1- مقدمة
إذ نرغب في تقديم الأب سيرينوس لأصحاب العقول الغيورة للغاية، هذا الرجل العظيم في قداسته وعفته، إجابته هي مرآة لاسمه. إننا نعجب منه في أمور كثيرة… فبجانب كل الفضائل التي تتلألأ فيه، لا من جهة أعماله وأخلاقه الظاهرة فحسب، بل ونعمة الله الظاهرة في هيئته أيضًا، فقد وهبت له نعمة خاصة هي عطية “العفة”، فلم يكن يشعر قط باضطراب حتى بالنسبة للانفعالات الطبيعية أثناء النوم.
ينبغي لي أولاً أن أشرح كيف حصل علي نقاوة الجسد العجيبة بمساعدة النعمة الإلهية بطريقة تبدو أسمى من الحالة الطبيعية التي للبشرية.
2- عفة سيرينوس
كان ذلك الرجل في صلواته النهارية والليلية وأصوامه وسهره يطلب بدون كلل العفة الداخلية التي للقلب والروح. وقد نال ما كان يشتهيه ويصلي من أجله، فماتت أهواء الشهوة الجسدية في قلبه. هذا مع شعوره بلذة النقاوة، واشتياقه الحار للعفة…
باختباره للعطية التي حصل عليها أدرك أنه قد صارت له حصانة، لا باستحقاقات أعماله، بل حسب النعمة الإلهية، فصار يطلب العفة بأكثر غيرة، مجاهدًا… إذ كان يعتقد بأن الله قادر أن يقتلع بسهولة جذور الشهوات الجسدية… لأن نقاوة الروح، التي هي أعظم شيء، تُعطى هبة من قبل الله حسب إرادته.
إذ كان يصلي ملتمسًا بدموع، مثابرًا من أجل طلبته الأولى، ظهر له ملاك في رؤيا الليل، وكأنه قد فتح بطنه ونزع عنه الانفعالات الجسدية النارية، وقذف بها خارجًا، وأعادها كما كانت، ثم قال له: “هوذا قد أزيلت عنك انفعالات جسدك، ويلزمك اليوم أن تتأكد بأنك قد نلت نقاوة الجسد الكاملة التي سألت من أجلها بإيمان”.
يكفي أن أخبركم بإيجاز عن هذه النعمة الإلهية التي وُهبت لهذا الرجل بهذه الطريقة الخاصة. وأظن إنه ليس هناك حاجة أن أتحدث عن بقية فضائله…
إذ كنا مشتاقين بغيرة قوية لمناقشته والتعلّم منه زرناه في الصوم الكبير، وسألناه بهدوء عن أحوال أفكارنا وعن إنساننا الداخلي، وعما قمنا به خلال الفترة الطويلة التي قضيناها في البرية من أجل نقاوة إنساننا الداخلي، حينئذ قدمنا له هذه الشكوى.
3- سؤال بخصوص ضبط الفكر
إنك تظن أننا نلنا كمال إنساننا الداخلي في هذه الفترة الذي قضيناها هنا في الوحدة والتأمل، لكن حدث الآتي: لقد تعلمنا الأمور التي لا نستطيع أن نفعلها لا ما ينبغي أن نحاول فعله. بهذه المعرفة لم نشعر أننا حصلنا علي أي ثبات في النقاوة التي نشتاق إليها، أو أية قوة وحزم، بل صار فينا خوف… بالرغم من تأملنا في أهداف نظامنا خلال دراستنا اليومية، واجتهادنا في الوصول من البداية إلى النقاوة الثابتة الأكيدة… وبدأنا نعرف بعض الأمور التي كنا نفهمها بمفاهيم خاطئة أو نجهلها تمامًا، وتقدمنا بخطوات ثابتة نحو ذلك النظام، متدربين عليه بكمال بدون أية صعوبة.
بالرغم من جهادي في هذه الرغبة نحو النقاوة لم أعرف بعد ما أستطيع أن أكون عليه… لهذا أشعر باضطراب، حتى أن دموعي لم تتوقف قط، ومع هذا لم أكف عن ما لا ينبغي أن أكون عليه.
ما الفائدة من تعلم ما هو الأفضل مادمت لا أقدر أن أناله حتى إن عرفته؟
إننا إذ نشعر بأن هدف قلبنا قد انحرف عن الغرض. تمر بنا الأفكار العجيبة السابقة لاشعوريًا وتندفع بأكثر شدة ويصير الذهن في ذهول دائم، أسيرًا لأمور كثيرة، حتى أننا غالبًا ما نيأس من الإصلاح الذي نتوق إليه، وكأن كل هذا الاهتمام بلا جدوى. وإذ نستيقظ ونكتشف تيه الذهن عن غرضه الموضوع أمامه، ونرغب في استعادته إلى التأمل الروحي الذي ضل عنه، ونربطه بسرعة بالغرض القلبي الثابت، سرعان ما ينسحب من مخادع القلب أسرع من الحيّة.
إذ نلتهب بالتداريب اليومية لا نرى أننا كسبنا أية قوة أو ثبات قلبي فنُغلب باليأس، ونضل بهذه الفكرة، وهي الاعتقاد بأن الخطأ ليس منا بل من طبيعتنا وأن الضلال هو من الطبيعة البشرية.
4- لا نلم الطبع البشري في ذاته
سيرينوس: من الخطر أن نسرع إلى هذه النتيجة، ملقين اللوم علي الطبيعة (البشرية) دون أن نناقش الموضوع بإتقان… فيلزمك ألا تحكم حسب ضعفك، إنما بناء علي قيمة التداريب ومنهجها واختبار الآخرين لها. فإن أي إنسان يجهل السباحة إذ يعلم أن وزن الجسد لا يمكن أن يحمله الماء ويرغب في البرهان علي ما قدمته له خبرته الخاصة قائلاً بأنه لا يمكن لأي جسم صلب أن يُحمل بسهولة علي سائل، فلا نصدق رأيه المبني علي خبرته الشخصية.
هكذا بحسب الطبيعة لا يمكن للعقل أن يكون خاملاً… بل لديه علي الدوام ما يشغله، وبسبب ثقله يضل ويتوه في أمور كثيرة ما لم يمارس التداريب اليومية الطويلة، هذه التي تقول عنها أنك تعبت فيها بلا جدوى. هذا يتطلب الجهاد بمثابرة لضبط الفكر، محاولاً ومتعلمًا أن تقدم للذاكرة القوت الضروري (أي الأفكار الصالحة عوض الأخرى)، ويمكننا بسهولة طرد أفكار العدو (الشيطان) المُعادية التي تشتت فكرنا، وبالتالي نبلغ الحياة التي نشتاق إليها.
