بتفصيلينا لما يجري أثناء التكريس سنبين لماذا حصلت هذه الأفعال، ولماذا حصلت المائدة على هـذه النعمة بفعل رئيس الكهنة، ولماذا صارت المائدة مذبحاً. هذا العرض وهذا العمل الخارجي اللذان يبـدأ بهما الأسقف يرمزان إلى مذبح بشري. يقول النبي داود أن يتطهر الإنسان من كـل دنـس ويـصبح ابيض كالثلج يتراجع ويعود إلى ذاته ويدخل االله روحه ويجعل قلبه مذبحاً” فانك أنت قوتي وملجـأي” (مزمور 30 : 3).
يأتزر الأسقف ثوباً ناصع البياض ويربط حول ظهره، وبعد أن يمثل المذبح بشخصه وهو واقف أمـام باب الهيكل يمد يد المعونة إلى بيت التقديس. هكذا يفعل المهندسون قبل البـدء بعملهـم. مـا رسـمه الأسقف في عالمه الداخلي يسلمه إلى اليدين لتحقيقه في المادة.
ينقل بعض الرسامين رسومهم إلى القماش. أن فنهم ينحصر في نقل الألواح. وبعـضهم يكتفـي بمـا يذكرونه من مخلفات الخيال فينقلون ما يرونه في داخلهم وما تتأمله أرواحهم يحدث هـذا مـع كـل صاحب فن ومهنة. ولو كان بالإمكان رؤية روح الفنان لرأينا فيها كل ما يفكر بخلقه في عـالمٍ خـالٍ من المادة. فالأسقف يقوم مقام المثال بالنسبة للمذبح لا لأنه فنان بـل لأنـه هيكـل االله. إن الطبيعـة الإنسانية وحدها تستطيع أن تكون هيكـلاً حقيقياً من بين الكائنات المنظورة، وكل ما يصنع بالأيـادي البشرية ما هو إلا كمثيل لذلك المثال وتلك الصورة. لذلك كان من الضروري أن يقـدم المثـال بهـذا الشكل أمام الصورة المطلوب إيجادها وان تترأس الحقيقة عملية التكريس. إن القائل: “أي مسكن يبنيه لي سأسكنه وسأبقى فيه” (أعمال 7: 49) يقصد كما يبدو لي أن من أراد أن يكون نافعاً للغير عليه أن يبتدئ بمنفعة نفسه، وان من يتمتع بقدرة تهب مثل هذه الفضيلة الكبرى إلى الكائنات الحية عليه قبـل كل شيء أن يستفيد منها أولاً. ويفرض الرسول بولس على الأسقف بوضع النظام في بيتـه قبـل أن يفكر بتنظيم الشعوب والمدن، وان يسلك بموجب العقل الـصحيح قبـل أن يحـاول إدارة البيـت (1 تيموثاوس 3: 2و5).
فالأسقف يحتاج إلى االله ليتم العمل الذي يقوم بتحقيقه، إذ لا يمكن تحقيق أي عمـل بـدون المـساهمة الإلهية وخصوصاً في الأمور التقديسية حيث كل شيء متوقف علـى االله وعملـه. وبمـا أن معلمنـا المشترك لم يلب حاجات خدامه لا بواسطة ممثلين ولا بواسطة وسطاء بل جاء بذاته وأعلـن سـبيل خلاصنا فلذلك يجب على الأسقف أن يثبت المائدة بيديه كتلميذ خاص به، أن يثبت هذا النبع لهذه البل من الخلاص. وهذا يفعله ويتلو في الوقت نفسه المزمور” أريد أن أمجدك يا الهي وملكي” انـه نـشيد عمل النعمة واعتراف بجميل خيرات االله الباهرة. فإذا كان علينا أن نشكر االله على كل شيء فعلينـا كما يقول الرسول بولس أن نشكره قبل كل شيء على مواهبه الرئيسية الخيرة. ثـم يتلـو المزمـور” الرب يرعاني فلا يعوزني شيء” (مزمور 23: 1). لا يمجد هذا المزمور صلاح االله فحسب بل يرمز إلى الأسرار. انه في الواقع يشير إلى المعمودية، إلى المسحة، إلى الكأس إلى المائدة حيـث يـستقر الخبز المقدس. تُسمى المعمودية في هذا المزمور” مياه الراحة”، “مكان خـضرة”. وكاتـب المزاميـر يعبر فيه عن أمله بالوصول إلى هذا المكان بقيادة االله. في الواقع إن الخطيئة تحمل معها موكبـاً مـن الشرور للذي يجسر أن يقترفها وتغطي الأرض بالعليق. لهذا تسمى المعمودية التـي تقـضي علـى الخطيئة بالنسبة لآلام الحياة التي تهدي وبالنسبة للعليق “مكان خضرة، وأخيراً تسمى مكان راحة لأننا في المعمودية نحوز على الخير الأسمى ونرتاح بالسير في طريق االله. وتسمى المعموديـة فـي هـذا المزمور “مياه راحة” لأنها كما يبدو لي تحقق رغبة الجنس البشري. أنها الماء التي اشتاقها الكثيـرون من الأنبياء والملوك.
