Facebook
Stare de nervozitate
Telegramă
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

هل تستطيع الحكمة أن تختار المواقف الصحيحة للحياة دائماً؟ نعم ولكن في الأحرار! كم من الناس امتلكوا الحكمة، فسليمان “الحكيم” ذاته وأبوه داوود الملك والمرنّم امتلكا من الحكمة الكثير، لكنّهما أخطأا. مهما كان الإنسان حكيماً إذا سقط تحت عبوديّة الأهواء عفواً أم عمداً عن معرفة أو عن غير معرفة يَصِرْ عبداً لها ويسقط من مرتبة السيّد إلى مصافّ العبيد ومن علوّ الحكماء إلى بقعة الجهلاء.

“الجهل” هو السبب الأوّل لارتكاب الخطيئة لأنّه عندما نجهل سبب سعادتنا ننقل مركز غبطتنا من الله إلى الشهوات. وهذا هو عدم الحكمة بعينه. لكن الحكمة غالباً ما تستيقظ. ولا يترك اللهُ عبيدَه الذين أحبوه، مهما ابتعدوا عنه “بجهل” أن تقودهم الأهواء والميول، وإنّما “يشاء عودة الخاطئ فيحيا”.

هذا ما يحصل مع كلّ إنسان وهذا ما حصل مع النبيّ داوود، ذاك الرجل الهائم بمحبّة الله، فقد تملَّكتْه الشهوة يوماً، من مشهد مفاجئ، فعطّلت فيه حكمتَه. وانقلب الملك الحكيم المحبّ لله إلى عبد خاضع “لشهوته” ونسي، بسكرى هواه، ناموس الربّ الذي كان لذّته وبه كان يلهج ليل نهار.

إذا تملّك الهوى قلبَ الإنسان أعمى بصيرته ودفعه إلى تحقيق رغبته دون وازعٍ من ضمير ولا من ناموس أو من محبّة أخويّة. هكذا أسقطت الشهوةُ داوودَ في خطيئة القتل أيضاً. فبينما كان هذا القلبُ عفيفَ الحبِّ لله انقلبَ إلى مرتع للرغبات، عندما لم يسيطر على حواسه الخارجيّة ولم يتيقّظ في طريقه مرّةً. وطمس الهوى، في قلب داوود، كلّ حسٍّ بالعدالة والرأفة وغطّى على كلّ ما جرى. وتناسى الملكُ العادلُ جرمه وفعله.

إلى أن أرسل الله نبيَّه “ناثان”، الذي طرح على الملك في “مثلٍ” قصة ظلمٍ؛ (كانت قصَّتَه عينها). فحكم داوود فيها بغضب إلهيّ وعدل، وللوقت قال له ناثان النبيّ: أنت هو الظالم أيّها الملك.

عندها أيقظ الغضبُ حكمةَ داوود النائمة ونزع عنه سيطرة الهوى وعماه. وانتفض النبيّ كالجريح فأسرع إلى إرضاء الله، فجاءت عباراتُه من أقوى كلمات التوبة التي عرفتها البشريّة.

إنّ “المزمور الخمسين” هو “صلاة التوبة”. كلّ الصلوات تحمل في طيّاتها “توبة”، لكن بعض الصلوات وخاصّة بعض المزامير تسمّى “مزامير التوبة”، لما تتحلّى به من عبارات حارّة وتنهّدات عميقة. صلاة النوم الكبرى، مثلها الصغرى تقريباً، تحتوي على أجمل هذه المزامير، أمّا المزمور الخمسون فهو قمّة هذه المزامير. لهذا ندرك سبب استخدامه المتواتر في الكنيسة بشكل مميّز عن سائر المزامير الأخرى. فبه تبدأ صلاةُ منصف الليل ويُعاد في السحر أيضاً وفي صلوات الساعات نكرّره، أضفْ إلى ذلك صلاة النوم، وهذا يوميّاً. ولعلّه المزمور الأوّل الذي يحفظه أغلب المؤمنين غيباً ويردّدونه.

الوقفة عند هذا المزمور الرائع والتأمّل فيه ضروريّان، لكي تنتقل الصلاة من الشفاه إلى الأذهان ومن ثمّ إلى القلب. عندما نصلّي يتوجّب علينا أوّلاً أن نفتح شفاهنا وأن نخصّص الوقت وأن نجد لها، إن أمكن، المكان. ثمّ بعد ذلك يُتطلَّب منّا أن نفهم بالذهن ما نقرأ وما نقول، أن نصلّي بذهننا، أن يحضر الذهن في الصلاة، وعندها لا بدّ من أن تنزل الصلاةُ إلى القلب وترويه.

(العنوان) في النهاية، مزمور لداوود، عندما دخل إليه ناثان النبيّ، بعدما دخل إلى بتشابع إمرأة أوريّ

يبدأ هذا العنوان بكلمة في “النهاية” أي يتكلّم عن الأخرويّات. فالمزمور ينتهي بتلك الدعوة أو النبوءة: “ولِتُبْنَ أسوار أورشليم”، فداوود النبيّ رغم خطيئته، كما سنرى في مجرى المزمور، لم يخسر روح الله كليّاً وبقيتْ لديه موهبة النبوءة. لهذا يقول في المزمور “وروحُك القدوس لا تنزعْه منّي”.

