هو أحد الأصوام الكنسيّة المعبّرة جداً التي تطلبها الأرثوذكسية من جميع المؤمنين (باستثناء المرضى والأطفال) في كلّ مرّة يتقدمون إلى “شركة الكنيسة” (المناولة)، ليفهموا، بأكثر عمق، طبيعة كيانهم المتوثّب إلى الأبد، ويختبروا “الآن وهنا” بعض ما سوف يذوقونه في فرح الملكوت الآتي.
ولا أبغي الإساءة إلى ضمير أحد، أو المفاضلة ما بين قبولِ نِعَمِ الله المقدَّمة بوفرة في اجتماع الحقيقة (القداس الإلهي) وبين التهيئة لها، إذا أوحيتُ أن إهمال هذا التقليد وشيوع التبريرات التي تخالف الحقّ، هو انحراف رديء -وتشويه لمتطلّبات الالتزام- يدينها، بقوّة، تعليم الكنيسة الذي شهد له القدّيسون، بأمانةٍ، في كل جيل.
لا يحتاج المدقّق في التاريخ الكنسي إلى كثير من العناء ليعرف أصالة هذه المسلّمة الإلهية. نقرأ في كتاب “التقليد الرسولي” المنسوب إلى هيپوليتس (+236): “ليحرص جميعُ المؤمنين على أن يتقبّلوا الإفخارستيا قبل أن يتذوّقوا أيّ شيء. لأنّ الذي يتقبّلها بإيمان لا يصيبه ضرر البتّة… لأنّها هي جسد المسيح الذي يجب أن يأكله المؤمنون ولا يجب احتقاره” (32). هذا ما زكّاه آباء كثيرون، ونورد هنا قولاً رائعاً لأغسطينُس المغبوط، لعلّه نطقه في ما كان يواجه بعض الذين انحرفوا عن التعليم القويم، إذ قال: “إنه من الأمور الواضحة أنّ التلاميذ عندما تناولوا جسد الرب ودمه لأول مرّة لم يكونوا صائمين. فهل يجيز لنا هذا أن ننتقد الكنيسة الجامعة لأنّها لا تجيز، في أيّ مكان، أن يتناول هذا السرّ إلاّ من كان صائماً؟ لا على الإطلاق. لأنّ الروح القدس شاء منذ ذلك الحين أن يحدّد أنّه تكريما لسرٍّ عظيمٍ كهذا يجب أن يؤخذ جسد الرب قبل كلّ طعام يتناوله المسيحي بفمه…” .
بيد أن القاعدة التي أرساها الرب يسوع هي متّكلنا الأول، لأنّها تردّنا إلى أساس معنى هذا الصوم -وكلّ صوم- والفائدة الروحية التي يجتنيها مَن يلتزم به، وأعني قوله المبارك: “هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم، ولكن ستأتي أيام حين يُرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون” (متّى 9: 15). ونرى أن هذا التعليم الإلهي الذي حفظه التراث الحيّ واستفاد من وجوهه المتعدّدة، يتحقّق في هذا الوجه الذي نعالجه اليوم، وذلك لأنّ “الصوم الإفخارِستي” (الصوم قبل المناولة) الذي يختبر فيه المؤمن غياب العريس الإلهي (وهو الشعور الذي ينمّيه الرب في أتقيائه ليطلبوه بقوّة أكبر)، يقطعه حضور الرب والاتّحاد به الذي يتمّ في يوم عرس الحَمَل، لمّا يخطب الربُّ ودَّ الكنيسة بكلمة الإنجيل، كما أوحى العلاّمة أوريجانس، ويقترن هو نفسه بها إذا ما سكب فيها جسده ودمه.
ينطلق الأب أَلكسندر شميمن في كتابه “الصوم الكبير” من هذه القاعدة الإنجيلية التي أوردناها أعلاه، لمّا يتحدث عن هذا “الجوع الى الله” (الصوم قبل المناولة)، ويُدْرجه بين أنواع ما يسمّيه ب”الصوم الكلّي” (وهو الصوم الذي “يقوم علي امتناع كلّي عن الشراب والطعام”، امتناع تقتصر مدّته على فترة قصيرة “يوم أو جزء منه”)، ويؤكد أن الإفخارستيا تطلبه “وتتوافق معه”. ويعود الأب شميمن الى تعابير الكنيسة القديمة وكنوزها فيكشف اسماً خاصاً عُرِّف به هذا النوع من الصوم، بقوله إنّه “التأهّب”، فيعطينا به، من جهة، أن نفهم أكثر طبيعة هذه الممارسة ومعناها الواسع فلا نهتم لما هو زائل، ويجعلنا، من جهة ثانية، أن نتماسّ والكنيسةَ الأولى التي كانت تنتظر الربّ يسوع الذي “يأتي إليها في الإفخارستيا” والذي سيأتي بغتة “في آخر الأزمنة” لنكون بذات رصانتها وعمقها الروحي وتيقّظها (راجع مرقس 13: 33-37) .
ولعلّنا لا نزيد شيئا على فهم الفاهمين إنْ قلنا إنّ هذا الصوم هو “الصحراء” التي تطلب الكنيسة من المؤمنين المرور فيها قبل الدخول إلى أرض الموعد (يسوع المعطى لنا في الكأس المقدسة). ولذلك مَن أدركَ أنّه واحد وشعب الله المرتحِل إلى الراحة الأبدية، واختار هذا العراء الطيّب، والتَحَفَ بالطاعة والفهم والحب، له أن يهرب ممّا يردّده بعض العامة والغرباء -وأعني الذين شرّعوا أبوابهم لكلّ ريح مضادّة (يقولون مثلاً: إن هذا الصوم “وصفة قديمة جوفاء”؟!)، وأهملوا ما أوصى به الروح الإلهي وأجمع على منفعته القدّيسون، وشوّهوا مَعالمه- لئلا يتيه وتأكله رمال الصحراء.
هذه الوسيلة -وغيرها ممّا ينفعنا ويربّينا (الصلاة ومصالحة الإخوة…)- يقيّد بها البارُّ نفسَه قبل أن يدنو من “النار الإلهية” (المناولة)، لتكون حياته كلّها تعبيراً عن انتظاره للرب الآتي، وتالياً ثماراً لحضوره البهي والاتّحاد به.
عن نشرة رعيتي 1998، بتصرف