Facebook
Stare de nervozitate
Telegramă
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

أ – البدايات المسيانية 1: 1-13

سابق المسيا:

“بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ،” (مرقس1: 1).

يشكل المقطع (1: 1-8) مقدمة لإنجيل مرقس. يتضمن كرازة يوحنا المعمدان سابق المسيا وأعماله. بينما يبدأ متى إنجيله ينسب يسوع وولادته، ويبدأ لوقا بولادة يسوع وما سبقها من حوادث (البشارة بولادة يوحنا، ولادته، بشارة والدة الإله…)، يعتبر مرقس بداية الإنجيل كرازة يوحنا المعمدان المهيّئة لطريق المسيا. كذلك يبدأ الإنجيل الرابع بتجسد الكلمة الكائن منذ الأزل، وبشهادة يوحنا عن المسيا الرافع خطيئة العالم. لنشر هنا إلى التطابق بين الكلمة الأولى “بدء” التي يستهل بها إنجيل مرقس الأقدم زمنياً، وبين أول كلمة ترد في إنجيل يوحنا “في البدء كان الكلمة …”، وأيضاً أول سفر التكوين “في البدء خلق الله والسماوات والأرض”.

انطلاقة إنجيل مرقس بعرض كرازة يوحنا وأعماله لا تبغي فقط هدفاً تاريخياً بل أيضاً هدفاً لاهوتياً أعمق: لقد ذاع خبر انتظار ظهور أحد الأنبياء في العالم اليهودي المعاصر لزمن العهد الجديد. هذا النبي سوف يسبق المسيا. وكان الكثيرون يعتقدون أن إيليا هو النبي المنتظر. كانت الكنيسة المسيحية الأولى تعتقد، كما يظهر من خلال المناقشة حول هذا الموضوع بين يسوع وتلاميذه (أنظر مر 9: 13 متى 17: 12-31)، أن النبي المذكور جاء بشخص يوحنا. من هنا فإن ظهور المعمدان وأعماله تدل على بداية الأزمان المسيانية، أي عهد المسيا وقرب ملكوت الله. ليس المعمدان مجرد “الناسك” في البرية (ونعلم كم يحتل يوحنا من مكانة خاصة في الروحانية الأرثوذكسية وبخاصة في الرهبنة)، بل هو أيضاً “السابق” الذي يعدّ الناس عن طريق الكرازة بالتوبة والمعمودية بالماء، لكي يقتبلوا المسيا (حسب الأناجيل الإزائية)، والذي يشهد للمسيا قائلاً: “هوذا حمل الله” (حسب الإنجيل الرابع).

العبارة الأولى التي يستهل بها الإنجيلي كتابه تحمل مضمون هذا الكتاب: “إنجيل يسوع المسيح” أي البشارة السارة لغلبة المسيح على الشرّ السائد في العالم، على الفساد والخطيئة المتسلطة على البشر، على الموت المسيطر على الجميع. العبارة “يسوع المسيح” يمكن أن تؤخذ بمعنى موضوعي وتعني: الإنجيل الذي يتكلم عن يسوع المسيح، أو بمعنى شخصي (كفاعل) وعندئذ تُظهر يسوع المسيح كارزاً أو بالأحرى صانعاً “الإنجيل”. هذه الكلمة معروفة في النصوص اليونانية القديمة وهي تعني البشارة السارة (ev، adgelion) لغلبة ما، أو ربما كانت تعني المكافأة التي يأخذها حامل البشرى، أو قد تكون الذبيحة التي كانت تقدم للآلهة عند سماع خبر الغلبة المفرح. أما الخبر المفرح الذي كانت تحمله كرازة الكنيسة الأولى فهو غلبة الله بصليب المسيح على قوات الشر المظلمة، وبداية عصر جديد للإنسانية، عصر يعطي الناس إمكانية العيش بمحبة. في كلمة “إنجيل” تكمن كامل كرازة يسوع وتالياً كرازة الكنيسة بيسوع المسيح. وبعدها أخذت الكلمة تعني مجازياً كتب العهد الجديد التي تتكلم عن نصرة المسيح على القوات الشيطانية بصليبه وقيامته.

يدعى يسوع المسيح في أول جملة من الأناجيل بأنه “ابن الله”. هذا اللقب الخريستولوجي سوف نلتقي به كثيراً أثناء متابعة النص (أنظر 1: 11، 3: 11، 9: 7، 13: 32 إلخ). يصنع يسوع عجائب، يظفر بصليبه على الشيطان، ويقوم كمسيا له قوة إلهية كابن الله.

“2 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ:«هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي، الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. 3 صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً».” (مرقس1: 2-3).

إن يوحنا المعمدان، كما سبق وقلنا، يعلن مسبقاً ويهيء لعمل المسيا فيما بين الناس. إن ظهوره وكرازته تتميم لنبوءات العهد القديم المتعلّقة به. يضع مرقس في بداية إنجيله مقاطع من العهد القديم – الأمر الذي لا يحصل عنده كثيراً كما عند متى – ويريد بذلك أن يُظهر أن الحوادث التي تأتي في بداية “إنجيل يسوع المسيح” تشكل تحقيقاً للمشيئة الإلهية كما كُشف عنها بالتدريج في العهد القديم. إن النبوءة التي وردت في الآيتين 2 و3 منسوبة حسب غالبية المخطوطات إلى أشعيا، ولكن في الواقع يأتي الجزء الأول أي الآية 2 من سفر الخروج 23: 20 (أنظر أيضاً ملاخي 3: 1) حيث يعد الله شعبه أنه سوف يقوده في البرية بواسطة شخص مُرسل من قبله (“هاأنذا أرسل ملاكي وجهك لكي يحفظك في الطريق ويأتي بك إلى الموضع الذي أعددته لك”)، ها أنذا والنصف الثاني فقط أي الآية 3 مأخوذ من أشعيا 40: 3 (صوت  صارخ في البرية أعدّوا طريق الرب، اجعلوا سبله مستقيمة…”) تشير بعض المخطوطات إلى عدم صحة العبارة “عند أشعيا النبي” و يصححونها كما يلي “عند الأنبياء”. وهذه المخطوطات هي التي يعتمد عليها الإنجيل الذي يقرأ في الكنيسة. إن نبوءة أشعيا تذكر أصلاً وعد الله بعودة الشعب الإسرائيلي من سبي بابل إلى أرض الأجداد. وبعد ذلك بدأ هذا الوعد يأخذ معنى مسيانياً. لم يكن الشعب الإسرائيلي فقط المسبي بل الإنسانية جمعاء. وينتظر المسيا لكي يحررها من عبودية الشيطان. يكرز يوحنا في الصحراء، وتحقيقاً للنبوءة المذكورة أعلاه، يهيء الشعب لكي يتقبل هذا التحرّر.

