Facebook
Twitter
Telegramma
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

-إنكم تكشفون لي الآن أنّ الشيطان يشنّ علينا حرباً شرسة لا هوادة فيها. فلِمَ يحاربنا؟ وما هي خطته ومنهجه؟ إني لمتعطش جداً إلى سماع رأيكم، لكي نتمكن من تمييز ما يبدي الناس من آراء في موضوع“الصلاة”، لأنّ للعديدين مزاعم كثيرة ولا نعلم ما فيها من أفكار من صنع الشيطان ودسّه.

لم ينبس الناسك القديس الحكيم ببنت شفة وعاد إلى كتاب “الشيوخ” وفتحه ببطء ثم أخذ يقرأ: “سأل الإخوة الأنبا أغاثون قائلين: أيُّ فضيلة – أيها الأب – في الديار النسكية تحتاج إلى مزيد من الجهد؟ فقال لهم: إنكم ترأفون بي. لكني أعتقد أنه ليس هناك جهد يضاهي جهد صلاة المرء إلى الله، لأنّ الملاحَظ دائماً أنّ المرء إذا أراد الصلاة تألَّب عليه الأعداء لكي يُثنوه عن تأدية هذا الالتزام، فإنهم يعلمون أنّ الصلاة هي أعظم العوائق التي تعترضهم. وإذا تحمّل المرء أي طريقة حياة بصبر وثبات اكتسب راحة. غير أنّ الصلاة تتطلّب منا جهداً حتى آخر نسمة من حياتنا”.

وأغلق الشيخ الكتاب ثم استأنف الكلام فقال: لقد علَّم الآباء القديسون قائلين إن لم يكن الإنسان واقعاً تحت سيطرة الشيطان بصورة دائمة، فهو كيفما كان الحال قائم في نطاق نفوذه وفي متناول هجماته الجنونية. والأبالسة يحومون دائماً حول النفس يترصدونها ويحاولون إسقاط المؤمن في الخطيئة عن طريق الحواس تارة (عندما يكون موضوع الخطيئة قريباً) وعن طريق المخيلة طوراً (حين يكون الشيء أو الشخص بعيداً) ويحاول الأبالسة إسقاطه أيضاً عن طريق ثورات الجسد. والإنسان بكامله نفساً وجسداً يمكن أن يقع تحت تأثير الشيطان والتردّي في أسره.

إلاّ أنّ خطة الشيطان الحربية تكون خلال الصلاة أشدّ وضوحاً منها في أيّ وقت آخر. والمجاهدون في الصلاة، هذا الجهاد العقلي، يرون الشيطان جلياَ وهو يحاربهم بشراسة في كل خطوة يخطونها ويبصرونه وهو يلجأ إلى كل وسيلة ليعزل ذاكرتهم عن ذكر الله، وتتكشّف لهم حبائل إبليس الخبيث، قاتل الإنسان وعدوّ الخير.

قال القديس مرقس الناسك “إذا رأى الشيطان العقل مصلّياً من القلب هجم عليه بتجارب محمَّلة بالشر”. فهو يكره الناس كراهية ليس لها حد. وإذا رآهم يقبلون على الصلاة بغية أن يصيروا ملائكة ويسترجعوا ما كان لهم من منزلة قبل السقوط، ازداد حقده عليهم. وقد وصف القديس غريغوريوس أسقف نيصص حسد الشيطان للإنسان على تألهه فقال “إن ابتغينا نحن البشر القربى من الله يتحرّق الأبالسة حسداً وغيرة لأنهم سقطوا من قرابتهم للخير”. فكل ناسك يمكنه أن يحكي الكثير عن هذه الحرب التي يشنُّها الشيطان. وإذا رأى النساك الشيطان أشفقوا عليه.

سألتُ: أيشفقون عليه؟ أغفروا لي، يا أبتِ، لأني لا أستطيع أن أفهم كيف ولِمَ يشفق النساك على الشيطان.

– إنهم يشفقون عليه لما آلت إليه حاله، ولسقوطه. فقد خُلق لكي يخدم الله ويمجده. أما الآن فقد بلغ حداً يقف فيه معادياً لعمل الله ومحارباً الإنسان الذي أحبه الله كثيراً.