والآية (2) توجز تاريخ قصّة داوود مع خطيئته. الواضح أنّ داوود لم يتبْ بالبداية، بعد خطيئته على الفور، ولكن “بعدما” أي بعد زمن وفترة فاصلة. دخل عليه النبيّ ناثان، بل أرسله له اللهُ إليه بوقَ توبة، ليعود هذا القلبُ إلى يقظته وإلى هواه الحقيقيّ الصحيح، ليعود قلب داوود إلى محبّة الله وعشق إرادته فقط.

يقول فمّ الذهب، إنّ هذا المزمور “مفيد للخاطئ فعلاً، الذي أهمل خطيئته زمناً طويلاً ونام عليها”، فهذه كانت حالة داوود. إن هذا المزمور قادر، عندما نعرف جيّداً قصّته، أن يوقظ كلّ نائم أو مستسلم لخطايا قديمة أيضاً. التوبة لا تعرف حواجز زمنيّة. يكفي استيقاظ الضمير وأن نتطهَّر، ونُدخِل السلامَ الحقيقيّ إلى قلوبنا، وأن نتصالح مع الله. كما أنّ هذا المزمور مفيد أيضاً للمبتدئين في الإيمان، فهو “يعلّمهم ألاّ يسهوا وأن يتيقّظوا، وألاّ يتكاسلوا”، فهو يفيد الخاطئ لكي لا ييأس، والبارّ لكي يتيقظ دوماً ويسهر على خلاصه.

(1) ارحمني يا الله، كعظيم رحمتك، وكمثل كثرة رأفاتك امحُ مآثمي

هذه هي الصلاة الحقيقيّة، إنّها وقفةُ خشوعٍ أمام الله وطلبٌ لرحمته، إنّها الشعور الحقيقيّ بأنّي خاطئ، إنّها معرفة الذات والإقرار بالضعفات. لكن الجميل هنا في صلاة داوود، أنّه يستحلف الله لكي يرحمه كثيراً، لا على مقدار حرارة طلبه، فصلاته تبدو له في عينيه باردة وغير مستحقّة، ولكن يستحلفه بكثرة رحمته. أنا أخطأتُ كإنسان فأنتَ ارحمْني كإله. هكذا يشرح أغسطينوس المغبوط: إنّ مَن يشعر حقّاً بأنّ خطيئته جسيمة، يطلب رحمة عظيمة. لهذا مَن يُخطئ سهواً يشعر بشكل من الأشكال بأنّه يطلب مثلاً رحمة صغيرة من الله. أمّا مَن يشعر بأنّ خطيئته هي جرمه ومسؤوليّته أمام الله، يطلب رحمة عظيمة، بكلام آخر: يطلب بحرارة.

وهنا على غير عادته، ينادي داوود الله قائلاً “يا الله”؛ وهو الذي اعتاد دائماً أن يقول “يا الله إلهي”، وأن يكلّم اللهَ كأب وربّ شخصيّ. هنا يبدو أنّ ليس لداوود جرأة تنظر إلى السماء وتسمّي الربّ إلهها، رغم إيمانه ويقينه بذلك، لكن الخطيئة سرقت منه “دالّة” مناداة الله مضافاً إليه ياء المتكلّم. مَن اعتاد أن يقول “يا الله إلهي إليك أبكّر”، و”هم سقطوا أمّا نحن فباسم الربّ إلهنا نهضنا”، كانت له الدّالة والآن ها قد فقدها.

من عادة أشعار المزامير، إذ يشعر قلب المرنّم بأنّ الكلمات لا تعبّر، أن يتوسّع في الشرح. لذلك في بيت الشعر، الشطر الثاني يشرح الأوّل وذلك بأسلوبَين: إمّا بالإسهاب، أي يتابع المعنى ذاته بصور أخرى وكلمات موازية تشرح الشطر الأوّل؛ وإمّا أن يشرحه بصورة عكسيّة، أي أن يرفض نقيض الشطر الأوّل.

هنا في الآية (3) يسهب الشطر الثاني بشرح الأوّل، فيقول ارحمْني كعظيم رحمتك، ثمّ وكمثل رأفاتك امحُ مآثمي. وهذا ما يتبعه غالباً في هذا المزمور، فهناك يستحلف الله بعظيم رحمته وهنا ب “كثرة الرأفات”، هناك يطلب رحمته وهنا يطلب الغفران. أمّا في المزمور مثلاً ال 39، نراه يميل إلى الشرح بشكل معاكس. فيقول مثلاً: “بشّرتُ ببرّك في الجماعة العظيمة”، “هوذا شفتيَّ لم أغلقْهما”، “لم أكتمْ عدلك في وسط قلبي…”. فمعنى الشطر اللاحق يوضح السابق ولكنّه يستخدم المعنى المعاكس.

هنا إذن يطلب المرنّمُ رحمةَ الله كعظيم رحمته، ثمّ يسهب ويتابع: وكمثل رأفاتك امحُ مآثمي. “فالله رحوم ورأوف وطويل الأناة، ليس إلى الدهر يسخط ولا إلى الأبد يحقد”. تسمح رأفةُ الله لداوود بالتغنّي أكثر برحمته، فكما أنّ الله عظيم الرحمة هو كثير الرأفات.

