Facebook
Twitter
Telegramma
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

كيف استعاد موسى اللوحين الذين كتب عليهما الله الناموس الإلهي؟

214. حان الوقت لنلفت الانتباه إلى أولئك الذين أسلموا أنفسهم للخطية، لنعرف كيف استعاد موسى اللوحين الذين كتب عليهما الله الناموس الإلهي، واللذين سقطا من يد موسى إلى الأرض، وانكسرا بفعل السقوط. لم يكن اللوحان الجديدان مطابقين تمامًا للذين انكسرا، ولكن كانت الكتابة هي نفسها. فبعد أن صنع موسى اللوحين من مواد أرضية، أسلمهما لقوة الإله لينقش ناموسه عليهما، وهكذا فإنه كان يحمل في يده حجارة، ولكنه استعاد النعمة حيث أن الله نفسه نقش الكلمات على الحجارة.

215. يمكن من هذه الأحداث إدراك الاهتمام الإلهي بنا. فإذا كان بولس الرسول يدعو اللوحين “قلوبًا” (2 كو 3: 3)، أي أهم جزء في النفس، ويقول “الروح يفحص كل شيء، حتى أعماق الله” (1 كو 2: 10) يمكننا أن نعلم من هذا أن الطبيعة البشرية كانت في بدايتها كانت غير مكسورة وتتمتع بالخلود. وحيث كانت الطبيعة البشرية مشَّكلة بيد الإله ومجَّملة بحروف الناموس غير المكتوبة، كان قصد الناموس هو أن يبعد طبيعتنا عن الشر، وتكرم الإله.

اللوحان والتجسد الإلهي

216. عندما وصل صوت الخطية إلى آذاننا – ذلك الصوت يسميه سفر التكوين “صوت الحية” (تك 3: 4)، ولكن يسميه الكتاب في قصة اللوحين “صوت غناء مخمور” (خر 32: 18 الخ) سقط اللوحان على الأرض وتحطما. لكن معطي الناموس الحقيقي – الذي كان موسى رمزًا له – صنع لنفسه لوحين بطبيعة بشرية من أرضنا. لم يأتي جسده الذي استقبل الله من زواجٍ، بل كان هو قاطع الأحجار لجسده، الذي نقشه إصبع الله، لأن الروح القدس حلّ على العذراء وظللتها قوة العلي (لو 1: 35). وعندما حدث هذا استعادت طبيعتنا الخلود واكتسبته من خلال الحروف التي كتبها إصبع الله. ويسمى الروح القدس “إصبعًا” في مواضع كثيرة في الكتاب المقدس. (لو 11: 20؛ مت 12: 28؛ خر 8: 19؛ تث 9: 10).

217. تحول موسى إلى نوعٍ من المجد لا يمكن لعين مخلوق النظر إليه (خر 32: 29). وبالتأكيد فإن من تعلموا السرّ الإلهي لإيماننا يرون كيف يتفق المعنى الروحي لهذا مع الوصف الحرفي. فعندما رد المخلص لوح طبيعتنا المكسور إلى جماله الأصلي – بواسطة إصبع الله – فإن عيون غير المستحقين لم تعد قادرة على النظر إليه، وأصبح هذا المخلص غير منظور لهم في بهائه الذي لا نظير له.

218. لأنه كما يقول الإنجيل “ومتى جاء ابن الإنسان في مجده، وجميع الملائكة القديسين معه” (مت 25: 31) حينئذ بالكاد يستطيع الأتقياء أن يتحملوا النظر إليه، أما غير الأتقياء ومن يتبعون الهرطقة اليهودية (الأريوسية) فلن يكون لهم نصيب في رؤيته، لأن الشرير كما يقول إشعياء: “لا يرى جلال الرب” (إش 26: 10).

التقدم المستمر

219. لنرجع إلى موضوعنا، كيف يطلب شخص أن يظهر له الله (خر 33: 18)، وقد رأى الله بوضوح في مثل هذه الظهورات الإلهية – وجهًا لوجه كما يكلم الرجل صاحبه (خر 33: 11)، كأن موسى لم يبلغ بعد إلى ما يقول الكتاب أنه توصل إليه؟

220. استجاب الصوت السماوي لطلب الملتمس (موسى)، ولم يمنع عنه هذه النعمة الإضافية، لكنه يدفعه مرة أخرى إلى اليأس عندما يؤكد له أن ما يسعى إليه (رؤية الله) لا يُمكن استيعابه في حياة البشر. ولكن الله يقول أنه يوجد عنده مكان حيث توجد صخرة بها نقرة (فتحة) يأمر الله موسى أن يدخلها (خر 33: 21)، ووضع الله يده على الفتحة، ونادى على موسى أثناء اجتياز مجد الله، وبعد اجتياز مجد الله خرج موسى من الفتحة ونظر، فرأى الله من الخلف (خر 33: 23). بهذا اعتقد أنه رأى ما كان يسعى إليه ولم يخلف الله وعده.

221. لن تساعد النظرة الحرفية لهذه الأمور من يبحثون عن الله، بل تجعل فهمهم غير واضحٍ. فإن كلمتي “الأمام" E il"الخلف” تنتميان إلى الأشياء التي لها شكل مرئي فقط، وكل شكل يحدد جسمًا. ومن الخطأ النظر إلى لله على أن له شكل، لأنه لا تنطبق عليه الطبيعة الجسدية، ومن الحقائق الثابتة عن الأجسام أنها مركبة، وكل ما هو مركب يوجد باتصال عناصره المختلفة. ولا يمكن لأحد أن يقول أن ما هو مركب لا يمكن تحلله، وما يتحلل يمكن أن يفسد، لأن الفساد هو تحلل المركب.

222. إذا فكر أحد في ظهر الله بالمعنى الحرفي، فسيصل إلى استنتاج خاطئ. فإن الظهر والأمام ينتميان إلى شكل، والشكل ينتمي إلى جسم، والجسم بطبيعته يمكن أن يكون مركبًا، وكل شيءٍ مركب يمكن أن يتحلل، وما يتحلل لا يمكن أن يكون غير قابلٍ للفساد، ولذلك فإن التفسير الحرفي يقود إلى فهم أن الإله قابل للفساد، ولكن في الحقيقة الله غير قابلٍ للفساد وهو غير منظور.

223. لذلك من الأفضل تأمل كل ما حدث بالمعنى الروحي: المكان الذي حدده الله لموسى في الصخرة والفتحة الموجودة بها، ودخول موسى فيها، ووضع الله يده عليها، واجتيازه، ومناداته لموسى، ثم رؤية موسى لله من الخلف.

224. ما هو المعني المقصود إذًا؟ إن الأجسام إذا دُفعت إلى أسفل تنحدر بسرعة متزايدة دون أية مساعدة طالما كان السطح الذي تتحرك عليه منحدرًا بانتظام ولم تواجه مقاومة. وتتحرك النفس في الاتجاه العكسي. فعندما تنطلق من رباطها الأرضي تزيد خفتها وسرعتها في الحركة إلى أعلى، منطلقة من أسفل لتلحق بالأعالي.

225. إذا لم يأتِ شيء من أعلى ليعوق حركة النفس في صعودها (طبيعة الخير هي أن يجذب إليه من يتطلعون إليه)، فإن النفس تظل ترتفع باستمرار – بحكم رغبتها في الأشياء السماوية، وهنا نتذكر “أمتد إلى ما هو قدام” كما يقول الرسول (في 3: 13).

226. كلما توصلت النفس إلى شيءٍ ما، زادت رغبتها إلى الارتفاع أكثر، وليس إلى ترك الصعود. وهي تواصل طريقها إلى أعلى بلا توقف، وتساعد الإنجازات التي تحققها في تجديد طاقتها على الطيران. والنشاط المُوجه نحو الفضيلة يزيد طاقتها عن طريق الجهد المبذول، وهذا النوع من النشاط هو وحده الذي لا يقل ببذل الجهد بل يزيد[83].

227. لهذا نقول أن موسى العظيم، وهو يزداد عظمة، لم يتوقف أبدًا عن الصعود، ولم يضع لنفسه حدًا في مساره إلى أعلى. بمجرد أن وضع قدمه على السلم الذي أقامه الله (كما يقول يعقوب تك 28: 12) استمر في الصعود ولم يتوقف أبدًا عن الارتفاع إلى أعلى، لأنه كان دائمًا يجد أمامه خطوة أخرى أعلى من التي بلغ إليها.

