“ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي”
(يوحنا 15:26)
لا يّدي أحد بأن الرباط الثقافي والحضاري واللاهوتي بين الشرق والغرب كان في أوج مجده في أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر عندما حدث الانشقاق البغيض بين الكنيستين الشرقية والغربية، بل على العكس كان بُعدٌ ثقافي وحضاري يسود نتيجة اندثار الإمبراطورية الرمانية في الغرب وحلول إمبراطورية شارلمان الإفرنجية ( 800 م) وإمبراطورية اوتون(Otto) الجرمانية ( 955 ) مكانها، وفرضهما اللغة اللاتينية على جميع الشعوب المتنصّرة الخاضعة لسيطرتها كلغة رسمية مقدسة، ونتيجة الفتح العربي الذي سيطر على معظم بطريركيات الشرق، إلى أن جاءت قضية إنبثاق الروح القدس من الآب والإبن وإضافة الكنيسة الغربية عبارة “والإبن” (Filioque) على دستور الإيمان النيقاوي – القسطنطيني، فكانت هذه القضية الشعرة التي قسمت ظهر الكنيسة والشرارة التي أشعلت الخلاف بين الشرق والغرب.
السؤال الذي يطرح نفسه هو الكلمة “والإبن” إلى دستور الإيمان رغم أن المجمع المسكوني الثاني لم يذكرها علمًا أن السلطة الوحيدة التي تستطيع تغيير أي شيء في قرارات المجامع هي مجمع مسكوني، وهذا لم يحصل أبدًا باعتراف الكنيسة الكاثوليكية نفسها.
حافظ الشرق والغرب في البداية على إيمانهما بانبثاق الروح القدس من الآب فقط حسبما أعلن المجمع المسكوني الثاني. حتى أن المجمع المسكوني الثالث ( 431 ) يرشق بالحرم أي إنسان يعترف بإيمان آخر لا يتطابق مع إيمان المجامع السابقة، وقد جدّد المجمعان الرابع ( 451 ) والخامس ( 681 ) هذا الحرم.
كذلك أعلن القديس كيرلس الإسكندري (القرن الخامس) أن من يُسقط أو يزيد أي شيء على دستور إيمان الكنيسة الجامعة فكأنه يعاند الله.
ويبدو أن الآريوسية لم يُقضَ عليها في إسبانيا إذ نشأت حوالي السنة 400 فكرة انبثاق الروح القدس من الآب والإبن بسبب حاجة اللاهوتيين إلى التشديد على حقيقة الأقانيم الإلهية وتساويها في الجوهر. وكانت أيضًا قد برزت بدعة البريشليانيين(نسبة إلى Priscilien أسقف Avila في إسبانيا) التي عّلمت من ضمن أمور عديدة القول بأقنوم أوحد الثالوث. تسربت هذه الإضافة إلى مجمع Toledo الثالث في إسبانيا عام 589 ردًا على هراطقة آريوسيين من شعب الغوط المتنصرين.
جاء في القانون الثالث من هذا المجمع أن كل من لا يعترف بالإنبثاق من الآب والإبن معًا يُقطع. فأمر الملك روكارد، وكان حديث الارتداد عن الآريوسية، بإدخال هذه الصيغة في دستور الإيمان النيقاوي القسطنطيني. وأقر هذه الزيادة مجمع طليطلة الرابع عام 633 .
يقول بول أفدوكيموف في كتابه “الروح القدس في التراث الأرثوذكسي” (صفحة 54 )”لقد كانت هذه الصيغة مفيدة بشكل مؤقت في نطاق محاربة آريوس الذي كان يرفض ألوهة المسيح، وبالتالي السعي إلى تأكيد المساواة الجوهرية بين الآب والإبن، بمعنى أنه إذا كان الروح القدس ينبثق من الاثنين معًا، فمن الواضح أن الإبن مساوٍ للآب وهو من جوهر الآب”.
تسربت هذه الزيادة إلى فرنسا وحمل رايتها الإمبراطور شارلمان ودافع عنها بقوة، فعقد مجمعًا في اكس لا شابل عام 809 بهدف حرم الإمبراطورية البيزنطية، وثبت فيه إنبثاق الروح من الآب والإبن، بالرغم من معارضة البابا لاون الثالث الذي رفض ذلك وتمّنع عن تلاوة الإضافة في القداس الإلهي ونقش دستور الإيمان دون الإضافة على لوحتين من الفضة باللغتين اليونانية واللاتينية وأمر بتعليقهما على مدخل كنيسة القديس بطرس في روما مع الحاشية التالية”هذه كتبتها أنا لاون حفاظًا على الإيمان الأرثوذكسي”.
غير أن الصيغة الجديدة عمّت فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وآلمانيا (حيث القبائل الجرمانية).
في الشرق، لم يظهر الإهتمام بهذه القضية إلا من زمن البطريرك فوتيوس القسطنطيني (القرنالتاسع)، ولم يسمع عنها إلا عبر جدالات بين رهبان الأفرنج ورهبان دير القديس سابا في القدس، ولأن الباباوات كانوا ضدها حتى بداية القرن الحادي عشر، حين خضعوا لسلطة الأباطرة الجرمان. وقد عقد البطريرك فوتيوس مجمعًا في القسطنطينية عام 879 رفض فيه كلمة “والإبن”.