“4 كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. 5 وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ.” (مرقس1: 4-5).

يظهر عمل يوحنا حسب الآية الربعة مزدوجاً: فهو يعمّد الشعب ومن جهة ثانية يكرز بالتوبة “لمغفرة الخطايا”. لنرَ أولاً ما هو معنى معمودية يوحنا. يقول الكثيرون، خاصة بعد اكتشاف مخطوطات البحر الميت، إنها مرتبطة بتطهير الأسانيين وبغسلهم (لأنه حسب هذه النظرية ربما قضى يوحنا طفولته بين جماعة الأسانيين قرب البحر الميت لأن الأسانيين كانوا يأخذون الشباب منذ الصغر). لكن الفرق بين معمودية يوحنا ومعمودية الأسانيين هو أن يوحنا كان يعمّد مرة واحدة بينما الأسانيون يعمدون يومياً. يأخذ بعض المفسرين الآخرين بالقول أن يوحنا استخدم نموذج معمودية الدخلاء من الوثنيين لأن هؤلاء كانوا يُقبلون إلى اليهودية مع إلزامية المعمودية. ويربط البعض الآخر بحركة المعمودية العامة التي كانت معروفة آنذاك في فلسطين. ومن الآية الخامسة نستنتج أن المتقدمين إلى المعمودية كانوا من أورشليم ومنطقة اليهودية. وبالتالي الأصح القول أن معمودية يوحنا لها طابع استعداد للزمن المسياني. كان المعمدان يعي مجيء المسيا القريب وفي الوقت نفسه حاجة الشعب لأن يتطهر استعداداً لقبول المسيا. ولذلك كان يعمّد ويعرّف الناس حتى يستقبلوا، وهم أنقياء، المسيا الذي سيمنحهم غفران الخطايا. هكذا فإن العبارة “لمغفرة الخطايا” كما شرحها ثيوفيلكتوس تعني ما يلي: معمودية يوحنا تهيء الشعب لمعمودية المسيح بالروح القدس حيث يعطي المسيح غفران الخطايا.

وكرازة التوبة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمعمودية يوحنا. ينقل لنا الإنجيلي متى الجملة التالية في كرازته: “توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات” (متى3: 2). إن مبرر التوبة كامن في اقتراب الملكوت الذي يأتي ليكرز به ويؤسسه. لقد كرز أنبياء العهد القديم بالتوبة لكي يجبروا الله بطريقة ما على الإتيان بملكوته. واعتقد يوحنا بوحيه الإلهي أن العصر المسياني آت ولذلك كان يكرز بالتوبة كونها العمل المباشر والموقف البشري الصحيح وحده لاستقبال المسيا. والتوبة تعني التغيّر الوجودي الكامل والجذري، العودة من عبودية الخطيئة إلى حرية أبناء الله. إن موضوع التوبة سوف يسود أيضاً بعد قليل في كرازة يسوع الذي بطريقة واضحة وسيدية سوف يؤكد على ضرورة التوبة لا لأن ملكوت الله قد اقترب فحسب بل لأنه قد أتى في شخص الكارز به يسوع المسيح.

“6 وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ الإِبِلِ، وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ، وَيَأْكُلُ جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا.” (مرقس1: 6).

إن وصف يوحنا في هذه الآية لابساً “وبر الإبل” و”منطقة من جلد على حقويه”، يأكل “جراداً” (أي حشرات كانت تشكل الطعام المعتاد في البرية) و”عسلاً برياً” (الذي يعطيه النحل في أوان المطر والذي يستخرج من قشرة بعض الأشجار)، هذا الوصف يذكرنا بوصف العهد القديم لإيليا (أنظر 4 ملوك1: 8). والمعلوم كما ذكرنا سابقاً حسب تقليد الكنيسة الأولى أن إيليا قد أتى بشخص يوحنا المعمدان، هذا التقليد الذي يثبته يسوع نفسه في متى 11: 14 حيث يقول بوضوح “إن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي”.

“7 وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلاً:«يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. 8 أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ».” (مرقس1: 7-8).

إن يوحنا المعمدان في كرازته للشعب يصف المسيا على أنه أقوى منه. أمام هذا المسيا القوي (أنظر الوصف في أشعيا 9: 5، 11: 2) لا يستطيع يوحنا أن يحسب نفسه حتى عبداً له. في الواقع كان “حل سيور حذائه” يعتبر من أحقر الأعمال لذلك كان يقوم به العبيد. حسب القول الرباني ينبغي للتلميذ أن يقدم لمعلمه كل الخدمات التي يقدمها العبد لسيده ما عدا حل سيور حذائه.

جدير بنا أن نؤكد أن الإنجيليين يسعون لإبراز تفكير يوحنا المتواضع. ربما صحّت النظرية القائلة بأنهم يفعلون ذلك بدافع التوجه على تلاميذ يوحنا المتبقين معه (أنظر أعمال الرسل 19: 1 …) الذي يعتبرون معلّمهم المسيا. فيقول الإنجيليون لهم أن يوحنا نفسه اعترف أنه ليس المسيا بل السابق له. وبغض النظر عن صحة وجهة النظر هذه أم لا، يجب على قارئ الإنجيل اليوم أن ينظر باهتمام إلى تفكير يوحنا المتواضع الذي مع كونه يعيش في زمن حرارة مسيانية ويواجه باستمرار مظاهر الإعجاب والاعتراف به من قبل كل سكان اليهودية (الآية 5)، مع كل ذلك لم يستسلم لتجربة اعتبار نفسه أرفع مما هو عليه (كما كان يحصل مع كثير من المسحاء الكذبة في ذلك الزمن)، لقد أوصل إلى النهاية رسالته وهيأ درب المسيا.

يعرف يوحنا جيداً أنه يعمّد بالماء وأن المسيا الآتي سوف يعمّد الإنسانية “بالروح القدس” (الآية 8). كانوا يتوقعون زمن المسيا كزمن انسكاب الروح القدس (أنظر يوئيل 3: 1-5، أعمال الرسل 2: 1-11). في الواقع نرى يسوع يصنع عجائب بالروح القدس، يعطي وعداً بإرسال المعزي الآتي من الأب ويؤسس الكنيسة التي “يجمعها” الروح القدس.