228. تخلى موسى عن قرابته الظاهرية للملكة المصرية، وانتقم للعبراني، واختار الصحراء للحياة حيث لا يزعجه بشر، ورعى قطيعًا من الحيوانات المستأنسة، وشاهد بريق النور، وبعد أن خلع نعليه وأصبح بلا عائق اقترب من النور. وأتى بأقربائه ومواطنيه إلى الحرية، ورأى العدو يغرق في البحر.

229. أقام موسى المحلة تحت عمود السحاب، وأطفأ العطش من الصخرة، وجاء بالخبز من السماء، وعندما بسط يديه تغلبوا على الغرباء، وسمع البوق، ودخل الضباب (الظلمة)، ودخل إلى المقدس الداخلي للمسكن الذي لم تصنعه يد. وتعلم أسرار الكهنوت الإلهي المقدس، وحطم الوثن، وتضرع وتشفع في شعبه للإله، واستعاد الناموس الذي دُمَّر بفعل شر اليهود.

الحاجة إلى مزيدٍ من المجد

230. أضاء وجه موسى بالمجد، وبالرغم من ارتفاعه إلى أعلى بهذه الخبرات السامية، إلا أنه كان مازال غير قانعٍ، ولديه رغبة في المزيد. كان مازال متعطشًا لما كان يملأ نفسه به تمامًا باستمرار، ويطلب الحصول عليه كأنه لم يشرب منه أبدًا. ويطلب من الله أن يظهر له، ليس تبعًا لقدرة موسى على الاستيعاب، ولكن تبعًا للكيان الحقيقي لله.

الجمال المنظور والجمال المختفي

231. يبدو أن هذه الخبرة تنتمي إلى النفس التي تحب الجمال. فهذه النفس دائمًا تجعل رؤية الجمال المنظور تأمل في رؤية الجمال المختفي، لذلك من يحب الجمال بحماس يرى الجمال المنظور دائمًا صورة لما يرغب فيه ويشتاق للأصل.

232. كان الطلب الجريء الذي ارتفع به صوت موسى إلى أعلى الجبل يرمز للارتفاع إلى جبال الرغبة بطلب الاستمتاع بالجمال، ليس في مرايا وانعكاسات، بل وجهًا لوجه. وجاء الصوت الإلهي ليمنح موسى ما كان مطلوبًا في شكل حظر، بينما أظهر في كلمات قليلة عمقًا للفكر لا يمكن قياسه. ووافق سخاء الله وكرمه على تحقيق رغبة موسى دون أن يَعِدْ بأي إنهاء أو إشباع تام للرغبة.

233. ما كان الله يظهر نفسه لعبده لو كان ذلك سينهي رغبة موسى في المشاهدة بعد ذلك، حيث أن المشاهدة الحقيقية لله تجعل من يتطلع إلى الله لا يتوقف عن الرغبة في المشاهدة. فهو يقول “لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش” (خر 33: 20).

كيف يمكن لوجه الحياة أن يكون سبب موت من يقتربون منه؟

234. لا يقصد الكتاب المقدس بهذا أن هذه الرؤية تسبب الموت لمن يتطلعون لها، إذ كيف يمكن لوجه الحياة أن يكون سبب موت من يقتربون منه؟ على العكس، فإن الإله بطبيعته معطي للحياة. ولكن خاصية الطبيعة الإلهية هي تجاوز كل الخواص، لذلك فمن يظن أن الله هو شيء يمكن معرفته ليس له حياة، لأنه تحول من الكائن الحقيقي (الله) إلى ما يعتقد أنه كائن بسبب إدراكه له بالحواس.

235. الكائن الحقيقي هو الحياة الحقيقية، ولا يمكن الوصول إلى هذا الكائن بالمعرفة. فإذا كانت الطبيعة المعطية للحياة تتجاوز المعرفة، فإن ما يمكن إدراكه ليس هو الحياة بالتأكيد. فليس في طبيعة شيء ليس به حياة أن يكون سببًا للحياة. وهكذا فإن ما أشبع رغبة موسى كان هو نفس الأشياء التي تركت رغبته دون إشباع.

236. تعلم موسى أن الإله بطبيعته لانهائي، ولا تحيط به حدود تحده. وإذا فكر الإنسان في الإله ككائنٍ محدودٍ بشيءٍ ما، فلابد أن ينظر إلى ما وراء هذا الحد. فالشيء المحدود يقف عند نقطة معينة، فالهواء وهو الحد لكل ما يطير، والماء هو الحد لكل ما يعيش فيه. الهواء هو الحد لما يطير والماء لما يسبح. وبنفس الطريقة، إذا نظر الإنسان إلى لله على أنه محدود بحدودٍ، فلابد أنه سيكون محاطًا بشيء يختلف عنه في طبيعته. ومن المنطقي أن يكون الشيء المحيط أكبر بكثير من المُحاط.

237. من المتفق عليه أن الإله خير بطبيعته، وحيث أن ما يحيط به مختلف عنه في طبيعته، إذًا فإن ما يحيط بالإله مختلف في طبيعته عن الخير، ولذلك يُنظر إليه على أنه شر وهو أكبر من الخير الذي يحيط به.

238. حيث أن الشيء المُحاط أقل من الشيء المحيط به، فإن الأكبر سيكون أقوى ويسود. لذلك فإن من يعتقد أن الله مُحاط بحدود يعتقد أن الخير محاط بعكسه (الشر)، ولكن هذا غير وارد. لذلك فمن الخطأ الاعتقاد بأنه يوجد شيء يمكن أن يحد بالطبيعة اللانهائية ويحيط بها. وليس من طبيعة غير المحدود أن يمكن لمسه أو إدراكه. ولكن كل رغبة في الخير تنجذب نحو ذلك الصعود تزيد باستمرار كلما تقدم الإنسان في التمسك بالخير.

239. هذه هي حقًا رؤية الله، ألا يشبع الإنسان أبدًا من الرغبة في رؤيته، بل بالنظر إلى ما يستطيع أن يراه تشتعل رغبته في أن يرى أكثر. وهكذا لن يكون هناك حد يوقف التقدم في الصعود نحو الله، حيث أنه ليس هناك حد للخير، كما أن الرغبة في الخير لا تنتهي عند إشباع هذه الرغبة بل تزيد.

ما هو ذلك المكان الذي عند الله؟

240. ولكن، ما هو ذلك المكان الذي عند الله؟ وما هي الصخرة؟ وما هي الفتحة التي في الصخرة؟ وما هي يد الله التي تغطي مدخل هذه الفتحة؟ وما هو اجتياز الله مارًا بالصخرة؟ وما هو ظهر الله الذي وعد الله موسى برؤيته عندما طلب موسى أن يرى الله وجهًا لوجه؟

241. لابد أن لكل من هذه الأشياء أهمية كبيرة، تستحق سخاء الإله العاطي. يُعتبر وعد الله هذا أعظم وأسمى من كل تجلٍ سبق أن أظهره الله لعبده موسى. كيف يمكن أن نفهم مما قيل لموسى إن الارتفاع الذي أراد موسى أن يصل إليه بعد ما وصل إليه في صعوده السابق، والذي يمكن أن يصعد إليه كل من يحبون الله بسهولة تحت قيادة الله، حيث: “إن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله” (رو 8: 28): يقول الله “لك مكان عندي” (خر 33: 21)

242. تتفق هذه الفكرة مع ما سبق أن تأملناه، فعندما تحدث الله عن “مكان” لم يحدد المكان تحديدًا كميًا، وليس هناك قياس لغير الكمي. بل على العكس، باستخدام كلمة “مكان” التي تعني سطحًا يمكن قياسه، فإن الحديث هنا يقود السامعين إلى غير المحدود واللانهائي. ويمكن فهم النص الكتابي بهذا الشكل: “يا موسى، حيث أن رغبتك في أن تمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13)، قد زادت ولم تصل إلى الشبع بعد في تقدمك، وحيث أنك لا ترى حدًا للخير، بل إن اشتياقك دائمًا يريد المزيد، فإن المكان الذي عندي كبير لدرجة أن الذي يعدو فيه لن يستطيع التوقف أبدًا“.

