أ – معرفة الله
لا نقصد بمعرفة الله، إدراكه بالمنطق، بل اللقاء الشخصي معه. فعندما يستسلم المرء بكليته لله ويرغب في لقائه وتحنُّ إليه نفسه، وبعد أن يجتاز غيمة الجهل المظلمة، يأتي الله إليه فينير كل شيء حوله ويعتلن له، أو كما يقول النبي دانيال: “هو كاشف الأعماق والأسرار. يعلم ما في الظلمة والنورُ يسكن عنده” (دانيال 2: 22). ويبقى على الإنسان أن يجوع ويظمأ فعلاً إلى الله (مز1 4: 3، ارم 38: 25). من يتذوَّق حضور النور الإلهي يشعر بضعفه الشديد وقصوره وعدم استحقاقه فيهتف مع المرأة الخاطئة: (يا رب إن المرأة التي سقطت في خطايا كثيرة، شعرت بلاهوتك..).
لقد أجمع آباء الكنيسة على هذا الأمر، فعلّموا أن معرفة الله هبةٌ إلهية وليست نتيجة الجهد الإنساني. “أَرْسِلْ نورك وحقك، فهما يهدياني ويأتيان بي إلى جبل قدسك وإلى مساكنك” (مز 42: 3). ولا يستطيع احد أن يعرف الله إلاّ إذا علّمه الله نفسه. قال القديس غريغوريوس اللاهوتي: (ليس من وسيلة لمعرفة الله سوى أن نحيا فيه). أما القديس غريغوريوس النيصصي فقال: “اللاهوتي هو من يصلي حقاً، ومن يصلي حقاً فهو اللاهوتي” (انظر مز 35: 10، خاصة: وبنورك نعاين النور).
ب – شروط معرفة الله
لا يعتلن الله لمن يطلبه بعقله بل لمن يحبه، “ولكن من أحب الله، فهو الذي عرفه الله” (1 كو 8-3). من أحب الله بقلبه، سيسمع صوته وهو يدعوه ليصعد إلى الجبل ويجتاز السحابة. ولا بد أن يكون الإنسان متواضعاً إذا رغب حقاً في لقاء الله (متى 5: 3، 18: 3، بط 5:5) وأن يكون نقيّ القلب (مز 33: 19)، فقد قال الرب يسوع: “طوبى لأنقياء القلوب فإنهم يعاينون الله” (متى 5: 8).
ولكن هذا لا يكفي حتى يعتلن الله للإنسان، فعليه أيضاً أن يتّبع تعليم المسيح، لأن “من جاوز حدّه ولم يثبت على تعليم المسيح لا يحظى بالله. ومن ثبت على ذاك التعليم حظيّ بالآب والابن كليهما” (2يو:9). “من يعمل الخير فهو من الله، ومن يعمل الشر لم يَرَ الله” (3 يو: 11). فمن لم يكن إنسان محبة وتواضع، ومن لم يطهِّر نفسه ويحفظ تعاليم المسيح، لا يستطيع أن يكون لاهوتياً، أي إنسان يعرف الله، لأن (من زعم انه مقيم في الله، فعليه أن يسير مثل سيرة المسيح) (1 يو2: 6)، أمّا الذي لا يُطهِّر نفسه فان القديس مكسيموس المعترف يسمّيه “لاهوتي الشيطان”. وقد قال القديس يوحنا الرسول: “أيها الأحباء، نحن منذ الآن أبناء الله، ولم ينكشف لنا بعد ماذا نكون. نحن نعلم أن المسيح متى ظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو. ومن كان له رجاء في المسيح طهّر نفسه كما أن المسيح طاهر….من يخطئ لم يَرَ الله ولا يعرفه” (1 يو3: 2-6). أن طهارة الإنسان الداخلية ليست شرطاً لمعرفة الله وحسب، بل هي ثمرة الاتحاد به أيضاً. وقد توجّه الرب يسوع إلى الآب أمام تلاميذه فقال: “أظهرتُ لهم اسمك، وسأظهره لهم، لتكون محبتك لي وأكون أنا فيهم” (يو 17: 16).
أن معرفة الله هي نعمة من لدنه (غلا 4: 9، يو 6: 44)، ولكنها تفترض علاقة الإنسان الشخصية بالمسيح، فلا يمضي احد إلى الآب إلاّ إذا مرّ بي (يو 14: 6)، (فما من أحد يعرف الابن إلاّ الآب، “فلا احد يعرف الآب إلاّ الابن ومن شاء الابن أن ظهره له” (متى 11: 27). وتتحقق هذه العلاقة الشخصية مع الابن بحضور الروح القدس (انظر يو 14: 6، 15: 16: 13).