هنا يستخدم داوود كلمة مآثمي. كلمات مثل: خطيئة وإثم وذنب، يتبدّل استخدامُها بالكتاب بشكل عفويّ. بشكل عامّ خطيئة هي كلّ خطأ،كان بمعرفة أو غير معرفة، طوعاً أو كرهاً. أمّا مسؤوليّة خطيئة عن أخرى فتختلف. فالإثم فهو ما يتمّ من الخطايا بمعرفة. الإثم هو التعدّي، أي أن يكسر الإنسان الوصايا التي يعرفها. وداوود هنا أَثِمَ مرّتَين إلى الله وناموسه؛ وهو يعترف هنا بإثمه وليس فقط يشكو خطأه، إنّه يقرّ بكامل ذنبه ومسؤوليّته “ولا يتعلّل بعلل الخطايا”.

(2) اغسلْني كثيراً من إثمي، ومن خطيئتي طهِّرْني

لا أطلب أن تمحو فقط مآثمي من سفر حكمك الأخير والرهيب، لستُ أرجو صفحاً عن ذنب اقترفته فقط، وإنّما أطلب أن تخلِّصني من خطيئتي التي كرهتها، امحُها ليس من سجلاّتك لكن من قلبي، انزعْها ليس من حسابك لكن من حياتي. لهذا يشرح النبيّ ذلك بصورة أوضح ويقول: “ومن خطيئتي طهِّرْني”، طهِّرْني من قروحي التي تؤلمني. هذه هي التوبة، كما يقول القدّيس اسحق السريانيّ، هي أن نكره خطيئتنا. جاء المسيح لينزع الشرَّ من جذوره، وليس ليمحو مجرّد سهوات. لنتطهَّر لأنّ أنقياء القلوب فقط سوف يعاينون الله. وكلمة “طهِّرْني” أقوى من “اغسلْني”. أي اغسلْني حتّى أطهُر. لا تُبْقِ فيَّ ولا أثر لحبّ خطاياي.

(3) لأنّي أنا عارف بإثمي، وخطيئتي أمامي في كلّ حين

كان داوود ملكاً، ورغم كثرة المشاغل ورفعة المجد وزهوة المركز وعنفوان السلطة، فإنّ كلّ ذلك لم يجعلْه يسهو وينسى خطيئته. “إنّي عارف بإثمي”، أَيوجد اعتراف أعظم من هذا؟

ولستُ فقط أقرّ وأعترف بأني أثمتُ فعلاً، بل إنّني أتذكّر خطيئتي على الدوام، ليل نهار أتذكّر جسامة خطيئتي. هذه هي “التوبة الدائمة”. إنّ المسيحيّ ينسى أتعابه من أجل المسيح ويتذكّر خطاياه. عندما يقول بولس: “أنسى ما خلفي وأمتدّ إلى ما هو أمامي”(13)، لم يقصد أنّه ينسى خطاياه، وبالأخصّ اضطهاده السابق للمسيحيّين، وإنّما أنّه ينسى أتعابه فهو بقي دائماً يسمّي ذاته “سقطاً” وآخِرَ الرسل وليس أهلاً ليُدعى رسولاً “لأنّي اضطهدتُ كنيسة المسيح”(14)، هذه كلُّها يتذكّرها دائماً، وهي أمامه في كلّ حين، لكنّه ينسى “ميتاته”: أنّه جُلد من اليهود خمس مرّات، أنّه ضُرب بالعصي، أنّه رُجم وانكسرت به السفينة ثلاث مرّات. ينسى اتعاب أسفاره والأخطار التي أحدقت به واللصوص، ينسى التعب والكدّ والأسهار والجوع والعطش والأصوام والبرد والعري وعدا ذلك أيضاً تعب الاهتمام بالكنائس واحتراقه عندما كان يسقط البعض أو يضعف آخرون، ينسى ما مضى، ولو أنّه بات – كما يقول لأهل فيلبّي- يشتهي أن ينتقل إلى المسيح(15)، ويمتدّ إلى الأمام وكأنّه لم يتعبْ بعد من أجل المسيح. في رسالته هذه إلى أهل فيلبّي يبدأ بولس الرسول بتذكير أحبّائه بقيوده وبحسد الآخرين الذين زادوا على وثقه ضيقاً(16)، لكنّه هو يفرح بالربّ وبالأتعاب التي تمّت من أجله، هذه الأتعاب هي فرحه وكنزه وينسى ما وراء ذلك ويمتدّ إلى الأمام(17)، لأنّه “يسعى” ولن توقفه قيود ولا عذابات. “كونوا متمثّلين بي” يتابع بولس الرسول(18).

هذا ما يعلّمه القدّيس سلوان الآثوسيّ: “اجعلْ ذهنَك في الجحيم ولا تيأس”. خطيئتي أمامي في كلّ حين ولكن لا أيأس وإنّما أُسرِع في السعي. تذكُّر الخطايا لا يعني استسلاماً لها أو يأساً بسببها، ولكن يقظةً دائمة وتواضعاً أمام الله مستمرّاً. وهذا هو معيار التوبة الدائمة ومقياسها. إنّ الله على لسان نبيِّه أشعياء يوضح لنا أن الاعتراف بالخطيئة هو سبب غفرانها “أنا الماحي ذنوبك… وخطاياك لا أذكرها، ذكِّرْني (بخطاياك) فتتحاكم. حدّثْ أنتَ لكي أبرّرَك أنا”(19).