صعود مع سكون

243. في موضع آخر في الكتاب المقدس نجد التقدم يتم في سكون، بلا حركة. وهذا هو أعجب ما في الموضوع، فنجد الكتاب يقول “فتقف على الصخرة” (خر 33: 21). وهذا هو أعجب ما في الموضوع، إذ كيف يكون نفس الشيء سكونًا وحركة؟ فإن من يصعد لا يمكن بالتأكيد أن يقف ساكنًا، ومن يقف ساكنًا لا يمكن أن يتحرك إلى أعلى. ولكننا نجد أن الصعود يتم هنا بالوقوف في سكون، وأعني بذلك أنه كلما كان الإنسان أكثر ثباتًا في الخير، كلما تقدم في مسار الفضيلة. وبالنسبة للشخص الغير واثق من أفكاره ومجادلاته، والمعرض للخطأ حيث أنه غير ثابت في الخير، بل “مضطرب ومحمول بكل ريح تعليم” (أف 4: 14) كما يقول بولس الرسول، وهو كثير الشك ومتردد في آرائه بخصوص الحقيقة، مثل هذا الشخص لا يصل إلى السمو في الفضيلة.

244. يشبه هذا الشخص من يبذل جهدًا للتسلق إلى أعلى في الرمال، فإنه يخطو خطوات طويلة ولكن قدمه تنزلق دائمًا إلى أسفل، فهو يقوم بكثير من الحركة ولكنه لا يحرز تقدمًا. ولكن إذا انتزع شخص رجله من طين الحمأة – كما يقول المزمور – وأقامها على الصخرة (مز 2: 40) (الصخرة هي المسيح- كما في (1 كو 10: 4)- الذي هو الفضيلة المطلقة)، فكلما كان راسخًا غير متزعزع في الخير (1 كو 15: 58)، استطاع أن يكمل المسار أسرع. إن عدم التزعزع هنا كأنه جناح يستخدمه القلب في الطيران إلى أعلى من خلال ثباته في الخير.

245. أظهر الله لموسى المكان وحثه على مواصلة المسار، وعندما وعده بأنه سيوقفه على الصخرة أظهر له طبيعة ذلك السباق الإلهي. وبالنسبة للفتحة التي في الصخرة فإن بولس الرسول يفسرها تفسيرًا جيدًا عندما يتحدث عن المسكن السماوي غير المصنوع بيد الذي يبنيه الأمل والرجاء لمن نقضوا بيت خيمتهم الأرضية (2 كو 5: 1).

246. بالنسبة لمن أكمل السعي (أي السباق) كما يقول بولس الرسول (2 تي 4: 7) في ذلك الاستاد الواسع والعريض الذي يسميه الصوت الإلهي “مكانًا”، وحفظ الإيمان وثبت أقدامه على الصخرة، فإن مثل هذا الشخص سيُوضع له إكليل البرّ بيد حكم المسابقة. ويصف الكتاب المقدس هذه الجائزة بطرقٍ مختلفةٍ.

247. تسمى الفتحة (النقرة) التي في الصخرة في مواضيع أخرى من الكتاب المقدس “جنة” (تك 2: 15، 3: 23) و”الخيمة الأبدية” (2 كو 5: 1) و”منزلاً مع الآب” (يو 14: 2، 23)، و”حضن الآب (إبراهيم)” (لو 16: 22)، و”أرض الأحياء” (مز 27: 13)، و”مياه الراحة” (مز 23: 2)، و”ملكوت السماوات” (مت 13: 44) و”جعالة (مكافأة) دعوة الله” (في 3: 14) و”إكليل نعمة” (أم 1: 9؛ 4: 9) و”تاج جمال” (أم 4: 9)، و”برج قوة” (مز 61: 3) و”مائدة للسعد الأكبر” (إش 65: 11) وكراسي للحكم (لإدانة أسباط بنى إسرائيل) (مت 19: 28، لو 22: 30) ومكان الاسم (اسم الرب) (تث 12: 5)، و”الخيمة المخفية” (مز 27: 5).

248. لدخول موسى في الصخرة نفس الأهمية مثل هذه الأوصاف. الصخرة في مفهوم بولس الرسول هي المسيح، لذلك نؤمن أن كل الرجاء في الأشياء الخيرة هو في المسيح، الذي تعلمنا أن كل كنوز الصلاح موجودة فيه (كو 2: 3؛ أف 1: 3)، ومن يجد الخير يجده في المسيح الذي يحتوي الخير كل الخير.

يلزم أن يكون ظهر المرشد مرئيًا باستمرار

249. من يصل إلى هذه الصخرة وتستره يد الله كما يعد النص المقدس. يد الله هي القوة الخلاقة للكائن، الابن الوحيد المولود الذي به كان كل شيء (يو 1: 18) وهو “المكان” للذين يعدون نحو الله، وهو “الطريق” (يو 14: 6؛ تي 4: 7) وهو “الصخرة” للراسخة و”البيت” (يو 14: 2) لمن يستريحون، هذا الشخص هو الذي سيسمع نداء الله، ويرى من يناديه من الخلف، إذ يقول له الله في الناموس “وراء الرب إلهكم تسيرون” (تث 13: 4).

250. عندما سمع داود العظيم هذا وفهمه قال: “الساكن في ستر العلي، في ظل القدير يبيت، بخوافيه يظللك” (مز 91: 1، 4). وتعنى “بخوافيه” “بكتفيه” – وهذا هو نفس الشيء مثل السير وراء الله، لأن الكتف في ظهر الجسم، ويقول داود عن نفسه: “التصقت نفسي بك يمينك تعضدنني” (مز 63: 8). وأنت ترى كيف تتفق المزامير مع التاريخ في الكتاب المقدس. فيقول المزمور أن اليد اليمنى لله تساعد الشخص الذي التصق بالله وسار وراءه، ويقول التاريخ في الكتاب أن اليد تلمس الشخص الذي ينتظر في الصخرة عند سماع الصوت الإلهي، ويصلي لكي يسير وراء الله.

251. عندما جاء الرب – الذي تكلم مع موسى – بنفسه إلى الأرض لينفذ ناموسه الخاص، قدم لتلاميذه تفسيرًا واضحًا، وكشف لهم معنى ما قيل سابقًا بالرمز. فقد قال لهم: “إن أراد أحد أن يأتي ورائي” (لو 9: 23)، ولم يقل لهم: “إن أراد أحد أن يسير قدامي”. وذكر نفس الشيء لمن سأل عن الحياة الأبدية فقد قال له: “تعال اتبعني” (لو 18: 22). ومن يتبع شخصًا يراه من الخلف.

252. كان موسى متلهفًا لرؤية الله، وعلمه الله كيف يراه، فإن رؤية الله هي أن يتبعه الإنسان ويسير أينما يوجهه. واجتياز الله بجوار الإنسان هو إرشاد لمن يتبعه، فلا يستطيع إنسان أن يكمل رحلة بسلام وهو لا يعرف الطريق إلا إذا تبع مرشدًا. والمرشد يبين الطريق لمن يتبعه، ومن يتبع المرشد لن يضل الطريق إذا حرص على أن يكون ظهر المرشد مرئيًا له باستمرار.

253. وإذا اتجه الشخص وجهة أخرى أو سار في مواجهة المرشد وليس خلفه، فإنه سيتخذ طريقًا آخر، ولذلك يقول له المرشد “أما وجهي فلا يُرى” (خر 33: 23) أي “لا تواجه مرشدك”. وإذا واجه المرشد فإنه قطعًا سيسير في الطريق المعاكس، فإن الخير لا يواجه الخير بل يتبعه.

254. ما يواجه الخير وجهًا لوجه هو عكسه، فما يواجه الفضيلة هو الشر، ولا تقف الفضيلة في وجه الفضيلة، ولذلك لا ينظر موسى إلى وجه الله، بل يراه من وراء. فإن من ينظر إلى الله وجهًا لوجه لا يمكن أن يعيش، كما يقول الصوت الإلهي “لأن الإنسان لا يراني ويعيش” (خر 33: 20).

255. من هذا ترى أنه لشيء عظيم أن تتعلم كيف تتبع الله، فإنه حتى ذلك الرجل الذي صعد إلى تلك المرتفعات العالية (موسى) وظهرت له التجليات المجيدة المثيرة للرهبة قرب نهاية حياته كان لا يكاد يعتبر مستحقًا لهذه النعمة.