والشيطان هو الآن روح هدم وتدمير متواصل لكل اتحاد صالح. هو زعيم الانقسام وقائده. والله يريد أن يوحّد أما هو فيفرق. والله يريد أن يُخلّص أما هو فيخرّب. وهو يحرّص الإنسان في كل آن على التمرّد على الله وعلى الكنيسة…

– وأين يجد النساك كل هذه القدرة لكي يحبُّوا؟

– يجدونها في عطية النعمة التي يملكون. والنعمة هي من الغزارة في داخلهم بحيث أنهم يريدون أن يحبوا الجميع كلَّ حين، بعد أن اكتسب قلبهم اتساعاً، بطرح الأهواء وأمسى شديد الرغبة في ضمّ الجميع لله. ولهذا يحب النساك، الذين تطهَّروا، الثالوث القدوس، والسيدة الفائقة القداسة، والقديسين، والخطأة، والطبيعة، والحيوانات، ومع هذا يظلّ قلبهم الواسع مكان، فيحبون الشيطان أيضاً… وهم يشعرون بأنه ليس سوى روح مائت ابتعد عن النعمة المحيية. وهو ينقل الموت إلى أولئك الذين يقتربون منه أو أنه يحاول نقله إلى كل من يبتغي الخلاص.

هؤلاء النساك القديسون، المفعَمون بمحبة إلهية يفكرون في عذاب الجحيم الرهيب الذي أُعدّ للشيطان وملائكته وتستولي عليهم الدهشة. فكيف لا يشفقون؟

فقلتُ: نحن، استبدَّت بنا أهواء الجسد، فأناخت علينا بظلماتها، وأعمتنا ذهنية الدنيا، واستولى علينا الشرير، ولذلك نجهل نواياه. ولم نحصل بعد على نعمة المسيح بغزارة حتى نتمكن بنور هذه النعمة، من مراقبة كل تحركات الشيطان الشريرة المجرمة. أما أنتم فإنكم ترون ما يدأب عليه من جُهد وتدركون قلقه. فهل يمكنكم أن تذكروا لنا الطرائق التي تؤدي به فعلاً إلى الإتحاد بالله؟

– ما سأقوله لكم يا أبتِ يصعب عليكم فهمه. فقد يبدو لكم غريباً ومبالغاً فيه. وحتى الرهبان أنفسهم الذين يعيشون في العالم يعجزون هم أيضاً عن فهم جهاد رهبان الجبل المقدّس (آثوس) وما يواجهون من نشاط هجوميّ شرس شنَّه إبليس الشرير عليهم. وإننا لنراه في كل خطوة نخطوها وسأذكر لكم بعض الأمور لكي أساعدكم وأفيدكم.

جمدتُ في مكاني بلا حراك، وفتحتُ أذني لأسمع حكمة الشيخ وأطّلع على أحابيل الشيطان الشرير الكثيرة التعقيد. أما الشيخ فإنه من غير أن يترك مجالاً للانطباع بأنّ ما يقوله قد توصّل إليه بالاختبار، أخذ يقص عليَّ ما يلجأ إليه الشيطان من حيل خبيثة ضد من تستهويه صلاة يسوع.

– ما نكاد نستعد للصلاة حتى يستعد الشيطان هو أيضاً في الوقت عينه لمعارضة ذلك بالمقاومة والهجوم. هذا ما يجب على مزاول رياضة الصلاة أن يعرفه، لكي لا يضطرب حين يتلقّى أولى هجمات الشرير المفاجئة أو يواجَه في ما بعد بعملياته الحربية الشديدة التي يضع فيها كل ما لديه من معدات القتال.

(بينما كان الناسك المعتزل يتحدث خلتُ نفسي أمام قائد محنّك في الجهاد الروحي حامل العديد من الأوسمة وحائز على انتصارات كثيرة ومكلَّل بالعديد من أكاليل الظفر).