يلزمنا ألا ننسب الانحراف في تيه القلب إلى الطبيعة البشرية أو خالقها، فإنه بالحق يقول الكتاب المقدس “إن الله صنع الإنسان مستقيمًا، أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة” (جا 29:7). اختلاف الأفكار يتوقف علينا نحن، لأن الفكر الصالح يقترب من الذين يعرفونه والإنسان العاقل يجده. فأي أمر يخضع لتمييزنا وعملنا يمكننا أن نصل إليه، فإذا لم نبلغه يرجع هذا إلى كسلنا وإهمالنا لا إلى خطأ في طبيعتنا.
لو لم يكن هذا الأمر في قدرتنا لما وبّخ الرب الفرّيسيّين قائلاً: “لماذا تفكّرون بالشرّ في قلوبكم؟” (مت 4:9). ولمَا كلف النبي ليقول: “اعزلوا شرَّ أفعالكم من أمام عينيَّ” (إش 16:1)، “إلى متى تبيت في وسطكِ أفكاركِ الباطلة؟!” (إر 14:4)، ولما كان لنوع أفكارنا اعتبار في يوم الدينونة إذ يهدد الله بواسطة إشعياء قائلاً: “وأنا أجازي أعمالهم وأفكارهم” (إش66: 18). فما كان من الصواب أن نجازي أو نعاقب حسب شهادة أفكارنا في ذلك الامتحان الرهيب المميت، إذ يقول الرسول المبارك: “شاهدًا أيضًا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة. في اليوم الذي فيهِ يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي” (رو 15:2،16).
5- سلطاننا علي الفكر
ورد في الإنجيل مثال ممتاز بخصوص الكمال العقلي وذلك في حالة قائد المائة، هذا الذي لم تكن فضيلته بفكر مندفع (إلزامي) إنما بإرادته كان يقبل الفكر الصالح أو يطرد الفكر الشرير بسهولة. وقد جاء ذلك في الصورة التالية: “لأني أنا أيضًا إنسان تحت سلطانٍ. لي جند تحت يدي. أقول لهذا اذهب فيذهب، ولآخر إئْتِ فيأَتي ولعبدي افعل هذا فيفعل” (مت9:8).
إذا ما جاهدنا كبشر ضد الاضطرابات والخطايا، تصير هذه تحت سلطاننا وِفق إرادتنا، فنحارب أهواء جسدنا ونهلكها ونأسرها تحت سلطاننا، ونطرد من صدرنا الضيوف المرعبين، وذلك بالقوة التي لنا بصليب ربنا، فنتمتع بالنصرة التي نراها في مثال قائد المائة روحيًا.
يُرمز (سلطاننا علي الفكر) بموسى في سفر الخروج إذ قيل: “وتقيمهم عليهم رؤَساءَ ألوفٍ ورؤَساءَ مئَاتٍ ورؤَساءَ خماسين ورؤَساءَ عشرات” (خر21:18). ونحن أيضًا إذ نبلغ إلى مرتفعات هذا الجهاد يكون لنا نفس الحق والسلطان، فلا تحملنا الأفكار بغير إرادتنا، بل في استطاعتنا أن نستمر في الارتفاع ونمسك بتلك الأفكار التي تبهجنا روحيًا، آمرين الأفكار الشيطانية أن ترحل عنّا فترحل. فنقول للأفكار الصالحة إئْتِِ فتأتي، وأيضا لعبدي هذا أي الجسد الذي لنا أن ينتمي إلى العفة والطهارة فيخدمنا بغير مقاومة، من غير أن تثور فينا انفعالات الشهوة، بل يظهر كل ما يوافق الروح.
أما ما هي أنواع الأسلحة التي لقائد المائة هذا؟ وفي أي حرب نستخدمها؟ فلنسمع ما يقوله الرسول الطوباوي: “إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية (روحية وليست ضعيفة) بل قادرة بالله على هدم حصونٍ” (2كو4:10). وأما بالنسبة للحروب التي نستخدمها فيها فيقول: “هادمين ظنونًا وكلَّ علوٍ يرتفع ضدَّ معرفة الله، ومستأْسرين كل فكرِ إلى طاعة المسيح، ومستعدين لأن ننتقم علي كلّ عصيان متى كملت طاعتكُم ” (2كو5:10،6).
إنني أريدك أن ترى أنواع الأسلحة المختلفة وصفاتها، إذ ينبغي علينا إن أردنا أن نحارب في المعركة الإلهية ضد الشيطان ونُحسب بين قوّاد المئات (الروحيين) الذين للإنجيل أن نتمنطق بها علي الدوام.
يقول الإنجيل: “حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة” (أف6: 16). الإيمان هو الذي يوقف سهام الشهوة الشريرة ويهلكها بالخوف من الدينونة والإيمان بملكوت السموات.
ويقول أيضًا: “درع الإيمان والمحبَّة” (1تس5: 8). المحبة في الواقع هي التي تحيط بالمناطق الحيوية للصدر فتحميه من تعرضه لجراحات الأفكار المتزايدة المهلكة وتحفظه من الضربات الموجهة ضده ولا تسمح لسهام الشرير أن تتعمق إلى الإنسان الداخلي، لأن المحبة “تحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر علي كل شيء” (1كو13: 7).
“وخُوذةً هي رجاءُ الخلاص” (1تس5: 8). والخوذة هي ما تحمي الرأس. المسيح هو رأسنا لذلك ينبغي علينا في التجارب أن نحمي رأسنا برجاء الأمور الصالحة المقبلة، وعلي وجه الخصوص أن نحفظ الإيمان كاملاً وطاهرًا. فمتى فُقد أيّ أحد جزء من الجسد يصير ضعيفًا، لكنه يمكن أن يعيش، إنما لا يستطيع أن يحيا ولا فترة قصيرة بغير الرأس.
“وسيف الروح الذي هو كلمة الله” (أف17:6) لأنه “أَمضى من كل سيفٍ ذي حدَّين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميِّزة أفكار القلب ونيَّاتهِ” (عب12:4). هكذا نقطع ما فينا مما هو أرضي وجسدي بواسطة هذه الأسلحة التي نستخدمها في دفاعنا ضد أسلحة العدو (الشيطان والخطية) وإتلافه، بهذا لا يصير أحد منّا مربوطًا بسلاسل مضايقته، أسيرًا ومسجونًا في أرض الأفكار الباطلة، ولا يسمع كلمات النبي: “لماذا يا إسرائيل لماذا أنت في أرض الأعداء” (با10:3). إنما يبقى كمُحارب منتصر في أرض الأفكار التي اختارها.
هل فهمتم أيضًا قوة قائد المائة وشجاعته إذ يحمل هذه الأسلحة التي تحدثنا عنها بأنها ليست جسدية بل روحية قادرة بالله؟ اسمع ما يقوله الملك (الله) نفسه مستصوبًا الرجال الشجعان، مستدعيًا إيّاهم إلى الحرب الروحية (ضد الخطية) قائلاً: “ليقل الضعيف إني قوي”. فلا يحارب في المعركة الإلهية إلا الضعفاء “لأني حينما أنا ضعيف فحينئذٍ أنا قويّ” (2كو10:12). وأيضًا: “لأن قوَّتي في الضعف تُكَمل” (2كو9:12). فالمجاهد الصبور سيحارب بالصبر الذي قيل عنه: “لأنكم تحتاجون إلى الصبر حتى إذا صنعتم مشيئَة الله تنالون الوعد” (عب36:10).