الحسد ضد موسى

256. بعد أن تبع موسى الله بهذه الطريقة، لم تعد هناك خطية تحدث من خلال الشر تقاوم من يتبع الله بهذه الطريقة. بعد ذلك أثارت هذه الأشياء الحسد ضد موسى من إخوته، والحسد شعور يسبب الشر، وهو أبو الموت، وكان به أول دخول للخطية، وهو أصل الشر ومولد للأسى، ويعتبر والدًا للمصائب وأساس المعصية وبداية العار. الحسد هو الذي أخرجنا من الفردوس بعد أن أصبح حية ليواجه حواء، وهو الذي حجبنا عن شجرة الحياة وخلع عنا الثياب الإلهية وقادنا إلى الخارج بعيدًا في خجلٍ، مكتسين بأوراق التوت.

257. سلَّح الحسد قايين على خلاف الطبيعة، وأسس الموت الذي ينتقم له سبعة أضعاف (تك 4: 24). والحسد هو الذي جعل يوسف عبدًا. والحسد هو اللدغة القاتلة والسلاح المخفي، ومرض الطبيعة والسم الزعاف، والضعف الإرادي، والسهم المر، والمسمار الذي يُدق في النعش، ونار في القلب ولهب يحترق من الداخل.

258. لا يعتبر الحسود الكوارث التي تحل به محنة، بل المحنة عنده هو الخير الذي يحل على غيره، وبالعكس النجاح ليس هو أن يكون سعيدًا، بل أن تحل المحن بغيره. يحزن الحسد لرؤية الأعمال الطيبة للناس، ويسر بالكوارث التي تحل بهم. ويقال أن الجوارح التي تلتهم الجثث الميتة تقضي عليها الرائحة الطيبة (العطر)، فإن طبيعتها تتفق مع ما هو شرير وفاسد. وأي شخص يقع تحت سيطرة هذا المرض (الحسد) تقضي عليه سعادة أقربائه وجيرانه، ولكنه إذا رأى تجربة شريرة يطير إليها ويضع منقاره المعوج فيها ويخرج الكوارث المخفية.

259. حارب الحسد كثيرين ممن عاشوا قبل موسى، لكنه عندما هاجم موسى انكسر كما ينكسر إناء من الخزف عندما يرتطم بصخرة. وقد أظهر ذلك بوجه خاص التقدم الذي أحرزه موسى في رحلته مع الله. لقد جرى موسى في المكان الإلهي ووقف على الصخرة وأبقاه الله في الفتحة التي بها، وغطاه الله بيده، وسار وراء مرشده، ولم ينظر إلى وجهه بل إلى ظهره.

260. وصل موسى إلى ارتفاع جعله أعلى من أن يصيبه سهم الحسد. ويظهر ذلك أنه قد أصبح مباركًا عندما تبع الله. كان قوس الشر أكثر ارتخاء من أن يطلق عاطفة الحسد بحيث تصل إلى موسى من أولئك الذين أصيبوا بالمرض من قبل. ولكن هرون ومريم أصابهما التأثير الشرير. وأصبحا مثل قوس الحسد، يطلقان الكلمات على موسى بدل السهام.

261. لم يرتفع موسى فقط عن الانغماس في هذا الشر، بل إنه قدم العون لمن أصابهم مرض الحسد. ولم يقتصر الأمر على أنه لم يحاول الدفاع عن نفسه ضد من سببوا له الحزن والأسى، بل إنه تشفع لله طالبًا الرحمة لهم. وقد أظهر بما فعله أن الشخص المسلح بدرع الفضيلة لن تؤذيه السهام التي تطلق عليه.

262. كسر موسى حدة حرابهم وجعلها تطيش بفضل صلابة درعه. والدرع الذي يقي من هذه السهام هو الله نفسه، الذي يلبسه جندي الفضيلة. ويقول الكتاب: “البسوا الرب يسوع المسيح (كدرعٍ) (رو 13: 14)، أي الدرع الكامل الذي لا يُخترق. كان موسى محميًا جيدًا بهذا الشكل، لذا كانت سهام الشر غير فعالة معه.

263. لم يسرع موسى بالدفاع عن نفسه ضد أولئك الذين سببوا له الحزن، بالرغم من أن الحكم غير المتحيز قد أدانهم، وأنه كان يعرف ما يجب أن يفعله. وبالرغم من ذلك فقد تشفَّع لإخوته لدى الله. ولم يكن موسى يفعل هذا لولا أنه كان يتبع الله، الذي أظهر له ظهره (أعماله) كمرشد آمن للفضيلة.

موسى والجواسيس

264. لنواصل حديثنا. عندما لم يجد العدو الطبيعي للبشر فرصة لإيذاء موسى، وجه المعركة ضد الأكثر تعرضًا للإصابة، وعندما رمى سهم شهوة الجشع على الناس، جعلهم يشتهون ما كانوا يجدونه في مصر، لدرجة أنهم فضلوا اللحم الذي كان يأكله المصريون عن الخبز النازل من السماء.

265. لكن موسى كانت روحه سامية وفوق تلك الشهوة، وكان مُكرسًا تمامًا للميراث الآتي الذي وعد به الله الذين خرجوا من مصر (بالمفهوم الروحي) وشقوا طريقهم إلى الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، ولهذا السبب عيَّن بعض الجواسيس ليعلموا الشعب عن مباهج تلك الأرض.

266. ويرمز الجواسيس – في نظري – إلى شيئين: من ناحية يرمز أولئك الذين بشروا بالخيرات للأفكار النابعة من الإيمان والتي تؤكد الرجاء في الخيرات المعدة لنا، ومن ناحية أخرى يرمز أولئك الذين يرفضون الآمال الطيبة ويغرسون الشك في الأخبار التي بشر بها الفريق الأول إلى أفكار عدو الخير. وقد رفض موسى تصديق ما قاله الخصوم، وقبل ما سمعه من الرجل الذي قدم تقريرًا طيبًا عن تلك الأرض.

يشوع وعنقود العنب

267. كان يشوع هو الذي قاد المجموعة الأفضل، وجعل الأشياء الموصوفة أهلاً للثقة بتأكيده لها. وعندما نظر موسى إلى يشوع امتلأ برجاءٍ ثابتٍ في المستقبل، ووجد في كلام يشوع عن عنقود العنب دليلاً على خيرات الأرض، فقد حمل يشوع عنقود عنب معه على عصا خشبية من تلك الأرض. وعندما تسمع عن يشوع يخبر عن الأرض وعنقود عنب معلق على خشبة، فإنك تدرك ما رآه يشوع وملأه بالرجاء.

268. ما هو عنقود العنب المعلق من على الخشبة إلا ذلك العنقود المعلق في الأيام الأخيرة، الذي صار دمه شرابًا منقذًا لمن يؤمن به (يو 15: 1) لقد تكلم موسى عن هذا قبل حدوثه حيث قال “ودم العنب شربت خمرًا” (تث 32: 14).

Serpente di rame

269. أخذ الشعب طريقه مرة أخرى في الصحراء، وفقد الرجاء في الخيرات الموعود بها وشعر بالعطش. مرة أخرى جعل موسى الماء يتدفق لهم في الصحراء. ومن الناحية الروحية فإن هذا يعلمنا ما هو سرّ التوبة. فإن من يتجهون مرة ثانية إلى بطونهم وأجسادهم والملذات المصرية بعد أن ذاقوا ماء الصخرة، محكوم عليهم أن يُحرموا من الخيرات.

270. لكن إذا تابوا يمكنهم أن يجدوا مرة أخرى الصخرة التي تركوها، ويمكن أن يُفتح لهم ينبوع الماء مرة أخرى ويرتووا حتى الشبع. لقد أعطت الصخرة ماءً لموسى الذي آمن أن أقوال يشوع عن أرض الموعد أصدق مما قاله خصومه، فقد نظر موسى إلى عنقود العنب – رمز من عُلق لأجلنا على الخشبة وأراق دمه – وبالخشبة جعل الماء يتدفق من الصخرة مرة أخرى للشعب.

271. لكن الشعب لم يكن قد تعلم بعد كيف يتمشى مع عظمة موسى. كانوا ما زالوا منجذبين لمشاعر العبودية وميالين للملذات التي كانوا يستمتعون بها في مصر. ونرى من هذا أن الطبيعة البشرية تنجذب بوجه خاص إلى هذه المشاعر التي تعتبر مرضًا بآلاف الطرق.

272- كما يمنع الطبيب بعلاجه المرض من أن يتمكن من الناس، هكذا لم يسمح موسى للمرض أن يسبب الموت. لقد تسببت الرغبات الجامحة للشعب في ظهور حيات نفثت سمها القاتل في من لدغتهم. ولكن معطي الناموس العظيم (يسوع) قد نزع قوة الحيات الحقيقية بصورة حية.

