لا يؤمن المعمدانيّون بتعليم الكنيسة المتعلّق بتجديد المؤمنين بالأسرار (1)، ولا سيّما سرّ المعموديّة. ولذلك سطّروا تعليماً غريباً لا يأخذ، في الاعتبار، حياة المؤمنين في المسيح والتزامهم أسراره وهباتها المقدّسة. هذا التطرّف المفجع يظهر، جليّاً، في كتابات المعمدانيّين طرّاً. فهم يعتقدون بأنّ خلاص الإنسان غير ممكن من دون تجديد، أو ولادة جديدة. وهذه، تعني، عندهم، “الولادة الثانية الروحيّة بنعمة الله”، التي “لا شيء يقوم مقامها”، “لا المعموديّة ولا العضويّة في كنيسة ما ولا إطاعة كنيسة ولا شيء آخر”. فـ”التجديد ليس المعموديّة”. “والطقوس والحفلات الدينيّة لا تجدّد، لأنّها خارجيّة لا تمسّ القلب ولا تغيّره” (روبرت أ. بايكر، سير المعمدانيّين في التاريخ، صفحة 15؛ فنلي م. جراهم، اللاهوت النظاميّ، صفحة 225- 229؛ عوض سمعان، الكهنوت، صفحة 36 و358- 361؛ بيلي غراهام، العالم يحترق، صفحة 182- 190).
هذا يؤكّده، جازماً، بلي جراهام، بقوله: “كثيرون يحسبون أنّهم يختبرون الولادة الجديدة حتماً، وبصورة آليّة، بمجرّد انتسابهم إلى كنيسة، أو إتمام بعض الطقوس الدينيّة، أو تقديم التبرّعات للمؤسّسات الخيريّة. هذه الأعمال حسنة، لكنّها لن تسبّب حدوث الولادة الجديدة” (سلام مع الله، صفحة 141). ومعنى ذلك أنّ الإنسان (كلّ إنسان) هو خاطئ بالضرورة، ولا يقدر على أن يجدّد ذاته بنعمة الأسرار، بل إذا “قَبِلَ المسيح بالإيمان والتوبة” (بيلي غراهام، كيف تصبح مسيحيّاً، صفحة 62- 68، 91 و92 و115؛ بلي جراهام، سلام مع الله، صفحة 137- 145؛ بيلي غراهام، العالم يحترق، صفحة 194). فـ”الولادة من الله تكون بواسطة كلمة الله وروح الله”. و”الماء”، في حديث الربّ مع نيقوديموس (يوحنّا 3)، يعني، عندهم، “كلمة الله” (عوض سمعان، الكهنوت، صفحة 361- 367). ولا يخفى على من قرأ كتاباتهم أنّ هذا التجديد، كما يفهمونه، يمكن أن يحدث إثر قراءة “عبارة من الكتاب المقدّس”، أو “سماع عظة” (بيلي غراهام، العالم يحترق، صفحة 200). ويمكن، تالياً، إذا جثا أحدهم على ركبتيه “بجانب جهاز الراديو أو التلفزيون” (بلي جراهام، سلام مع الله، صفحة 151)؛ أو قرّر ذلك وهو يقرأ في أحد كتبهم (بيلي جراهام، سلام مع الله، صفحة 180). وهذا كلّه، بالتأكيد، يخالف التراث المسيحيّ الذي كشف أنّ سرّ المعموديّة هو الولادة الثانية أو الجديدة.