(4) إليك وحدك أخطأتُ والشرَّ قدامك صنعتُ

هكذا وبّخ النبيّ ناثان داوود: لماذا فعلتَ الشرّ في عينَي الربّ وأفسدتَ كلماته(20)؟ خطيئة الإنسان تجاه قريبه هي نحو الله أيضاً وأوّلاً، فهي قبل كلّ شيء تعدٍّ على وصيّة الربّ: أحببْ قريبك كنفسك.

وحّد المسيحُ ذاته دائماً مع الفقراء والضعفاء: “ما فعلتموه بأحد هؤلاء الصغار فبي قد فعلتموه”. إنّ مَن يسيء إلى الابن بالفعل يخطئ إلى أبيه. لقد أخطأتُ بالفعل إلى الناس، يقول النبيّ داوود، إلى أوريّا وإلى امرأته، لكنّهم عبيدي! أمّا إليك فقد أخطأتُ قبل الجميع. الخطأ مع القريب هو تحدٍّ لك يا ربّ وتعدٍّ لوصيّتك وإساءة إليك قبل الجميع.

أخفيتُ الشرّ عن عيون الناس واقترفتُ الإثم بالسرّ مستخدماً مختلف الحبائل، لكنّه كلّه كان أمام عينيك اللتَين ترقبان كلّ شيء وتفحصان الكلى والقلوب. أمام وجهك أخطأتُ إليك ولم أستحِ.

يسمّي داوود النبيّ شروره وخطاياه بالمفرد “شرّاً” وذلك لأنّ الخطيئة الأولى تجلب الثانية وهكذا. عندما يميل الإنسان إلى “الشرّ”، ويبدأ بتجاوز الوصايا الإلهيّة فإنّ الشرّ يلد مضاعفاته، يكفي فقط أن نترك له الزمن الكافي. كلّ ما هو مخالف للوصيّة الإلهيّة ولا يخدمها هو “شرّ”. ومَن تَعَدَّى إحدى الوصايا صار متعدّياً لها كلّها.

§ لكيما تصدق في أقوالك وتتغلّب في محاكمتك

تشرح هذه الكلماتِ كلماتُ المزمور (142): “لا تدخلْ في المحاكمة مع عبدك، فإنّه لن يتزكّى أمامك أيّ حيّ”. لقد غلب اللهُ داوودَ بالمحبّة. أقام اللهُ داوودَ ملكاً عندما كان الأخير راعياً، وأعطاه وعوداً لا يستحقّها إنسان، ومجّده بأمجاد لا يحلم بها آخر. أمّا أنا، يقول النبيّ داوود، فلقد أظهرتُ عدم عرفاني للجميل. أنتَ صدقتَ بوعودك، أمّا أنا فقابلتُك بما لا يليق، لذا سوف تتغلّب في محاكمتك. في المحاكمة سوف تتبرّر أنت وسوف أُدان أنا. وأيّة مداينة تكون مداينتي أنا المضبوط بالخطايا! عندما ستحاكمني سأكون مستحقّاً عدلك. فأنا علّةُ محاكمتي وسببُها، أمّا أنت فمبرَّر وعادل بكلّ ما تصنع بنا.

(5) ها أنذا بالآثام حبل بي، وبالخطايا ولدتني أمّي

هنا يغوص داوود النبيّ إلى أعماق ذاته ويرى مقدارَ عتمة الأهواء الداخليّة وصعوبة المحيط الخارجيّ. فبعد أن “يعترف” بخطيئته ينظر إلى ذاته المجبولة بالشهوات وإلى عالمه الممزوج بالشرور. يتكلّم عن هذه الحالة “اللاطبيعيّة” السائدة اليوم. الحياة الطبيعيّة للإنسان هي تلك التي كانت بالفردوس. والحياة اللاطبيعيّة أو ما دون الطبيعيّة هي التي نحياها على أرضنا، هذه تتّصف بالآلام والموت والتعب وغدا عالمُها ملآناً شروراً. هذه لم تكن من قبل لكنّها دخيلة على حياة البشر. إنّها حالة ما بعد الخطيئة، لا بل يمكن تسميتها حالة الخطيئة لأنّها جاءت من الخطيئة ونتجت عنها. حتّى الولادة بالمخاض والآلام، كما هي الآن هي من حالة الخطيئة. يولد الإنسان من مولده في “عالم الخطيئة”. “بالخطايا ولدتني أمّي”. هنا يتكلّم داوود عن حياته كلّها الميّالة إلى الخطيئة والمحاطة بعالم يجرّ إليها. فداوود لا يستغرب كثيراً أنّه سقط ويعترف بأنّه خاطئ في دنيا خاطئة!

هنا لا يقصد النبيّ أنّ الحبلَ والزواجَ هما إثم وخطيئة، فإنّ الزواج مبارك؛ لكن يتكلّم عن اختلاط العالم بعناصر ما بعد الخطيئة. وكما يقول فمّ الذهب: “إنّ ما نتعلّمه من هنا ليس أنّ الجسد هو سبب الخطيئة أو أنّ الطبيعة هي دافع حتميّ إليها (وإلاّ لكنّا لا نستحقّ عقوبات)، وإنّما أنّ طبيعتنا والمحيط قابلان وميّالان للخطيئة بعد السقوط، وذلك بسبب أهوائنا وفساد العالم، لكنّنا نغلبها بحكمتنا وبأتعابنا، عندما تتّحد الحكمة مع الجدّ والتعب”.