273. لنشرح الآن هذه الصورة البلاغية. هناك ترياق (علاج) واحد لهذه الرغبات الشريرة، وهو تطهير نفوسنا الذي يحدث بسرّ التقوى. والعمل الأساسي في الإيمان في هذا السرّ هو النظر إلى من قاسى لأجلنا. والصليب هو المعاناة التي عاناها، ويعلمنا الكتاب المقدس أن من ينظر إليه لا يؤذيه سم الرغبات الشريرة (عدد 21: 8).

274. النظر إلى الصليب يعني إماتة حياة الإنسان كلها وصلبها لتموت عن العالم ولا تتأثر بالشهوات الشريرة (غل 6: 14)، لأنه حقا كما يقول داود النبي: “قد اقشعر لحمي من رعبك” (مز 119: 120) فكأن اللحم قد سُمر بمسامير هي ضبط النفس عن العالم.

275. كما يوضح الكتاب المقدس أن الشهوات الشريرة قد أخرجت الحيات من الأرض (لأن كل نتاج لشهوة شريرة هو حية)، فقد بيّن الناموس أن الحيّة رمز واضح لخشبة الصليب. وصورة الصليب هي شبه للحية وليست هي نفسها حية – كما يقول بولس الرسول في شبه جسد الخطية (رو 8: 3). فالخطية هي الحية الحقيقية، ومن يتجه إلى الخطية يأخذ طبيعة الحية.

276. إذًا يتحرر الإنسان من الخطية بمن أخذ شكل الخطية وأصبح مثلنا وتحول إلى شكل حية، وهو يجعل لدغات الحيات لا تسبب الموت، ولكن الحيات نفسها لا تموت – والحيات هي رمز للشهوات. فبالرغم من أن شر الموت الذي ينشأ عن الخطية لا يؤثر على من ينظرون إلى الصليب، فإن الجسد يشتهى ضد الروح (غل 5: 16) وشهوة الجسد تظل موجودة.

277. في الواقع لدغات الشهوة كثيرًا ما تكون نشطة حتى في المؤمنين. ولكن من ينظر إلى من رُفع على الخشبة يرفض الشهوات ويخفف سم اللدغات بالخوف من الوصية الذي يُعتبر دواء. ويعلمنا صوت الرب بوضوح أن الحية المرفوعة في الصحراء هي رمز لسرّ الصليب فيقول: “وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان” (يو 3: 14).

اغتصاب الكهنوت

278. مرة أخرى.. بعد إثارة الشهوات الشريرة – عادت الخطية في تتابعها الشرير تتقدم بنفس الطريقة كما لو كانت في سلسلة للشر، ومرة أخرى استخدم معطي الناموس العلاج لمداواة ما سببه الشر، فعندما فقدت لدغات الحيات فاعليتها مع الذين نظروا إلى شبه الحية – وأنت تعلم معنى الرمز هنا مما سبق أن قلناه – لجأ عدو الخير إلى استراتيجية أخرى ضمن وسائله اللانهائية التي لا يكف عن ابتكارها ضدنا.

279. ويمكننا أن نرى هذا يحدث الآن في مناسبات كثيرة. فعندما يكبح بعض الأفراد عاطفة الشهوة لديهم بالحياة المستقيمة فإنهم يقحمون أنفسهم في الكهنوت وينتحلون لأنفسهم صفة كهنة الله. ونقرأ في الكتاب المقدس في قصة موسى كيف دفع الشيطان أمثال هؤلاء إلى الشر الناجم عن ذلك.

280. عندما آمن الذين لدغتهم الحيات بسبب الشهوات التي كانت لديهم إلى المعلق على الخشبة، توقفت الأرض عن إخراج الحيات التي تلدغهم. وعندئذ ظنوا أنهم أعلى من أن تلدغهم الحيات، أي أنه في الوقت الذي تركتهم فيه رغبات الشهوة، دخل الكبرياء ليحل محلها. اعتقد هؤلاء أنه لم يكن لائقًا أن يظلوا في أماكنهم، فإنها كانت أقل من مستواهم، وزجوا بأنفسهم في كرامة الكهنوت، واستمروا في طرد الذين كانوا قد حصلوا على هذا الكهنوت من الله. وكانت النتيجة أن ابتلعتهم الهاوية السحيقة وأُبيدوا. كما أحرقت صاعقة كل الذين بقوا منهم على الأرض (عد 16: 31-35). وأعتقد أن الكتاب المقدس يعلمنا هنا أن الإنسان عندما يرفع نفسه بكبرياء ينتهي بالسقوط تحت الأرض. من هذا يمكن تعريف الكبرياء بأنه الصعود إلى الهاوية.

281. لا تدهش إذا كان الرأي العام يعتقد العكس، لأن أغلب الناس يعتقدون أن كلمة كبرياء تعني “الارتفاع عن الآخرين”، ولكن حقيقة القصة في الكتاب المقدس تؤكد تعريفنا للكبرياء. فإن من يرفع نفسه فوق الآخرين إنما يهبط إلى أسفل حيث تفتح الأرض هوة له، لذلك فإن الكبرياء هو سقوط وضيع.

282. يعلم موسى من يرون هذا أن يعتدلوا وألا يصيبهم الغرور بسبب سلوكهم القويم، بل أن يحتفظوا دائمًا بالطبع الحسن. ولا يعني التغلب على شهوة الإنسان في المتع أنه لم يعد معرضًا لتغلب نوع آخر من العاطفة عليه، فإن أية شهوة عاطفية هي سقطة طالما كانت شهوة، وتنوع الشهوات لا يعني نوعًا مختلفًا من السقوط، فالشخص الذي تزل قدمه على عاطفة زلقة قد سقط، مثل الشخص الذي سقط بالكبرياء. ويجب ألا يفضل الشخص الذكي نوعًا من السقوط على آخر، بل أن يتجنب أية سقطة على الإطلاق.

283. فإذا رأيت شخصًا يطهر نفسه من مرض اللذة إلى حدٍ ما، ويزج بنفسه في الكهنوت معتبرًا نفسه فوق الآخرين، فإنك تدرك أنه سيسقط إلى الأرض بكبريائه وتعاليه. ففي الجزء التالي للقصة في الكتاب المقدس يعلمنا الناموس أن الكهنوت شيء إلهي وليس بشريًا، وهو يعلمنا ذلك بالطريقة التالية:

عصا هرون وثمرة اللوز

284. بعد أن تم تمييز العصي التي تلقاها موسى من كل سبط باسم من أعطى العصا، وضع موسى العصي على المذبح، وكانت النتيجة هي أن عصا واحدة أصبحت شاهدًا على التكريس (السيامة) السماوي، فقد تم تمييزها عن العصي الأخرى بمعجزة سماوية، وهذا ما حدث: ظلت العصي الأخرى كما هي، ولكن عصا الكاهن أفرخت من تلقاء نفسها (وليس بسبب مياه من الخارج، بل من خلال القوة التي وضعها الله فيها)، وأخرجت فروعًا وثمارًا ونضجت الثمار، وكانت الثمار لوزًا.

285. من هذا الحدث تعلم الشعب كله وتلقوا تأديبًا. ويجب أن ندرك أن نوع الثمرة التي أخرجتها عصا هرون تمثل نوع الحياة اللائق بالكهنوت، حياة تتميز بضبط النفس والخشونة وجفاف المظهر ولكنها تحتوي من الداخل الثمر الذي يمكن أن يؤكل (مخفيًا وغير منظور). ويظهر هذا الجزء الداخلي عندما تنضج الثمرة وتزال القشرة الصلبة التي تشبه الخشب.

286. وإذا اكتشفت أن حياة الكاهن من النوع الذي ذكرنا أنه يزج بنفسه في الكهنوت تشبه ثمرة السفرجل، عطرية ولونها وردي – كحياة الناس الذين يتزينون بالملابس المصنوعة من الكتان والقرمز ويتخمون أنفسهم على موائد الأغنياء ويشربون الخمر الخالص ويعطرون أنفسهم بأفخر الطيب (قارن لو 16: 19, عا 6: 6)، ويستخدمون كل ما يبدو طيبًا لمن يميلون لحياة الترف، عندئذ يحق لك أن تطبق على هذا الموقف كلمة الإنجيل: كل شجرة تُُعرف من ثمارها(لو 6: 43) وأن تقول لهذا النوع: “عندما أنظر إلى ثماركم، لا أتعرف على شجرة الكهنوت”. ثمرة الكهنوت لا تنضج بفعل مياه أرضية، ولكن ثمرة هذا النوع من الكهنوت لها مجاري كثيرة ترويها من الملذات التي تتدفق من أسفل، تنضج بفعلها ثمرة الحياة بهذا الشكل.