6- لنثابر مقتربين من الله ومجاهدين
بحسب خبرتنا نستطيع بالتمسك بالله إماتة إرادتنا وقطع شهوات هذا العالم، ونتعلم من أولئك الذين في علاقتهم بالله يقولون بكل إيمان: “التصقت نفسي بك” (مز 8:63)، “لصقتُ بشهادتك. يا رب لا تخزِني” (مز 31:119)، “أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي” (مز 28:73)، فعلينا ألا نكل بسبب تشتت العقل والتراخي لأن “المشتغل بأرضهِ يشبع خبزًا وتابع البطالين يشبع فقرًا” (أم 19:28).
يلزمنا ألا ننسحب من جهادنا في السهر بسبب اليأس الخطير لأن “الآن ملكوت الله يُغصَب والغاصبون يختطفونهُ” (مت 12:11). فلا يمكن نوال فضيلة بغير جهاد، ولا يمكن ضبط العقل بغير حزن قلبي عميق، لأن “الإنسان مولود للمشقَّة” (أي 7:5). ومن أجل الوصول “إلى إنسانٍ كامل. إلى قياس قامة مِلْءِ المسيح” (أف 13:4) يلزمنا أن نكون علي الدوام في جهاد عظيم مع عناية لانهائية.
لا يمكن لأي إنسان أن يصل إلى ملء هذا القياس إنما من يأخذ هذا القياس في اعتباره مقدمًا ويتدرب عليه من الآن، ويتذوقه هنا في العالم، تكون له علامة العضوية الثمينة للمسيح، ويملك وهو في هذا الجسد على عربون هذا الاتحاد الكامل بجسد المسيح ويكون له اشتياق وعطش إلى أمر واحد جاعلاً ليس فقط أعماله بل وأفكاره متجهة إلى أمر واحد وهو أن يحفظ الآن وعلى الدوام عربون الحياة المقبلة الطوباوية التي للقديسين أي أن “يكون الله الكل في الكل” (1 كو 28:15).
7- سؤال بخصوص شدة هجوم الأفكار الشريرة
جرمانيوس: لنفرض إنه قد أحاط بنا طوفان ذلك الميل العقلي أما يحيط بنا حشد عظيم من الأعداء فيتوجهون إلينا بقوة لا نهائية تُضاد رغبتنا، أو بالأحرى بسبب جولان هذه الأفكار ينسحب عقلنا نحوها؟ وحيث أن عددًا لا نهائيًا من الأعداء (الأفكار الشريرة) المخيفين يحيطون بالعقل ألا نظن إنه من الممكن لهم أن يقاوموا عقلنا وخاصة بسبب ضعف جسدنا؟!
8- سيرينوس: لا يقدر أحد ممن اختبر صراع إنسانه الداخلي أن يشك في سهر أعدائنا (الأفكار الشريرة) علي الدوام ضدّنا وهم يعارضون تقدّمنا. إذ يحثّوننا علي صنع الشر، لكنهم لا يجبروننا عليه، فنظن أنه لا يقدر الإنسان أن يتجنب الخطية التي يحرّضوننا عليها بل يطيعها في قلبه متى كان الحافز قويًا، فيجبروننا على الخطية وليس فقط يقترحونها علينا. لكن إذ لديهم قوة كبيرة في الإثارة، فنحن أيضًا لدينا معونة من النعمة الإلهية، وحرية في عدم القبول. فإن كنّا نخشى قوتهم وهجومهم يمكننا أيضًا أن نطلب الحماية والعناية الإلهية ضدهم، لأن الذي فينا أعظم من الذي في العالم (ا يو 4:4).
عناية الله تحارب في صفِّنا بقوة أعظم من حرب النزلاء ضدّنا لأن الله ليس فقط يقترح علينا الخير بل هو يعضّد عقولنا ويسندها، حتى أنه في بعض الأحيان يجذب قلوبنا نحو الخلاص رغم إرادتنا (إذا طلبناه) وبغير معرفتنا.
لا ينخدع أحد من الشيطان إلا الذي أراد أن يستسلم له برضاه، وذلك كما يقول سفر الجامعة “لأن القضاءَ علي العمل الرديءِ لا يُجرَي سريعًا فلذلك قد امتلأَ قلب بني البشر فيهم لفعل الشر” (جا 11:8). لقد ظهر بوضوح أن كل إنسان يسير في الشر متى هاجمته الأفكار الشيطانية، ولا يقابلها في الحال بالرفض والمعارضة. لذلك يقول الرسول: “قاوموا إبليس فيهرب منكم” (يع7:4).
9- سؤال بخصوص اتحاد النفس مع الأرواح الشريرة
جرمانيوس: ما التمسته منك هو بخصوص اتحاد الروح الإنسانية مع الأرواح الشريرة، إذ تكون الأرواح متحدة بها بطريقة تقدر أن تتحدث خلالها وتجد لها فيها سبيلاً، تقترح عليها ما تريده، تثيرها حسبما ترغب، وتتطلع إليها مراقبة أفكارها وحركاتها. وتكون النتيجة هي توطيد الاتحاد بينها وبين الروح، حتى يصير – بدون النعمة الإلهية – مستحيلاً التمييز بين ما هو نتيجة لتحريض الأرواح وما هو من عمل إرادتها.
10- سيرينوس: ليس عجيبًا أن تتصل روح بروح بغير تفرقة وأن تعمل بقوة إغراء خفيّة حسبما ترغب فيه. (فكما يحدث بين البشر) هكذا بينهما شيء من الشبه والعلاقة… ولكن يستحيل أن تستقر الأرواح داخلنا أو تتحد معنا بطريقة تتمكن منّا، لأن هذا من حق الله وحده الذي يسيطر علينا بطبيعته الروحية.
11- جرمانيوس: هذه الفكرة نجدها تُنقض تمامًا في حالة المأسورين من الأرواح الشريرة، إذ ينطقون ويعملون تحت تأثير الشيطان… وهم لا يعبِّرون عن كلماتهم وأعمالهم ورغباتهم بل ما هو للشياطين.