الغرب، ومنذ عهد أوتون الأول (Otto I) (936-973) مؤسس الإمبراطورية، الذي استولى في عام 951 على إيطاليا، حصلت ضغوطات شديدة على الباباوات أدت في الأخير إلى إستقالة آخر بابا روماني أرثوذكسي يوحنا الثامن عشر، وإنتخاب أول بابا جرماني سرجيوس الرابع ( 1009 ) الذي تلا هذا الدستور مع الإضافة، فحذره بطريرك القسطنطينية سرجيوس، ولما لم يقبل حَذّفه من لائحة الأساقفة (الذيبتيخا- Dyptiche) في القسطنطينية، وسانده بطاركة أورشليم وأنطاكيا والإسكندرية، فحصلت القطيعة بين الشرق والغرب. في العام 1014 جاء الإمبراطور هنري الثاني إلى روما لكي يتوّجه البابا نيكيتوس الثامن، ففرض الطقس الجرماني، وأنشد دستور الإيمان مع الإضافة للمرة الأولى في كنيسة القديس بطرس، وُنزعت اللوحتان اللتان عّلقهما البابا لاون الثالث. ثم ارتضى مجمع لاتران الزيادة عام 1215 في عهد البابا اينوكنثيوس Inoocentالثالث، وكرسها نهائيًا مجمع ليون الإتحادي عام 1274.
أما القطيعة النهائية بين الشرق والغرب فقد حصلت في 16 تموز من العام 1054 عندما دخل موفد البابا لاون، الكاردينال همبرتو(Humbert) ووضع على مذبح كنيسة الحكمة الإلهية حرمًا للبطريرك ميخائيل القسطنطيني اثر بعض الإشكالات حول بعض أبرشيات إيطاليا وبعض العادات اللاتينية كاستعمال الفطير والصوم يوم السبت إلخ …
إذًا، من المهم جدًا الوعي بأن الخلاف حول قضية إبنثاق الروح القدس في القرون العشرة الأولى لم تكن بين الكنيستين الشرقية والغربية، أو بين الرومان الشرقيين والغربيين، بل بين رومان الغرب والشرق من جهة وبين الأفرنج والجرمان الذين تبنوا هذه العقيدة الجديدة وفرضوها في الأخير على الباباوات في روما.
الكنيسة الشرقية رفضت الإضافة لسببينأولهما لأن قرارات المجامع المسكونية لا يمكن تعجيلها إلا بقرارات مجمع مسكوني آخر، وهذا لم يحدث على الإطلاق. والثاني والأهم لاهوتي. فاللاتين، بحسب البطريرك فوتيوس في كتابه “المدخل إلى الروح القدس”، ينطلقون من الجوهر الإلهي ويعتبرونه وحده الجوهر كانوا يتحدثون عن الصلة بين الأقانيم، في حين أن أهل الشرق كانوا ينطلقون من التمايز القائم بين الأقانيم ومنه يفحصون وحدة الجوهر، وهكذا فإن التعليم بأن الروح القدس منبثق من الآب والإبن معًا هو مجرد نتيجة لعقيدة التساوي في الجوهر بينهما، وبذلك يضعف اللاتين “وحدة الرئاسة” التي للآب ويضحون تاليًا بتمايز الأقانيم في سبيل “وحدة الجوهر المشتركة”. يقول فوتيوس”ان القول بأن الآب علة الإبن وأن الآب والإبن معًا علة الروح يوجب أن يكون الآب والإبن والروح علة لأقنوم رابع …”. الخوف من القول بالإنبثاق من الآب والإبن هو أن يكون لدينا مصدران للألوهة وهكذا ندخل في الشرك وتعدد الآلهة.
ربما كان كلام القديس يوحنا الدمشقي التالي أوضح تعبير عن وحدة جوهر الثالوث مع تمايز الأقانيم، إذ أن الأقانيم الثلاثة متساوون في الجوهر من حيث الألوهة، ولكنهم متمايزونالآب مصدر الألوهة، الإبن مولود، والروح منبثق”نؤمن بآبٍ واحد، مبدأ الجميع وعّلهم، لم يلده أحدٌ وهو وحده أيضًا غيرُ معلول ولا مولود … وهومصدرُ الروح القدس … أما الروح القدس، فينبثق من الآب لا بالولادة بل بالإنبثاق … نؤمن أيضًا بالروح القدس الواحد، الربّ المحيي، المنبثق من الآب والمسجود له والممجّد مع الآب والإبن … منبثق من الآب وموهوب بالإبن فتناله الخليقة كلها. خال ٌ ق بذاته، يكوّن الكل ويقدّسه ويعتني به. قيّومٌ بأقنومه الخاص، غيرُ مفترق ولا منفصل عن الآب والإبن. له كل ما للآب والإبن عدا اللاولادة والولادة … أما الإبن فهو من الآب بالولادة. والروحُ القدس هو أيضًا من الآب، لكن لا بالولادة بل بالإنبثاق.
ونحن نعلم أن هناك فرقًا بين الولادة والإنبثاق لكننا نجهل كيفيّته. وإننا نعلم أيضًا بأن ولادة الإبن وانبثاق الروح القدس من الآب كانا معًا” (المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، الرأس الثامن، المقالة الثامنة).
صاحب السيادة
المتروبوليت يوحنا منصور