طريق الملك

287. عندما تطهر الشعب من عاطفة الكبرياء، عبروا إلى الحياة في بلاد أجنبية. وكان الناموس يقودهم على طريق الملك دون أن يحيدوا عنه على الإطلاق (عد 20: 17). ومن السهل على المسافر أن ينحرف جانبًا. ولنفترض أن هناك جرفين وبينهما ممر ضيق في الوسط، فإن أي شخص يعبر هذا لو انحرف عن الوسط في أي اتجاه يعرض نفسه للخطر، لأن الهوة على كلا الجانبين تبتلع من ينحرف جانبًا. وبنفس الطريقة يتطلب الناموس ممن يتبعه ألا يحيد يمينًا أو يسارًا عن الطريق – الذي يقول عنه الرب أنه ضيق وصعب (مت 7: 14، تث 7: 14).

الطريق الوسط للفضيلة

288. نتعلم من هذا أن الفضيلة توجد في الوسط. لذلك فإن كل الشر يوجد في نقص الفضيلة أو الإفراط الزائد فيها. وفي حالة الشجاعة يمثل الجبن نقص الفضيلة والتهور الإفراط فيها. والفضيلة هي الوضع الطاهر النقي الذي يوجد في وسط هذين الشرين المتقابلين. وبنفس الطريقة فإن كل أمر فيه سعي للأفضل يأخذ الطريق الوسط بين شرين متجاورين.

289. تقف الحكمة في المنتصف بين الدهاء والبساطة. ولا تمتدح حكمة الحيات ولا بساطة الحمام (مت 10: 16)، إذا كان الإنسان سيختار أحدهما منفردًا، ولكن الطبع الذي يجمع بينهما ويكون وسطًا هو الفضيلة. الشخص الذي ينقصه الاعتدال متسيب، ومن يتجاوزون حدود الاعتدال يقول عنهم بولس الرسول “موسومة ضمائرهم” (1 تي 4: 2)، فإن المتسيب يسلم نفسه للمتعة بلا حدود ولا قيود، وعكسه ينتقد الزواج على أنه دنس وكأنه زنا. والطبع الذي نلاحظه في الوسط بين هذين الاثنين هو الاعتدال.

290. كما يقول الرب فإن العالم غارق في الشر (1 يو 5: 19)، وكل شيء مضاد للفضيلة (وهو الشر) غريب عن الذين يتبعون الناموس، فإن الإنسان الذي يشق طريقه في هذا العالم سينهي رحلة الفضيلة الضرورية بسلام إذا اتبع الطريق الرئيسي الذي مهدته الفضيلة ولم ينحرف جانبًا في أي ظروف إلى طريق جانبي بفعل الشر.

بلعام وموآب

291. حيث أن هجوم عدونا (الشيطان) يصاحب الصعود نحو الفضيلة ويتحين الفرص لتحويل الصاعد نحو الشر، فإن العدو عندما يجد أن الناس يتقدمون في حياة التقوى، يشن هجومًا آخر مثل المتمرسين في فنون الحرب، وهؤلاء عندما يقدرون أن خصمهم يتفوق في ميادين المعارك المفتوحة، فإنهم يلجأون إلى وضع خطط لكمائن. بنفس الطريقة فإن قائد الشر يتوقف عن استخدام قوته علانية ضد من يكتسبون قوة من الناموس والفضيلة، ولكنه ينفذ هجومه سرًا بوضع كمائنٍ لهم.

292. يستخدم الشيطان السحر كحليفٍ له ضد من يهاجمهم. وفي الكتاب المقدس نرى السحر في شكل عراف متنبئ يستمد قوته المؤذية من أعمال الشياطين، وقد دفع حاكم مديان له أموالاً لكي يلعن الذين يعيشون مع الله، ولكنه في الواقع حوّل اللعنة إلى بركة. وندرك من هذا أن السحر عديم الفاعلية ضد من يعيشون في الفضيلة. بل إن من يتقوون بالمساعدة الإلهية ينتصرون على كل هجوم.

293. ويخبرنا الكتاب المقدس عن العرافة بمراقبة الطيور عندما يذكر أن بلعام كان لديه القدرة على العرافة[84]، وكان يستمد المشورة من الطيور. وقبل ذلك قال عنه أنه عرف أشياء عن المهمة التي كان ذاهبًا إليها من نهيق أتانه. ولأنه كان عادة يستمد النصيحة من أصوات الحيوانات غير العاقلة الواقعة تحت تأثير الشيطان، فإن الكتاب يصف بوضوح ما نطقت به الأتان. وهو يبين بهذا أن الذين سبق لهم أن خدعوا من الشيطان قد وصلوا إلى درجة أنهم استبدلوا التفكير المنطقي بقبول التعليم الذي يستمدونه من أصوات الحيوانات غير العاقلة. وعندما استمع بلعام إلى الأتان، فإنه تلقى التعليمات من الأشياء التي كانت قد خدعته، وعلم أن قوة الشعب الذي استأجره بالاق ليلعنه كانت لا تُقدر.

294. نعرف من الكتاب أيضًا أن لجئون – قطيع الشياطين – كان مستعدًا لمعارضة سلطة الرب. وعندما اقترب الرب الذي له سلطان على كل شيء، اعترف لجئون بقوة الرب العليا ولم يخفِ حقيقة أن هذه كانت هي الطبيعة الإلهية التي تعاقب من يخطئ- في الوقت المناسب. فيقول صوت الشياطين: “أه ما لنا ولك يا يسوع الناصري، أتيت لتهلكنا! أنا أعرفك من أنت؟ قدوس الله” (مر 1: 24) و”مالنا ولك يا يسوع ابن الله، أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذبنا؟” (مت 8: 29). وحدث نفس الشيء قبل ذلك عندما علمت القوة الشيطانية العراف بلعام أن شعب الله لا يُقهر.

295. لكي نخرج بنتيجة مما سبق أن قلناه في هذه النقطة نقول إن من يريد أن يتفوه بلغته ضد من يعيشون في الفضيلة لن يمكنه أن يخرج صوتًا مؤذيًا بالمرة، بل ستؤول اللعنة إلى بركة، ويعني هذا أن اللوم والاستهزاء لا يؤثران على من يعيشون في الفضيلة.

296. في هذا الشأن كيف يمكن أن نذم رجلاً ليس لديه أي ممتلكات على الجشع؟ وكيف يمكن أن نعظ رجلاً يعيش حياة وحدة وعزلة عن الانحلال؟ أو نعظ رجلاً هادئًا معتدلاً عن العصبية؟ أو رجلاً معتدلاً في عاداته عن الإفراط في الرفاهية؟ أو تعظ أشخاصًا عن أشياء خطأ تجلب اللوم ونحن نعرف أنهم يتصرفون عكسها؟ إن هدف هؤلاء الناس الذين يعيشون في الفضيلة هو أن يعيشوا حياة بلا لوم، كما يقول بولس الرسول: “لكي يخزى المضاد، إذ ليس له شيء رديء يقوله عنكم” (تي 2: 8). ولذلك يقول بلعام – الذي استدعاه بالاق ليلعن الشعب: “كيف ألعن من لم يلعنه الله” (عد 23: 8) وهو يعني: “كيف أذم شخصًا لم يفعل شيئًا يستوجب الذم وحياته منيعة ضد الشر، لأنه ينظر إلى الله؟”

سلاح الشهوات الجسدية الشرير

297. وعندما فشل مخترع الشر في ذلك، لم يتوقف تمامًا عن التآمر ضد من كان يهاجمهم، لكنه لجأ إلى الخداع الذي يميزه، وجذب الطبيعة مرة أخرى إلى الشر من خلال المتعة. والمتعة هي حقًا مثل الطعم المستخدم في الصيد، يستخدمها الشر للصيد، عندما تلقى بخفة فتجذب النفوس الجشعة إلى شص (سنارة) الهلاك، وتجذب المتعة المنحلة بوجه خاص الطبيعة للشر، عندما لا تأخذ حذرها. وهذا هو ما حدث لبني إسرائيل مع الموآبيات.