12- سيرينوس: إن ما تتحدث عنه لا يتعارض مع ما نقوله، أي أن هؤلاء الذين قد امتلكتهم الأرواح النجسة يقولون ويفعلون ما لا يرغبون ويُلزمون بالتفوه بما لا يعرفونه. فالبعض يتأثر بالأرواح النجسة بطريقة ما حتى إنه لا يكون لديهم أدنى إدراك لما يعملونه ويقولونه، والبعض يدرك ذلك و يتذكره. لكن يلزمنا ألا نتصور بأن هذا يحدث بطريقة فيها ينسكب الروح النجس خلال مادة الروح (الإنسانية) وتصير متحدة معها وملتصقة بها فينطقون بكلمات وأقوال خلال فمهم… فلا يحدث هذا نتيجة لفقدان الروح (خلال الروح النجس) بل بسبب ضعف الجسد، فيلقي الروح النجس القبض على هذه الأعضاء ويسكن فيها ويلقي عليها ثقلاً غير محتمل، مسيطرًا عليها بظلامه الدامس، ويتدخل بقوته، وذلك كما يحدث في حالة السكر والحمى والبرد الشديد.
ليس للروح النجس سلطان علي البشر، هذا يظهر عند صراعه ضدّ أيوب الطوباوي فقدْ أخذ السلطان علي جسده من قبل الرب، إذ قال له: “ها هو في يدك ولكن احفظ نفسهُ” (أي 6:2). أيّ لا تُضعف روحه وتجعله مجنونًا وتتسلط علي ذاكرته وعقله خانقًا قوته الداخلية.
13- لا تتحد روحنا إلا بالله وحده
… الثالوث القدوس وحده لديه الإمكانية أن يخترق كل طبيعة عقلية، ليس فقط يعانقها ويلتف حولها بل ويدخل فيها…
فبالرغم من تمسّكنا بوجود بعض الطبائع الروحانية مثل الملائكة ورؤساء الملائكة والطغمات الأخرى وأيضًا أرواحنا… إلا أنه ينبغي علينا ألا نعتبر هذه الطبائع غير مادية incorporeal إذ لها جسم تعيش به أخف بكثير مما لجسدنا وذلك كقول الرسول “وأجسام سموَّية وأجسام أرضيَّة” (1كو40:15)، وأيضًا “يُزرَع جسمًا حيوانيًّا natural ويُقام جسمًا روحانيًّا” (1كو44:15). وبهذا يظهر أنه لا يوجد شيء غير جسمي إلا الله وحده. هو وحده يمكن أن يخترق كل مادة روحية وعقلية، لأنه هو وحده الكامل والموجود في كل شيء، يرى أفكار البشر وحركاتهم الداخلية وكل خبايا أرواحهم، وعنه وحده يتحدث الرسول الطوباوي قائلاً: “لأن كلمة الله حيَّة وفعَّالة وأمضى من كل سيفٍ ذي حدَّين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمِخاخ ومميِّزة أفكار القلب ونيَّاتهِ. وليست خليقة غير ظاهرة قدَّامهُ، بل كل شيءٍ عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معهُ أمرنا” (عب12:4،13). ويقول الطوباوي داود “المصوّر قلوبهم جميعًا” (مز15:33) وأيضًا “لأنهُ هو يعرف خفيات القلب” (مز21:44). “لأنك أنت وحدك تعرف قلوب بني البشر” (2اي30:6).
14- جرمانيوس: بحديثك هذا تجعل الأرواح عاجزة عن معرفة أفكارنا. ومن العبث أن نأخذ بهذه الفكرة إذ يقول الكتاب المقدس “إن صعدَتْ عليك روح المتسلط” (جا4:10)، وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا الإسخريوطي أن يسلمه (يو13)، فكيف يمكننا بعد أن نعتقد بأن أفكارنا غير مكشوفة لها عندما نشعر بأن النصيب الأكبر منها ينبعث من اقتراحات الشيطان وتحريضه ويتبناها؟
15-عدم قدرة الأرواح الشريرة علي معرفة أفكار البشر
سيرينوس: لا يشك أحد من جهة تأثير الأرواح الشريرة علي أفكارنا، وذلك عن طريق تحريك البواعث بدون تأثير محسوس عن طريق اتجاهاتنا أو من كلماتنا ومن الأمور التي نحبها والتي يرون أننا نميل إليها، لكنهم لا يقدرون أن يقتربوا إلى تلك التي تأتي من مخابئ الروح. وهم يكتشفون الأفكار التي يطرحونها علينا لا بسبب طبيعة الروح أي الميل الداخلي المخفي في العقل، إنما عن طريق الانفعالات والعلامات الظاهرية التي للإنسان.فمثلاً عندما يقترحون علي إنسان بالنهم، إذا ما رأوا الراهب يتطلع من الكوة تجاه الشمس بقلق أو يسأل باستمرار عن الساعة، يُدركون أنه قبل شهوة النهم.
وإذا ما اقترحوا الزنا ورأوه يخضع بهدوء لهجوم الشهوة أو يرون تهيّجًا جسديًا أو تأوّهات ناجمة عن خلاعة الاقتراحات النجسة، يعلمون أن سهم الشهوة قد نفذ إلى داخل روحه.
وإذا ما أثاروا فينا بواعث نحو الحزن أو الغضب، فإنهم يستطيعون أن يُدركوا إن كانت لها جذور في القلب إما عن طريق حركات الجسد والاضطرابات المنظورة، أو بملاحظتهم التنهدات، أو السكون، أو انفعال الغضب، أو تغيُّر لون الإنسان، بهذا يكتشفون بدهاء الأخطاء التي يسقط فيها الإنسان، لأنهم يعلمون أن كل إنسان له خطية معينة ينجذب إليها علي الدوام.
هذا ليس بعجيب بالنسبة لقوات الهواء، لأنه حتى الإنسان الطاهر غالبًا ما يقدر أن يكتشف حال غيره الداخلي من طلعته ونظراته وحركاته الخارجية، فكم بالأكثر يقدر هؤلاء الذين لهم طبيعة روحية وبالتالي هم أكثر دهاء وحذاقة من البشر.
هذا ليس بعجيب بالنسبة لقوات الهواء، لأنه حتى الإنسان الطاهر غالبًا ما يقدر أن يكتشف حال غيره الداخلي من طلعته ونظراته وحركاته الخارجية، فكم بالأكثر يقدر هؤلاء الذين لهم طبيعة روحية وبالتالي هم أكثر دهاء وحذاقة من البشر.
16- مثال: لكي يعرف بعض اللصوص موضع الكنوز المخفيّة في المنازل التي يرغبون سرقتها، ينثرون رملاً في ظلام الليل بدقة فيكتشفون الكنوز المخفية التي لا يقدرون أن يروها، وذلك عن طريق رنين الصوت الذي يحدث أثناء سقوط الرمل، بهذا يبلغون إلى المعرفة الحقيقية من جهة وجود المعادن التي تكشف عن نفسها بنفسها عن طريق الصوت الناتج منها.
هكذا بالنسبة للتجسس علي كنوز قلوبنا، يلقون علينا رمال الاقتراحات الشريرة، وإذ يرون بعض الانفعالات الجسدية التي تطابق الصفات الداخلية يعلمون كما لو كان بنوع ما من رنين الصوت ما يحدث في المخابئ الداخلية، ما هو مخفي في المكان السرّي الذي للإنسان الداخلي.