معمودية يسوع:

“9 وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ وَاعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي الأُرْدُنِّ. 10 وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ الْمَاءِ رَأَى السَّمَاوَاتِ قَدِ انْشَقَّتْ، وَالرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلاً عَلَيْهِ. 11 وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ:«أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ».” (مرقس1: 9-11، متى3: 13-17، لوقا3: 21-22).

في الآية 9 يربط الإنجيلي بطريقة ركيكة وبدون تحديد زمني قريب بين معمودية يسوع وكل ما قاله سابقاً (1: 1-8) بخصوص كرازة يوحنا المعمدان. لا يهتم كالكاتب المؤرخ بتحديد زمن الحدث الوارد، بل كلاهوتي موحى له من الله يهتم بالحدث بحدّ ذاته وبمعناه الذي يصل على أوجه بصوت الله الآتي من السماء.

“من ناصرة الجليل” جاء، مع العلم أن يسوع قد ولد في بيت لحم اليهودية وفقاً لما جاء في النبوءات المتعلقة بذلك في العهد القديم. يعتبر الإنجيليون أن الناصرة هي وطنه حيث أقام مع عائلته. إن مجيء يسوع كمسيا من الناصرة يشكك بعض اليهود (أنظر يوحنا 1: 46) لأن ذلك المكان لم يكن ذا شأن، لكن ارتباط الناصرة باسم يسوع (الناصري) جعلها مشهورة في أقطار المسكونة.

الكلمة “للوقت” الواردة في الآية 10 تدلّ على أن يسوع، على عكس المعمَّدين الآخرين الذين يعترفون بخطاياهم إلى يوحنا وهم داخل المياه، خرج للوقت بدون خطيئة. إن انفتاح السماوات ونزول الروح يدلان على اللحظة الفائقة والبارزة حين تظهر فيها شركة الآب والابن والروح القدس. ولا يذكر الإنجيلي أن كان ذلك مرئيا لدى الآخرين ما عدا يسوع. إن نزول الروح بشكل حمامة له، حسب آباء الكنيسة، ارتباط وشبه مع حمامة نوح بالمعنى التالي: كما أن الحمامة الحاملة غصن الزيتون دلّت آنذاك على نهاية الطوفان، هكذا نزول الروح الآن بشكل حمامة يدل على نهاية الخطيئة وبداية عصر جديد للإنسانية، يجمع الكنيسة ويقودها إلى “الحقيقة كلها” (يوحنا16: 13).

إن صوت الله من السماء “أنت هو ابني الحبيب الذي به سررت” يعيد إلى الأذهان المزمور 2: 7 “أنت ابني” ومقطع أشعيا 42: 1 “هوذا عبدي”. يُعترف بيسوع، في هذه اللحظة المهمة من بداية نشاطه العام العلني، ويُكرز به كابن الله المحبوب الذي يأخذ على عاتقه عملاً صعباً وهو عمل عبد الرب المتألم الذي تكلّم عنه أشعيا النبي (42: 1…، 52: 13، 53: 12) والذي يصل إلى كماله عبر الآلام على الصليب.

ابن الله وعبد الله صفتان مسيانيتان مميزتان سوف ترافقان يسوع في كل نشاطه الأرضي.

في لحظة اعتماد يسوع من يوحنا في نهر الأردن، في شركة رؤيوية للسماء مع العالم الأرضي يظهر Treime: إن الله الآب يعترف بيسوع ابنا له محبوب، ينصبه على العرش كمسيّا، لا كملك أرضي حسب توقعات الشعب اليهودي الغليظة، بل كمسيا متواضع يأخذ على عاتقه عملاً مضنياً هو عمل عبد الله المتألم. يتقبل الرب يسوع هذا العمل بوداعة وطاعة، ويبقى أميناً له حتى موت الصليب. فيأتي الإنجيليون ويسردون الحدث وفي ذهنهم أوصاف العبد المتألم الذي تكلم عنه أشعيا في الفصول 52 و53 (تتلوها الكنيسة في يوم الجمعة العظيم). إن الروح القدس النازل على يسوع يمنح بصورة دائمة إلى الإنسانية بمثابة ختم خاص مميز للعهد الجديد (1)، كعطية الأزمان الأخيرة التي يتكلم عنها العهد القديم. تتحقق وعود الله الآن في الإنسانية الجديدة التي هي الكنيسة، حيث يتنعم فيها المؤمنون بمواهب وعطايا الروح القدس، كتذوق سابق للملكوت الآتي. يرتبط الروح القدس عضوياً بعمل يسوع المسياني، يجمع الكنيسة ويقودها إلى “الحقيقة كلها”.

تجربة المسيّا:

“12 وَلِلْوَقْتِ أَخْرَجَهُ الرُّوحُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، 13 وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ.” (مرقس1: 12-13).

كما في الأناجيل الإزائية الأخرى: متى (4: 1-11) ولوقا (4: 1-13)، هكذا أيضاً في مرقس تأتي تجربة يسوع في البرية مباشرةً بعد المعمودية أي بعد تنصيب يسوع مسيّا. والبرية حسب مفاهيم ذلك العصر هي مكان سكن الشيطان والقوات الشريرة. لذلك يسوع، مرشداً من قبل الروح الذي نزل عليه في المعمودية، ينتقل إلى البرية قبل أن يبدأ نشاطه العلني لكي يواجه الشيطان. كما يظهر من الروايات التفصيلية عند متى ولوقا، نجد هدف الشيطان وضع العثرات أمام عمل يسوع وإبطال مجيء ملكوته بمحاولة إدخال الفكرة اليهودية إلى الأذهان عن المسيا كحاكم أرضي. إن مرقس بإيجاز شديد في البداية يُظهر يسوع مجرباً من الشيطان لأربعين يوماً دون أن يذكر نوع التجربة أو مضمونها. وهو بذلك يريد أن يبرهن أن عمل يسوع يبدأ بجهاده ضد الشيطان. هذا العمل الذي سوف يستمر طيلة حياته لكي يصل إلى قمته على الصليب حيث يخرج منه يسوع ظافراً بالقيامة.

إن فترة الـ 40 يوماً لبقاء يسوع في البرية تذكرنا بحوادث متنوعة لإسرائيل القديم، مثلاً بتيهان الشعب الإسرائيلي طيلة 40 سنة في البرية، بمسيرة النبي إيليا في البرية 40 نهاراً وليلة (3ملوك 19: 8)… يذكرنا ذكر “الوحوش” بوصف الفردوس القديم في سفر التكوين حيث كان الإنسان قبل السقوط في علاقات سلمية مع الطبيعة وعالم الحيوانات. في الواقع يربط الكثيرون من آباء الكنيسة بين تجارب يسوع في البرية وسقوط آدم في الفردوس لكي يؤكدوا أم المسيا يمثل الإنسانية الجديدة بظفره على الشيطان الذي سقط أمامه الإنسان الأول أعني آدم (يوستينوس، ايريناوس، يوحنا الذهبي الفم، كيرلس، ثيوذورتس القورشي…).