(6) لأنّك قد أحببتَ الحقّ، وأوضحتَ لي غوامض حكمتك ومستوراته

هنا تظهر بالفعل توبة داوود الحقيقيّة: إنّي أعترف بكلّ ذلك وبخطيئتي وأجعلها أمامي كلّ حين، لأنّك تحبّ الحقّ ولا يفيد أمامك لفّ أو دوران أو إنكار، ولا يرضيك تبرير كاذبٌ للذات. أنا خاطئ وقد أخطأتُ. ولا يمكنني عندما آتي لمصالحتك أن أغيظك أيضاً بغشٍ وتبرير. أنا أذنبتُ، نعم، فارحمْني وسأقول الحقّ لأنّك هكذا تحبّ. وعلاوة على ذلك، فإني أعيّر ذاتي أيضاً وأوبّخها، لأنّني فعلتُ الشرّ عن معرفة وليس سهواً. فأنتَ سبق لك وكشفتَ للجميع ولي بالأخصّ خفايا حكمتك ومكنوناتها. لم أقترفْ خطيئتي جهلاً كمَن لا يعرف الناموس، بل عمداً وبمعرفة فأنا أعرف مبادئ الناموس وحتّى أيضاً أسراره وخفاياه، ورغم كلّ ذلك فقد أخطأتُ.

(7) تنضحني بالزوفى فأطهر، تغسلني فأبيضُّ أكثر من الثلج

بعد كلّ ذلك الاعتراف بالخطيئة ومعاينة العتمة الداخليّة والوسخ والبشاعة النّاتجة عن أعمال الظلمة ينظر داوود بثقة ورجاء إلى يدَيّ الربّ اللتَين سوف تغسلانه، لا بدّ، من إثمه.

“الزوفى” ترجمة لكلمة (υσσόπο) وهو نبات ذو قوّة تطهيريّة عاليّة ينظّف جدّاً. لذا يقول داوود، رغم كلّ ما وصلتُ إليه، لا بدّ أنّك سوف تطهّرني كما لو بالزوفى وسوف تعيدني أبيضَ كالثلج. كثيرٌ من الآباء مثل كيرلّلس الاسكندريّ وثيوذوريتوس وأثناسيوس الكبير، يرون بذلك نبوءة عن سرّ المعمودية المقدّس. والقدّيس إسيخيوس يراه رمزاً لعمل الروح القدس (الزوفى والتطهير).

(8) تُسمعني بهجة وسروراً، فتجذل عظامي الذليلة

إنّك يا ربّ ستسامحني، وسوف أتأكّد من ذلك عندما- حتماً- سوف تسكب في نفسي عوض هذه العَبَرات بهجةً وسروراً. أنت ستحوّل الحزن المنسكب فيَّ إلى بهجة وغبطة من عندك.

خطيئتي أتعبتْني، وحتّى عظامي صارتْ ذليلةً واتّضعتْ وكلّتْ تحت ثقل إثمي. فرِّحْني، أَعِد البهجة ليس فقط إلى نفسي المتألمّة لكن إلى عظامي المتوجّعة أيضاً، اغرسْ فرح غفرانك. وبلسِمْ بمرهم محبّتك وصفحك جراحَ نفسي ليجذل أيضاً لحمي وعظمي. بالطبع إنّ انتقال الأحاسيس النفسيّة إلى الجسد هو أمر طبيعيّ، لأنّه يدلّ على عمق تلك الأحاسيس.

بعض الآباء يرون بهذه الكلمات نبوءة أيضاً عن المسيح. وكأنّ داوود يطلب من الله أن ينقذ الإنسان ليس فقط من الذنوب المقترفة بحقّ الناموس، وإنّما أن يشفي حتّى العظم واللحم، وهذا ما تمّ بجسد المسيح القائم كبداية لقيامتنا. وكأنّ “تجذل عظامي” هي نبوءة عن قيامة الجسد التي ستحصل لأوّل مرّة مع المسيح. من هؤلاء الآباء الذهبيّ الفمّ وكيرلّلس الاسكندريّ.

(9) اعرضْ بوجهك عن خطاياي، وامحُ كلّ مآثمي

ها أنذا أجمع خطاياي وأعترف بها وأضعها أمامي، ولا يمكنها أن تخفى عن ناظرَيك، لكن أنت اصرفْ وجهك عنها. هذا ما يؤكّده المغبوط أغوسطين وما يقوله الذهبيّ الفمّ بالحرف: “اكتبْ وسجّلْ أنت خطاياك في كتاب الله، وهو سوف يمحوها. لأنّك إن لم تكتبْها أنت فلا يمحوها، وإنّما سيطلب المحاكمة عليها”. فالأحسن لنا أن نسجّلها نحن لتُمحى من فوق بدل أن نتناساها نحن وتسجَّل علينا إلى أن نواجهها أمام أعيننا في ذلك اليوم الرهيب (يوم الدينونة).

هذا ما يلظّي قلب داوود، أنّه أساء إلى مَن يحبّه، إلى الله. ولا يعرف كيف يرضيه ويسأل بخشوع مصالحته، أن يغضّ الطرف، أن يمحو الإثم، أن يُكثر الرحمات وأن يغسله. ويزيد كلّ شطر عبارة أخرى. فالمعاني تضيق عن أن تحتوي مشاعر الانسحاق وتحتمل حرارة التضرّع للمصالحة.