ج- منطلق معرفة الله وغايته
يختلف منطلق معرفة الله داخل الكنيسة اختلافاً جذرياً عن منطلق معرفته بالفلسفة، كما أن الهدف والغاية مختلفان. ولكن المسيح أعلن هذا الهدف بوضوح في صلاته إلى الآب: “لتكون فيهم محبتك لي وأكون أنا فيهم” (يو17: 26). وهكذا فإن منطلق معرفة الله في الكنيسة هو اللقاء الشخصي مع المسيح، أمّا غايتها فهي المحبة التي تعِّبر عن حياة الثالوث الأقدس، أي اشتراك الإنسان في هذه الحياة. “أنا فيهم وأنت فيّ لتكون وحدتهم كاملة…. لتكون فيهم محبتك لي وأكون أنا فيهم” (يو 17: 23 و26). منطلق معرفة الله هو المسيح. وهذا ما يصفه يوحنا في بداية إنجيله: “والكلمة صار جسداً وحل بيننا فرأينا مجده مجد الابن الوحيد الذي أتى من لدن الآب، ملؤه النعمة والحق” (يو 1: 14). أمّا هدف معرفة الله وغايتها فهما الحياة في المسيح، أي اتحاد الإنسان اتحاداً كاملاً بالمسيح.
ولذلك كان شخص المسيح محوَر الكرازة الرسولية دائماً، وكان هدفها الاتحاد بالمسيح والخلاص “في المسيح” (أع 4: 12، 5: 28-32).
د – تحدّي الصليب
شخص المسيح هو منطلق معرفة الله وخلاص الإنسان وغايتهما. وهذا هو الإنجيل، أي الرسالة الخلاصية التي حملها إلينا لمسيح. ولكن اليهود والأمميين في العصر الرسولي لم يتمكنوا من قبول هذه المقولة، فبقي تجسُّد المسيح، وخاصةً الصليب والموت، عثرةً لليهود وجهالة للأمميين، لأن صليب المسيح وتجسّده كانا تحدياً للمنطق البشري. “فالبشارة بالصليب هي جهالة عند الذين يسلكون طريق الهلاك، أمّا عندنا نحن الذين يسلكون سبيل الخلاص، فهو قدرة الله” (1كو 1: 18). “وإذا كان اليهود يطلبون الآيات، واليونانيون يبحثون عن الحكمة، فنحن ننادي بمسيح مصلوب. وهذه عثرة لليهود وجهالة في نظر اليونانيين. وأمّا للذين دعاهم الله من اليهود واليونانيين، فالمسيح هو قدرة الله وحكمة الله. فما يبدو أنه جهالة من الله هو أكثر حكمة من حكمة الناس، وما يبدو أنه ضعف من الله هو أقوى من الناس” (1 كو1: 22-25).
يمكننا القول أن الرسول يتحدّى اليهود والوثنيين، ولا يشعر بالحاجة إلى أن يدعم بشارته بالمنطق، ولا يعتريه أي شعور بالنقص بسبب هذا الموقف، بل على العكس من ذلك، نجده يتصرَّف بوعي، دون أن يرغب في تشديد إيمان الناس بقوة الكلمات البشرية أو بحكمة البشر، فنراه يخاطبهم قائلاّ: “لم يعتمد كلامي وتبشيري على أساليب الحكمة البشرية في الإقناع، بل على ما يظهره روح الله وقوته، حتى يستند إيمانكم إلى قدرة الله، لا إلى حكمة البشر…. بل هي حكمة الله السّرية الخفيّة التي أعدها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا” (1 كو 2: 4-7). وكان أنبياء العهد القديم قد كرزوا أولاً بهذا التعليم، لذلك يستشهد بهم بولس الرسول (1كو 1: 19-20): “باطلاّ يكرِّموني، وهم يُعلِّمون تعاليم الناس ووصاياهم. لذلك قررت أن أُغيِّر مكان هذا الشعب وأُبيد حكمة الحكماء وأفني ذكاء الأذكياء” (ا ش 29: 13-14).