17- ليس لكل شيطان سلطان في اقتراح أي أهواء
لنعلم أنه لا تستطيع كل الشياطين أن تغرس في البشر كل الأهواء، بل تحتضن الأرواح خطايا معينة، البعض يثير الشهوات النجسة، والآخر التجديف، وآخرون تخصصوا بالأكثر في الغضب والسخط، والبعض يفلحون في الكآبة، وآخرون يهدأون بالكبرياء والعظمة. يغرس كل واحد منهم في قلوب البشر ما يُسر هو به. إنهم لا يقدرون أن يغرسوا رذائلهم دفعة واحدة، إنما بترتيب معين حسب الظروف، أي حسب الزمان أو المكان أو الشخص نفسه الذي يفضحونه بإثارته أثناء اقتراحاتهم.
18- هل للشياطين نظام يتّبعونه في هجومهم؟
جرمانيوس: إذن هل نعتقد بأن الشر مرتّب ومنسّق فيما بينه، يستخدم نظامًا خاصًا، وخطة منظمة أثناء هجومه، مع أن النظام والتنسيق هو عند الصالحين والمستقيمين وحدهم، إذ يقول الكتاب المقدس “المستهزئُ يطلب الحكمة ولا يجدها” (أم 6:14)، “ليس حكمة ولا فطنة ولا مشورة تجاه الرب” (أم 30:21).
19- سيرنيوس: من المؤكد حقًا أنه لا يوجد اتفاق ثابت بين الأشرار، والوفاق الكامل لا يمكن أن يكون حتى بين الذين لديهم خطايا معينة… لكن في بعض الأمور حيث يوجد نفع جماعي واحتياجات إلزامية أو ربح مشترك، هذا يدفع إلى وجود اتفاق منظم إلى حين. ونحن نلاحظ بوضوح في الحرب الروحية التي للشر… فالأرواح تتقدم بعضها البعض بطريقة معينة، فإذا ما انهزم أحدها أو تراجع ترك مجالً لروح آخر أكثر عنفًا ليهاجمه… وإذا ما انتصر الروح لم يعد بعد هناك حاجة لكي يأتي آخر ليخدع الإنسان.
20- كل إنسان يُهاجم قدر طاقته
لسنا نجهل أن الأرواح جميعها ليست في نفس الشراسة والنشاط، ولا في نفس الشجاعة والخبث، فالمبتدئين والضعفاء من البشر تهاجمهم الأرواح الضعيفة، فإذا ما انهزمت تلك الأرواح تأتي من هي أقوى منها لتهاجم جنود المسيح. ويصعُب علي الإنسان بقوته أن يقاوم، لأنه لا توازي طاقة أحد القديسين خُبث هؤلاء الأعداء (الروحيين) الأقوياء الكثيرين، أو يصد أحد هجماتهم، أو يحتمل قسوتهم ووحشيتهم، ما لم يرحمه المصارع معنا، ورئيس الصراع نفسه الرب يسوع، فيرد قوة المحاربين، ويصد الهجوم المتزايد، ويجعل مع التجربة المنفذ قدرما نستطيع أن نحتمل (1كو13:10).
21- لا تخف من محاربات الشيطان
إننا نعتقد أنهم يتعهدون هذا الصراع بقوة، لكن في مناضلتهم يكون لديهم نوع من القلق والغم، خاصة حين يقفون أمام مناضلين أقوياء أي رجال قدّيسين كاملين، وإلا فإنه لا يكون نضالاً ونزاعًا بل هو مجرد تغرير بالبشر، لأن طرف قوي والآخر ضعيف، (فالحرب الروحية شديدة) وإلا فأين يكون موضوع كلمات الرسول القائل: “فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ بل مع الرؤَساءِ مع السلاطين مع ولاة العالم علي ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشرّ الروحيَّة في السماويَّات” (أف12:6)، وأيضًا “هكذا أُضارِب كأني لا أضرب الهواءَ” (1كو26:9)، وأيضًا “قد جاهدت الجهاد الحسن” (2تي7:4)؟!
إذ يتحدث عن حرب وصراع ومعركة، يلزم أن توجد قوة وجهاد في كِلى الطرفين، وأن يكون كلاهما مُعدًّا إما أن يضجر ويخجل من الفشل أو يبتهج بالنصرة. لو أن أحد الجانبين يحارب بيسر مع ضمان (النصرة) علي الثاني الذي يناضل بقوة عظيمة لما دعيت معركة أو صراع أو نزاع بل يكون نوعًا من الهجوم المجحف غير العادل.
بالتأكيد تُعدْ الأرواح نفسها لمهاجمة البشر بقوة لا تقل عن قوتهم لكي يضمنوا النصر عليهم… (فيسقطون هم فيما يصنعونه بنا) إذ يقول: “وعلي هامتهِ يهبط ظلمهُ” (مز16:7)، وأيضًا “لتأْتِهِ التهلكة وهو لا يعلم ولتنشب بهِ الشبكة التي أخفاها وفي التهلكة نفسها ليقع” (مز8:35)، أي في التهلكة التي دبّرها بغشه للبشر. فتسقط الأرواح في الحزن، وإذ تريد إهلاكنا تهلك هي بواسطتنا بنفس التهلكة التي يرغبوها لنا. ولكن لا تعني هزيمتهم أن يتركوننا بغير رجعة.
بالنظر إلى هذه الهجمات وهذا النضال، فإن من كانت أعين إنسانه الداخلي سليمة يراهم يتفرسون راغبين في الخراب، وإذ يخشى لئلا يصيبه هذا يصلي إلى الله قائلاً: “أَنِرْ عينيَّ لئَلاَّ أنام نوم الموت. لئَلاَّ يقول عدوّي قد قويت عليه. لئَلاَّ يهتف مضايقيَّ بأني تزعزعت” (مز3:13،4)، “يا ربُّ إلهي فلا يشمتوا بي. لا يقولوا في قلوبهم هَهْ شهوتنا. لا يقولوا قد ابتلعناهُ” (مز24:35،25)، “حرَّقوا عليَّ أسنانهم يا ربُّ إلى متى تنظر” (مز16:35،17)، لأنه “يكمن في المختفي كأسدٍ في عِرّيسهِ. يكمن ليخطف المسكين” (مز9:10). وأيضًا إذ تهلك قواهم ويفشلون في صراعهم معنا نقول: “ليخزَ وليخجل معًا الذين يطلبون نفسي لإهلاكها. ليرتدَّ إلى الوراءِ وليخزَ المسرورون بأذيَّتي” (مز14:40). وأيضًا يقول إرميا “ليخزَ طارديَّ ولا أخزَ أنا. ليرتعبوا هم ولا أرتعب أنا. أجلب عليهم يوم الشر واسحقهم سحقًا مضاعفًا” (إر18:17). إذ لا يقدر أحد أن يشك في أنه متى انتصرنا عليهم يهلكون هلاكًا مضاعفًا.