تذكّر خدمة الملائكة (التي يمكن أن نفهم من خلالها إيجاد الطعام بطريقة عجائبية) بمفهوم اليهود الرؤيوي الذي بموجبه، وعند جهاد الإنسان ضدّ الشيطان، تظهر ملائكة الله مؤيدة ومشددة. الملائكة طردت آدم من الفردوس عند معصيته، والملائكة تخدم يسوع الظافر على الشيطان.

ب – عجائب المسيا ومقاومته لممثلي اليهودية 1: 14 – 3: 6

الكرازة الأولى:

“14 وَبَعْدَمَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللهِ، 15 وَيَقُولُ:«قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ»”. (مرقس1: 14-15).

يبدأ يسوع كرازته من الجليل (أنظر متى 4: 12-16 حيث يستند هذا الاختيار التفضيلي إلى نبوءة خاصة به من العهد القديم) بعد القبض على يوحنا المعمدان. تكمن الكرازة الأولى الواردة عند الإنجيلي مرقس بشكل موجز في هذه الجملة: ” قد كمل الزمان و اقترب ملكوت الله، فتوبوا و آمنوا بالإنجيل”. هذه الكرازة هي “إنجيل ملكوت الله”. “الزمان” هو فكرة تحمل محتوى رؤيوياً خاصاً. هو اللحظة الزمنية المناسبة التي يحدّدها الله ليعلن عن مشيئته ولأجل خلاص البشر. هو ما يسميه الرسول بولس “ملء الزمان” (غلا4: 4)، أي زمان مجيء ملكوت الله الذي ينتظره شعب الله منذ وقت طويل.

يكرز يسوع بهذا الملكوت الآتي. الفعل “اقترب” يعني أصبح قريباً جداً. وصل وأصبح واقعاً. من هنا الحث على التوبة الذي لا يشكل، حسب التعليم اليهودي، شرطاً من أجل مجيء الملكوت بل دعوة مستعجلة ناتجة عن حدث مجيء ملكوته.

ملكوت الله:

عندما يتكلم يسوع عن ملكوت الله لا يقول شيئاً مجهولاً لدى سامعيه. كانت هذه التسمية مألوفة عندهم وتشكل موضوع رجائهم. لقد جعلت الخبرة التاريخية الأليمة للشعب الإسرائيلي، الواقع باستمرار تحت نير أجنبي وتحت سلطة أجنبية، انتظار ملكوت الله أمراً مهماً. وكان هذا الانتظار يُرافَق برجاء إصلاح وطني سياسي للشعب تحت إمرة مسيا سياسي يمنح، بعد تطويعه لكل الأمم، الشعب الإسرائيلي السلام المنشود. كان هذا هو المفهوم السائد عند الشعب، بينما نجد في النصوص الرؤيوية اليهودية (وهي نصوص منحولة من الفترة الواقعة بين العهدين القديم والجديد) صدى لمفهوم أسمى عن ملكوت له ميزة تتجاوز المفاهيم الشعبية.

تحديد ملكوت الله:

أمام توقعات الشعب الوطنية الضيقة الغليظة، شدّد يسوع على الميزة الروحية الاسختولوجية (الأخروية لملكوت الله: ليس ملكوت الله مملكة محدّدة بل هو حالة جديدة تتخذها الأمور داخل العالم، حياة جديدة لا تأتي من أعمال الناس بل من تدخُّل الله في العالم. إن هذا التدخل يصل إلى أوجه في مرحلة من التاريخ الإنساني وهي عند مجيء المسيح. في شخصه يبدأ الملكوت، اكتماله ونهايته يشكلان الحدث المرتقب والمرتبط بمجيء المسيح الثاني. في بعض تعاليمه، يؤكد يسوع على حقيقة واقع الملكوت داخل العالم. بينما في تعاليم أخرى وخاصة في بعض الأمثال، يعبّر عن ضرورة السهر توقّعاً لملكوت الله الآتي فجأة في المستقبل بشكله المكتمل. لا نستطيع أن نشدّد على أحد الجانبين الكامنين في الكرازة بالملكوت لأن كليهما موجودان في كرازة يسوع التي وصلتنا في الأناجيل. إن المفسرين الذين يشدّدون كثيراً على الجانب الأول هم أتباع لِما يُدعى “بالأخروية المحققة“، ويمثل هذه المجموعة المفسّر الإنكليزي (C. H. Dodd). هؤلاء يهملون عدداً كبيراً من الأمثال التي تتلكم عن السهر الدائم والانتظار. بينما يؤمن مؤيّدو ما يُدعى “بالأخروية المنتظرة” (J. Weiss، A. Schweitzer). بأن يسوع كرز بالملكوت الآتي. هؤلاء أيضاً يخطئون لأنهم لا يميّزون بين يسوع والكتّاب اليهود الرؤيويّين. إنهم يتكلمون عن الملكوت كحدث مرتقب فقط مهملين الفرق الأساسي بين اليهودية والمسيحية الذي بموجبه لا يؤكِّد فقط على المستقبل المنتظر بل وأيضاً على الحاضر الذي يتضمّن التجسّد والصليب وقيامة المسيح.

فلنؤكد مرة أخرى على الطابع الروحي للملكوت الذي يكرز به يسوع. إنه يشكل واقعاً جديداً داخل العالم، حياة جديدة تسود فيها المحبة بدل البغض، الإيمان عوض الشك، الرجاء بالمستقبل الآتي عوض اليأس. هو حالة جديدة لعلاقات الإنسان مع الله ومع أخيه الإنسان (أنظر كتاب يونّيذو B. loannidou “ملكوت الله بحسب العهد الجديد”، أثينا، 1955).

دعوة التلاميذ الأول:

“16 وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 17 فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ:«هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ». 18 فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ. 19 ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلاً فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، وَهُمَا فِي السَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ الشِّبَاكَ. 20 فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي السَّفِينَةِ مَعَ الأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَهُ.”. (مرقس 1: 16-20، متى 4: 18-22، لوقا 5: 1-11).