-إنّ الشيطان يحاول في البدء ثنيه عن الصلاة فينصحه بالانهماك في عمل اجتماعي آخر. ثم يستحضر له حوادث وأشخاص وحالات…

– إني شديد الفضول… فأريد أن أسمع عن طرق محدَّدة نجهلها نحن العائشين في العالم. أأبوح لكم بسرّ؟ لقد دفعتموني في هذه اللحظة إلى كره الشيطان وبالأحرى كره عمله وإلى الشفقة عليه في الوقت عينه.

– أجل. يا أبتِ. إننا نحن أيضاً نعيش هذا كل يوم. إننا نشعر بالكراهية تجاه ما يعمل. ونشعر بحبنا له في الوقت عينه ونعبّر عن هذا الحب بحزننا على المضلّ! ولكي أرد على سؤالك أقول إنّ غاية  “صلاة يسوع” هي استدعاء يسوع المسيح الملك إلى القلب، لكي يظهر ملكوت الله داخلنا وتشتعل شرارة النعمة المغطّاة الآنّ برماد الخطيئة. وبهذا يتحقق نداؤنا-طلبنا “ليأتِ ملكوتك”. إلاَّ أنّ القلب هو الآن -كما قلتُ آنفاً- في حلكة من ضباب الخطيئة، والأبالسة يعملون فوقه. أقول فوق القلب لا في مركزه، ذلك لأنّ الفعل غير المخلوق، فعل الروح القدس، هو وحده الذي يستطيع الإتحاد بالنفس. أما الشيطان فقد أقام سيطرته فوق القلب، ومن هناك يراقب كل شيء.

صدّقني يا أبتِ. إني أشعر بين ساعة وأخرى بأنّ قلبي قد غدا شبيهاً بحديقة حيوانات. فالأهواء كلها شبيهة بحيوانات موجودة فيه، وهي تعوي وتزأر. وقد أجاد القديس غريغوريوس بالاماس المتوشِّح بالله وصف ذلك بقوله: “يصير الإنسان- ويا للأسف- قاتل بشر، لا حين يصير شبيهاً بالحيوانات البهم التي لا عقل لها وحسب، بل حين يصير شبيهاً بالزواحف السَّامة أيضاً كالأفعى أو العقرب. ذاك الذي كان قد رُتِّب له ليكون بين أبناء الله يصير وليد الأفاعي”.

فنحن إذاً نطمح“بالصلاة” -بعد أن يتمثَّل العقلُ اسم يسوع الكلّي الحلاوة- إلى نزول المسيح، بكل ما له من مجد وجلال، إلى القلب، وإلى طرده الشيطان الذي يُظلم النفس بمختلف الأهواء بعد أن يُسدل غشاوة على النعمة الموجودة. فبحضور المسيح في القلب تستنير النفس، إذ تتلقى نعمة فوق نعمة، وهكذا بمقدار نزول المسيح إلى القلب ينهزم الشيطان ويختفي ويصاحب هربه صراخ وتأوّه لما نزل به من هزيمة ساحقة. وما التجارب التي يحدثها سوى أصداء لها.

– فيما كنتم تشرحون هذا، تذكّرتُ، يا أبتِ، المعذّبين بأرواح نجسة. فإنهم ما كادوا يرون المسيح حتى أخذوا يصرخون“ما لنا ولك يا يسوع ابن الله؟ أجئتَ إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا” (متى 8 : 29)؟ وتذكرتُ أيضاً حادث الشاب المعذَّب بروح نجس. وقد قال الرب “أيها الروح الأخرس الأصمّ، أنا آمرك، أخرج منه ولا تدخله أيضاً. فصرخ الروح النجس وصرعه شديداً وخرج(مرقس9: 5- 26). أظن أنّ لما قلتموه علاقة بهاتين الحالتين فهل أنا مخطئ؟

– لا، أنتم على حق. وهناك حالات أخرى تبينّ ذلك. فإنّ الرب حين نزل إلى الجحيم حرَّر الأبرار الذين آمنوا به. وفي عبادة كنيستنا صورة معبّرة لعذاب الجحيم، فهي ترنّم قائلة: “اليوم الجحيم يتنهد صارخاً: لقد كان الأصلح لي ألا ّاستقبل المولود من مريم. فإنه جاء فحلَّ سلطاني وحطّم أبوابي النحاسية… والذين كنتُ ملِكاً عليهم حرمني منهم. والذين كنتُ قد ابتلعتهم باقتداري قذفهم عني جميعاً… إنّ الذي صُلب قد أخلى القبور…”.