(10) قلباً نقيّاً أُخلقْ فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّدْ في أحشائي

القلب، المقصود هنا ليس العضو الجسديّ بالطبع! سأل المسيحُ مرّة: “لماذا تفكّرون بهذا في قلوبكم؟”(21)، فالقلب هنا مركز الأفكار. مرّات يعني القلبُ: الإرادةَ، والقرارَ، والميلَ، والرغبة الذاتيّة، كما جاء على لسان أشعياء النبيّ: “هذا الشعب يكرمني بشفتَيه أمّا قلبه فبعيد عنّي”(22). مرّات أخرى يعني القلبُ: الرضى، والسرور، والقبول: “فوجد الله داوود بن يسّى رجلاً حسب قلبه الذي يصنع كلّ مشيئته”(23).

القلب هو مركز الكيان الإنسانيّ، الإرادة والرغبات، وهنا كلمة قلب يمكن تفسيرها ب”نفس”، أي طهِّرْ نفسي واجعلْها نقيّة. “اخلقْ” هنا لا تعني أنّه يطلب شيئاً غير موجود- وهذا ما يؤكّد عليه القدّيس باسيليوس الكبير- وإنّما كما يقول القدّيس كيرلّلس، اخلقْ هنا يعني جدِّدْ وأصلحْ. فقلب داوود ونفسه كانا نقيَّين لكنّه ملأهما هو فساداً وأفسدهما، والآن يطلب إلى الله أن يعيد فيه القلب والنفس إلى جمالهما الأوّل.

ويزيد داوود في طلبه فيسأل من الله روحاً مستقيماً. الروح المستقيم هو روح الحقّ، فالحشا هنا هو داخل الإنسان، أو بكلمة أخرى الإنسان الداخليّ. فاجعلْ يا ربّي روحي مستقيماً.كما أنّ القلب مركز الإنسان وشخصه فإنّ الحشا هو قرار أعماقه. هكذا يشرح طلبه بصورة ملحّة ومشابهة للأولى التي في الشطر الأوّل.

يؤكّد ثيوذوريتوس هنا أنّ المقصود ليس الروح القدس ولكن روح الاستقامة أي مفهوم العدل والحقّ والعقل السليم. كذلك القدّيس أثناسيوس يشرح الروح المستقيم بالضمير الحيّ.

(11) لا تطرحْني من أمام وجهك، وروحك القدوس لا تنزعْه منّي

كما طلب داوود من الربّ أن يصرف وجهه عن خطاياه، يطلب هنا الأمر عينه، يقول: إنْ نظرتَ إليَّ ورأيتَني غير مستحقّ بسبب إثمي لا تطردني خارجاً، لا تطرحْني من أمام وجهك، وروحك القدوس ونعمة النبوّة التي وهبتني إيّاها لا تنزعْها منّي. لا تنزعْ منّي روحَك القدوس ومواهبه التي كانت فيَّ. هكذا يشرح الذهبيّ الفمّ ويقول: “إنّي أطلب هذه النعمة وحضور روحك كما تعود النحلة إلى الزهر بعد غياب الدخان”. هذا لا يعارض الفكرة السابقة أنّ داوود لم يخسر كليّاً روح النبوءة بعد خطيئته وإنّما فعلاً خسره جزئياً. لأنّه إن هجر الروحُ القدس الإنسانَ كليّاً هلك لا محالة، وإنّما تنقصر نعمه عنّا عندما نعيق عمله فينا بخطايانا.

(12) امنحْني بهجة خلاصك، وبروح رئاسي اعضدْني

امنحْني يا ربّ السّلام الداخليّ، واطرحْ من قلبي عذاب الخطيئة، أعدْ إليَّ بهجة البرّ وانزعْ عنّي قلق الشرّ. أعطِني سلام الضمير وفرحه وبهجة الخلاص التي كانت لي قبل إثمي. كيف يشعر الإنسان بفرح الخلاص؟ عندما يشعر أنّ إلهه الخاصّ هو المبرِّر وهو المخلِّص، عندما يشعر أنّ له دالّة، رغم ضعفه، أن يكون في صفوف المخلَّصين، أي الذين يعترف بهم الإله المخلِّص عبيداً له.

واعضدْني يا ربّ بروح رئاسيّ، بروح الاستقامة. اجعلْ روحك القدّوس يعطيني قوّة عيش الفضيلة، اجعلْه يهدّئ جيشان أهوائي ويهبني روح الاستقامة، ويمنحني قوّةً أسيطر بها على ميولي للخطيئة. هبْني رئاسة الروح على الجسد، أعطِني السيادة التي منحتنيها قبلاً، سيادة الإرادة على الرغبات.

(13) فأعلِّمُ الأثمةَ طرقَك، والكفرةُ إليك يرجعون

قد يكون هذا البيت نبوءة عن دخول الأمم الكفرة إلى الإيمان عن طريق انتشار الإنجيل. ولربّما هذا الكتاب الذي سيبقى من داوود سيكون فعلاً تعليماً للأثمة بترانيمه الرائعة وصلوات التوبة الحارّة التي فيه.

