Biserica și Sacramentele

І- المقدمة

يعتبر بعض الآباء أنّه كما أنّنا لا نستطيع تقديم أيّ تحديد للمسيح الذي هو رأس الكنيسة، ما عدا القول بأنّه المسيح الإله-الإنسان، فهكذا أيضا لا نستطيع أن نقدّم أيّ تحديد ملائم للكنيسة، ما عدا القول بأنّها جسد المسيح الإله-الإنسان. إنّها الجسد الذي إتخذه المسيح من والدة الإله وألّهه، والقديسون صاروا أعضاء هذا الجسد. وهذا يعني أنّ الكنيسة هي بحدّ ذاتها سرّ غير مدرك عقلياً من قبل أبناء البشر، وهذا ما يمنعنا أن نحصرها بأيّ تعريف محدّد وذلك لأنّها تفوق كل التحديدات البشريّة اللغويّة. ولكن من الممكن لنا أن نعطي صوراً وأسماءً لها، كان أعطاها الكتاب المقدس واستعملوها الآباء، فنفهم بعض الشيء عنها.

 

فالكنيسة هي المجتمع الإله-البشريّ، التي أسّسها الله بواسطة الله الإبن في الروح القدس، وذلك من أجل خلاص وتقديس البشر. أعضاؤها ينتسبون إلى الشعب والإكليروس، الذين يشكّلون معاً شعب الله . وتحوي الكنيسة جزئين (أرضي مجاهد و سماوي ظافر)، فالجزء الأرضي وهو ما يسمّى بـ “الكنيسة المستنفرة” أي التي أعضاؤها يعيشون في حالة دائمة من الإستنفار في الجهادات المختلفة إلى حين مجيء ربّها ومخلّصها يسوع المسيح، والجزء اتلثاني من الكنيسة هو الجزء السماوي، وهو ما يسمّى “الكنيسة الظافرة” أي التي أعضاؤها كلّلهم الرب بأكاليل الظفر بعد أن جاهدوا وبذلوا دمائهم بمعونة وإحياء الروح القدس ، ويحوي هذا الجزء أيضاً على الملائكة الذين يحيون مع القديسين ويقدّمون معهم تسابيح دائمة للّه وهم في حالة فرح دائمة.

أمّا الأسرار فهي الخدمات المؤسّسة من الله والتي بواسطتها تنقل إلى المؤمنين نعمة الله غير المنظورة وغير المخلوقة . والأسرار ما هي إلاّ نقل لذلك “السرّ الأزليّ” سرّ أنّ الله محبّة، وهو السرّ الخفي المستتر الذي كشف لنا بيسوع بتجسّد المسيح وصلبه وموته وقيامته، وهذا السرّ بالذات ينقل إلينا بواسطة الأسرار الكنسيّة لكي نحيا ذلك السرّ الإلهي الأزليّ.

أما علاقة الكنيسة بالأسرار فهي علاقة متينة جدا، وذلك لأنّها محور وهدف هذه العلاقة هو الرب يسوع المسيح . فالكنيسة- التي هي جسد المسيح حقيقة- تقيم الأسرار. والأسرار، التي سرّ أسرارها هو المسيح ومركزها وهدفها، تحيي الكنيسة. ولا يمكن بحث أي علاقة بين الأسرار والكنيسة خارج المسيح لأنّ به كان كل شيء وبدونه لم يكن شيء ممّا كان.

ІІ- الكنيسة

1- مفهوم الكنيسة

الكنيسة هي المجتمع الإلهي- البشري، التي أسّسها الله الآب بواسطة الله الإبن في الله الروح القدس من أجل خلاص وتقديس البشر. أعضاؤها ينتسبون إلى الشعب والإكليروس، الذين يشكلون شعب الله ، وهم إمّا يعيشون في حالة قصوى واستعداد دائم (الكنيسة المستنفرة)، وإما الذين يوجدون في السماء (الكنيسة الظافرة) .

رسالة الكنيسة، هي خلاص وتقديس المؤمنين ونشر الإنجيل في جميع أقطاب العالم . والكنيسة هي مستودع الخلاص الذي هو ليس شيئا آخرا سوى الحياة التي تعاش من داخل الكنيسة بشكل مستمرّ من البداية حتى النهاية .

والكنيسة كجماعة متعبدة، هي جماعة من الناس يعبدون حقيقة وروحيا الله. وخارج الكنيسة لا يوجد حياة تعبدية حقيقية . فالحياة التعبدية هي ليست قضية شخصية ، بل هي مسألة جماعية . فالإنسان لا يقف أمام الله كفرد ، بل كشخص وكطبيعة بشرية في نفس الوقت ، يقف كإنسان محدد وكإنسانية متكاملة . من أجل ذلك فالصلوات تقدم بالعدد الإجمالي. إذا عبادة الله هي قضية عامة. فالكنيسة إذا هي مجموعة من الناس يعبدون حقيقة وروحيا الله . وخارج هذه الكنيسة لا يوجد حياة دينية حقيقية.

والكنيسة هي عنصرة مستمرة . فالكنيسة بشكلها المثالي والمتكامل قد أنشئت من الرب الإله في يوم العنصرة وذلك بحلول الروح القدس على الرسل . لذلك ، فالكنيسة في يوم العنصرة تحتفل معيدة بكل بهاء وخشوع بعيد مولدها. ولكنها لا تحتفل فقط بعيد مولدها وإنما هذا سر لحياتها الخاصة، لطالما أنه من ذلك الحين قد حل الروح القدس وهو يمكث وسيمكث إلى الأبد في العالم لكي يحيي الكنيسة. وبالتالي فالكنيسة هي عنصرة مستمرة.

2 – الكنيسة الظافرة والكنيسة المستنفرة.

ولا بد أن نعرف أن بعض الآباء يرجعون الكنيسة إلى ما قبل خلق العالم، وهم يعنون بها كنيسة الملائكة. فيتكلمون عن الكنيسة الواحدة التي تحوي جزئين : جزء سماوي ، وهو ما نسميه الكنيسة الظافرة ، وهي تحوي الآباء القديسين والشهداء وسائر القديسين ، وعلى حسب أقوال بعض الآباء فهي تحوي أيضا الملائكة ، فمثلا القديس باسيليوس وغيره من الآباء الكبار يرجعون الكنيسة إلى ما قبل خلق العالم ، وهم يعنون بها كنيسة الملائكة .