 وعدا هذا، ألم يقل المسيح نفسه “كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعة إن لم يربط القويّ أولاً. وحينئذ ينهب بيته” (متى12: 29)؟ ومعنى هذا أنّ نزول المسيح إلى القلب -حيث ينشط الشيطان ويعمل الآن- يرتبط بهرب الشيطان وتقييده فيمسي طبيعياً أن يزأر ويهيج ويصرخ عالياً، لأنّ المسيح قد جاء ليحلّ أعمال الشيطان. وفي مزمور صلاة الغروب “باركي يا نفسي الرب” وردتْ العبارة التالية: “أشرقت الشمس فاجتمعتْ (الحيوانات المتوحشة) وإلى صيرها ربضتْ”. ويعلّم الآباء الصحويون قائلين “إذا أشرقت الشمس اختبأت الحيوانات الضارية في الكهوف وبين الصخور أي في أوكارها. وهذا عينه يجري عندما تشرق شمس النعمة في قلبنا. فإنّ الشياطين تهرب وتتوارى.

– إذا ما رُبط الشيطان، فمن الطبيعي أن يهدأ.

– ما يحدث هو عكس ذلك تماماً. فإنه يزداد حقداً ويعمل الآن من الخارج بكل وسيلة للتغلّب على المؤمن والعودة إلى قلبه إذا ما انطفأتْ فيه نعمة الله (وبمعنى آخر إذا ما أُسدل عليها ستار). فهو “يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أُشدّ شراً منه” لكي يحارب. وفي هذه النقطة على وجه التدقيق يكمن معنى التجارب كلّه. والخيال هو أدق وسيلة حرب للشيطان، تخيّل الماضي وتخيّل المستقبل، تخيّل الأعمال الصالحة، وتخيّل الأعمال الشريرة. تتوارد خواطر مختلفة تشعل العقل فيكفّ عن اللهج باسم يسوع. ويمعن الشيطان في محاولاته لكي يثني الإنسان عن إبداء أي اهتمام بالله، وليصرفه عن إظهار حبه له تعالى. وأهم ما يثيره فيه أنه يحمل إليه ذكريات زلاَّت مختلفة ارتكبها أخيراً أو من قبل في حياته.

والآباء القديسون يقولون إنّ الحرب تكون عادة شديدة بمقدار قوة الأهواء في السابق. والحاجة تقضي بأن يدفع الإنسان ثمن كل لذة بما يوازيها من عذاب.

وفي حياة الآباء النسكية في النعمة علاقة وثيقة بين اللذة والألم. فإنّ اللذة قد جلبت السقوط والعذاب. وعلى هذا فإنّ العذاب (الألم) يعيد الإنسان إلى حاله الأصيلة ويشفيه. فلا بد له أن يتألم كثيراً. وسيدفع ثمن كل لذة شريرة بما يوازيها من عذاب لكي يحدث توازن. والحوادث التي سبق أن حدثتْ له من أعوام كثيرة فسبَّبتْ له التمتع باللذة وكان قد نسيها، لا بد اليأس والقنوط.

وأضاف الشيخ قائلاً: ستثور في ذهن المجاهد أيضاً خواطر تجديف. منها عدم تصديق موضوعات الإيمان الكبرى، والشك في ألوهة السيدة المسيح، وفي صحة نقاوة السيدة العذراء الكلية القداسة، وفي قداسة القديسين الخ… وكثيراً ما تتوارد هذه الشكوك ساعة الصلاة وتشتدّ إلى حد أنّ المجاهد يعبّر عنها بالشفتين أيضاً بدون إدراك ما يفعل، أو بغير إرادة منه.

وثمة حالات أخرى فيها شيطان الكسل والضجر وعدم الاكتراث. فتسيطر على المجاهد فكرة ملحَّة، هي فكرة مغادرة المكان والابتعاد عن شيخه المرشد، بفكرة أنّ هناك شيخاً أفضل منه ويحدث كثيراً أنّ الشيطان يضرم في نفس المجاهد نار الكراهية ضدَّ شيخه.