القدّيس أثناسيوس يقول عن لسان النبيّ داوود: “إذ قد محوتَ مآثمي وأطلْتَ عليَّ أناتك وسكبتَ فيضَ رحمتك ولم تنزعْ روحك القدّوس منّي وها قد منحتَني بهجة خلاصك، فإنّي سأعلِّم بالطبع الكفرةَ الإيمان والأثمةَ التوبة. لا بل إنّ غفرانك وعودتي ستكون فعلاً درساً بليغاً في التوبة، وسيقودان كثيرين إليها”. هكذا يقول أيضاً إيسيخيوس: كما أنّ المريض يلجأ إلى دواء ما بثقة عندما يرى عليلاً مثله قد تناوله قبله وشفي، هكذا صارت توبة داوود درساً وحثّاً على توبتنا.

هكذا في أفاشين السّحر التي يتلوها الكاهن يقول الأفشين الثامن: “يا مَن وضعتَ لنا توبة داوود رسماً للتوبة…”. إذن يصرخ داوود: سامحْني يا ربّ وأظهِرْ فيَّ عظم رحمتك وسأكون أنا درساً ومثالاً للتوبة وبرهاناً على محبّتك ورحمتك، برهانٌ يقود الخاطئين إلى أن يعودوا ويتوبوا لئلاّ يهلكوا. لهذا كانت صرخة بولس مثالاً قويّاً أنّ المسيح “جاء ليخلّص الخطأة الذين أنا أوّلهم”. وهذا ما يعنيه بولس، أي إن كنتم لا تؤمنون أنّ المسيح يقبل الخطأة، فها إنّ مثالي يبرهن – على حدّ قوله – أنّه يسامح أكبر الخطأة الذين أنا أكبرهم والأوّل فيهم إذ قد اضطهدتُ قبلاً كنيسته.

(14) نجِّني من الدماء، يا الله إله خلاصي، فيبتهج لساني ببرّك

إذا أردنا أن نفهم النصّ بمعناه التاريخيّ، فالدّماء هنا، هي الدم المهدور ظلماً، دم أوريّا الذي قتله داوود. وكأنّ داوود يصلّي إلى الله أن ينجّيه من الوقوع ثانية بهذه الزّلة الرهيبة. تكرار اسم الله، “يا الله إله خلاصي”، يوضح شدّة تضرّعه. هنا يطلب داوود التائب من الله أن يعطيه القوّة لتمضية حياته الباقية في توبة بدون دماء. فحتّى التوبة ذاتها، هي من ناحية قرار وموقف شخصيَّين، لكن من ناحية أخرى تحقيقها هو بركة وهبة إلهيّتَين. فالذي يضمن توبتي هو إله خلاصي.

ويمكن فهم كلمة “دماء” بمعناها المجازي “شياطين”. والشياطين يرمز لها بالدماء لأنّها سبب القتل وتفرح به وبالشرّ.

بالطبع القلب الذي ينجو من الدماء ومن الشرور عامّة ويخلص منها لا تشغله هموم ولا تقلقه مخاوف الشرور وأعمالها ونتائجها، وإنّما تملؤه مشاعر التسبيح ويروح يشدو بعظائم الله ورحمته وببرّه، أي بالتبرير، أي بالمسامحة والغفران الذي ناله. القدّيس كيرلّلس يرى بكلمة “برّ” هنا المسيحَ ذاته. فداؤود كما بنبوءة يبتهج بالمسيح الذي صار به التبرير لنا وصار هو تبرير الله لنا وبرّنا أمامه.

(15) يا ربّ افتحْ شفتَيَّ، فيخبر فمي بتسبحتك

لقد صَمَتَ فمي من ألم الخطيئة، لقد سدّت هذه الأخيرة فمي عن أناشيده المعتادة. فسامحْني يا ربّ وافتحْ شفتيَّ بغفرانك لتسبّحانك من جديد كما كانتا. يا ربّ افتحْ لي أبواب التوبة لأعود إلى حياتي الأولى، إلى تسبيحك والتغنّي برحمتك.

(16) لأنّك لو آثرتَ الذبيحةَ لكنتُ الآن أعطي، لكنّك لا تسرّ بالمحرقات

هنا يتخطّى داوود كلّ الفاصل بين زمنه وزمن العهد الجديد، فيتجاوز الفرائض الناموسيّة كأنّه يعبد الله بالروح والحقّ(24). إنّ ذبيحتَه هي تسبحتُه وشكرُه وصلاته وتوبته، لا يشتري غفران الله بالذبائح لكن بالتوبة الصادقة أي بكره عميق للخطيئة. إنّك لا تبيع الغفران بذبيحة، فذبائح المحرقات ذاتها لا ترضيك، يقول النبيّ لله.