وطبعا ، فبما أن الجزء الطبيعي من الكنيسة يحوي الأعضاء الذين ما يزالون يعيشون على الأرض ، فلذلك من الطبيعي أن يحوي هذا الجزء من الكنيسة عنصرين (طبيعي و روحي). العنصر الطبيعي يتألف من (معابد، رعايا، طغمة الإكليروس، قوانين، أحكام…) ، لكن الكنيسة هي بشكل خاص مجتمع روحي، وهذا ما تشير إليه أسماء الكنيسة ” جسد المسيح، بيت الله، كنيسة الله الحي، المدينة المقدسة، مدينة الله…” . وهذه الأسماء بمجملها لا تشير أبدا إلى المادة ( كالمعابد الحجرية مثلا)، وإنما تشير إلى الهيكل الحي الذي هو جسد يسوع المسيح القائم من بين الأموات، والذي أصبح كنيسة الله ومدينته المقدسة وبيته … ومركز عبادته حيث يجتمعون المؤمنين به من جميع أقطار العالم لكي يعبدون حقيقة وروحيا الله .

والجزء الثاني من الكنيسة : هو الجزء المنظور ، وهذا ما نسميه “الكنيسة المجاهدة” أو “الكنيسة المستنفرة” أي التي هي في حالة إستنفار تام وذلك بالجهادات المتنوعة بما فيها من صلوات وتتميم الأسرار وعيشها ويقظة دائمة …….وهذه الصورة الأخيرة للكنيسة المنظورة “صورة الإستنفار والجهوزية التامة” توضح فعلا ما يجب أن تكون عليه الكنيسة . ولكن هذا لا يعني أبدا أنه يوجد كنيستين ، وإنما الكنيسة هي واحدة ولها رأس واحد هو الرب يسوع المسيح، ولكنها الآن تحوي جزئين، وأعضاء الجزئين هم أيضا في وحدة تبدأ من الآن وتكتمل بمجيء الرب يسوع الذي بمجيئه ستكتمل الوحدة بشكلها التام. وهم أيضا في علاقة متبادلة ومتينة فيما بين بعضهم البعض وما من زمان أو مكان أو أي شيء في العالم يفصلهم عن بعضهم وذلك لأن هذه العلاقة هي مبنية من قبل الرب يسوع وفي جسده .

– ІІІ الأسرار

1- السر في العهد الجديد.

يخبرنا الإنجيل الشريف عن سرّ ملكوت الله (مرقس11/4 ) الذي أعطى المسيح تلاميذه أن يعرفوه دون غيرهم. والمقصود “سرّ ملكوت الله” هي حقيقته العميقة المخفية على الناس الذين لم يقبلوا المسيح..

ويخبرنا القديس لوقا أن يسوع تهلل بالروح لأن الرب أعلن أسراره الخفية للأطفال (وهو يقصد التلاميذ) وهذه الأسرار تختص بشخص المسيح نفسه وسلطانه الذي أعطاه للتلاميذ على كل قوات الظلمة، وهذا ما تصلي به الكنيسة في أوشية الإنجيل، مؤمنة أن سرّ الله الذي في المسيح يستعلن من قلب كل من يقبل كلمة الإنجيل ويطيعها.

2 – السر الأزلي

يخبرنا الرسول بولس عن سرّ خفي في الله منذ الأزل، إذ يقول “وأنير الجميع في ما هو تدبير السرّ المكتوم منذ الدهور في الله (أفسس9/3) ، ويوضح الرسول أنّ هذا السرّ الذي كان مكتوماً وأعلن الآن بتجسد المسيح وعمله الخلاصيّ، هو سرّ محبة الله للبشر. هذه المحبة التي تدفّقت من الله بالتجسد هي أصلاً تشكّل حياة الله الثالوث القدّوس. أي أنّ المحبّة هي الله كما يقول يوحنا الإنجيلي (1يوحنا 8/4)، وبمعنى آخر فإن الآب والإبن والروح القدس هم متّحدون أزلياً بالمحبة.

تنطلق المحبّة في الثالوث من الآب الذي هو الينبوع إلى الإبن والروح القدس، وتعود إليه في دورة دائمة ، أي في حركة دائمة بين الأقانم الثلاثة .

هذا السرّ، سرّ أنّ الله محبّة في ذاته، كشف لنا في المسيح، والمسيح هو الذي حقّق سرّ المحبّة الإلهيّة من أجلنا وفينا. فالمسيح حقّق المحبّة بالفداء “الله بيّن محبّته لنا لأنّنا ونحن بعد خطأة مات المسيح من أجلنا” (رومية 8/5) . وبعد أن تمّم المسيح الفداء بالموت والقيامة، عاد إلى أحضان الآب وأعاد إليه الجنس البشري الذي كان قد أخطأ.

فبعودة المسيح الإبن المتجسد إلى الآب عاد الإنسان نفسه إلى الآب، ثم بعد صعود المسيح إلى الآب وجلوسه عن يمين أبيه بالجسد الذي قام به، فإن الله سكب على الكنيسة الروح القدس من أجل أن يعطي للمؤمنين بواسطة الروح كل ما أتمّه المسيح وحقّقه، أي لكي يمنحهم سرّ محبّته ويجعلهم يحيون معه كبنين .

إذاً يمكننا القول ، أنّ حياة الكنيسة تدور وتتدفّق داخل الثالوث القدوس، هذه الحياة أراد الله أن يعطيها للبشر. والروح القدس هو الذي يعطي حياة الله ويوزّعها في مواهبها المتنوعة. وهذه المواهب الإلهية المنسكبة على المؤمنين ، هي التي ستكون سبب وجود أناس يعيشون بحياة الله وبقوّته، تلك القوة التي كانت ظاهرة في المسيح في تجسده، وهي قوّته التي خلّصت وأحيت، والتي كان يجب أن تنقل بالروح القدس إلى الكنيسة. ومن هنا يمكننا القول بأنّ الكنيسة هي حياة المسيح نفسه منقولة إلينا بالروح القدس المتعطّف على البشر بنعمه ومواهبه المتدفّقة على البشر المؤمنين باستمرار.

إذًا، فقد أصبحت الكنيسة-جسد المسيح- هي المحيط الذي يفعل الله فيه. الله يحرّك الكنيسة، الله يحيي الكنيسة وينعشها بالحياة نفسها التي فيه. هذه الحياة الإلهيّة كما قلنا تجسّدت أولاً في شخص المسيح، والآن فإنّ الروح القدس هو الذي يوزّع حياة المسيح والقوّة التي في المسيح عن طريق الأسرار.

3 – السر في الكنيسة

الأسرار في الكنيسة: سرّ المعمودية، سرّ الميرون، سرّ الشكر، سرّ التوبة والإعتراف، سرّ الكهنوت، سرّ مسحة المرضى، سرّ الزيجة. هذه الأسرار لا تعني شيئاً آخر غير السرّ الإلهيّ الأزليّ الذي تكلّم عنه بولس الرسول، أي سرّ الحياة الإلهيّة، سرّ محبة الآب والإبن والروح القدس، سرّ عودة هذه المحبّة إلى الآب.

فأسرار الكنيسة ما هي إلاّ نفس السرّ الإلهيّ الأزليّ الذي ينكشف لنا الآن ، السر الإلهي الذي يتحقّق الآن في عمل الكنيسة.