وثمة حالات يأتي فيها المريد إلى شيخه ليقول له بدموع وتنهد “لا أستطيع التعبير جيداً. ولكني سأفصح لك عما أشعر به. إني أكرهك، ولا أريد أن أراك. وإنّ ثورة رهيبة لتهبُّ في داخلي عندما أراك”! وكثيراً ما يستولي النوم على المجاهد ليوقف صلاته.وهناك تجارب أخرى عديدة إلا أني أكتفي بما ذكرت.

سألته:.. كيف للناسك أن يقوى على تّحمل هذه الكثرة من المشقات وكيف له أن يصمد أمام هذا الهجوم الجنوني الشرس؟ قلْ لي أيها الشيخ. لا تصمتْ…

لكنّ الشيخ المجاهد بـ…. سكت، فقد استغرق في صمت عميق. ومن يدري ما أصابه من نيران العدو؟ ومن يعلم كم تجربة ألّمتْ به؟

– أيها الشيخ، لا تتوقف! أذكر لي الطرائق الناجعة لمجابهة هذا الشر.

– هنا يحتاج المجاهد إلى صبر وشجاعة. وبخاصة الشجاعة. وينبغي ألاّ يتزعزع وعليه أن يجابه الخيال باستدعاء متواصل لاسم يسوع، وأن يحصر فكره في كلمات“الصلاة” ويثبت عليها، وألاّ يفكر في شيء آخر خلال الصلاة سواء كان شراً أو عملاً صالحاً. وإذا أحاط به الألم فيما عليه إلاّ أن يكون على يقين بأنّ شفاءَه قد بدأ. كما قلنا آنفاً “فإنّ المرأة وهي تلد تحزن، لأنّ ساعتها قد جاءت. ولكن متى ولدت الطفل لا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح. لأنه قد ولد إنسان في العالم” (يو 16 : 21 ). مثل هذا يحدث هنا. فإنّ الإنسان الجديد يّخلق بواسطة الألم. إنّ حياة جديدة تولد، هي حياة المسيح…

يقول الآباء القديسون المتوشحون بالله إنّ على المجاهد أن يقاوم التجديف بالاحتقار. فإنّ التجديف لا يزول إلاّ بهذا النهج. والأفكار المجدّفة ليست منا وإنما هي هواجس الشرير. ويمكن القول إنّ هذا ينطبق عليه قول الرب: “لا تستطيعون أن تعبدوا الله والمال” أي أن العقل لا يستطيع القيام بعملين في آن واحد. فلا يمكنه أن يلتذّ بشهد“الصلاة” الكلي الحلاوة من جهة وأن يشك من جهة أخرى إبان الصلاة في قوة الصلاة شيء آخر. وما هذا الشك إلاّ هجوم يشنه الشيطان. فيجب أن يجابَه بالاحتقار. وإذا استمرَّ هاجس التجديف، وجب إفشاء أمره إلى الأب الروحي. حينذاك يزول فوراً. كما تزول أيضاً على النمط جميع هواجس التجديف المزمنة. والهاجس المزمن الذي يثور خلال الصلاة بنوع خاص لا بد للمجاهد من يفشي أمره بالاعتراف بوجوده أمام أبيه الروحي، وحينذاك يختفي الشيطان المختبئ تحت هذا الهاجس، كما تختفي الأفعى إذا ما رفعنا الحجر الذي اختبأتْ تحته.

وأما مقاومة النعاس الشديد، فتتطلّب جهاداً خاصاً. في هذا الجبل المقدّس صنع كثير من الآباء مقعداً برجل واحدة، فإذا دبَّ إليهم النعاس انقلب بهم المقعد وسقطوا معه إلى الأرض وحينذاك يستيقظون. وما هذا في حقيقة الأمر إلاَّ مظهر من مظاهر صراعهم مع الشيطان. عرفتُ راهباً وضع في قلايته إناء مملوءاً بالماء. فكان إذا نعس حمل الإناء ونقله إلى موضع آخر في قلايته. وعلى هذا المنوال كان يقاوم روح النعاس الشيطاني…