ه – قوة الروح
معرفة الله، أي الإيمان الحقيقي، هي نتيجة الكرازة بالصليب. ولكن الكرازة وحدها ليست قادرة على إظهار الله للناس. فكما أن مصدر الكرازة هو الله الذي أعلن ذاته في شخص الابن، فإن قبول الإنسان لها نابع من الروح الذي يقوده إلى المسيح. “لم نَنَلْ روح هذا العالم، بل نلنا الروح الذي أرسله الله لنعرف ما منحنا الله من المواهب. ونحن لا نتكلم عليها بكلام مأخوذ من الحكمة البشرية، بل بكلام مأخوذ من الروح، فنعبِّر عن الحقائق الروحانية بعبارات روحانية. فالإنسان البشري لا يقبل ما هو من روح الله لأنه يعتبره جهالة، , ولا يقدر أن يفهمه لأن الحكم فيه لا يكون إلاّ بالروح. أمّا الإنسان الروحاني فيحكم في كل شيء ولا يحكم فيه احد. فالكتاب يقول: من هو الذي يعرف فكر الرب ليرشده؟أمّا نحن فلنا فكرُ المسيح” (1كو 2: 12-16، انظر اش 40: 13). المسألة إذاً ليست قائمة على أسلوب الإقناع “بالحكمة البشرية” بل “على ما يُظهره روُح الله وقوته، حتى يستند إيمانكم إلى قدرة الله، لا إلى حكمة البشر” (1كو 2: 4-5). وهكذا ندرك لماذا يضلّ الناس طريقهم إلى المسيح، ولماذا لم يستطع الرسل أنفسُهم أن يعرفوا الرب ويدركوا مجدَه قبل العنصرة. وحتى التلاميذ الثلاثة الذين كان لهم أن يرافقوا الرب إلى الجبل يوم التجليّ، لم يعيشوا هناك كلّ عظمة مجد الرب، كما تؤكد طروبارية هذا العيد من أن المسيح قد اظهر مجده للتلاميذ “بحسب ما استطاعوا” أي بحسب ما استطاعوا إدراكه، فمن المؤكد أنهم لم يدركوا عظمة مجد المسيح كاملة.
وندرك كذلك لماذا تخلّى التلاميذ عن المسيح وهو على الصليب، ولماذا خافوا (متى 26: 25، مر 14: 50، يو 21: 19)، ولماذا لم يكرزوا بقيامته فور ظهوره لهم. لم يعرف الرسل المسيح بالحقيقة إلاّ بعد العنصرة، وعندها بدأوا يكرزون، غير مبالين بردة فعل اليهود والوثنيين بل “كارزين بقوة وسلطان” (أع 4: 1-20).
و – الملحدون
يميّز يعقوب الرسول تمييزاً جذرياً بين “الحكمة النازلة من فوق” وبين الحكمة التي يدعوها “حكمة دنيوية بشرية شيطانية” (يع 3: 15). الحكمة الثانية هي تلك التي تنفصل نهائياً عن الله، ولا تؤول إلى مجده بل إلى مجد الإنسان، فتكون (حكمة شيطانية) (انظر تك 3: 4). أمّا الحكمة الأولى فإنها لا تعود إلى مجهود الإنسان، ولذلك تبقى مخفيّة عن “حكماء هذا العالم وعقلائه” ولا تظهر إلاّ للأطفال (متى 11: 25، لو 10: 21) و”لجهّال العالم والأدنياء والمزدرى بهم، حتى لا يستطيع احد من البشر أن يفتخر أمام الله” (1 كو1: 27-29) ومن هنا ندرك لماذا يصعب على كثير من الناس أن يقبلوا عقائد الكنيسة، فهؤلاء لا يعتمدون إلاّ على قواهم الذاتية، مع أن ما يطلبونه تنؤ به هذه القوى وحدها، فقد أظهرنا بوضوح أن الإلهيات لا تتآلف مع إمكانيات الإدراك البشري، وأن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الله بالطرق التي يتمناها، “فالحكمة هي أريج قدرة الله وإشعاع مجد القدير. إنها ضياء النور الأزلي، ومرآة نقيّة لعمل الله، وصورة لصلاحه” (حك 7: 25-26). ثم يتساءل سليمان الحكيم: “من يستطيع أن يعرف مشيئتك، إذا لم تهبه الحكمة وترسل عليه روحك القدوس؟” (حك 9: 17).
يكشف التاريخ أمثلة كثيرة عن أولئك الذين فشلوا في طلبهم الله، لاعتمادهم على قواهم الخاصة وإمكاناتهم البشرية. فقد حاول كثير من الفلاسفة والمفكرين معرفة الله بواسطة عقولهم، ولكنهم هُزموا طبعاً. وهذا ما دفع بعضهم إلى إنكار الله إنكاراً تاماً وادعاء عدم وجوده. كما تكلّم بعضهم الآخر على قوةٍ ما وإله مجرّد لا يقيم علاقة شخصية مع الإنسان ولا يتصل به.