هذا السر الذي تحدّث عنه بولس الرسول إلى أهل أفسس ، والذي قال لهم عنه “سر المسيح الذي في أجيال أخر لم يعرّف به أبناء البشر كما قد أعلن الآن بالروح القدس لرسله القديسين وأنبيائه. وهو أنّ الأمم شركاء في الميراث وأعضاء في الجسد وشركاء في الموعد في المسيح يسوع بالإنجيل” (أفسس 6-4/3) . هذا السرّ الإلهيّ الذي يعطى بالروح القدس في الكنيسة ، نصير نحن شركاء فيه. نصير شركاء هذا الشيء الخفي في أعماق الله وهو أنّ الأمم محبوبين ومدعوّين للدخول في ميراث الله.

أسرار الكنيسة إذًا ، هي إخراج لسرّ الله الخفي، هي نقل لسرّ الله إلينا، هي ترجمة لهذه المحبّة الإلهيّة. وبالتالي هذه الأسرار كلها لها علاقة بحياة المسيح في الجسد ، وهذا هو الأمر الأساسيّ في الحديث عن الأسرار. هذه هي الحياة الإلهية والأزلية ، عاشها المسيح في الجسد هنا على الأرض. والروح القدس يوصل إلينا حياة المسيح كما عاشها هنا. لذلك، فعندما نتكلم عن الأسرار، فنحن نتكلّم عنها باعتبارها إمتدادات لحياة المسيح في أيام تجسّده، بحيث أننا ننال قوّة الحياة نفسها التي كانت في المسيح، وذلك عن طريق الأسرار. فالمسيح الحي هو نفسه الذي يعمل الآن في الأسرار بواسطة الروح القدس .

ІV- العلاقة بين الكنيسة والأسرار

1 – المسيح أصل هذه العلاقة

الربّ يسوع المسيح هو أصل هذه العلاقة فيما بين الأسرار والكنيسة، ولا يمكن بحث أيّة علاقة ما بينهما إلاّ من خلال المسيح، وحتى أنّ هذه العلاقة لا توجد أصلا بدون المسيح ولا داعي لوجودها ، وذلك لأنّ المسيح هو غايتها وهدفها ، وهي أصلاً مبنية عليه. ترتبط الكنيسة بالأسرار إرتباطاً تامّاً ومتيناً، وذلك لأنّ رباطها هو المسيح . وغير صحيح أنّ الأسرار هي من عمل وإخراج التلاميذ فيما بعد، أو أنّ الكنيسة هي من عملهم، فلا الرسل ولا التلاميذ ولا من جاؤؤا بعدهم كان بإمكانهم تأسيس أي سرّ، لأنّ الأسرار تنقل إلينا أولاً نعمة الله غير المنظورة وتجعلنا أعضاء في جسد المسيح ، لذلك لا يمكن لأيّ بشريّ مهما كانت قامته أن يؤسّس سرّ أو كنيسة ، لأنّ هذه المهمّة تحتاج الله نفسه . فالرسل والأنبياء والكهنة… هم ليسوا إلا وسائل يستعملها الله من أجل تتميم الخلاص المعدّ للبشرية من قبل الله. وكما ذكرنا ، فإنّ المسيح هو أصل كل العلاقة والإرتباط ما بين الكنيسة والأسرار. فالمسيح : به أقيمت الكنيسة، وهو الحاكم الأوحد لها . هو رأسها وهي جسده . هو ضابطها الذي يجمع أعضاء جسده من جميع أقطار العالم. به ولدت الكنيسة ومن دونه لا توجد أبدا . فهو هدف وغاية كل أعضائها. وهي التي بتجسّده أصبح لها جسدًا هو جسد المسيح. وهي سرّ المسيح الذبيح وجسده. لذلك لا يمكن الفصل أبدا بين المسيح والكنيسة جسده الحقيقي.

والمسيح : به ولدت الأسرار التي هي نقلاً لذلك السرّ الأزليّ الذي في الله الثالوث (سر أنّ الله محبّة) .وهي تستمدّ وجودها ومعناها وفاعليتها الواقعيّة والروحيّة من التجسّد الإلهي لربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح. هو السرّ الذبيح سرّ أسرار الكنيسة. والأسرار بمجملها هي من أجله فهو أصلها وهدفها وغايتها . لذلك الأسرار لا توجد بدونه كما وهو لا يوجد بالنسبة لنا بدون أسرار. فنحن نتعرّف عليه من خلالها، ونتطهّر بها ، ونتألّه بواسطتها. كما وأنّ المسيح هو الذي يتمّم سائر الأسرار من خلال الروح القدس، فهو الكاهن الأزلي الذي يتمّم جميع الأسرار، وما الكهنة الأرضيّون إلاّ أشخاص عاديون مثل سائر البشر ولكنّهم كهنة على صورة الكاهن الأعظم، مقامين من الروح القدس على صورة المسيح الكاهن لكي تخدم بواسطتهم جميع الأسرار.

فالمسيح إذاً هو كل شيء في الكنيسة، وهو كل شيء في الأسرار. لذلك هو نقطة الوحدة بين الإثنين، وهو محورهم وغايتهم.

2 – الكنيسة كسر

أولاً يجب أن نشدّد على أنّ الكنيسة هي سرّ. فهي، بارتباطها بالمسيح وكونها جسده، ليست مؤسسة بشريّة، بل هي كائن حي إلهي-بشري . وفي الوقت نفسه، الكنيسة ليست جسد المسيح رمزياً، كما يقال عادة، بل هي جسد المسيح الحقيقي لأنّ المسيحيين أعضاء الكنيسة هم أعضاء حقيقيون في جسد المسيح .

وحقيقة أنّ الكنيسة هي جسد المسيح لا تعني أنها تتوحّد وجودياً بالمسيح، الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس، ولا أن الطبيعة الإلهية في المسيح تتوحّد بالطبيعة البشرية، لأنّ كلّ طبيعة تحتفظ بخواصها. إذًا الكنيسة أيضاً لا تتماثل وجوديا برأسها ولكنّها مرتبطة بشكل وثيق بالمسيح .

فالكنيسة (جسد المسيح) إذاً هي سرّ ، وكل ما يجري فيها أيضاً هو سرّ . وسبب هذا أن الكنيسة ليست مؤسسة بشريّة، وليست مؤسسة دينية تلبّي بعض الحاجات الدينية، إنّما هي الجسد الحقيقي للمسيح، ورأسها هو المسيح نفسه.

ويعتبر بعض الآباء أنه كما أننا لا نستطيع أن نقدّم أيّ تحديد للمسيح الذي هو رأس الكنيسة، ما عدا القول بأنه المسيح الإله-الإنسان، فهكذا أيضاّ لا نستطيع تقديم أي تعريف ملائم للكنيسة، ما عدا أنها جسد المسيح الإله-الإنسان. إنها الجسد الذي اتخذه المسيح من والدة الإله وألهه، والقديسون صاروا أعضاء هذا الجسد.