وعلى المجاهد أن يعتبر شيخه المرشد“صورة المسيح” وأنه لمثل موسى. وبقدرته وأدعيته سيخرج من عبودية مصر ويتحرّر من طغيان فرعون“الأهواء” وعليه أن يُقبل على المجاهدة، متغاضياً عن نقاط الضعف عند شيخه، وهي التي يضخُمها له الشيطان. وعليه أن يرى ما يبدي من حب لله وما يتحلّى به من نبيل المناقب. وإذا حدث أن تبينّ صدفةً أنّ لشيخه خطايا كثيرة وأهواء متعدّدة فعلية أن يتجنَّب انتقاده وليعتبرْ خطايا شيخه المرشد، خطاياه الشخصيّة. وليذرف الدمع الكثير بسببها.

وقد شرح القديس سمعان اللاهوتي الجديد هذا السلوك بأجلى بيان بقوله: “إذا كنتَ مقيماً في دير جماعي للإخوة، فلا ترغبنَّ في اتخاذ موقف الأب الذي قص شعر رأسك (شرطنك راهباً) حتى لو رأيته يزني أو يسكر، ولا ضد أمور الدير التي يبدو لك أنها تجري بطريقة سيئة. وليس هذا فقط بل عليك ألاّ تقف موفقاً مضاداً حتى لو وبَّخك وأهانك وتعرّضتَ للكثير من المضايقات. ولا تجلسنَّ مع الذين يشتمونه ولا تسلكنَّ مع المتآمرين عليه. واصبر عليه حتى النهاية ولا تشغلنَّ فكرك في سيئاته. وَضَعْ في قلبك ما يفعل من أعمال خيّرة، وألزمْ نفشك بتذكُّرها وحدها فقط. وأما ما تراه من أمور غير لائقة، أو شرور تصدر عنه سواء كانت بالفعل أو بالقول، فهذه سجّلْها على نفسك واعتبرها خطايا ارتكبتها أنت وتُبْ ذارفاً الدَّمع. واحسبْه قديساً والتمسْ دعاءَه”.

يُطلب منه هذا ليمتنع عن انتقاد شيخه. لأنّ هذا الانتقاد من شأنه أن تزول معه الطاعة والاتضاع. والاتضاع أساس الطاعة وغايتها النهائية. فإذا زال تعذّر الخلاص.

سألته: هجمات شخصيَّة؟ ما هذه الهجمات وماذا تعنون بها؟

– هنا أسألك أن تدعني أكمل حديثي. فإنكم لا تستطيعون أن تفهموني. وقد يبدو لك ما أقوله مدعاة للاستغراب لأننا لا ندرك الحياة النسكية.

– أيها الشيخ، إني لفي لهفة إلى المعرفة. فأسألك باسم يسوع المسيح أن تعلّمني. فقد وجدتُ الآن مبتغاي وأودّ ألاّ أظل في الحرمان. قلْ لي…

قلتُ هذا وقد شعرتُ بما يعترضه من صعوبة. فماذا كان يمكن أن يقول لنا نحن الذين لنا ملابس جلدية للمنطق؟

– لن أقول لكم أموراً كثيرة. وسأكتفي ببعضها… تُسمع أصوات وضحك، ومشادات كلامية عنيفة خارج القلاية.. كأنّ المكان مزدحم بالناس. وما ذلك إلاَّ ليصرف الشيطان انتباه المجاهد عن “الصلاة”. وكثيراً ما يقترب منه فيشعر برعب رهيب ويستحوذ على نفسه وجسده ألم شديد لا يقاس بما يصيب المرء من خوف في حضور المجرمين. لأنّ الجحيم بكامله يقترب منه. ويتخذ الشيطان أشكال حيوانات متنوعة لكي يخيفه. وفي سيرة القديس سابا نجد الشيطان يتشكّل في صورة أفعى أو عقرب أو أسد الخ… “وبينما كان جالساً على الأرض في منتصف الليل كان الشيطان يتشكّل أمامه في صور الأفاعي والعقارب محاولاً إرهابه. ويظهر له الشيطان أحياناً أخرى بشكل أسد مرعب يهدّده بالافتراس. ويظهر الأبالسة في ظروف أخرى وهم يحملون بأيديهم ناراً ويهدّدون المجاهد بالحرق”. وقد ذكر القديس سمعان حادثاً مماثلاً فقال: “كانوا واقفين بعيداً عني ويحاولون أن يخيفوني، ويحملون ناراً بأيديهم ويهددوني بالحرق. وكانوا يصرخون بأصوات عالية وهم يحدثون قرقعات…”.

