلوا الرب يسوع والأنبياء… وهم الذين لا يُرضُون الله… ويمنعونا أن نكلّم الوثنيين لينالوا الخلاص…”). في آخر هذا الإصحاح يُظهر بولس كأبٍ (وأمٍّ) عاطفةً كبيرة تجاه التسالونيكيين، فإن انفصاله عنهم زاده شوقا “وتطلعا الى رؤية وجوههم” (17-20). وقد دفعه قلقه، كما ذكرنا، الى إرسال ثيموثاوس ليستخبر عن أحوالهم، وهو خائف لئلا “يكون المجرِّب قد جرّبهم”. غير أن تيموثاوس أراح معلّمه اذ حمل اليه باقات عطرة أنعشت قلبه وطيّبت خاطره (أخبره عن إيمانهم ومحبتهم وثباتهم وشوقهم الى رؤيته…) (3: 1-13) .
في الإصحاح الرابع أصدر الرسول تعليمات تسلّمها من الرب القائم والحاضر في الكنيسة بروحه القدّوس، فحثهم على أن يزدادوا تقدما في السيرة التي “تُرضي الله”، ودعاهم الى تجنُّب الزنى، والى أن يُحْسِن كلٌّ منهم “اتخاذ امرأةٍ في القداسة والحرمة”. لا شك في أن هذه الوصية كانت صعبة على المهتدين الفتيان، غير أن الرسول، الذي لا يقبل أن يكون الإيمان نظريا ومقاييسه الأخلاقية تعادل أخلاق الوثنيين، حثّ المسيحيّين على التخلّص من كلّ ما يعيق قداستهم لئلا “يستهينوا بالله”. ثم ذكّرهم بالمحبة الأخوية، ونهاهم عن الكسل (طلب منهم أن يعملوا بأيديهم) لئلا يكونوا عبئا على الآخرين. في آخر هذا الإصحاح ندرك أن وفيات عدّة قد وقعت في الكنيسة وأقلقت بال المؤمنين، فسألوا بولس عن مصير الموتى ومشاركتهم في الزمن الآتي. استعمل الرسول في جوابه بعض الألفاظ والصور المعروفة في الأدب الرؤيوي اليهودي (الصوت، البوق والغمام…) فبيّن، بطريقةٍ رمزيةٍ، قدرة الله السامية. ودعاهم الى الثقة بالرب يسوع الذي قام من بين الأموات وأبطل الموت بموته، وعزّاهم اذ كشف لهم أن المؤمنين به (الأموات والأحياء) سيشتركون في انتصاره وسيتمتّعون ببهجة حضوره، ويكونون “مع الرب دائما” (4: 13-18) .
في الإصحاح الخامس عالج قضية مجيء الرب ثانية، فاستعمل بعض ألفاظ الأدب الرؤيوي ذاته (يوم الرب، النور والظلمة). وانطلق، في معالجته، من قول يسوع (مرقس 13: 32)، فلا أحد يعرف متى يأتي الرب، انه “يأتي كالسارق في الليل”، ويجب انتظاره “ونحن صاحون”. ثم شدّد المؤمنين ودعاهم الى أن يبنوا بعضهم البعض (5: 1-11). وحشر، في آخر الرسالة، سبع عشرة وصيّة عمليّة ومتميّزة (سألهم أن يكرّموا رعاتهم… وأن لا يجازوا الشر بالشر…). واستحلفهم أن “تُقرأ هذه الرسالة على الإخوة أجمعين” (12-28).
تساعدنا هذه الرسالة على اكتشاف آثار اول تعابير الإيمان بالمسيح، وهي تعطينا أنْ نتماسَّ وحيويةَ البشارة في الكنيسة الاولى، وتدعونا الى أن تكون مسيحيتُنا متجسدة في الحياة حقا، وأن يكون لنا، في كل وقت، رجاء بالرب يسوع لا ينقطع.
Il mio bollettino parrocchiale
الأحد 6 أيلول 1998
العدد 36