والمسيح إستعمل صورًا كثيرة أخرى للتعبير عن هذا الأمر، كصورة الزواج، صورة العريس والعروس، صورة الكرمة، بينما صورة الجسد استعملها القديس بولس الرسول. وإلى جانب صورة الجسد المستعملة في الكتاب المقدس كما في التعليم الآبائي، هناك صوراً أخرى تظهر هذه الشركة وهذه الوحدة بين المسيحيين والمسيح. فبحسب الذهبي الفم ، قيمة الكنيسة العظمى تظهر من كثرة أسمائها. فالمسيح هو أسقف الكنيسة الحقيقيّ ورأسها، له أسماء كثيرة فهو يدعى: أباً، طريقاً، حياةً، نوراً، سلاماً، أساساً، باباً، راعياً، بلا خطيئة، كنزًا، سيّدًا، إبناً، المولود الحيّ، إبن الله، صورة الله، مثال الله. ولا يكفي إسم واحد لنتعلم الكل، لأنّ الأسماء الكثيرة هي لنتعلّم بعض الشيء عن الله، ولو قليل، وكل ما يتمّ من خلال المسيح رأس الكنيسة يتمّ من خلال الكنيسة التي هي جسده. “وعليه فالكنيسة أيضاً تسمّى بأسماء كثيرة”، فالكتاب المقدس يسمّيها “جبلاً” ليظهر ثباتها، و “عذراءً” للدلالة على عدم الفساد، و “ملكةً” للدلالة على فخامتها، و “امرأة عاقرًا تلد سبعة أولاد” للدلالة على الخصب. وفي الكتاب المقدس أيضاً أسماء كثيرة لإظهار خصوصيات الكنيسة وصفاتها المميّزة. وكما يقول الذهبي الفم أيضاً، الكنيسة هي “حيناً عروس، حيناً إبنة، حيناً عذراء، حيناً أمّة، حيناً ملكة، حيناً عاقر، حيناً جبل، حيناً فردوس، حيناً ينبوع، إنّها كلّ الأشياء” وكل هذه الصفات تعبّر عن الصفات الفريدة للكنيسة.

وأيضاً مكسيموس المعترف، فهو لا يحدّد الكنيسة بل يستعمل عدداً من الصور، فالكنيسة بحسب قوله هي “صورة الله، وصورة عن الجوهر المنظور والللامنظور للعالم الموجود، وصورة للنفس……..”

فهذا كلًه يؤكد على أن الآباء لم يحصروا الكنيسة ضمن تعريف معين، فالكنيسة (جسد المسيح) هي غير محدودة كما المسيح، وكما يطلق على المسيح أسماء كثيرة هكذا أيضاً على الكنيسة، فهي إذًا سرّ وعظيم ، وذلك بصفاتها المتميزة جداً التي تفوق العقل البشريّ وتحديداته وإدراكه.

3 – الكنيسة جسد المسيح

“الكنيسة هي جسد المسيح، وهي مستودع النعمة الإلهيّة. وقلب الكنيسة هو الروح القدس” (القديس سلوان الآثوسي). إذا، الكنيسة هي جسد المسيح القائم من بين الأموات، الجسم المليء بالروح القدس “جسم روحي”، جسم غير قابل للفساد وغير مائت، جسم ممجّد مع ما حمله من آثار عذابات البشر التي ذاقها من البشرية، (كمسامير الصليب….) التي لا تزال أيضا واضحة ولكنّها ممجّدة .

بحسب القديس بولس، فالكنيسة هي هذا الجسد بالذات ، “وأخضع كلّ شيء تحت قدميه وإيّاه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة، التي هي جسده ملء الذي يملأ الكل في الكل”(أفسس23-22/1). وأيضاً “الذي قبل كل شيء وفيه يقوم الكل وهو رأس الجسد الكنيسة. الذي هو البداءة بكر من الأموات لكي يكون هو متقدّما في كل شيء” (1كولوسي 18/1)،وأيضاً(كورنثوس27-13/12). وهذا التعبير عند بولس الرسول هو ليس مجرّد صورة ولكنه يتعلّق بسرّ إندماج المؤمنين بعمل الروح القدس في “الجسد”. وهذا ما كان الرب يسوع جعلنا نستشفّه ، وهو أنّ جسده سيكون مكان تجمّع أتباعه المؤمنين به، في عبارة ذكروها شاهدا الزور بعد تحويرها في أثناء محاكمته أمام قيافا رئيس الكهنة، حين إتّهما يسوع بأنّه قال “إنّي لقادر على نقض هيكل الله وبنائه في ثلاثة أيام”(متّى 61/26) وأيضا “إنّي سأنقض هذا الهيكل الذي صنعته الأيدي وأبني في ثلاثة أيام هيكلا آخر”(مرقس58/14). وفي الواقع أنّ يسوع كان يقول “إنقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه”(يوحنا 19/2) ويضيف يوحنا “وأمّا هو فكان يقول عن هيكل جسده”. كذلك “لمّا قام من بين الأموات، تذكّر تلاميذه أنّه قال ذلك، فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع”(يوحنا (22-21/2) .

ومنذ صلب يسوع وقيامته بات جسد يسوع القائم هو الهيكل الوحيد لإجتماع “العبّاد الصادقين”)يوحنّا 23/4) . وأصبح جسده المسيح الكنيسة (مركز العبادة، بيت الله، مدينة الله المقدّسة، أورشليم السماويّة، ملكوت الله….بات كل شيء) وله تسجد كلّ ركبة في السماء وعلى الأرض.

وهكذا دخلت البشريّة في حياة جديدة. وسرّ الدخول إلى هذه الحياة التي ستحوي أعضاء كثر في جسد المسيح، يتمّ بالأسرار المقدّسة التي أسّسها الرب يسوع من أجل خلاص وتقديس البشر وإتّحادهم بجسده القائم من بين الأموات، فيحيون حياة قياميّة وهم ما زالوا أحياء على الأرض، ويعيشون ملكوت الله لأنّهم متّحدين بجسد الملك الأعظم ملك السموات والأرض، وهذا الإتّحاد هو الذي سيجعلهم لا يزوقوا طعم الموت ولن يروه حتى ولو ماتوا، وذلك لأنّهم أعضاء في الجسد القائم من بين الأموات، المؤلّه، الممجّد، جسد يسوع المسيح الذي ألّه الطبيعة البشريّة. وهذا العمل سوف يتمّ من خلال الأسرار التي أقامها الربّ يسوع المسيح من أجل هذه الغاية، وذلك بالروح القدس الذي سينسكب على البشريّة المؤمنة بالمسيح فقط، لكي يعطيها حياة المسيح نفسه التي كان يعيشها على الأرض ، وذلك لن يتمّ إلاّ من خلال الأسرار التي سيعمل من خلالها الروح القدس.