يبدأ نشاط يسوع العلني بدعوة التلاميذ الأول الذين كانوا يتعاطون الصيد في “بحر الجليل” المدعّو في مكان آخر “بحيرة جنيسارت” أو “طبريا”. يتكلّم الإنجيلي عن اختيار التلاميذ الـ 12 في 3: 13-19. أمّا بالنسبة لدعوة كل واحد على حدة فلا يذكر شيئاً عن ذلك سوى ما جاء في هذا المقطع حيث يتكلم عن سمعان وأندراوس ويعقوب ويوحنا، وفي 2: 13 … حيث يتكلم عن لاوي أي متى.

يعطي هذا الحدث انطباعاً أن التلاميذ الأربعة يتقبلون الدعوة للحال، و”للوقت” يتركون شباكهم ويتبعون يسوع. ولكننا نعتقد أنهم قد سبق وعرفوه كما يستنتج من رواية الإنجيلي الرابع (1: 35…). لا يفتش الإنجيلي على أن يعطينا معلومات تفصيلية عن كيفية معرفتهم ليسوع بل يسعى أن يبرز لنا نموذجاً عن كيفية تقبل أتباعه للدعوة الإلهية. يترك التلاميذ الشباك وأباهم والمركب لكي يخدموا مثالاً أسمى ويصبحوا “صيادي الناس”. لقد عرف ذلك العصر محاولات عديدة لاجتذاب الناس إلى تعليم ما أو إلى إحدى الجماعات الدينية الفلسفية. يُدعى الصيادون الأربعة من قبل زعيم الإيمان الجديد لكي يصطادوا المسكونة بشباك الكنيسة التي هي خزينة النعمة والخلاص. من هنا إنهم سيبقون دائماً إلى جانب يسوع لكي يحصلوا في النهاية، من يد القائم من بين الأموات، على وصية نقل بشارة القيامة “إلى أقاصي الأرض”.

يجب علينا أيضاً أن نؤكد أن يسوع لا يفتش عن معاونيه بين أعضاء الطبقة الكهنوتية اليهودية أو الطبقة الدينية الحاكمة (الفريسيون والكتبة) أي ليس بين المعتَبرين أتقياء وأبرار، بل بين ممثلي الشعب الذين ربّما لا ينتمون، حسب رأي الرؤساء الدينيين، إلى الطبقة المختارة بل يُعتبرون خطأة وجاهلين للناموس. ونلاحظ أيضاً، على عكس العادة اليهودية التي بموجبها يفتش التلاميذ عن معلّم لكي يتتلمذوا عليه ويتعلّموا منه الناموس، أن يسوع هو الذي يبحث عن تلاميذه ويدعوهم (أنظر يوحنا15: 16 “لستم أنتم الذي اخترتموني بل أنا هو الذي اخترتكم”).

Concluzie:

من الواضح إذاً أنه في محور الرواية الإنجيلية يوجد وجه وشخصية الراعي الذي عندما يختاره تلاميذه الأول، يكون قد اختار هو رؤساء الكنيسة العتيدة التي يجمعها بنفسه ويؤسسها بصليبه وقيامته.

تعليمه وشفاء الرجل الذي كان فيه روح نجس في مجمع كفرناحوم:

“21 ثُمَّ دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ، وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ الْمَجْمَعَ فِي السَّبْتِ وَصَارَ يُعَلِّمُ. 22 فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ. 23 وَكَانَ فِي مَجْمَعِهِمْ رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، فَصَرَخَ 24 قَائِلاً: «آهِ! مَا لَنَا وَلَكَيَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ؟ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَمَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ!» 25 فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «اخْرَسْ! وَاخْرُجْ مِنْهُ!» 26 فَصَرَعَهُ الرُّوحُ النَّجِسُ وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَجَ مِنْهُ. 27 فَتَحَيَّرُوا كُلُّهُمْ، حَتَّى سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ:«مَا هذَا؟ مَا هُوَ هذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ!» 28 فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ فِي كُلِّ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْجَلِيلِ.”. (مر1: 21-28، متى7: 28، لوقا4: 31-37).

بعد دعوة التلاميذ الأول ينقل الإنجيلي في روايته الانطباع الذي تركه يسوع أمام الشعب من تعليمه “كمن له سلطان”، ومن شفاء الرجل الذي فيه روح نجس. يقع الحدثان في يوم السبت في مجمع كفرناحوم. الكلمة هذه تعني “بيت التعزية”، والمدينة كائنة على بعد 6 كم من مصب نهر الأردن في بحيرة جنيسارت، وهي تشكل حسب روايات الأناجيل مركز نشاط يسوع أو بالأحرى نقطة انطلاق عمله وعمل تلاميذه.

يتكلم يسوع في المجمع “وكان يمكن لكل عضو من الجماعة أن يطلب الكلام حالاً بعد تلاوة الناموس والأنبياء” لكي يعطي التفسير الخريستولوجي أي التفسير الذي يعتمد على الاستشهاد بمقاطع من العهد القديم تختص بشخص يسوع المسيح وعمله. بهذه الطريقة فهمت الكنيسة العهد القديم. ويستطيع الواحد أن يتأكد من ذلك عند دراسة المؤلفات الآبائية ومن خلال ترانيمنا الكنسية الغنية. كان تفسير يسوع صائب، يفرض نفسه بنفسه، ولذلك أعطى الانطباع لدى الشعب أنه يختلف كثيراً عن تفسير المعلمين اليهود. هؤلاء يستشهدون بآراء معروفة قديمة لكي يدعموا أقوالهم بينما يعلّم يسوع “كمن له سلطان وليس كالكتبة”. حسبنا أن نتذكر العبارة “أما أنا فأقول لكم” في الموعظة على الجبل لكي نفهم طريقة تعليم يسوع الفعّالة ولكي نفهم أيضاً تعجب الشعب أمام “تعليمه الجديد”.

يتكلم يسوع “بسلطان”. ليس مجرد معلّم بسيط بل هو المسيّا، هو ابن الله الذي يكشف ملكوت الله. لا يعتلن الملكوت فقط من خلال الأقوال العجائبية بل أيضاً من خلال الأعمال التي تستدعي إعجاب الشعب. إن مثل هذا العمل يرويه الإنجيلي باختصار من خلال شفاء إنسان كان فيه “روح نجس”. فالشيطان يدخل في الناس ويتسلط عليهم عن طريق الأمراض. ورسالة ابن الله هي في “حلّ أعمال الشيطان”، في تحرير الناس من سيادته. إن الشيطان الموجود في المريض يعترف بالبعد الشاسع الذي يفصله عن يسوع “ما لنا ولك”، كما يعترف بقوته “أتيت لتهلكنا” وبشخصيته المسيانية “أنا أعرف من أنت، قدوس الله”. إن العبارة “قدوس الله” هي صفة مميزة للمسيّا حسب ما جاء في يوحنا 6: 69 عند اعتراف بطرس “أنت هو قدوس الله”. يتكلم الشيطان تارة بصيغة المفرد “أعرفك” وتارة أخرى بصيغة الجمع “أتيت لتهلكنا”، الأمر الذي يُفسَّر من خلال ازدواجية شخصيته أو من خلال انفصام الشخصية الحاصل بسببه عند المريض.