298. ما حدث هو أن بني إسرائيل الذين تغلبوا على أسلحة العدو والذين قهروا الهجمات التي شنت عليهم بالأسلحة الحديدية، والذين بقوتهم غيروا خط قتال أعدائهم، جرحوا هم أنفسهم من سهام المتعة مع النساء. والذين كانوا أقوى من الرجال قهرتهم النساء. وبمجرد أن ظهرت لهم النساء بجمالهن بدل الأسلحة، نسوا قوتهم كرجالٍ وانغمسوا في المتع.

299. كان المتوقع أن يمتلئ البعض منهم بالرغبة في العلاقات المحرمة مع الغريبات، ولكن معرفة الشر كانت تعني الانفصال عن الخير، ولذلك بدأ الله فورًا الحرب عليهم. ومع ذلك لم ينتظر فينحاس الغيور أن يتم تطهير الخطية بقرار سماوي، ولكنه أخذ في الحال دور القاضي والمحلف.

غيرة فينحاس

300. ثار غضب فينحاس ضد الرجال الذين امتلأوا بالشهوة، وقام بعمل الكاهن بتطهير الخطية بالدم، ليس بدم حيوان لم يرتكب ذنبًا ولم يشترك في عار الانحلال، ولكن دم الاثنين الذين اتحدا في الشر. واخترقت الحرية الجسدين معًا محافظة على العدل الإلهي ، معاقبة الشهوة بموت الذين أخطأوا.

301. تقدم لنا القصة التاريخية نصيحة نافعة للناس، وهي تعلمنا أنه ليس بين العواطف التي تؤثر على تفكير الناس شيء أقوى من مرض الشهوة. ونحن نرى أن الإسرائيليين الذين كانوا أقوى بوضوح من فرسان المصريين وانتصروا على عماليق وأرهبوا الأمة التالية التي واجهوها بعد ذلك وتغلبوا على قوات المديانيين – هؤلاء اُستعبدوا لمرض الشهوة بمجرد أن شاهدوا النساء الغريبات مما يبين كما قلت أن الشهوة عدو لنا من الصعب محاربته والانتصار عليه.

302. انتصرت الشهوة بمظهرها فقط على أولئك الذين لم تهزمهم الأسلحة، ووصمتهم بالعار، وأعلنت عارهم علانية، وأظهرت الشهوة أنها تحول الناس إلى حيوانات، فقد جعلهم الميل الحيواني غير العقلاني للانحلال ينسون طبيعتهم البشرية. ولم يحاولوا أن يخفوا إفراطهم في الشهوة، بل زينوا أنفسهم بعار الشهوة، وجملوا أنفسهم بالعار المخجل، وهم يتمرغون كالخنازير في حمأة القذارة علنًا والكل يراهم.

303. ماذا نتعلم إذًَا من هذه القصة؟ نتعلم أنه بعد أن عرفنا القوة الكبيرة لمرض الشهوة يجب أن نبعد حياتنا بقدر الإمكان عنه. وإلا فإن المرض يمكن أن يجد ثغرة يتسلل منها إلينا، مثل النار التي يسبب قربها من الإنسان لهبًا ضارًا. ويعلمنا سليمان هذا في سفر الأمثال عندما يقول أن الإنسان لا يجب أن يمشي على الجمر فتكتوي رجلاه، أو يأخذ نارًا في حضنه (أم 6: 27-28). ونحن يمكننا أن نحمي أنفسنا من التأثر بالعاطفة طالما ابتعدنا عما يشغل نارها. وإذا اقتربنا بحيث نخطو على الحرارة المحرقة، فإن نار الشهوة سيشتعل في صدورنا، وتكون النتيجة أن تحترق أقدامنا وصدورنا.

304. لكي نبعد عن هذا الشر، يقطع الرب بصوته في الإنجيل جذر الشر نفسه – وهو الشهوة التي تنشأ من النظر–  عندما يعلمنا أن الشخص الذي يرحب بالشهوة بأن ينظر إنما يفتح ثغرة للمرض ليؤذيه (مت 5: 28 وما يليها)، فإن شرور الشهوة مثل الوباء، إذا تمكنت من الوصول للأجزاء الحرجة في الجسم لا تتوقف إلا عند الموت.

موسى النبي وطريق الكمال (النمو المستمر للحياة)

305. أعتقد أنه لا داعي لإطالة الحديث بتقديم حياة موسى بأكملها للقارئ كمثال للفضيلة. فإن من يسعى لحياة أسمى يكفيه ما قلناه للوصول إلى الحكمة الحقيقية، ولكن من يضعف عن الجهاد من أجل الفضيلة لن يستفيد حتى ولو كتبنا أكثر بكثير مما قلناه.

306. ويجب ألا ننسى التعريف الذي أوردناه في المقدمة، حيث أكدنا أنه ليس هناك حد للحياة الفاضلة أو وصف للكمال يمكن أن يقف عنده ويتوقف التقدم في طريق الفضيلة. وطريق النفس إلى الكمال هو النمو المستمر للحياة إلى ما هو أفضل. وسنصل بحديثنا إلى نهاية حياة موسى لنبين تعريف الكمال الذي ذكرناه.

307. إن من يسمو بحياته فوق الأشياء الأرضية بالصعود إلى أعلى كما فعل موسى، لن يتوقف أبدًا عن الارتفاع أكثر حتى يصبح كل شيء في حياته فوق السحابة التي تحيط وتلتف بمجرد الصعود الروحي.

308. لقد وُلد موسى في وقت كان المصريون يعتبرون فيه أن ولادة طفل عبراني أمرًا غير مرغوب فيه. وكان الطاغية الذي كان يحكم في ذلك الوقت قد أصدر قانونًا يعاقب كل ذكر عبراني يولد، ولكن موسى انتصر على القانون القاتل، حيث أُنقذ بواسطة والديه. مرة أخرى بواسطة نفس الأشخاص الذين سنوا القانون، وكان الذين يريدون موته بحكم القانون هم بالفعل الذين حرصوا حرصًا كبيرًا على حياته، واهتموا بتعليمه حيث تلقى كشابٍ تعليمًا في كل فروع الحكمة.

309. بعد ذلك وقف موسى موقفًا فوق الكرامة البشرية والعظمة الملكية. معتبرًا أن الحرص على الفضيلة والتجمل بزينتها كانا أقوى وأكثر لياقة بالملكية من أن يكون راميًا بالرمح ويرتدي زينة ملكية.

310. بعد ذلك أنقذ موسى مواطنه العبراني وقتل المصري، اللذين يرمزان في تفسيرنا التأملي لصديق النفس وعدوها، وانعزل في البرية واتخذ من عزلته معلمًا للأمور السامية، وبهذه الطريقة استنار فهمه بالنور الذي سطع من العليقة. ثم أسرع ليشرك مواطنيه العبرانيين معه في الخيرات التي وهبها له الله.

311. في تلك المناسبة أظهر موسى قوته بطريقتين، بصد أعدائه بضربات بارعة واحدة تلو الأخرى، وبفعل الخير لمواطنيه العبرانيين، فقاد هذا الشعب عابرًا البحر سيرًا على الأقدام دون أن يصنع أسطولاً من السفن، بل بدلاً من ذلك جعل إيمانهم سفينة لعبور البحر، لقد جعل قاع البحر أرضًا جافة للعبرانيين والأرض الجافة بحرًا للمصريين.

312. أنشد موسى أنشودة النصرة، وسار تحت إرشاد عمود الغمام واستنار بالنار السماوية في العليقة، وأعد مائدة طعام نزلت عليه من فوق، وأخرج ماءً من الصخرة، ومد يديه للقضاء على عماليق، وصعد الجبل ودخل في الضباب (الظلمة) وسمع البوق، واقترب من الطبيعة الإلهية، وأحيط بالبيت الإلهي، وزين الكهنوت بزي الكهنوت، وبنى البيت (على الأرض)، وأمر الشعب أن يحيا طبقًا للناموس، وحارب حروبه الأخيرة بالطريقة التي وصفناها.