4 – المسيح رأس الكنيسة والحاكم الأوحد لها

إنّ طبيعة وحدة المسيح المرتكزة على المسيح، تدلّ على أنّ رأسها المسيح يمتلك بطبيعة ألوهيّته كلّ الحقوق والأعمال التي أعطيت له من الآب بحسب ولادته الأزليّة منه “يسوع وهو عالم أنّ الآب قد دفع كلّ شيء إلى يديه وأنّه من عند الله خرج وإلى الله يمضي”(يوحنا 3/13) ، “الآب يحبّ الإبن وقد دفع كلّ شيء في يده”(يوحنا 35/3)، “كلّ ما للآب هو لي” (يوحنا15/16) .

وهكذا فالمسيح هو أفضل: رسول، (عبرانيين 1/3) ، نبي (متى 11/21، لوقا 16/7، 19/24، يوحنا 19/4…..) ، معلّم وأسقف (عبرانيين 20/13، 1بطرس25/2، 4/5) ، رئيس كهنة (عبرانيين 1/3، 17/2…) ، شماس (رومية 8/15…) ، خادم للأقداس (عبرانيين 2/8…) ، … . هذه التعابير توضح أن الخدم كلها تنبع منه، وأنّ حاملي هذه الخدم في الكنيسة يمارسونها بإسمه وليس من ذاتهم. وعدم وراثة خدم يسوع وانتقالها ، تعود من جهة أولى إلى طبيعته الأبديّة وغير المنتهية بقوّة الألوهة(عبرانيين24/7، 6-5/5، 3/7) ومن جهة أخرى حاملوا هذه الخدم في الكنيسة يحصلون عليها باشتراكهم وإيّاه، وذلك بحقّ إلهيّ. في الواقع أنّ كل المواهب تنبع من الروح القدس ، كذلك تنبع الخدمات والأعمال من المسيح (2كورنثوس6-4/12). بموجب ذلك يحكم المسيح بواسطة ممثلين عنه، إذ أنّ سلطتهم ليست موازية لسلطته أو مستقلّة عنها “الذي يسمع لكم يسمع لي والذي يرفضكم يرفضني والذي يرفضني يرفض الذي أرسلني”(لوقا16/10) ، “والذي يقبلكم يقبلني والذي يقبلني يقبل الذي أرسلني”(متى 40/10). نتيجة لذلك تصبح الكنيسة مجتمعاً إلهياً بتنظيم وترتيب إلهيين.

5 – أعضاء الكنيسة المجاهدة وارتباطهم بحياة الكنيسة الأسرارية

أعضاء الكنيسة هم الإكليريكيون والعلمانيون الذين يشكّلون معاً شعب الله . وهذا الأمر ليس مجردًا، فالوحدة بين الإكليريكيين والعلمانيين ليست مجرّدة، ولا ترتبط فقط بسر المعموديّة، لأنّ المعموديّة غير معزولة عن مجمل حياة الكنيسة، فهي ترتبط بسر الإفخارستيا ، وترتبط بالإيمان بشكل وثيق. إذًا، عندما نقول أن الكهنة والعلمانيين العائشين بالمسيح يشكّلون الكنيسة، فهذا يعني أن الكهنة والعلمانيين مرتبطون بحياة الكنيسة الأسرارية إرتباطاً نسكياً حقيقياً وليس سحرياً. ممّا يعني أنّهم مرتبطون بقوّة الله المطهّرة والمنيرة والمؤلّهة.

وما هو واضح من خلال التعليم الآبائي، أنّه هناك ثلاث درجات في الكهنوت: الشماس ، الكاهن ، والأسقف. هذه الدرجات مرتبطة بدرجات الحياة الروحية الثلاث: تطهّر القلب، الإستنارة، والتألّه. وعمل الكهنة ذو وجهين: أولاً إتمام الأسرار، وثانياً قيادة المؤمنين نحو عيش حياة الأسرار التي تحيي أعضاء الكنيسة وتمنحهم باستمرار النعم الإلهية المتدفقة من الله بالروح القدس لتطهيرهم وإنارتهم وتألّههم. وبناءً على ما تقدم يمكننا القول وبكل جرأة، بأن الكنيسة ليست منظمة بشرية، ليست لائحة أموات، إنما هي كائن حي إلهي-بشري. ويجب أن نجاهد دائماً لكي نكون ونبقى أعضاء حيّة في الكنيسة، ولكي نختبر روحيّاً وحدة الكنيسة.

ويتكامل فعل الأسرار المقدّسة ويترابط في النفس البشريّة. فبالمعموديّة يولد الإنسان ثانيّة للحياة الروحيّة، وبالميرون ينال النعمة التي تنمّيه وتثبّته في هذه الحياة، وبالإفخارستيّا يتغذّى الغذاء الإلهيّ ويتّحد بينبوع النعمة والحياة الأبديّة، وبالتوبة يشفى من خطاياه، وبالكهنوت يأخذ النعمة التي بها يلد لله آخرين بالأسرار والكلمة، وبالزواج ينال النعمة للرباط الزوجي وتكوين العائلة، وبالزيت ينال الشفاء من أمراضه الروحيّة والجسديّة.

6- المسيح (رئيس الكهنة الأبدي) والأسرار

المسيح إبن الله الحيّ بعد أن صلب لأجل خطايانا وقام حيّاً بمجد عظيم، صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب، وبصعود المسيح بالجسد إلى يمين الآب فإنّه موجود بصفة أبديّة كرئيس كهنة للخيرات العتيدة (عبرانيين11/9) . وتحدّثنا الرسالة إلى العبرانيين بكل وضوح عن عمل المسيح كرئيس كهنة في السماء يخدم الأقداس السماويّة ويقوم بالشفاعة الدائمة عنّا أمام الآب، فتقول الرسالة: “وأمّا رأس الكلام فهو أنّ لنا رئيس كهنة مثل هذا قد جلس في يمين عرش العظمة في السموات خادما للأقداس والمسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا إنسان”(عبرانيين2-1/8) . وأيضاً “وأمّا هذا (يسوع) فمن أجل أنّه يبقى إلى الأبد له كهنوت لا يزول. فمن ثمّ يقدر أن يخلّص أيضاً إلى التمام جميع الذين يقدمون به إلى الله إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم(عبرانيين25-24/7)، و “لأنّ المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة… بدمّ نفسه دخل مرّةً واحدةً إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً”(عبرانيين12-11/9)، و “لأنّ المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقة بل إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا”(عبرانيين24/9). وبدخول المسيح إلى الأقداس بصعوده إلى السماء فإنّه سكب الروح القدس على الكنيسة وبهذا الروح القدس يجري المسيح كل عمله الإلهيّ في الكنيسة وفي كلّ أسرارها.