يطرد يسوع الشيطان بأمرٍ قاطع “اخرس واخرج منه” ويحرر المريض من سيادته. يهمل بعد ذلك الشخص الذي شُفيَ لأن الرواية لا تتلكم عنه ولا تذكر حتى اسمه كما يحصل في العجائب الأخرى. فالوجه الرئيسي في الرواية هو وجه المسيّا الذي له سلطان، الذي يطوّع الشيطان ويحرر الناس من أمراضهم التي ما هي أعراض لخضوعهم لرئيس هذا الدهر. يريد الإنجيلي أن يبرز سلطة المسيّا وصدى تعليمه وأعماله لدى الشعب فقد انتشر كل ذلك ليس في كفرناحوم فقط بل في “كل الكورة المحيطة بالجليل”.

Concluzie:

يربط الإنجيلي بين “التعليم الجديد كمن له سلطان” والعجيبة كما يلي: يكرز يسوع بأن ملكوت الله قد أتى ويعطي العلامات الظاهرة لمجيء الملكوت عن طريق العجائب المصنوعة. وبسبب كثرة العجائب التي سوف ترد في الإنجيل لا بد لنا هاهنا أن نتكلم عن المعنى اللاهوتي للعجائب.

عجائب المسيح:

يروي الإنجيليون أربعين عجيبة محددة ليسوع ويذكرون إلى جانبها عجائب كثيرة وبالجملة كما في متى 4: 24 و8: 16، 41: 35، مرقس1: 32 وغيرها (2)، حتى صدقت ملاحظة لوقا بأنه طيلة حياته “جال يصنع خيراً ويشفي المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه” (أعمال10: 38). ومن عجائبه الكثيرة ينتقي الإنجيليون بعض الحوادث المميزة لكي يقولوا لنا من هو يسوع المسيح، ما معنى شخصه وعمله بالنسبة إلى الناس. يستعملون للعجائب التعابير التالية: معجزات، آيات، قوات، غرائب، أعمال إلخ.

ولا يتوانى الإنجيليون عن الإشارة إلى مقاومات الناس لأعمال المسيح العجائبية: الشعب يمجد الله لأنه يستمد من هذه الأعمال حضوره وقوته، بينما لا يستطيع الفريسيون طبعاً أن ينكروا حقيقة أعماله لكنهم ينسبونها إلى تعاون المسيح مع “رئيس الشياطين”. وقد حاول بعض العقلانيين Rationalistes في العصور الحديثة “القرون 18 و19” أن يعطوا تفسيراً عقلانياً طبيعياً للعجائب نازعين عنها الطابع الإلهي الفائق الطبيعة. لا يهمنا هنا أن نقف ضدهم بل يهمنا تفسير النصوص الشريفة التي أمامنا. لنفتش إذاً عن المعنى اللاهوتي لعجائب المسيح التي يرويها الإنجيليون.

1) العجائب بصورة خاصة هي علامات مسيانية فارقة أي أنها دلائل على مسيانية يسوع هذا الذي يصنع مثل هذه الأعمال الغريبة والعجيبة لا يعتبر مجرد واحد من الرجال الخارقين صانعي العجائب، إنه المسيّا المرسل من الله الذي كانوا ينتظرونه لكي يعطي النور للعميان حسب نبوءة أشعيا 61: 1…، والحرية للمأسورين من الشيطان، والصحة للمرضى. يسوع نفسه في مواقف مختلفة، كما في الكرازة الأولى في الناصرة (أنظر لوقا 4: 16…) (3)، وفي مناقشته مع التلاميذ المرسلين من يوحنا (متى 11: 2-6)، وغيره، يعتبر نبوءات العهد القديم محقّقة بأعماله. ليست العجائب إذاً مجرّد مواقف عاطفية أمام المتألمين ومظاهر مشاعرية لخدمة البشر بل “علامات” أو “آيات” (حسب التعبير الشائع عند يوحنا الإنجيلي)، علامات زمن جديد، علامات ملكوت الله، دلائل على شخصية وسلطة يسوع المسيانية.

2) مما سبق نستنتج أن العجائب تدشّن زمناً جديداً في الإنسانية، مع العلم أن هذا الزمن الجديد لم يَسُد بعد بصورة كاملة محددة. العجائب إذاً هي علامات لمثل هذا الواقع الجديد. تشير إلى ملكوت الله، تشير من خلال الظروف الواردة إلى الحالة الأخيرة التي لملكوت الله. كان الشيطان من قبل متسلطاً على الناس مع كل ما ينتج عن هذا التسلّط من مرض، من فساد، من ألم ومن موت. في ملكوت الله هذا الذي يُعلن عنه المسيّا يحققه: يتراجع المرض، الألم، الفساد وأخيراً الموت. هذه هي الحالة النهائية (عودة إلى “الجمال القديم” للفردوس وحتى تجازوه)، وعجائب المسيّا هي التي تسمح لنا أن نتطلع إلى هذه الحالة الأخيرة.

3) تُصنع العجائب من قبل المسيّا بسلطان، إما بأمر بسيط (من قريب أو بعيد) أو بواسطة عمل ما (مسح العينين بالطين، وضع اليد على الرأس …). في كل الحالات هذه يتذكر الواحد عمل الله عند الخلق كما هو مكتوب في سفر التكوين الفصل الأول: كما أن الله بمجرّد كلمته خلق كل شيء وجبل الإنسان من التراب، هكذا فإن ابن الله، المسيّا، يعيد خلق الإنسان المفقود والمفسود والمشوّه من الخطيئة، يعيد خليقته بواسطة الكلمة المحيية أو بواسطة عمل ما كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.

من هنا إن العجائب لم تحصل أبداً بطريقة مسرحية لإعطاء مجرد الانطباع العجيب، بل بالعكس كثيراً ما كان المسيح يبتعد عن الجمع قبل أن يصنع العجيبة أو أنه يطلب المحافظة على السرّية من قبل الذين شفاهم إلخ… والمسيح لا يبغي من خلال عجائبه أن يشتهر بل أن يحث على التوبة بالنظر على ملكوت الله. يدعو الناس ويدفعهم إلى التوبة لأنه “قد اقترب ملكوت الله”.

