معجزات السيد المسيح في القرآن

تتميّز سيرة السيّد المسيح في الأناجيل بقصص المعجزات التي فعلها في سبيل هداية الناس إلى عبادة الإله الواحد. فكان الهدف من المعجزات تمجيد الله في خلقه، والإيمان بالمسيح ربّاً ذا سلطان على مغفرة الخطايا ومخلّصاً فادياً الإنسان من معاصيه. كذلك تتميّز سيرة السيّد المسيح في القرآن ببعض المعجزات التي أيّده بها الله، منها ما ورد ذكره في الأناجيل ومنها ما ورد ذكره في الأناجيل المنحولة. أمّا المعجزة فهي الأمر الخارق للعادة يجريه الله على يد أحد أنبيائه، كأنّه بخرق العادة يقول للناس بصدق الذي تمّت على يده المعجزة.

أولى معجزات السيّد المسيح هي كيفيّة ولادته من أمّه السيّدة مريم وتكلّمه في المهد طفلاً، وقد تقدّم ذكر هذا الأمر مع شرحه في مقالة “ميلاد السيّد المسيح في القرآن”، رعيّتي، 15 كانون الأوّل 2002. يجمل القرآن معجزات المسيح في آيات قليلة من دون أن يسهب في التفاصيل، وذلك في سورتَي آل عمران والمائدة. والسبب الذي من أجله يتمّ المسيح المعجزات في القرآن إنّما هو عبادة الله، فقد ورد في القرآن أنّ المسيح قد توجّه إلى بني إسرائيل قائلاً: “وجئتكم بآية من ربّكم فاتّقوا الله وأطيعوني. إنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم” (آل عمران 3، 50-51). صنع الآيات، إذاً، غايته أن يعبد الناس الله وأن يطيعوا المسيح في ما يعلّمه.

أهمّ معجزات المسيح، بحسب التراث الإسلاميّ، هي ما ورد ذكرها في الآية القرآنيّة على لسان المسيح: “ورسولاً إلى بني إسرائيل أنّي قد جئتكم بآية من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم إنّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين” (آل عمران 3، 49). هنا يذكر القرآن خمس معجزات: الطير المصنوع من الطين الذي بثّ فيه المسيح الحياة، شفاء الأكمه (الذي وُلد أعمى)، إبراء الأبرص، إحياء الموتى، والتنبؤ بما يأكل سامعوه وبما يدّخرون في منازلهم. أمّا معجزات شفاء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فقد ورد ذكرها في الأناجيل. فمن أين، إذاً، قصّة الطير المجبول من الطين؟

لقد ورد في إنجيل متّى المنحول (المنسوب إلى متّى وهو غير إنجيل متّى الصحيح) ما يشبه هذه المعجزة المذكورة في القرآن. فيقول متّى المنحول: “بعد ذلك، أخذ يسوع طين الأقنية، وصنع، على مرأى من الناس، اثني عشر عصفوراً. ولكنّه عمل ذلك في يوم السبت، وكان معه عدد كبير من الأولاد. ورأى أحد اليهود ما صنعه، فقال ليوسف: “يا يوسف، ألا ترى الطفل يسوع يعمل في يوم السبت، وهو أمر لا يحلّ له؟ فقد صنع اثني عشر عصفوراً من الطين”. فوبّخ يوسف يسوع قائلاً له: “لماذا تعمل في يوم السبت ما لا يحلّ لنا عمله؟”. لكنّ يسوع، عند سماعه كلام يوسف، صفّق وقال لعصافيره: “طيري”. فلمّا سمعت هذا الأمر أخذت تطير. وفيما كان جميع الحاضرين ينظرون ويصغون، قال للعصافير: “اذهبي وطيري في أنحاء العالم والكون وعيشي”. فلمّا رأى الحاضرون مثل هذه الخوارق، امتلأوا دهشاً” (الفصل 27). المعلوم أنّ الكنيسة رفضت اعتبار الأناجيل المنحولة أناجيل صحيحة لورود قصص فيها مشابهة لهذه القصّة التي تظهر المسيح يقوم بخوارق لا معنى لها. فالدافع الأساسيّ لمعجزات المسيح هي التعليم والدعوة إلى التوبة، بينما تظهر القصص المماثلة لقصّة الطيور المسيح كأنّه ساحر يقوم بإدهاش الناس فقط من دون أيّ دعوة واضحة.

يشدّد القرآن على كون المعجزات التي يقوم بها المسيح أنّها تتمّ “بإذن الله”، أي بإرادته. فالله هو الذي يتمّها بواسطة نبيّه المسيح. واللافت أنّ القرآن يستعمل فعل “خلق” الذي لا يجوز استعماله إلاّ لله وحده، فيقول أحد المفسّرين: “وعمليّة الخلق هذه تشبه عمليّة خلق آدم، لكنّ الله مكّن عيسى (الاسم القرآنيّ ليسوع) من خلق بعض الحيوانات بمشيئته كما مكّن موسى من قبله من أن يجعل العصا حيّة تسعى بإذنه”. لذلك الفارق بين الروايتين القرآنيّة والمنحولة، أنّ الرواية القرآنيّة تشير إلى نفخ المسيح في الطين ليتحوّل طيراً، وهذا ما يذكّر برواية خلق آدم، إذ نفخ الله فيه من روحه. بينما تخلو الرواية المنحولة من ذكر النفخ، فثمّة أمرٌ بأن تطير العصافير فتطير.

تبقى الإشارة إلى معجزة المائدة النازلة من السماء “إذ قال الحواريّون (تلاميذ المسيح) يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السماء قال (عيسى) اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدَقتنا ونكون عليها من الشاهدين. قال عيسى ابن مريم اللّهم ربّنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا وآيةً منك وارزقنا وأنت خير الرازقين. قال الله إنّي منزّلها عليكم فمَن يكفر بعد منكم فإنّي أعذّبه عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين” (المائدة 5، 211-511). هل في ذلك إلماحٌ إلى سرّ الشكر (القدّاس الإلهيّ) أو إلى العشاء الأخير؟ ينقل أحد مفسّري القرآن عن ابن عبّاس (من أهمّ رواة الحديث) قوله: “نزلت المائدة على عيسى ابن مريم والحواريّين: خوانٌ عليه سمكٌ وخبزٌ، يأكلون منه أينما تولّوا إذا شاؤوا”. وهذا التفسير أقرب إلى معجزة تكثير الخبز والسمك في الأناجيل.

دور المعجزة يكمن أساساً في تأكيد الدعوة أو الرسالة عند المبلّغ، ومن ثمّ تصديق الناس لها وطاعتهم لله وعبادته. لا تكمن أهمّيّة المعجزة في الإبهار أو الإدهاش بل في تحوّل القلوب وتوبة الناس عند مشاهدتها. المعجزة في ثمارها لا في إعجازها.

عن  نشرة رعيتي 2002

de_DEGerman
Nach oben scrollen