لقد كان عند اليهود عدّةُ أنواع من الذبائح كتقدمات للهيكل، فمنها ما كان يُذبح ويؤكل. أمّا أثمن الذبائح لله هي تلك التي كانت تقدَّم بكاملها لله، فكانت تُحرق كلّها ولا يؤخذ منها شيء البتّة. وحتّى هذه، أكرم الذبائح لا يُؤثرها الله وإنّما كما يتابع داوود في البيت اللاحق:

(17) فالذبيحة لله روح منسحق، القلب المنسحق والمتواضع لا يرذله الله

وما هو الروح المنسحق؟ إنّه قلبنا عندما ندينه ونحاكمه ويعترف فعلاً بذنبنا. الانسحاق يأتي من لوم الذات والوقوف أمام الله كمُحاكَمٍ منكسِر القلب. القدّيس باسيليوس الكبير يشرح ويقول: “انسحاق القلب هو طرد الأفكار البشريّة. فالمنسحق القلب هو مَن يعطي نفسه وعقله إلى التأمّل بالكلام الإلهيّ والذي يمنح ذهنه فرص الانشغال بالمعاني السامية والإلهيّة. هذا يجعل، فعلاً، قلبه ذبيحة مرضيّة لدى الربّ وغير مرذولة منه. فمَن يحبّه الله، ويحسن إليه ويريده أن يعيش في جدّة الحياة والروح، يسحق فيه إنسانَه القديم. لهذا فالذبيحة لله هي الروح المنسحق، أي ينسحق روح العالم العامل فينا كلّ خطيئة لكي يتجدّد في أحشائنا روح مستقيم…”.

القدّيس مرقس الناسك يقول: “بدون انسحاق قلب لا يمكننا التخلّص من خطايانا. وما يسحق القلب هو ضبط النوم والمعدة وعدم الكسل في الراحة”. انسحاق القلب بكلام آخر هو الفقر بالروح. والفقير بالروح هو المتواضع، الذي إذا ما عمل خيراً لا يترفّع لأنّه يذكر خطاياه على الدوام وهي أمامه كلّ حين. على العكس، إنّ قساوةَ القلب هي من الكبرياء ومن حبّ الدنيويّات والمراءاة والكذب. لهذا يقول النبيّ: “يا بَني البشر لماذا أنتم ثقيلو القلوب، إلى متى تحبّون الباطل وتبتغون الكذب؟”. هكذا يسمّي المغبوط أوغسطين دموع الصلاة، عرق القلب ودم النفس. مَن يَبْكي خطاياه هذا يقدّم الذبيحة الحقيقيّة لله.

(18) أصلحْ يا ربّ بمسرّتك صهيون، ولتُبْنَ أسوار أورشليم

أنتَ صالح يا ربّ، وشهوتي ليس فقط صفحَك عن مآثمي، وإنّما أن تنظر من السماء وتطّلع على الكرمة التي غرستها يمينُك وتصلحها، لأنّه لا يمكنها أن تنصلح إن لم ترضَ أنت عن ذلك وتسعَ أنت إليه. هنا يطلب داوود بإلحاح ولكن بانكسار، ويقول “ولتُبنَ” بدل “وابْنِ أسوار أورشليم”. هكذا يشدّد على الطلب برجاء وليس بأمر. طبعاً أورشليم هي مدينة الله وشعبه، وأسوارها المبنيّة هي صحّة وقوّة كنيسته.

(19) حينئذ تسرّ بذبيحة البرّ قرباناً ومحرقات، حينئذ يقرّبون على مذابحك العجول

لقد تحقّق طلب داوود السابق وهذا الأخير، تحقّقا بالفعل عندما بنى الربّ كنيسته وأصلح أسوارها، وصار يُسرّ بذبيحة البرّ، أي بجسد ودم ابنه اللذَين يؤكلان فيقدِّسان المشتركين بهما. هذا هو القربان الحيّ والحمل الذبيح.

في هذا المزمور رأى كثير من الآباء القدّيسين تلميحات إلى المسيح وكنيسته، مثل كيرلّلس وإفسابيوس. فمسرّة الله هو المسيح، المخلّص. أمّا صهيون فهي الكنيسة. أسوار أورشليم هم معلّمو الكنيسة المستقيمو الرأي وأعمدتها وأساقفتها، أو أيضاً الملائكة السماويّون. وذبيحة العدل في كنيسة المسيح ليست ذبائح حيوانيّة وإنّما هي حياة المسيحيّين، أي الفضيلة. القربان والتقدمات تقابل عذابات القدّيسين والمعترفين. أمّا المحرقات فهي الشهداء الذين قرّبوا كلّ ذواتهم وكامل حياتهم في سبيل الإيمان. أيضاً قربانٌ في الكنيسة هو العفّة أو أي تضحية حياتيّة في مسلكيّتنا اليوميّة مهما كانت. أمّا المحرقات فهي الفضيلة الكاملة أي الحياة الرهبانيّة، (كما يشرح ثيوذوريتُس).

العجول هم المسيحيّون الذين يعملون الفضائل، هؤلاء يصيرون سمناءَ بدهن الروح القدس لأنّهم يناطحون الأهواء والشيطان يعرف إيمانهم، هؤلاء يقدمون نفوسَهم على المذبح السماويّ ذبائح تصير رائحة زكيّة، آمين.

 

 


(12) حاشية مرتبطة بالعنوان: يُتلى هذا المزمور في صلاة نصف الليل، السحر، الساعة الثالثة، النوم الصغرى والكبرى.

(13) فل 3، 13.

(14) أنظر: 1 كور 15، 8-10.

(15) فل 1، 23.

(16) فل 1، 6.

(17) فل 3، 13.

(18) فل 3، 17.

(19) أش 43، 25-26.

(20) 2 ملوك 12، 9.

(21) لو 24، 38.

(22) 29، 13.

(23) أع 13، 22؛ 1 ملوك 13، 14.

(24) يو 4، 23-24.

Facebook
Stare de nervozitate
Telegramă
WhatsApp
PDF
ro_RORomanian
Derulați până sus