فكل قديس إذ يرى خراب أعدائه (الشياطين) ونجاحه يبتهج متعجبًا قائلاً: “أتبع أعدائي فأدركهم ولا ارجع حتى أفنيهم. أسحقهم فلا يستطيعون القيام. يسقطون تحت رجليَّ” (مز37:18،38)، ويصلي ضدهم قائلاً: “خاصم يا ربُّ مخاصميَّ. قاتل مقاتليَّ. امسك مجنًّا وترسًا وانهض إلى معونتي. واشرع رمحًا وصدَّ تلقاءَ مطارديَّ. قل لنفسي خلاصكِ أنا” (مز1:35-3). وعندما نقمع كل أهوائنا التي انتصرنا عليها ونبيدها نسمح لأنفسنا أن نسمع كلمات التطويب هذه: “لترتفع يدك علي مبغضيك وينقرض كل أعدائك” (مي9:5).
عند قراءتنا أو عندما نتغنى بتلك الآيات وما يشبهها مما جاء في الكتاب المقدس، فإننا إن لم نأخذها علي أنها ضد الشر الروحي (الخطية) الذي ينتظرنا ليلاً ونهارًا نفشل في أن نستخرج منها ما هو لبنياننا وما يجـعلنا ودعاء وصبورين، بل بواسطة بعضها قد نصل إلى حالة مريعة تخالف الكمال الإنجيلي تمامًا…
22- هل للشيطان سلطان عليك؟
ليس للأرواح الشريرة سلطانًا أن تضر أحدًا، يظهر ذلك بوضوح في حالة الطوباوي أيوب، حيث لم يتجاسر العدو أن يجربه إلا حسبما سمح الله به… وقد اعترفت الأرواح نفسها بذلك كما جاء في الإنجيل إذ قالت: “إن كنت تُخرِجنا فَأْذَنْ لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير” (مت 31:8). فإن كان ليس لديهم السلطان أن يدخلوا الحيوانات النجسة العُجم إلا بسماح من الله، فكم بالأحرى يعجزون عن الدخول في الإنسان المخلوق علي صورة الله؟!
لو كان لهؤلاء الأعداء (الشياطين) سلطان علينا والإضرار بنا وتجربتنا كما يشاءون لما كان يستطيع أحد أن يعيش في الصحراء بمفرده… ويظهر ذلك بأكثر وضوح من كلمات ربنا ومخلصنا الذي احتل آخر صفوف البشر، إذ قال لبيلاطس: “لم يكن لك عليَّ سلطان البتَّة لو لم تكن قد أُعطِيت من فوق” (يو 11:19).
24- كيف تملك الشياطين علي أجساد البعض؟
واضح أن الأرواح النجسة لا تقدر أن تجد لها طريقًا في أجساد من اغتصبتهم بأي وسيلة ما لم تملك أولاً علي عقولهم وأفكارهم فتسلب منهم مخافة الله وتذكره والتأمل فيه، وبهذا تتجاسر فتتقدم إليهم كمن هم بلا حصانة إلهية، وتقيدهم بسهولة وتجد لها موضعًا فيهم، كما لو كان لها حق الملكية عليهم.
25- لماذا يسمح الله بخضوع أجسادنا لهم؟
من يسقط بالجسد تحت سلطانهم (أي يجربون في الجسد) يصيرون في خطر عظيم واضطراب شديد، أما الذين تسقط أرواحهم تحت سيطرتهم فيسقطون في الخطايا والشهوات هؤلاء حالهم أردأ. لأنه كما يقول الرسول أن من يُغلب من أحد يصير عبدًا له.
نحن نعلم أنه حتى القديسين يسمح الله أن تسقط أجسادهم تحت سلطان الشيطان وتحل بهم نكبات كثيرة، ذلك من أجل الهفوات (لتأديبهم) لأن الرحمة الإلهية لا تطيق أن يكون فيهم وسخ أو دنس إلى يوم الدينونة، فينقيهم من كل شائبة، مُقدمًا إياهم إلى الأبدية مثل الذهب أو الفضة المصفّاة، غير محتاجين بعد إلى تنقية، فيقول الله “وأنقي زغلكِ.. وأنزع كل قصديركِ.. بعد ذلك تُدعَين مدينة العدل القرية(المدينة) الأمينة” (إش 25:1، 26). وأيضًا كما تُمتحن الفضة في البوطة والذهب في الكور هكذا يَمتحن الرب القلوب (أم 3:17). وأيضًا “لأن الذي يحبُّهُ الربُّ يُؤَدّبهُ ويجلد كل ابن يقبلهُ” (عب 6:12).
26-أمثلة
أ. نرى هذا بوضوح في حال النبي رجل الله المذكور في الكتاب الثالث من الملوك الذي افترسه أسد من أجل أنه أخطأ مرة بعدم الطاعة عن غير قصد بل بإغواء غيره (1مل18:13). فيقول الكتاب المقدس: “هو رجل الله الذي خالف قول الرب فدفعهُ الرب للأسد فافترسهُ وقتلهُ حسب كلام الربّ الذي كلمهُ بهِ” (امل26:13). في هذا المثال نجد العقاب من أجل عدم الطاعة مع الإهمال، كذلك المكافأة من أجل برّه أيضًا. لأن الرب سلّم بنيه في هذا العالم للمهلك وفي نفس الوقت كان الحيوان المفترس بالنسبة لفريسته مترفقًا وعفيفًا إذ لم يجرؤ أن يتذوق شيئًا من الغنيمة التي أُعطيَ له سلطانًا عليها.
ب. نجد نفس الأمر ببرهان واضح جدًا وجلي في حالة الأبوين بولس وموسى اللذين عاشا في بقعة من البرية تدعى Calamus لأن الأول (بولس) قد سبق فقطن في البرية التي صارت قاسية عوض مدينة Panephysis, هذه التي صارت برية قاحلة عن قريب كما تعلم، إذ هبت ريح شمالية من المستنقعات فأغرقت الحقول وكل الإقليم بماء مالح، حتى صارت القرى كجزائر وهجرها سكانها. في هذه المنطقة تقدم الأب بولس في نقاوة القلب وسط هدوء البرية وسكونها، حتى إنني أقول أنه ما كان يسمح لنفسه أن يرى وجه امرأة، بل ولا ملابس هذا الجنس. فعندما كان ذاهبًا إلى قلاية أحد الشيوخ مع الأب أرشيبوس الذي كان يقطن معه في نفس البرية، حدث أن قابلتهما امرأة. وفي الحال نفر من مقابلتها حتى أنه ترك عمله من جهة زيارته لصديقه الذي بدأ فيها وهرب راجعًا إلى قلايته بسرعة كمن يهرب من وجه أسد أو حيوان مفترس. ولم يبالِ بصرخات الأب أرشيبوس وتوسلاته الذي كان يرجوه أن يعود ليكمِّلا رحلتهما إلى الرجل العجوز. ومع أن هذا حدث بسبب شغفه نحو حياة الطهارة ورغبته في النقاوة، لكن هذا تم بغير معرفة، لأنه تعدّى اتباع الترتيب والنظام بدقة مناسبة (بغير اعتدال)، إذ تصور أنه ليس مخالطة النساء (التي هي بحق ضارة للرهبان)، بل حتى مجرد شكل هذا الجنس يلزم مقته. من أجل هذا نال هذا العقاب، وهو أن جسده كله ضُرب بالفالج، ولم يعد أي عضو من أعضاء جسده قادر علي القيام بمهمته، ليس فقط يداه وقدماه بل ولسانه الذي به يتكلم، وفقدت أذناه السمع، ولم يصر فيه من الإنسان سوى الشكل بغير حراك ولا أحاسيس. انحدر إلى هذا الحال حتى عجز الرجال عن خدمته، رغم العناية الفائقة التي بذلوها معه، وصار محتاجًا إلى خدمة النساء الممتلئة ترفقًا (في التمريض)، فأُرسل إلى دير عذارى قديسات. ولم يكن قادرًا حتى علي الأكل والشرب، فكانت النسوة يخدمن إياه حوالي أربع سنوات إلى نهاية حياته.