ويحدث أيضاً أنّ الناسك يشعر بيدين تستعدان لخنقه فيما يكون جالساً على مقعد وهو يردد“صلاة” يسوع، فتقبضان على عنقه بشدة لتمنعاه من متابعة“الصلاة”. فإذا به يشرع فيها قائلاً: يا رب.. ويصعب عليه الانتقال إلى ذكر اسم“يسوع” الخلاصي. فيتمتم ببطء: ي.. س.. و.. ع… وما يكاد أن يكمل حروف هذا الاسم الكريم بعد جهد حتى يختفي الشيطان.

ويأتي إليّ رهبان أديرة مختلفة ويذكرون لي أنّ الشيطان يشنّ عليهم هجمات جماعية ليخيفهم ويرعبهم، وعلى وجه التحديد فيما يستعدون لصلاة السهرانية (الأغربينا).

– ماذا تقصد بالهجمات الجماعية؟

– إنه يهاجم في الوقت عينه راهبين أو خمسة أو عشرة ويحاول خنقهم أو إحداث أي ضرر لهم. وقد حصل أنَّ راهباً حلَّ به رعب شديد، فهرب من القلاية ووقف مذعوراً أمام قلاية الشيخ المرشد ينتظر نهوضه من النوم. لهذا لا يستطيع الناس العالميون أن يفهموا ما لصلاة الأغربينا من قيمة. فإنها تحرق الشيطان الخبيث وتسحقه. أما هو فيعمل كلّ ما وسعه لكي لا يتمّ ذلك لأنه يعلم أنّ ممارسة الصلوات طول الليل تضربه ضربة قاصمة.

والشيطان يوحي بأفكار إلى صحفيين وسواهم لكي يحولوا دون تحقيق هذه الصلوات. لهذا أرجوا منكم أن لا تهملوا إقامة سهرانيات كثيرة في الأبرشية التي تؤدّون فيها خدمتكم الكهنوتية، فإنهم وسيلة ناجعة لمقاومة الشيطان.

– نحن، أيها الشيخ، خطأة إلى حد أننا لم نعد نشعر بهذه الهجمات التي يشنّها الشيطان علينا. وطالما أنه يعتبرنا له وقد أمعنّا كثيراً في الخطيئة، فلمَ يهاجمنا..؟

– أتسمح لي بأن أسدي إليك نصيحة؟

– بالتأكيد، ولستُ لأسمح لكم بذلك وحسب بل إني أتوسّل إليكم أيضاً…

– لا تقولوا هذه الفكرة: إنكم خطأة وإنّ الشيطان لا يهاجمكم شخصياً، لأنها فكرة مُضِلَّة قد يستغلّها الشيطان ضدكم.

– كيف؟

– إن قلتَ إنك غير مستحق بسبب الخطيئة قد يستغل الشيطان ذلك فيهاجمك شخصياً لأنه يسمع ما تقول. فإذا قمتَ بعمل صالح أو بممارسة إحدى الفضائل قد ينتهز هذه الناسبة للظهور لكي يثير لك معناه أنك ذو شأن، ويوسوس لك بالكبرياء وحب المجد الفارغ…

انحنيتُ بسرعة بدون أن يحس بي جيداً، وقبضتُ على يده وقبلتُها بمحبة واحترام، تقديراً مني لما يتحلّى به من حكمة روحية اكتسبها بعد المجاهدة طوال سنين…