4) من المميز أن المسيح قبل أن يصنع العجيبة كان يسأل عن إيمان المريض الذي هو أمامه أو عن إيمان الذين يرافقونه، أو في حالات أخرى يُقال للمريض أو للمريضة “إيمانك خلّصك”، معتبراً هكذا الإيمان كشرط للعجيبة، بعكس الفريسيين المعاصرين له الذين كانوا يطلبون العجائب لكي يؤمنوا.

شفاء حماة سمعان وعجائب أخرى:

“29 وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْمَجْمَعِ جَاءُوا لِلْوَقْتِ إِلَى بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ مَعَ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، 30 وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ مُضْطَجِعَةً مَحْمُومَةً، فَلِلْوَقْتِ أَخْبَرُوهُ عَنْهَا. 31 فَتَقَدَّمَ وَأَقَامَهَا مَاسِكًا بِيَدِهَا، فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى حَالاً وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ. 32 وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ، إِذْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ وَالْمَجَانِينَ. 33 وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى الْبَابِ. 34 فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَلَمْ يَدَعِ الشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ.”. (مرقس 1: 29-34، متى8: 14-17، لوقا 4: 38-41).

إن الحدث الوارد هنا يشكل تتمة للرواية السابقة. بعد انتهائه من المجمع ذهب مع تلاميذه الأربعة إلى بيت أحدهم والأرجح للطعام. ويظهر أن يسوع كثيراً ما كانت ينتهي إلى بيت عائلة سمعان. من الطبيعي أن نفترض أن كلّما تكلّم الإنجيليون عن “البيت” دون تحديد فإنهم كانوا يقصدون بيت سمعان. كان هذا الأخير متزوجاً (أنظر1كور 9: 5)، يسكن في بيت امرأته العائلي الأبوي حسب العادة في فلسطين. سمع عن مرض حماة تلميذه فشفاها للحال “ماسكاً بيدها” (الآية 31). لا يذكر نوع المرض (“قد أخذتها حمى شديدة” حسب لوقا)، والذي يهمّ الإنجيلي هو قوّة المسيّا الذي يشفي الذين يتسلّط عليهم الشيطان أكانوا رجالاً أن نساءً. يعتبر الربّانيون اليهود أنه من غير اللائق بهم أن يتكلموا مع النساء لكن يسوع لا يميّز بين الرجال والنساء. يناقشهنّ، يشفيهن، يأكل معهنّ، يَقبلهن تائبات، يظهر لهنّ بعد قيامته. كل الناس من خليقة الله وقد أتى ابن الله لكي يخلّص الجميع. من هذا المنطلق يأتي تعليم بولس عن المساواة (الخلاصية لا الاجتماعية) بين الرجال والنساء (أنظر غلاطية 3: 28 وغيرها) “ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعاً واحداٌ في المسيح يسوع”. ولذلك برز نشاط النساء “كشماسات” خادمات للكنيسة.

عند المساء بعد غياب الشمس (لأنه كان نهار السبت ولم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك من قبل)، “قَدَموا إليه جميع السقماء والمجانين” إلى باب البيت. ويلاحظ الإنجيلي بطريقة مميزة “إن المدينة كانت كلها مجتمعة على الباب” (الآية 33). أن يكون يسوع قد شفى الكثيرين، هذا لا يعني أن البعض بقيَ بدون شفاء. الكلمة “كثيرون” لا تأخذ هنا صفة التحديد بل صفة التعجب. تعني هنا أيضاً “الجميع”. من هنا نرى في كثير من الأحيان أن الأناجيل الإزائية تستعمل بدل “كثيرين” كلمة “الجميع”. وبالفعل فإن متى يقول في روايته إنه “شفى الجميع” (8: 16).

ما نقرأه في الآية الأخيرة له طابع مميز: “ولم يدع الشياطين يتكلمون لأنهم عرفوه” (أي عرفوا أنه المسيح). يمكن للشياطين أن تعترف به أنه المسيح “أي المسيّا” لكن إعلان مثل هذه الصفة المسيانية هو عمل يختص به وبالله الآب، عمل يتم بطريقة تربوية في الزمن وبالطريقة المناسبة. لذلك يَمنع يسوع الشياطين من تسميته بالمسيّا.

الخروج إلى مكانٍ قفر:

“35 وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ، 36 فَتَبِعَهُ سِمْعَانُ وَالَّذِينَ مَعَهُ. 37 وَلَمَّا وَجَدُوهُ قَالُوا لَهُ: «إِنَّ الْجَمِيعَ يَطْلُبُونَكَ». 38 فَقَالَ لَهُمْ: «لِنَذْهَبْ إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ لأَكْرِزَ هُنَاكَ أَيْضًا، لأَنِّي لِهذَا خَرَجْتُ». 39 فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي كُلِّ الْجَلِيلِ وَيُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ.” (مرقس 1: 35-39، لوقا 4: 42-44).

تنتهي الرواية السابقة بذكر عجائب يسوع الشفائية عند “المساء” بعد غروب الشمس. ويبدو للقارئ هنا أن الإنجيلي يعرض هنا نشاط يسوع الكامل خلال يوم واحد: شفاء الذي به روح نجس يوم السبت في المجمع، شفاء حماة سمعان والأشفية في المساء، كلها مرتبطة بصورة وثيقة يمكن أن تشكل نشاط يسوع خلال نهار واحد. أما بالنسبة لحادثة دعوة التلاميذ الأول فلا نستطيع أن نقول عنها كذلك لأن الحادثة لم تقع يوم السبت (إذ من غير المفترض بهم أن يعملوا في يوم عطلة). كثيراً ما يربط الإنجيلي بصورة غير وثيقة الحوادث الواردة بواسطة الكلمات “و” “للوقت” وغيرها. لا يهمه إعطائنا برنامجاً يومياً لنشاط يسوع لكنه ينتقي من تقليد الكنيسة الغني بعض التعاليم وبعض العجائب رابطاً إياها ليس بالضرورة زمنياً أو مكانياً بل بالأحرى لاهوتياً. كل ذلك بغية أن يعرّفنا على يسوع، على معنى شخصيته وعمله من أجل الكنيسة.