وبالرغم مما كان يعانيه… إلا أنه كانت له نعمة من الصلاح حتى كان المرضى يأخذون زيتًا مما يدهن به جسده بل تدهن به جثته (التي تكاد أن تكون ميتة) وبه كانوا يبرأون للحال من كل آلامهم. وبهذا ظهر بوضوح حتى لغير المؤمنين أن ضعف أعضائه حدث بسماح من عناية الله ومحبته، وأن نعمة الأشفية قد وُهبت بالروح القدس شهادة لنقاوته وإعلانًا عن استحقاقاته.
27- المثال الثاني (الأب موسى)
أما الشخص الثاني الذي أشرنا إليه أنه ساكن في هذه الصحراء، فمع أنه رجل معروف وعجيب، إلا أنه عوقب عن كلمة واحدة نطق بها بحدة إلى حدٍّ ما في جدال مع الأب مكاريوس… فقد أُسلم إلى شيطان مهلك، للحال ملأ فمه بدنس (قروح)، وذلك لكي لا يبقى فيه أيّ غضن من خطئه الذي حدث في لحظة. و ما أن أمره الأب مكاريوس أن يصلي، للحال فارقه الروح الشرير ورحل عنه.
28- لا تحتقر من أُسلم لروح الشرير
من هذه الأمثلة الواضحة، يلزمنا ألا نكره ولا نزدري بالذين نراهم قد أُسلموا لتجارب متنوعة أو لأرواح شريرة، لأنه يلزمنا أن نتمسك بهاتين النقطتين:
أولاً: أنه ما كان لأحد أن يجرَّب بالأرواح الشريرة بغير سماح إلهي.
ثانيًا: أن كل ما يحل بنا هو بواسطة الله، سواء ما يظهر في الوقت الحالي محزنًا أو مفرحًا، فإنه لأجل نفعنا كما من أب فائق الحنان وطبيب عظيم الترفق. ولهذا فإن البشر كما لو كانوا تحت عناية معلمين يذلون هنا حتى إذا ما رحلوا من هذا العالم يصيرون في الحياة الأخرى في حال أعظم نقاوة. إنهم ينالون هنا عقابًا خفيفًا حتى كما يقول الرسول يُسلمون في الوقت الحاضر “للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع” (1 كو5:5).
29- اعتراض
كيف يكون هذا ونحن نرى أنه يلزم لا أن نحتقرهم بل ويتجنبنهم كل إنسان، ويُطردوا من اجتماع الرب. إذ يقول الإنجيل: “لا تعطوا القدس للكلاب. ولا تطرحوا دُرَركم قدام الخنازير” (مت6:7). بينما أنت تخبرنا أنه يلزمنا أن نتطلع إلى إذلال التجربة أنه من أجل تنقيتهم ونفعهم؟!
30- سيرينوس: متى كان لنا هذه المعرفة أو بالأحرى ذلك الإيمان الذي سبق أن عالجته، بمعنى أن نعتقد بأن كل الأمور تحدث لنا بسماح من الله، وأنها مرتبة لأجل خير أرواحنا، فإننا ليس فقط لا نحتقرهم بل ولا نكف عن الصلاة من أجلهم كأعضاء منا، وأن نحنو عليهم بكل قلوبنا وكل جوارحنا (فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه(1كو26:12)، إذ نحن نعلم أننا لا نقدر أن نكمل بدونهم بكونهم أعضاء منا، وذلك كما نقرأ عن السابقين لنا أنهم لا يقدرون أن ينالوا تمام المكافأة بدوننا إذ يقول الرسول: “..فهؤلاء كلُّهم مشهودًا لهم بالإيمان لم ينالوا الموعد إذ سبق الله فنظر لنا شيئًا أفضل لكي لا يُكمَلوا بدوننا” (عب39:11،40).
لم نسمع قط أن الشركة المقدسة قد منعت عن (المجرمين)… وما جاء في الإنجيل: “لا تعطوا القدس للكلاب” هذا الذي أوردته في غير معناه الحقيقي، يلزم ألا نظن بأنه يعني أن الشركة المقدسة تصير (بالنسبة للمجرمين) طعامًا للشياطين وليس تنقية وحماية للجسد والروح، لأنه عندما يتناولها إنسان يُحرق الروح الشرير ويصارعه هذا الذي وجد له مكانًا في أعضائه أو حاول أن يختفي فيه.
ج. رأينا متأخرًا أن الأب أندرونيكوس وكثيرين قد شفوا بهذه الطريقة، لأن العدو يفسد بالأكثر الإنسان الذي امتلكه متى رآه قد امتنع عن الدواء السماوي، ويخدعه بالأكثر بطريقة خفية، إذ يراه قد ابتعد بالأكثر عن العلاج الروحي.
31- بؤس الذين لا يُؤدبون هنا
يلزمنا أن نأخذ في اعتبارنا أن الذين يدنسون أنفسهم بكل صنوف الخطايا والشر ومع ذلك لا توجد علامات منظورة لملكية الشيطان عليهم (أي أن تجرب أجسادهم) ولا تحل بهم أي تجربة تتناسب مع أفعالهم ولا يتحملون أي عقاب، هؤلاء بؤساء وأشقياء. لأنه لا يوهب لهم علاج خفيف وسريع في هذا العالم، بل بسبب غلاظة قلوبهم يستحقون عقابًا أشد في تلك الحياة إذ يذخرون لأنفسهم “غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة” (رو5:2)، حيث “دودهم لا يموت ونارهم لا تُطفأ” (إش24:66).