واستأنف الشيخ حديثه قائلاً: إنّ الشيطان كثيراً ما يظهر للمجاهد ويكلّمه ويتحدّاه لكي يجرّه إلى محادثته، فيتّهمه تارة، ويمدحه طوراً ويهزأ به حيناً، ويفسّر له بعض الحوادث تفسيراً خاطئاً حيناً آخر الخ.. أما عديمو الخبرة في هذا الجهاد الروحي فإنهم يشرعون في محادثة الشيطان، ويردّون على أسئلته وإهاناته. لكنّ هذا ضلال، وبخاصة عند المبتدئين (من المريدين) لأنّ عديمي الخبرة في مثل هذه الأحوال يصابون بالهزيمة، حتى ولو بدا لهم أنّ الشيطان قد ولّى أمام معارضتهم. وتخلّف هذه المحادثة في نفوسهم اضطراباً وخوفاً. وإذا تذكّروا بعد زمن ها المشهد وما جرى فيه من حديث مع الشيطان اعترتهم قلقلة واضطراب. وينصح الآباء القديسون أولئك الذين تنقصهم القدرات اللازمة ولا تتوفّر فيهم شروط الأهلية الواجبة.. بأن لا يردّوا على الشيطان. وأن يواجهوه بعدم الاكتراث ويحتقروه. ويجب أن يقفوا منه هذا الموقف في حرب الهواجس أيضاً. فالمطلوب إذا هو احتقار الشيطان وفي الوقت عينه الإصرار على مواصلة“صلاة يسوع”.

وبعد برهة صمت استأنف قائلاً:

– يلزم في كلّ هذه التجارب أن نصرّ على مواصلة “الصلاة”،وأن نكون إجمالاً في هذه حال صلاة. وعندما نقول حال صلاة فإنما نقصد بها صوماً هادفاً وسهراً للصلاة (أغربينا) ومشقّة جسدية، وصمتاً. وكل هذه يجب أن تتمّ في مناخ الطاعة. وأن نحققها مقرونة ببركات مرشدنا الروحي.

قلتُ: لَمِ ترتبط الرياضة الجسدية (أي الصوم والسهر والصمت والمطانيات) بالصلاة ارتباط وثيقاً إلى هذا الحد، وتُعتبر حال صلاة؟

– إنّ الجسد يشارك في عمل الصلاة. وبما أنه هو أيضاً ينال النعمة الإلهية لذلك يجب أن يجاهد. وعدا هذا، فإننا بالرياضات والآلام ننشئ الشروط اللازمة لنوال النعمة الإلهية.

والقديس غريغوريوس بالاماس يذكر حالة سر الكهنوت لكي يؤيّد هذه الحقيقة. فيقول إنّ النعمة الإلهية تنتقل إلى الشماس (المرشح) أو إلى الكاهن أو إلى الأسقف، في سر الكهنوت “ليس بطريق الصلاة التي تتلى بالذهن وحسب بل أيضاً عن طريق الجسد الذي يشترك بواسطة اللمس”. ويقصد بذلك أنّ رئيس الكهنة لا يكتفي بالصلاة من أجل أن تحلّ النعمة الإلهية المحيية وإنما يضع يده أيضاً على رأس المتقدّم للشرطونية (الرسامة). وهذا عينه يحدث في “صلاة يسوع”. فلا يكفي أن نردّد الصلاة بالذهن لكي ننال النعمة وإنما يجب أن يشترك الجسد أيضاً لأنّ الإنسان مؤلف من نفس وجسد والجسد يجب أن يخلص أيضاً، ولذا فإننا باستنادنا إلى الآباء نستطيع أن نؤكد أنّ من يرفض مبدأ الصلاة: الورع والدموع، الوجع والتنهد والصمت، ينكر كيان الصلاة نفسه. وأكرّر القول إنّ كل هذه يجب أن تتمّ ببركات مرشدنا الروحي لكي لا يستغلَّها الشيطان.

حدّثت نفسي..“إنّ هذه المجاهدة عسيرة..” ووجّهتُ الكلام إلى الشيخ قائلاً: إنّ عمل الصلاة كما شرحتموه لي صعب. وطالما أننا معرّضون لهجمات ضارية إلى هذا الحد من جانب العدو، وتصدمنا أمواج الشرير العاتية حاملة إلينا شرور مملكته الشيطانية، فكيف يقوى المرء على مقاومتها؟

Facebook
Twitter
Telegramma
WhatsApp
PDF
it_ITItalian
Torna in alto