إن الرواية الحاضرة تحصل على كل حال في الصباح التالي، “وفي الصباح الباكر جداً” يترك يسوع البيت. يلتجئ إلى مكان قفر ليصلي. ربما افترض أن نشاطه خلال النهار السابق قد قاد الشعب إلى فكرة اعتباره المسيّا المنتظر السياسي الوطني، فأراد أن يهرب من سوء الفهم هذا لرسالته. وقد حاول بطريقة تربوية تدريجية أن يُظهر صفته كمسيّا روحي، ولذا تجنب مظاهر الشعب الباهرة. ربما كان يحسب سكان كفرناحوم راغبين في وجود مثل هذا الرجل الصانع العجائب دائماً معهم. ولذلك قال لسمعان وللذين جاؤوا يطلبونه: عندي رسالة يجب أن أوصلها إلى قرى أخرى وهي الكرازة بملكوت الله. ويلاحظ الإنجيلي في الآية الأخيرة (39) أنه كان يكرز في مجامع الجليل كلها وكان يحرر الناس من الشياطين المتسلطة عليهم. لم يكن كارزاً وصانعاً للعجائب في مدينة واحدة بل لشعب الله كلّه. وبأعمال أخرى سوف يبرهن أنه المخلص لا لشعب واحد بل لكل الناس.

شفاء الأبرص:

“40 فَأَتَى إِلَيْهِ أَبْرَصُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ جَاثِيًا وَقَائِلاً لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي» 41 فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ وَقَالَ لَهُ:«أُرِيدُ، فَاطْهُرْ!». 42 فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَطَهَرَ. 43 فَانْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ، 44 وَقَالَ لَهُ:«انْظُرْ، لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئًا، بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُمْ». 45 وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَابْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيرًا وَيُذِيعُ الْخَبَرَ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِرًا، بَلْ كَانَ خَارِجًا فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ، وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ.” (مرقس 1: 41-45، متى 8: 1-4، لوقا 5: 12-16).

تتكلم حادثة شفاء الأبرص هنا أيضاً عن خبر انتشار شهرة يسوع في صنع العجائب. إن تظاهرات الشعب الكبيرة جعلته يتحاشى الدخول إلى المدينة علناً بل كان يمكث في أماكن مقفرة، ومع ذلك كانوا يأتون إليه “من كل ناحية”. والأرجح هنا أن غاية الإنجيلي ليست في رواية شفاء أحد المرضى بل في إبراز صدى مثل هذا الشفاء عند الشعب.

لا يحدد الإنجيلي أين حصل شفاء الأبرص ولكن حسب رواية متى المشابهة يقع الحدث بعد نزول يسوع من الجبل حيث تمت الموعظة، وحسب رواية لوقا: “وكان في إحدى المدن”. وعدا ذلك يتكلم لوقا عن شفاء عشرة برص (لوقا 17: 12-19).

يوصف البرص في الفصول 13 و14 من سفر اللاويين ويميز في الربّانيون شكلين: البسيط والصعب. فقد كان وضع الأبرص في مجتمع ذلك العصر مأساوي، لأنه كان يحرّم عليه أن يتصل ببقية الناس. وكان يعتبر مرضه عقاباً من الله بسبب خطاياه، وساد الاعتقاد أن شفاء الأبرص صعب جداً كعملية إقامة الميت. ولكن خلافاً لموقف الجميع وخاصةً الربّانيين الذين كانوا يهربون من البرص “مدّ يسوع يده ولمسه” (آية 41) ومن الملاحظ استعمال الإنجيلي لكلمة “فتحنن” (4). إن يسوع أمام خليقة الله “الحسنة جداً” والمتسلط عليها الشيطان يشعر بالشفقة ولا تأتي عجيبته نتيجة لها. إنه كمسيا يحرر الناس مما فعل الشيطان بهم من سوء ويمنحهم صحتي النفس والجسد.

وللحال بعد الأمر القاطع “أريد فاطهر” تحرر المريض من البرص و”طهر”. ويوصي يسوع الذي شفاه بأن يري نفسه للكاهن حتى يأخذ منه الأذن للانضمام من جديد إلى الجماعة بعد أن يقدم حسب شريعة اللاويين (13: 49، 14: 2-32) ذبيحة التطهير. وكذلك يوصيه بألا يقول شيئاً عن الحدث. لكن هذا الأخير لم يستطع أن يحفظ الوصية “فأخذ ينادي كثيراً ويذيع الخبر”.

ويبدو من العجيبة الحاضرة ومن غيرها كثيراً أن يسوع يمنع الذين شفاهم وبلهجة قاسية من أن يتكلموا عنه أو عن الحادثة. في بداية هذا القرن كتب المفسر Wrede كتاباً شهيراً: “سرّية المسيّا في الأناجيل“، يؤكد فيه أن مثل هذا الموقف ليسوع، خاصة عند مرقس، يعود إلى أن يسوع لم يكن يعي مسيانتيه، وإن الجماعة المسيحية الأولى أخذت تؤمن لاحقاً بمسيانية المسيح. وفي إنجيل مرقس حسب رأيه، هناك صِدَام بين ضمير يسوع وإيمان الجماعة الأولى به.

لكن وجهة النظر الصحيحة هي أن “سرّية المسيّا” قائمة في الواقع في الأناجيل، لكن هذا الموقف يعود إلى خطة يسوع التربوية أمام اليهود المعاصرين له: يهرب من اعتباره كمسيّا عالمي سياسي ينتظره اليهود ويعتقدون أنهم رأوه في شخصه. يبتعد عن تظاهرات الشعب الحماسية (أنظر يوحنا 6: 14-15) لأنه ليس ذلك المسيّا بحسب معتقدهم. إن صليبه وقيامته سوف يظهران من هو المسيّا. من هنا ما يُدعى بسرّية المسيا ما هو إلا موقف تربوي يتخذه يسوع أمام اليهود معاصريه وليس ابتكار الكنيسة الأولى (5).


(1) في العهد القديم كان ينزل الروح القدس ويُمنح للآباء والأنبياء بصورة مؤقتة prosorinos، بينما يأتي الروح القدس ويُمنح للناس في العهد الجديد بصورة دائمة monimos.

(2) مثلاً متى 4: 24 (فأحضروا إليه جميع السقماء بأمراض وأوجاع مختلفة والمجانيين والمصروعين والمفلوجين فشفاهم).

(3) “روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين إلى الحرية…”.

(4) المخطوطة D تستعمل بدلاً منها كلمة “فغضب”.

(5) للمزيد حول “السرّ المسيّاني” راجع الفصلين الثالث والسابع من كتاب “المسيح في الأناجيل والكنيسة والنقد الكتابي الحديث” لمؤلفه Veselin Kesich، وتعريب الأب ميشال نجم… (الشبكة)

Facebook
Stare de nervozitate
Telegramă
WhatsApp
PDF

Informații despre pagină

Titlurile paginilor

Conținutul secțiunii

Etichete

ro_RORomanian
Derulați până sus