الله هو “الطريق والحق والحياة” (يو 14: 6)، فلا يبقى وحيداً، يكون كائناً مجرداً لا يتصل بالإنسان ولا يهتّم بالعالم كما يدّعي بعضهم. فقد قال الرب بلسان نبيّه إرميا: “إنني إله قريب ولست ألهاً بعيداً، أنني مالئ السموات والأرض” (إرم23: 23-24 وانظر تثنية 4: 7). ويقول لموسى: “أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب” (خر 3: 6، انظر متى 22: 32، مر 12: 26). فالإله الذي خلّص الإنسان ليس بعيداً عنه. إنه بقربه، وفي داخله، وروح الله هو الذي يعلنه في قلبه (يو 14: 26، 1 يو 2 : 20 و27).
على الإنسان إذن أن يعترف بضعفه، وأن ينقي قلبه بالتواضع والتوبة، وأن يطلب اعتلان الله له. وإن لم يفعل، فهو محكوم بالبقاء دون الله مُعطي الحياة، أي بالبقاء في الإلحاد.
وثمّة أنواع أخرى من الملحدين، فالذين غرقوا في الخطيئة والأهواء الجسدية ينكرون الله، لأن الإيمان به يدينهم ويرفض سلوكهم اليومي (أمثال 28: 5، مز 13: 1). فبإنكارهم إيّاه، واعتباره كائناً بعيداً وإلهاً غير مهتم بالإنسان، يتمكنون من متابعة حياتهم اليومية دون رقيب. ولكن الله يجد الذين “لا يجربِّونه ويتجلّى للذين لا يكفرون به” كما يقول سليمان الحكيم ثم يضيف: “لأن الأفكار الزائلة بعيدة عن الله، وامتحان قدرته يوافق الجهّال. الحكمة لا تدخل النفس الشريرة، ولا تقيم في الجسد المستعبد للخطيئة. لأن الروح القدس المؤدِّب يهرب من الغش ويبتعد عن الأفكار السفيهة، ويخفق إذا حضر الإثم” (حك 1: 2-5). ولهذا تقتضي معرفة الله نقاوة القلب وصفاء النيّة. أما الإنسان الشرير الذي يماثل الشيطان ويجسِّد كل خبث وتجربة فلا يستطيع الوصول إلى معرفة الله معرفة حقيقية مهما بحث الكتاب المقدس، ولو حفظه غيباً. وفي هذا المجال فإن تجربة المسيح الثانية بعد معموديته معبرة جداً. فقد ذكر لنا متى الإنجيلي أن روح الشر حمل المسيح قمة الهيكل وقال له: “إن كنت ابن الله فألقِ بنفسك إلى الأسفل، فإنه مكتوب أنّه يوصي ملائكته بك فيحملونك على أيديهم لئلاّ تصدم رجلك بحجر” (متى 4: 6، مز 90: 11). أن نيّة الشيطان لم تكن صافية، هو لم يطلب الاتحاد بالمسيح، أي معرفة الله الحقيقية، بل أراد أن يستميل الرب إلى عمل شرير لا علاقة له بالثقة والمحبة وطاعة مشيئة الآب، ولا يتعلق بالقصد الإلهي، بل يعبِّر عن الخضوع لمقاصد الشيطان. ولذا أجابه الرب: (مكتوب أيضاً لا تجرّب الرب إلهك) (متى 4: 7، لو 4: 12، تثنية 6: 16، انظر 1كو 10: 9، عدد 31: 5-6).
من لا يتكلم بنيّة طاهرة لا يصل إلى الرب إطلاقاً، ولن يتمكن من الاتحاد به مهما فتّش وتعب ومهما تمعّن في الكتاب المقدس. “عطشت نفسي إلى الله، إلى الإله الحي. متى أُجيء وأتراءى أمام الله” (مز 41: 2). من يشتاق بكليّته إلى الله ويركض كالأيل الظامئ إلى منابع الحياة (مز 41: 1)، أي إلى المسيح (يو 4: 10 و14، 7: 37)، يحصل على “الماء الحي” (يو 4: 10). وأمّا الذي يحاول أن يطفئ ظمأه بمفرده فلن ينجح أبداً. “أنا أروي العطشان من ينبوع الحياة مجاناً” (رؤ 21: 6)، “فمن عطش فليأتِ، ومن شاء فليستقِ ماء الحياة مجّاناً” (رؤ 12: 17، انظر اش 55: 1).
حاشية مُرتبطة مع العنوان “معرفة الحق”:
راجع أيضاً: (السبل إلى الله ) لكوستي بندلي و (مدخل إلى العقيدة المسيحية ) لكوستي بندلي ومجموعة من المؤلفين ، منشورات النور (الناشر).