313. كان آخر أعماله الصالحة هو معاقبة الانحلال عن طريق الكهنوت، بالغضب الذي أظهره فينحاس ضد الشهوة. وبعد كل هذه الأعمال ذهب إلى جبل الراحة، ولم يطأ أرض الموعد التي كانت موعودة للشعب وكانوا يشتاقون لها. وهذا رمز لأن موسى الذي فضل أن يعيش على ما كان يأتي له من فوق لم يعد يذوق الطعام الأرضي، ولكنه كان كمثَّال (صانع تماثيل) ماهر، فقد شكَّل تمثالاً جيدًا بحياته، ولم يكتف بالانتهاء من صنع التمثال، ولكنه وضع اللمسة النهائية عليه.

موت موسى عبد الرب

314. ماذا يخبرنا الكتاب هنا؟ “فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب… ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم… ولم تَكِلْ عينه، ولا ذهبت نضارته” (تث 34: 5-7). من هذا نعرف أن الإنسان الذي يعمل مثل هذه الأعمال النبيلة يستحق أن يدعى “عبد الرب” (عد 12: 7)، مما يعني أنه أفضل من كل الآخرين، فالإنسان لا يخدم الرب، إلا إذا تميز عن كل من في العالم. وهذا هو مرامه وهدفه من الحياة الفاضلة ونهاية الحياة التي تحددها كلمة من الله. والموت الذي نقرأ عنه في قصة موسى هو موت حياة، ليس بعده قبر ولا يملأ قبرًا أو يطفئ نور العينين أو يجلب شيخوخة للإنسان.

315. ماذا نتعلم إذًا مما سبق؟ أن يكون لنا هدف واحد في الحياة، أن نستحق اسم “عبيد الرب” بحكم الحياة التي نحياها. ذلك عندما نحذو حذو موسى، ونهزم كل الأعداء (المصريين وعماليق والأدوميين والمديانيين)، ونعبر البحر، ونسترشد بعمود الغمام، ونحلي مياهنا بالخشبة، ونشرب من الصخرة، ونذوق الطعام النازل من فوق، ونصعد الجبل بالطهارة والقداسة، ونصل إلى فوق، ونتعلم السرّ الإلهي من صوت البوق، ونقترب إلى الله في الظلمة التي لا يمكن اختراقها وذلك عن طريق إيماننا، هناك نتعلم أسرار البيت وكرامة الكهنوت.

316. وعندما تنقش – كمثَّال – الوحي الإلهي الذي تسلمته من الله في قلبك، وعندما تحطم الوثن الذهبي، أي عندما تحطم من حياتك رغبة الجشع، وعندما تسمو إلى مرتفعات لا يرقى إليها سحر بلعام (السحر هنا رمز للخداع الماكر الذي نتعرض له في الحياة، والذي يحدر الناس كأنه الشراب السحري الذي كانت الساحرة في الأساطير القديمة تحذر الناس به وتجعلهم يتحولون إلى حيوانات غير عاقلة ويتركون طبيعتهم السليمة)، عندما تمر بكل هذه التجارب وتزهر عصا الكهنوت في يدك بلا ماء من الأرض بل بقوتها الفريدة على الإثمار (الثمرة هي اللوزة التي مذاق قشرتها مُرْ وصلب ولكنها من الداخل حلوة وصالحة للأكل)، وعندما تقضي على كل شيء يقلل من شأنك، كما ابتلعت الأرض داثان وأحرقت النار قورح– عندئذ ستقترب من الهدف.

317. أعنى بـ “الهدف” الغاية التي يفعل كل شيء لأجلها، فغاية الزراعة هي الاستمتاع بثمارها، والغاية من بناء منزل هي السكن فيه، والغاية من التنافس في المسابقات هي الحصول على الجائزة. والغاية من الحياة السامية هي استحقاق اسم عبيد الرب، ومع هذه الكرامة في استحقاق هذا الاسم هناك هدف آخر هو الحياة البسيطة الخالية من الشر.

318. يصف الكتاب المقدس خاصية أخرى لخدمة الرب، فإن العين لا تكل ولا يشيخ الشخص. إذ كيف يمكن لعين موجودة دائمًا في النور أن تكل من الظلام الذي هو دائمًا بعيد عنه؟ والشخص الذي يمنع الفساد في حياته كلها بكل الطرق لا يسمح بدخول الفساد إلى حياته. ومن بلغ حقًا أن يكون في صورة الله ولم يحد بأي شكل جانبًا عن الطريق الإلهي يحمل في ذاته العلامات المميزة للشخصية الإلهية ويظهر في كل شيء تمسكه بالنموذج الإلهي، فيُجَمِل نفسه بكل ما هو غير فاسد ولا متغير ولا يشارك في أي شر على الإطلاق.

Conclusione

319. يا سيزاريوس، يا رجل الله، لقد كتبت لك هذا بإيجاز عن الأمور الخاصة بكمال حياة الفضيلة ورسمت ما يشبه نمطًا لحياة موسى العظيم بحيث يمكن لكل منا أن يقلد صورة الجمال الذي يظهر لنا فيها بتقليد أسلوب حياة موسى. وليس هناك دليل على أن موسى قد بلغ الكمال أكثر من الصوت الإلهي الذي قال له: “لأنك وجدت نعمة في عيني وعرفتك باسمك” (خر 33 : 12، 17)، وكذلك أنه قد سمي صديق الرب: “ويكلم الرب موسى وجهًا لوجه كما يكلم الرجل صاحبه” (خر 33: 11)، وأنه فضل أن يهلك مع الآخرين إذا لم يعفُ الله برحمته عن خطاياهم، وهدَّأ غضب الله على الإسرائيليين. وعدل الله عن حكمه على الإسرائيليين لئلا يحزن صاحبه. كل هذه الأمور هي شهادة واضحة ودليل على أن موسى قد بلغ أعلى قمم الكمال.

320. وحيث أن الغاية من حديثنا هي الوصول إلى طريق الحياة الفاضلة، وحيث أننا قد وجدنا هدفنا، لذلك يجب يا صديقي النبيل أن تنظر إلى هذه القدوة وتطبق في حياتك التفسير الروحي للأحداث الحرفية التي تحدثنا عنها: أن يصير الإنسان معروفًا للرب وصديقًا له. هذا هو الكمال الحقيقي، وليس تجنب حياة الشر لأننا نخاف مثل العبيد من العقاب، ولا فعل الخير لأننا نأمل في الحصول على مكافأة، كأننا نحصل على ثمن الحياة الفاضلة، وكأنها إجراءات صفقة تجارية، بل على العكس، فإننا لا ننظر إلى كل الأشياء التي نأمل فيها والمحجوزة لنا طبقًا للوعد، ونعتبر السقوط من صداقة الرب هو الشيء الوحيد المخيف، ونعتبر صداقة الرب الشيء الوحيد الذي يستحق أن نرغبه ونكرمه، وهذا هو الكمال في الحياة.

321. عندما يرتفع فهمك إلى الأمور العالية والإلهية، فإن ما ستجده (وأنا واثق أنك ستجد الكثير) سيكون للفائدة المشتركة في المسيح يسوع، آمين.


[83] يقول القديس غريغوريوس: “[قال العريس: “لا يكفي أن تقوموا من سقطتكم على الأرض، ولكن يجب أن تتقدموا في عمل الخير وتصلوا إلى آخر الطريق في الفضيلة.” نتعلم هذا من مثال المفلوج في الإنجيل (مت 6:9)، فلم يقل السيد المسيح للمفلوج أن يحمل سريره فقط، بل أمره أن يمشي. إنني أعتقد أن هذا النص يوضح التقدم والسير نحو الكمال. يقول المسيح: “قم وتعالي”. ما هي القوة التي تكمن في هذا الأمر؟ حقًا إن صوت الله هو صوت القوة (مز 34:68). يقول: “أعطوا عزًّا لله على إسرائيل جلاله وقوته في الغمام”. ثم يقول: “لأنه قال فكان، هو أَمَرَ فصار” (مز 9:33) انظر أيضًا ما يقوله العريس لعروسه: “انهضي ثم تعالي”، وفي الحال يتحول أمره إلى حقيقة، وفي نفس الوقت تستقبل العروس قوة كلمة الله، فتقف وتتقدم نحوه، وتفترب من النور. ويشهد كلمة الله عندما يراها ويقول: “أجاب حبيبي وقال لي: قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي” (نش 10:2).] عظة 5 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[84] يرى البابا غريغوريوس أن بلعام كان يستخدم الطيور والحيوانات في معرة الغيب.

Facebook
Twitter
Telegramma
WhatsApp
PDF
it_ITItalian
Torna in alto