عندما يسجد الأسقف أمام االله ويسأله ضارعاً لا يفعل ذلك داخل الهيكل. لماذا؟ أليس لان الهيكـل لـم ينل بعد قداسة التكريس؟ أليس لأنه غير مؤهل بعد للخدمة؟ أليس لأنه غير جدير باستقبال من يـصلي ولم يصبح بعد بيتاً للصلاة؟ إن موسى كان يخلع حذاءه عندما كان يدوس أرضاً مقدسة حتى لا يحمل معه شيئاً يكون فاصلاً بينه وبين االله، وقد عاهد الشعب العبراني االله انه لن يدوس أرض المـصريين إلا والأحذية في رجليه.
عندما ينتهي هذا الطقس يطهر الأسقف المائدة المقدسة بالماء المقدسـة. مـن الـضروري قبـل أن نخصص المائدة لسر من الأسرار أن نجردها بالتطهير من كل اثر للروح الخبيث لان ظـالم الجـنس البشري جعل من الإنسان، ملك الطبيعة عبداً، وباستعباده استبعد الكائنات كلها لذلك قبـل أن يـستعمل الكاهن الماء للمعمودية يجردها مسبقاً من كل اثر للشيطان بالصلاة، ثـم يتلـو الكلمـات التقديـسية. وللسبب ذاته يغسل الأسقف المائدة بالماء الحاوي قوة التنقية. وهكذا يحدد الطريـق الـذي يجـب أن نسلكه نحو الخير، أي بالابتعاد عن الشرير لهذا يرتل المزمور المنطبـق علـى الـشرور البـشرية” تغسلني فأبيض أكثر من الثلج” (مزمور 50). ثم يقدم الشكر الله ويمجده ويكرر ذلك في كـل احتفـال لأنه يجب أن نعمل كل شيء لمجد االله وعلى الأخص الأسرار لأنها جمة الفوائـد وتـصدر عـن االله وحده.
لكي نصبح جديرين بنعمة االله لا يكفي أن نتنقى. يجب أن نبرهن قدر الامكان عـن فـضيلة مطابقـة للتنقية. وهذا شرط أساسي لنكون محظيين لدى واهب هذه النعم. إن االله ينشر في الواقـع بركاتـه لا على الذين ينامون في أحضان الكسل بل على الذين ينادونه متضرعين. يساعد مـن يكـافح، ويهـب نعمة الفطنة لمن يفتشون عليها بطرقهم الخاصة. أي علينا أن نظهر رغبتنا فـي كـل شـيء لـيس بالتمنيات بل بالجهاد الشخصي لهذا السبب قبل أن يدهن الأسقف المائدة بالميرون الذي يستنزل عليـه نعمة االله يعطرها بالعطور والخمرة، مواد عطرية للبشر، الواحدة تبعث السرور والثانية تشدد الحيـاة.
انه يقدم المادتين ليدلل على انه يقدم ما يستطيع الإنسان تقدمته، وانه يضحي له المفيد واللذيذ مـا دام االله قد قدم الحياة وبغزارة لا من أجل خير الخلاص والقيامة بل من أجل الملكوت والغبطة الأزلية.
يدهن الأسقف المائدة بعد انتهاء الطقس بالميرون المقدس الحاوي كل فضيلة التقديس والـذي يجعـل المذبح جديراً ومخصصاً للذبيحة. ولان المخلص استعمل الكلام واليد في الذبيحة أخذ الخبـز وبـارك (متى 25: 26) لذلك نفعل ما فعله. فالكاهن يتلو في الحقيقة الكلمات ذات الفعاليـة العظيمـة. كـان المسيح يتلوها: افعلوا ذلك لتذكاري (لوقا 22: 19) إن الميرون المقدس ينوب مناب اليد لأنه، حـسب قول القديس ذيونيسيوس، يدخل يسوع المسيح. الرسل أنفسهم استخدموا في مثيل هذه الحالـة أيـديهم.
كان ذلك من امتيازاتهم أما خلفاؤهم فيسرعون إلى المسحة لأنهم لا يستطيعون أن يقدموا إلا صـوتهم.
كانت الهياكل للكهنة الأولين أيديهم أما لخلفائهم فالمسيح يبني بواسطتهم البيوت المعدة للمؤمنين.