ولا بدّ أن نذكر أنّ الروح القدس لم يكن ممكنا أن يأتي وينسكب على المؤمنين بالمسيح ليسكن فيهم سكنى دائمة إلاّ بعد أن يتمجّد يسوع أوّلا بالقيامة والصعود إلى السماء بعد صلبه، كما قال الرب يسوع نفسه “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب، من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح القدس الذي كان المؤمنون مزمعين أن يقبلوه لأنّ الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد لأنّ يسوع لم يكن قد مجّد بعد”(يوحنا39-37/7) .

وهكذا فقد حقّق المسيح وعده بعد صعوده، وبخدمته كرئيس كهنة في السماء أخذ موعد الروح القدس من الآب وسكبه على الكنيسة يوم الخمسين ، ولا يزال المسيح رب المجد هو الذي يسكب الروح القدس على الكنيسة في كلّ صلواتها لإتمام الأسرار.

7- المسيح هو المتمم الأساسي للأسرار

والكنيسة في كلّ أسرارها تطلب الروح القدس ليأتي بإسم الرب يسوع وذلك بحسب ما أوصى المسيح نفسه “الحق الحق أقول لكم إنّ كل ما طلبتم من الآب بإسمي يعطيكم”(يوحنا23/16) ، وأيضاً “ومهما سألتم بإسمي فذلك أفعله”(يوحنا13/14) ، لذلك ينبغي أن ننتبه إلى أنّ المسيح الحيّ الممجّد في السماء هو حاضر في كل صلاة وإجراء سرّ في الكنيسة، بل وهو أيضا الفاعل الأصلي في كل عمل تقوم به الكنيسة بحسب وصيّته. فالمسيح هو الذي يعمل بروحه القدوس من خلال الكهنة، في تتميم الأسرار.

وهذا ما يؤكّده الآباء بشكل عام ، نذكر منهم (أثناسيوس الكبير) ” إن عمّدنا وإن تبنا وإن صفحنا فإنّ المسيح هو علّة هذا كله وفاعله”، “إنّ الكاهن لا يقدّس الماء بل يتمّم الخدمة الواجبة وقد أخذ لها نعمة من الله”. و (يوحنّا الذهبي الفم) “إنّ اليد توضع على الرجل والله يعمل كل الأمر ويده هي التي تلمس رأس المشرطن إن كان يشرطن كما يجب”، “فآمنوا إذا أنّ هذا العشاء هو العشاء الذي اتّكأ فيه هو، لأنّه لا فرق بين هذا وذاك ، وليس الإنسان يصنع هذا ولا صنع ذاك، بل هو (المسيح) الصانع لذاك وهذا. فعندما ترى الكاهن يناولك لا تظن أنّ الكاهن يفعل هذا الفعل، بل إعرف أنّ اليد الممدودة هي يد المسيح. وكما أنّ الكاهن عندما يعمّدك ليس هو الذي يعمّدك بل الله هو الضابط رأسك بقوّة غير منظورة ولا يتجاسر ملاك أو رئيس ملائكة أو أحد غيرهما أن يدنو منك ويلمسك، وهكذا الآن أيضا. لأنّه عندما يخلق الله تكون الموهبة منه وحده” .

ولنأخذ الأسرار التالية على سبيل المثال:

بالنسبة لسر المعموديّة ، فالمسيح رئيس الكهنة الأبدي هو الذي بإسمه يعتمد المعمّدون وهو الذي يسكب عليهم الروح القدس من عند الله الآب بعد صعودهم من الماء ، وهذا ما سبق وأن قاله بطرس الرسول يوم الخمسين “توبوا وليعتمد كلّ واحد منكم على إسم يسوع لغفران الخطايا فتقبلوا عطيّة الروح القدس”(أعمال38/2) .

فالمسيح هو الذي يقوم بالتعميد وإعطاء الروح القدس من خلال الكاهن الذي يتمّم عمل المسيح كخادم منظور للسر الذي يعمل فيه المسيح بصورة فائقة غير منظورة.

وهكذا أيضاً بالنسبة لإعطاء الروح القدس . فكما يقول القديس كيرلّس عن سلطان إعطاء الروح القدس للناس، فحينما عمّد الشمّاس فيليبّس أهل السامرة بإسم الرب يسوع وسمع الرسل في أورشليم أنّ السامرة قد قبلت كلمة الله أرسلوا إليهم بطرسويوحنّا اللذين لمّا نزلا صلّيا لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس وذلك حينما وضعا الأيادي عليهم قبلوا الروح القدس (أعمال17-12/8). وهنا يقوله القديس كيرلّس: “ليس لأحد ولا حتّى الرسل السلطان الشخصي لإعطاء الروح القدس ، فهذا هو سلطان الربّ يسوع وحده، وإنّ الرسل عندما ذهبوا لأهل السامرة لم يعطوهم الروح القدس بسلطان شخصيّ ولكنّهم صلّوا لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس أي لكي يرسل المسيح الروح القدس على أهل السامرة وبعد ذلك وضعا عليهما الأيادي لينالوا الروح القدس” ، وطبعاً القديس كيرلّس يبني كلامه على شهادة الإنجيل “الذي ترى الروح نازلاً عليه فهذا هو الذي يعمّد بالروح القدس”(يوحنا33/1) .

وأيضاً بالنسبة للإفخارستيا، فكما جاء في القداس الغريغوري عن تتميم هذا السر، إذ يقول الكاهن “أيّها الإله الوحيد الجنس الذي في حضن أبيه….يا من بارك في ذلك الزمان الآن بارك أيضاً. يا من قدّس في ذلك الزمان الآن أيضا قدّس. يا من قسّم في ذلك الزمان الآن أيضا قسّم. يا من أعطى تلاميذه القديسين ورسله الأطهار في ذلك الزمان الآن أيضاً يا سيّدنا أعطنا وكل شعبك…” فمن هذه الصلاة يتّضح إيمان الكنيسة أنّ المسيح في كل خدمة هو الذي يقوم بالعمل في الأسرار بطريقة غير منظورة.

8- الكنيسة تتمّم الأسرار، والأسرار تحيي الكنيسة

الكنيسة هي التي تتمّم الأسرار من قبل رأسها ومن خلال أعضائها الذين تتمّم من خلالهم كل الأسرار . فكما ذكرنا سابقاً ، بأنّ سلطان إقامة الأسرار التي تمنح المؤمنين نعمة الله غير المنظورة وغير المخلوقة ، فالمسيح هو الكاهن الأبديّ الذي يتمّم الأسرار من خلال الروح القدس المقيم في العالم . وطبعاً هذا يحتاج إلى وسائل أرضيّة منظورة من قبل البشر ، لذلك فالروح القدس يقيم ويمسح كهنة وأساقفة أرضيين على صورة رئيس الكهنة الأوحد ، فيمثلون بمختلف رتبهم هؤلاء الرتبة التي للمسيح (أساقفة ، كهنة ، شمامسة) فجميع هذه الرتب هي للمسيح وهم على صورته لأنه الحامل الوحيد الأساسي لهذه الرتب . ويستمدّون السلطان الإلهي لتتميم هذه الأسرار، فالسلطان هو فقط مع المسيح، لأنه أعطي له من قبل الله الآب.