كأن النبي قد تحيّر إذ رأى القديسين يخضعون لخسائر متنوعة وتجارب، بينما رأي الأشرار ليس فقط يعبرون حياتهم في هذا العالم بغير أي تأديب مملوء ذلاً بل يتمتعون بغنى عظيم وتنعم وفير في كل شيء. فاشتعل النبي بغيظ غير مضبوط وغيرة معلنًا: “أما أنا فكادت تزلُّ قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي. لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار. لأنهُ ليست في موتهم شدائد وجسمهم سمين. ليسوا في تعب الناس ومع البشر لا يُصابون” (مز2:73-5). إذ أنهم يعاقبون فيما بعد مع الشياطين، لأنه لم يوهب لهم في هذه الحياة أن يؤدبوا مع بني البشر في عِداد الأبناء.
إرميا أيضًا مع أنه لم يشك قط معترفًا بعدالة الله إذ يقول “أَبرُّ أنت يا رب من أن أخاصمك” (إر1:12). إلا أنه يتحدث عن تنعم الأشرار كما لو كان ذلك بسبب عدم عدالة الله إذ يقول: “لكن أكلمك من جهة أحكامك. لماذا تنجح طريق الأشرار؟! اطمأَنَّ كل الغادرين غدرًا. غرستهم فأصَّلوا نموًا وأثمروا ثمرًا، أنت قريب في فمهم وبعيد من كلاهم” (إر2:12).
عندما يحزن الرب بسبب هلاكهم يوجه الأطباء والجرّاحين لأجل شفائهم ويحثهم إلى حزن مشابه ويقول علي لسان النبي: “سقطت بابل بغتةً وتحطمت. ولولوا عليها. خذوا بلسانًا لجرحها لعلها تشفي” (إر8:51).
كذلك الملائكة الموكّلون بالنيابة لخلاص البشر في يأسهم يجيبون، أو أن النبي في شخص الرسل والروحانيين والأطباء الذين يرون غلاظة روحهم وقسوة قلبهم يقولون: “داوينا بابل فلم تشفَ. دعوها ولنذهب كل واحد إلى أرضهِ لأن قضاءَها وصل إلى السماءِ وارتفع إلي السحاب” (إر9:51).
ويتكلم إشعياء في شخص إله أورشليم عن ضعفهم المملوء بؤسًا فيقول: “من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيهِ صحَّة بل جرح وإحباط وضربة طريَّة لم تُعصَر ولم تُعصَب ولم تليَّن بالزيت” (إش6:1).
32- شهوات قوات الهواء[1]
لقد تبرهن بجلاء أنه يوجد في الأرواح النجسة عدة شهوات مثل البشر. فالبعض تقوى الفسق واللهو، وبعضها تعمل في قلوب من تأسرهم بالكبرياء الباطل… وأرواح أخرى حاذقة في الكذب بل وتوحي للبشر بالتجديف ويظهر ذلك مما جاء علانية في (1مل22:22) “أخرج وأكون روح كذبٍ في أفواه جميع أنبيائهِ”. وبسبب هذه الأرواح ينتهر الرسول من هم مخدوعين بها إذ هم “تابعون أرواحًا مضلَّة وتعاليم شياطين في رياءِ أقوالٍ كاذبة” (1تي1:4،2). وهناك نوع آخر من الشياطين يشهد عنهم الكتاب أنهم بْكم وصمْ. وبعض الأرواح تُقوي الشهوة والدنس، إذ يعلن هوشع النبي قائلاً: “لأن روح الزنى قد أضلَّهم فزنوا من تحت إلههم[2]” (هو 4: 12).
وبنفس الطريقة يعلمنا الكتاب أن هناك شياطين الليل والنهار والظهيرة (مز91: 5،6). ولقد لقبت الشياطين بأسماء كثيرة في الكتاب المقدس[3]… هذه الأسماء لم ترد اعتباطًا بل تشير إلى شراستها وجنونها تحت أسماء هذه الحيوانات المفترسة المتباينة الضرر والخطورة بالنسبة لنا (إذ لقبت أسود وأفاعي)…
33- سؤال: هل يوجد بين الأرواح الشريرة درجات؟
جرمانيوس: إننا بالتأكيد لا نشك في هذه الرتب التي عددها الرسول بخصوصهم قائلاً: “فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ بل مع الرؤَساءِ مع السلاطين مع ولاة العالم علي ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشرّ الروحيَّة في السماويَّات” (أف12:6). لكننا نريد أن نعرف إن كان يوجد فيما بينهم تفاوت وهل توجد بينهم درجات مختلفة في الشر…
34- سيرينوس: بالرغم من أن أسئلتكم قد سرقتنا خلال الراحة الليلة كلها، حتى أننا لم ندرك اقتراب الفجر… فإن الإجابة علي هذا السؤال الذي أقترح إن بدأنا فيه فسيجرنا إلى بحر من الأسئلة متسع وعميق، والوقت الذي بين أيدينا مقصر ولا يسمح لنا بذلك. لهذا فإنني أرى أنه من اللائق أن نحتفظ به للتأمل في ليلة أخرى. لأنه بإثارة هذا السؤال سأجد في استعدادكم للبحث بعض الفرح الروحي والثمر المتكاثر، ويمكننا إن أعطانا الروح القدس نسمة موفقة أن نتعمق بأكثر حرية في تعقيدات السؤال المعروض أمامنا.
لهذا فلنتمتع بقليل من النوم إذ يقترب الفجر، ثم ننزع عنا الكسل الذي يسلب عيوننا ونذهب سويًا إلى الكنيسة من أجل حفظ يوم الأحد ونعود بعد الخدمة حسبما يهبنا الله لأجل تقدمنا العام.
ملخص المبادئ
وهب الله للإنسان سلطانًا علي الفكر، له أن يقبل الخير ويتجاوب معه، وأن يقبل الشر وعندئذ يخضع له وينحني تحت سلطانه بغير إرادته، وبالتالي يحتاج إلى نعمة الله في انسحاق قلب وتوبة، مجاهدًا حتى يتحرر من السلطان الذي خضع له بإرادته.
لا تيأس مهما بلغت خطاياك واشتد ضعفك، لكن جاهد في رجاء لأن ملكوت الله يُغتصب.
إن كان الشيطان عنيفًا في حربه، فنحن أيضًا فينا الروح القدس القدير، ولنا الرب يسوع المنتصر.
قد ننخدع فنظن أن للشيطان سلطانًا علينا، لكن الحق أنه وإن اشتدت قوة إغراءاته يعجز عن أن يلزمنا بالطاعة له، بل ولا يعرف أفكارنا ما لم نُعلنها نحن خلال تصرفاتنا وملامح وجوهنا…
لا تتحد الشياطين مع أرواح البشر، بل الله وحده الذي له أن يوحَّدنا فيه.
[1] اختصرت هذا الفصل.
[2] “فضلوا بعيدًا عن إلههم”.
[3] راجع شيء 21:13،22؛ 13:34،15؛ مز 13:116؛ لو 19:10؛ يو 30:14؛ أف 12:6.