أثناء نشر الكاهن للميرون المقدس على المائدة لا يرافق الطقس كلام كما في الطقوس السابقة. يكتفـي بترنيم نشيد مؤلف من بعض العبارات” هللويا” موحى من الأنبياء القديسين. انه لمـستحب أن نمجـد بكلام كثير ما تحقق ولكن يجوز أن نختصر أناشيدنا إلى كلمات نرددها لنحقق تمجيد مـا نـستهدفه.
يليق كما أرى أن نعرض مطولاً الأمور التي حصلت سابقاً والتي ستحصل فيما بعـد حتـى تحيـي الكلمات ذاكراها في الحاضرين. هكذا فعل الأنبياء حتى يوحنا. لكـن عنـدما تحـدث هـذه الأمـور شعورياً، عندما تتم حوادثها أمام أعين المؤمنين فلا حاجة للكلام إلا للتعبير عـن الفـرح والعجيبـة.
ابتداء من يوحنا لم نعد بحاجة إلى مرسلين ما دام من أعلن عنه قد ظهر. لم يكن على يوحنـا إلا وان يعلن ويمجد من نزل على الأرض وظهر للملائكة الذين رتلوا بصوت واحد المجـد االله فـي العلـى.
والأسقف للسبب نفسه عندما يرى المحسن حاضراً لا يستدعي النعم التي منحت بـصلاته ولا يعـدد خيرات التنازل الإلهي المشعة أمام العيون بل يكتفي بإظهار ابتهاجه بهذا النشيد السري.
بما أن كل نعمة المائدة تأتي من الميرون المقدس فمن الضروري أن تكون المادة التي تقبل التقـديس أهلاً لمثل هذه النعمة لتصبح فعالة كما هي النار والنور بحضور مائدة مؤاتية لذلك. فاسم المخلـص لا يمكن أن يكون له النعمة ذاتها على كل الشفاه التي تستدعيه. لهذا نرى الأسقف لا يستعمل غير عظام القديسين لدهنها بالميرون كشيء جدير فقط بمثل هذا الكنز من النعم. يدهن الأسقف العظام ويـضعها في جسم المائدة وهكذا يكتمل المذبح.
لا شيء كالشهداء في صلاتهم الوثقى مع المسيح. أنهم يشبهونه بالجسد والروح وطريقة الموت وفـي كل شيء. عندما كانوا أحياء كان المسيح فيهم وعندما ماتوا لم يترك بقاياهم المقدسة بل ظل متحـداً بروحهم وهكذا اتحد واختلط بهذه المادة، بهذا الغبار الجامد وإذا كان بالامكان امتلاك االله فـي مكـان الأرض فالمكان هو عظام القديسين.
عندما يصل الأسقف إلى عتبة الكنيسة بذخائره يفتح لها الأبواب بالكلام ذاتـه وبإنـشاده لهـا يـدخل المسيح ذاته فيقدم لها التكريم الذي يقدمه للقرابين المقدسة. وفي الواقع إن هذه الذخائر هـي الهيكـل الحقيقي. البناء ليس إلا مثالاً فمن الضروري أن نضيف هذه العظام إلى البناء لتكملته كما يكمل العهد الجديد القديم.
بعد انتهاء الاحتفالات وبعد أن أصبح البناء مخصصاً للصلاة ينسحب الأسقف بعد أن يـشعل شـمعة فوق المائدة ليدل على أن الوقت وقت ذبيحة. وفي الواقع عندما تشعل المشاعل عند المـساء يـذكرنا المشعل بما حدث في بيت من فقد الدرهم. فقد أشعل المسيح المشعل ووجد بنوره الدرهم الضائع بـين الغبار التي غطته والظلمات التي حجبته، والنائم بين الصفائح كأنه تحت الثرى، والواقـع إذا نظفـت البيت تكون النتيجة العثور على الدرهم وإعادة النور إلى البيت، والمشعل هو الـذي اغـرق البيـت بالنور، يمسح الأسقف كل البناء ليصبح كله بيتاً للصلاة ويـصبح الاسـم موافقـاً لـه لان المـسحة المنتشرة، أي المسيح المخلص شفيعنا ووسيطنا عند الآب الذي يقدمنا الله ويصعد كالبخور صـلواتنا.
في الواقع الابن الوحيد للآب انتشر في عالم العبيد وعلى هذا الشكل قبل الآب مصالحتنا. ألقى علينـا واقترب منا عندما اقتربنا منه ووجدنا كما يجد ابنه الحبيب. فمن الضروري أن ننشر مسحة الـصلاة في كل البيت ليجذب البيت االله كما يقول سليمان الحكيم. وبما أن البناء يقال له هيكل االله، ولكي يكون في علاقة مع المسيح بالمسحة كما قبل المسيح مسحة الألوهة، اعني بالهيكل الحقيقي جسده المقـدس حسب قوله اهدم هذا الهيكل.