والأسرار تقام على إسم “الآب والإبن والروح القدس” ، ولا تخلو أبداً خدمة سر أو صلاة أو أي خدمة ليتورجية تتم في الكنيسة من الثالوث القدوس . وذلك لأن الأسرار هي عملية خلاص ، وكما تعلمنا من آبائنا وكتابنا ، فإنّ كل عملية خلاص يشترك فيها الثالوث القدوس لأنها تنبع من جوهر الله الثالوث. لذلك فالأسرار هي أعمال ثالوثية، حيث أنّ الله الآب سلّم للإبن السلطان ، وأنّ المسيح هو مالك هذا السلطان وهو من يتمم هذا السر من خلال الله الروح القدس الساكن في العالم إلى الأبد. فكما حصل في خلق العالم “الله الآب خلق العالم بالله الإبن في الله الوح القدس” يحصل أيضا في إقامة الأسرار “الله الآب يقيم الأسرار بواسطة الله الإبن في الروح القدس” . وهكذا أيضا يحصل في كل عمل إلهي خلاصي ، لذلك كل عمل ليتورجيّ مهما كان حجمه فنحن نقيمه على إسم “الآب والإبن والروح القدس” . وكما يقول القديس كيرلّس الإسكندري “إنّ التجديد في الحقيقة هو من عمل الثالوث القدوس…حتى وإن أظهرنا أننا ننسب لكل أقنوم على حدة عملاًممّا يحدث لنا أو للخليقة، ولكن علينا أن نؤمن أنّ كلّ شيء هو من الآب من خلال الإبن في الروح القدس”. وبناءً على ما تقدّم يمكننا القول وبدون أدنى شك بأن الكنيسة هي التي تتمّم الأسرار ، وذلك بواسطة المسيح الذي هو رأس الكنيسة والتي هي جسده . والوحدة بين المسيح والكنيسة (جسده) هي وحدة حقيقية ومتينة جدا فلا يمكن الفصل فيها أبدا . وكذلك أيضا الوحدة بين الكنيسة والأسرار هي وحدة متينة لا يمكن أن ننفيها أبدا . فكما أننا لا يمكن أن نتكلّم عن الكنيسة بدون المسيح ، فهكذا أيضا لا يمكننا التكلّم عن الكنيسة بدون أسرار ولا عن الأسرار بدون الكنيسة ، ولا يمكننا أن نتكلّم عن الإثنين بدون المسيح أبدا. وبالنتيجة نصل إلى قول نيقولاوس كاباسيلاس: “الكنيسة تستعلن في الأسرار”.

والأسرار بدورها هي التي تحيي أعضاء الكنيسة. ولا يوجد إحياء بدون الأسرار. لأنّ الله يتكلّم إلينا من خلال الحياة السرائرية، ونحن لا نكتفي فقط بالسمع ولكن نشترك في ذاك الذي يكلّمنا عنه الله. فالأسرار هي إمكانيات الشركة في أعمال الله الخلاصية.

الكنيسة لا توجد بدون الأسرار. فالكنيسة لا تكتفي بالتبشير بالخلاص لكن تحقّق وتتمّم الخلاص لأنّ المسيح حاضر في الكنيسة كفادي ورأس لجسده وهو ما زال مستمرّ في عملية الخلاص والفداء بواسطة أسرار الكنيسة.

إنّ علاقة الرأس والجسد هي عضويّة، لدرجة أنّ أيّ عمل أو فعل للرأس ينتقل إلى الجسد. والكنيسة بناء على ذلك تصير المكان والزمان الذي يقدّم لكل مؤمن إمكانيّة شركة في هذا الذي يفعله الله من أجلنا، وما القراءات الكتابيّة التي وضعتها الكنيسة في كل سر إلاّ لكي تعبّر عن المعنى والمفهوم الجوهري للسر أو بمعنى آخر هي تفسير مفهوم الأسرار أي الأعمال الخلاصيّة التي فعلها الله لأجلنا في سائر الأسرار.

هذه الأعمال الخلاصية (الأسرار) هي التي تحيي الكنيسة، وبالطبع عندما نقول بأنها تحيي الكنيسة فنحن نشير إلى الأعضاء وليس إلى الرأس الذي هو السر الذبيح الذي يحييها. وبمعنى آخر ، فالمسيح هو الذي يحيي أعضاء الكنيسة بالأسرار من خلال الروح القدس . وبالنتيجة ، فالمسيح هو سر كل الأسرار وهدفها ، وذلك لأنّ غاية الأسرار هي الحياة في المسيح .

V- النهاية

إذا، نستنتج ممّا سبق ما يقوله لنا القديس أثناسيوس الكبير: “الكنيسة أنشئت أوّلا ثمّ ولدت من اللهس إذا الكنيسة الآن هي جسد المسيح. وبالطبع، عندما نقول كنيسة لا نعني شيئا مجرّدا، إنّما نعني أعضاء الكنيسة، بحسب قول الرسول بولس: “وأمّا أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادا”(1كورنثوس12/27).”

وأنّ “الكنيسة هي المسيح” ، والمسيح هو رأس الكنيسة وجسدها، وهو يمتد على تاريخ الخلاص، ويستعلن بقوّة الروح القدس في سر الإفخارستيا وفي سائر الأسرار، لكي يعيش العالم رسالة الإيمان الخلاصيّة.

والمسيح يتجسّد في كنيسته بواسطة عمل الروح القدس في الكنيسة، الذي يعمل في البشريّة المؤمنة بدوره من خلال الأسرار وحياة الكنيسة السرائريّة. والروح القدس حاضر في الكنيسة من يوم العنصرة وإلى الأبد، وهو الذي يصنع أعضاء الكنيسة ويطهّرهم وينقيهم ويحفظهم سالمين وذلك من خلال الأسرار، وهذا ما يعني أنّ الكنيسة هي عنصرة مستمرّة . والروح القدس هو الذي يثبّت حضور المسيح في الكنيسة وذلك من خلال حياة الكنيسة الأسراريّة، وذلك لكي يستمرّ دون إنقطاع عمل سلطة المسيح الكهنوتيّة، التي سلّمها إلى رسله (التسلسل الرسوليّ)، ولكي يتأكّد باستمرار حضوره الفاعل في سرّ الإفخارستيّا وفي سائر أسرار الكنيسة.