يلفتنا، في سياق الردّ على هذا الادّعاء الغريب، ما قاله الرسول بولس في رسالته إلى تلميذه تيطس: “فلمّا ظهر لطف الله مخلّصنا ومحبّته للبشر، لم ينظر إلى أعمال برّ عملناها نحن، بل على قدر رحمته خلّصنا بغسل الميلاد الثاني والتجديد من الروح القدس الذي أفاضه علينا وافراً بيسوع المسيح مخلّصنا، حتّى نبرّر بنعمته فنصير، بحسب الرجاء، ورثة الحياة الأبديّة” (3: 4- 7). يلاحظ القارئ المدقّق أنّ هذه الآيات تفصل بين وضعين، الأوّل حال الناس (ولا سيّما اليهود) قبل مجيء المسيح، وتالياً حالهم بعده. وهذا لا يخالفه المعمدانيّون. ولكنّهم لا يرون، في هذه الآيات، ما أكّده العديد من المفسّرين، وهو أنّها تتعلّق بليتورجيا المعموديّة التي تتمّ باسم الثالوث القدّوس. فالله لمّا أراد أن يفدي العالم بلطف ظهوره الأخير، لم يميّز بين وجه ووجه. لكنّه رسم أن يذوق البشر فداءه الأبديّ سرّيّاً، بغسل المعموديّة، أي ولدهم جديداً بروحه الذي أفاضه “وافراً بيسوع المسيح”، وبرّرهم، ليرجوا أن يرثوا الحياة الأبديّة (يوحنّا 1: 12 و13، 3: 3- 7؛ أعمال 2: 38؛ رومية 6: 3- 8). فالتجديد، في هذا المقام، وغيره، هو هبة من هبات سرّ المعموديّة. هكذا يظهر المعنى، جليّاً، في تتابع الآيات. وهذا، بالتأكيد، يدين كلّ تشويه يوحي بأنّ الإنسان قادر على أن يتجدّد من دون أن يعتمد “بالماء والروح”. فالإنسان قبل معموديّته، ولو علم كلّ العلم، ولو بكى وشكا حاله وقرع مئات المرّات على صدره، لا ينتسب إلى العهد الجديد. الإنسان، بمنطق هذا العهد، لا يوجد قبل أن يولد، وتالياً لا يتجدّد، أو يتبرّر بالنعمة، أو يرث الحياة الأبديّة، إلاّ إذا شارك في موت المسيح وقيامته، أي ذاق خلاصه، سرّيّاً، في المعموديّة (1كورنثوس 6: 9-11؛ أنظر أيضاً: 2كورنثوس 5: 17؛ غلاطية 6: 15؛ أفسس 4: 20- 24؛ كولوسي 3: 9 و11).
ثمّة استعمال آخر للفظة “تجديد” نجده في الرسالة إلى العبرانيّين، ويعنينا كثيراً في سياق ردّنا. نقرأ: “فالذين تلقّوا النور مرّة وذاقوا الهبة السماويّة وصاروا مشاركين في الروح القدس وذاقوا كلمة الله الطيّبة وقوى العالم المقبل، إذا سقطوا مع ذلك، يستحيل تجديدهم وإعادتهم إلى التوبة” (6: 4- 6). يشبه هذا الكلام، إلى حدّ بعيد، ما وجدناه في الآيات الرسوليّة التي نقلناها آنفاً. فالحديث عن الأسرار المجدّدة ظاهر جليّاً. وما يعنيه الرسول، في قوله، أنّ الذين جدّدهم الله بأسراره، إذا خالفوه وسقطوا، لا يمكن إعادة تجديدهم. ولا يخفى أنّ هذا الموقع هو من أبلغ مواقع العهد الجديد التي تدلّ على الجدّيّة التي تنتظرها الكنيسة من أعضائها المعمّدين. ولا يعني الرسول أنّ توبة الذين سقطوا، بعد نوالهم المعموديّة، مستحيلة كلّيّاً. “فما لا يستطاع عند الناس يستطاع عند الله”. بل إنّما أراد أن يكشف غنى الهبة التي منحها الله للمؤمنين المعمّدين، وهدفه أن يحافظوا على حياتهم الجديدة، ويثبتوا جدداً دائماً (2).
يبقى، بعد هذا، أن نؤكّد أنّ هذا الهذيان الذي يصيب من يسمع كلام المعمدانيّين ويتأثّر به، لا يوافق معنى التجديد الكتابيّ. لسنا، بهذا، ننكر فاعليّة الإيمان بالربّ يسوع أو قدرة كلمته على تغيير القلب البشريّ وصنع العجائب. ولكنّنا رهن كشف الكلمة الذي يأبى أن يُنسب إلى كلّ شعور يصيب إنساناً، جرّاء سماعه حديثاً أو موعظة معمدانيّة وما إليها، ما نسبه الله إلى أسراره المحيية.
هذه مخالفة جديدة يقع فيها الذين فصلوا أنفسهم عن تقليد الكنيسة الحيّ، ورفضوا فَهْمَ أبرار التاريخ، وادّعوا أنّهم “أهل الكتاب”.
(1) راجع: Eine orthodoxe Sicht auf die Gemeinschaft der Konvertiten>> Sechstens: Erörterung der Frage der Wiedergeburt und Erlösung allein durch den Glauben… (الشبكة)
(2) هنا نرى في كلام القديس بولس أنه يربط التجديد مع التوبة. فإذاً متى عشنا التوبة وغسلنا قلوبنا بدموعنا فإنه محبته ورحمته، أي الله، عظيمة. ولكن هنا نستطيع أن نقارن ما يقوله القديس بولس مع ما قاله الرب يسوع في متى 12: 43: “إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. 44 ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغًا مَكْنُوسًا مُزَيَّنًا. 45 ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ! هكَذَا يَكُونُ أَيْضًا لِهذَا الْجِيلِ الشَّرِّير”. وهناك الكثير من القديسين في حياة الكنيسة من سقطوا وعادوا للتوبة فنالو نعمة القداسة من الله واستحقوا أن يكونوا شفعاء لنا عند الرب…. (الشبكة)