أمّا العلاقة بين الكنيسة والأسرار المقدّسة فهي متينة جدا وثابتة للغاية، ولا يمكن أن يفصل بين الإثنين أبدا، فالكنيسة تتمّم الأسرار والأسرار تحيي الكنيسة. والكنيسة هي بامتياز سر تاريخ الخلاص، الذي منه تنبع كل الأسرار المقدّسة وإليه تعود في نهاية المطاف، لذلك وكما يقول كاباسيلاس “الكنيسة تستعلن في الأسرار” . وأسرار الكنيسة السبعة ما هي إلاّ نفس ذلك السرّ الإلهيّ الأزليّ الذي ينكشف لنا الآن، السرّ الإلهيّ الذي يتحقّق الآن في عمل الكنيسة. أسرار الكنيسة إذا، هي إخراج لسرّ الله الخفي، هي نقل لسر الله إلينا، هي ترجمة لهذه المحبّة الإلهيّة. وترتكز هذه العلاقة على المسيح، الذي هو الكنيسة وسرّ الأسرار ومحورها، لذلك لا توجد أي علاقة بين الإثنين خارج المسيح، فالمسيح هو أصل هذه العلاقة وهو غايتها. وأسرار الكنيسة تستمدّ وجودها ومعناها وفاعليّتها من التجسّد الإلهيّ لربّنا وخلّصنا يسوع المسيح، فالأسرار هي إمتداد لجسد يسوع في التاريخ.

والمسيح هو سرّ الكنيسة، التي هي أيضا سر المسيح الذبيح وجسده الحقيقيّ ، فالإفخارستيّا هو سرّ تعبّد وقداسة الكنيسة. المسيح إذاً غير منفصل عن الكنيسة التي هو رأسها، والكنيسة غير منفصلة عن المسيح الذي هي جسده. لهذا في الكنيسة مجد الله محفوظ ومعلن، وفي الكنيسة نحن نبلغ الإشتراك في هذا المجد. نحن نعتمد في الكنيسة، لأنّ العماد المقدّس هو السرّ التمهيدي، وفي الكنيسة نتناول جسد المسيح ودمه، وفي الكنيسة نشترك في تجسّد المسيح وصلبه وقيامته. هذا يعني أن نثبت في الكنيسة لنبلغ الخلاص. ونحن نتسلّم كل تعليم الآباء ونسعى إلى تكييف حياتنا في هذا الإتجاه. نحن لا ننفصل عن الكنيسة، أي عن الرئاسة القانونيّة وعن قدّيسينا حملة التقليد. نحن لا نجاهد لخلاص الكنيسة لأنّها جسد المسيح ولا تحتاج إلى مخلّصين، ولكنّنا نجاهد لنكون مخلّصين في بقائنا في الكنيسة.

نسأل الله بقلب متخشّع ورع منسحق أن يثبتنا على صخرة الإيمان الحقيقي ويجعلنا نتمتّع دائماً بأسراره المقدّسة ونثمر الأثمار الخلاصيّة لننال مواعيده الإلهيّة في ملكوته السماويّ. آمين.

 

 

جامعة البلمند – معهد القديس يوحنا الدشقي اللاهوتي
المادة :عقائد ІІ
الأستاذ :الأب د. جورج عطيه
الموضوع :الكنيسة والأسرار
الطالب (حالياً: الأب يعقوب، كاهن رعية شدرا/عكار) :روبير الجبر
جامعة البلمند/آذار – 2004

 

لائحة المراجع

  • 1. الأسرار للقديس أمبروسيوس، ترجمة بيت التكريس لخدمة الكرازة. مؤسّسة القديس أنطونيوس، مركز دراسات الآباء، نصوص آبائيّة-36- ط2، 1996.
  • 2. أسرار الكنيسة، أعمال المؤتمر السنويّ السابع للدراسات الآبائيّة 1998. مؤسّسة القديس أنطونيوس، المركز الأورثوذكسي للدراسات الآبائيّة، 1999.
  • 3. الله حي: التعليم الأورثوذكسي للبالغين. ترجمة د. دعد قنّاب عائدة. منشورات دير مار الياس شويا البطريركي، ط1، لبنان- ضهور الشوير، 2000.
  • 4. بندلي، كوستي و مجموعة من المؤلّفين: مدخل إلى العقيدة المسيحيّة. منشورات النور، ط3.
  • 5. دليل الرعائي إلى الأسرارال. بطريركيّة إنطاكية وسائر المشرق للروم الأورثوذكس، 1996.
  • 6. ديتريخ، سوزان ديب: القصد الإلهي أو جولات في الكتاب المقدّس، تعريب البطريرك إغناطيوس هزيم ورهبنة دير مار جرجس الحرف. منشورات النور، 1967.
  • 7. فلاخوس، الميتروبوليت إيروثيوس: الفكر الكنسي الأورثوذكسي، تعريب الأب أنطوان ملكي. تعاونيّة النور الأورثوذكسيّة للنشر والتوزيع، بيروت 2002.
  • 8. فولغاريس، خريستو: الكنيسة أفضل مجتمع حسب العهد الجديد. حوليات معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي 1990/1989.
  • 9. فيداس، د. فلاسيوس، مادة: الحقّ القانونيّ، سلسلة دروس أعطيت للسنة الثانية لاهوت في معهد القديس يوحنّا الدمشقي في جامعة البلمند، آدار 2004.
  • 10. كاباسيلاس، القديس نقولا: الحياة في المسيح، عرّبه البطريرك إلياس الرابع. تعاونيّة النور الأورثوذكسيّة للنشر والتوزيع، ط2، بيروت .2002
  • 11. اللاذقي، الشمّاس جراسيموس مسرّة: الأنوار في الأسرار. بيروت، المطبعة اللبنانيّة،1887.
  • 12. المفهوم الأورثوذكسيّ: الروح القدس بين الميلاد والتجديد المستمر. كنيسة الشهيد مار جرجس، باسبورتنج 1887.
  • 13. وير، تيموثي: الكنيسة الأورثوذكسيّة إيمان وعقيدة. سلسلة تعرّف إلى كنيستك، .11 ترجمة هاشم الحسيني بالإشتراك مع فريق من حركة الشبيبة الأورثوذكسيّة. منشورات النور، 1982.
  • 14. ΚOΚΚΙΝΑΡΗ, Μ.Κ: ΠΕΡΙΛΗΨΕΙΣ ΘΡΗΣΚΕΥΤΙΚΩΝ ΓΙΑ ΤΗ
    Γ’ ΓΥΜΝΑΣΙΟΥ. ΕΚΔΟΣΕΙΣ ΖΕΥΣ ΝΙΚΟΔΗΜΟΣ, ΑΘΗΝΑ .
  • ro_RORomanian
    Derulați până sus