لقد اصطدمت المسيحيّة منذ نشأتها ببيئتها اليهوديّة والوثنيّة فاضطرّت إلى ا لدفاع عن نفسها. وبرز إلى الوجود نمط معيّن من الأدب المسيحيّ الموسوم بالدفاعيّ. وهذا ما دفع الباحثين إلى التكلّم عن “المدافعين”[1]، أي كتّاب القرن الثاني، الذين خصّصوا كتاباتهم كلّها أو معظمها للدفاع عن المسيحيّة.. وكان للدفاع عن المسيحيّة بوجه اليهوديّة هدفان: الأوّل تحديد الفوارق بين المسيحيّة وجذورها اليهوديّة، فركّز المدافعون على الاعتراف بيسوع مسيحاً، وعلى تفسير العهد القديم بأنّه تهيئة لمجيء المسيح وتبشيرٌ به. فليس لهذا العهد من معنى إلاّ على ضوء ما أضفاه عليه العهد الجديد. أمّا الهدف الثاني فهو هداية اليهود إلى المسيحيّة وإقناعهم بالإيمان بيسوع المسيح اعتماداً على معطيات العهد القديم.
كان للدفاع عن المسيحيّة بوجه الوثنيّة هدف مختلف، فلقد كانت الاضطهادات تعصف بالمسيحيّين، تؤجّجها الوشايات والحسد والاتّهامات الباطلة وسوء الفهم. وكان على المدافعين المسيحيّين أن يصوّروا المسيحيّة بصورة إيمانيّة وعقيديّة مقبولة تتّفق والخير وشرائع الدولة. فهم يصلّون من أجل الإمبراطور، ويشاركون في الحياة العامّة، وتملي عليهم واجباتهم الأخلاقيّة المسيحيّة احترام الحق. إلاّ أنّ عبادتهم لإله واحد، وامتناعهم عن تكريم الآلهة الوثنيّة أدّى إلى استمرار الاضطهادات. لذلك جاهدوا لإبراز تفوّق إيمانهم، ممّا قادهم إلى إرساء أسس علم اللاهوت.للاهوت.
من أهمّ المدافعين نذكر القدّيس الشهيد يوستينس (165+) الذي لن نتناول أعماله في هذه المقالة، كما نذكر كوادراتُس الذي كتب دفاعاً، هو الأقدم بين كلّ الدفاعات، رفعه إلى الإمبراطور أدريانُس، وأريستُن الذي كتب دفاعاً موجّهاً إلى اليهود، وأريستيدُس الأثينائيّ الذي كتب أيضاً دفاعاً إلى الإمبراطور أدريانُس. يهاجم أريستيدس، في دفاعه،سائر الديانات الموجودة في الإمبراطوريّة مبيّناً تفوّق المسيحيّة عليها كلّها، فالبربر يعبدون العناصر الفانية: الأرض والماء والنار والشمس والرياح، واليونانيّون نسبوا لآلهتهم ضعف الناس وأهواءهم، والمصريّون عبدوا الحيوانات، أمّا المسيحيّون فإنّهم يعرفون الله معرفة صحيحة ويمتازون بنقاوة عاداتهم وعباداتهم.
يُعتبر أثيناغوراس من بين أكبر المدافعين عن المسيحيّة. كتب دفاعين هما:”استرحام للمسيحيّين” موجّه إلى الإمبراطور مرقس أوريليوس، و”قيامة الأموات”. يدحض أثيناغوراس في دفاعه الأوّل ثلاثة اتّهامات ألصقها الشعب بالمسيحيّين: الإلحاد والزنى وأكل البشر. ويبيّن أثيناغوراس أنّ الإيمان المسيحيّ ليس إلحاداً بل إيمان بالله الواحد كما يراه بعض الشعراء والفلاسفة اليونانيّين أنفسهم، وأنّ المسيحيّة هي التي أوحى بها ذلك الإله الحقيقيّ الواحد. لذلك يرفض المسيحيّون الاعتراف بآلهة ليست سوى صنع الإنسان، أو هي مجرّد ظواهر طبيعيّة رفعها الإنسان إلى رتبة الآلهة. ويرفض أثيناغوراس التهمتين الأخريين، أي الزنى وأكل البشر، معتبراً أنّ المسيحيّين أكرم من أن يمارسوا هذين الإثمين. في دفاعه الثاني “قيامة الأموات”، يسعى أثيناغوراس إلى البرهان على حقيقة القيامة وملاءمتها وضرورتها، فالإنسان مخلوق للخلود، ولمّا كان الجسد من طبيعة الإنسان فلا يسع النفس أن تبلغ غايتها من دونه. لذلك ينبغي أن تكون في الآخرة مكافأة يكون للجسد نصيباً فيها.ً فيها.
وبرز من المدافعين القدّيس ثيوفيلس الأنطاكيّ (185 +)، (تعيّد له الكنيسة في السادس من كانون الأوّل) الذي كتب إلى صديقه أفتوليكس ثلاثة دفاعات. في الدفاع الأوّل يتطرّق إلى طبيعة الله وعنايته وإلى بطلان الأساطير، ويشرح معنى لفظ “مسيحي”، ويتناول موضوع الإيمان بالقيامة داعياً صديقه إلى اعتناق المسيحيّة. وفي الدفاع الثاني يقيم مقارنة بين الأساطير اليونانيّة والفلاسفة اليونانيّين المتناقضة من جهة، وتعليم الأنبياء من جهة أخرى. أمّا في الدفاع الثالث فإنّه يدحض اتّهامات الوثنيّين الذين يشكّكون بأخلاق المسيحيّين مبيّناً لا أخلاقيّة المفاهيم التي يضفيها الفلاسفة والشعراء الآخرون على الحياة.
كما اشتهر من المدافعين تاتيانُس السوريّ الذي كتب دفاعاً عنوانه “الخطاب إلى الأثينائيّين”، يستشنع فيه ثقافة اليونانيّين وفلسفتهم محارباً آلهتهم ومبيّناً تفوّق المسيحيّة. وتحدّثنا كتب التاريخ عن ميليتيادِس الذي وضع ثلاثة دفاعات تتألّف من كتابين لدحض اليونانيّين وكتابين لدحض اليهود وكتاباً عنوانه “من أجل الفلسفة المسيحيّة” موجّهاً إلى “السلطة المدنيّة”. كذلك عُرف من بين المدافعين أبوليناريوس أسقف هيرابوليس الذي كتب أربعة دفاعات عن الإيمان المسيحيّ ضدّ اليونانيّين واليهود. أخيراً، نذكر ميليتون أسقف سردينيّة في آسية الصغرى الذي وجّه دفاعاً إلى الإمبراطور مرقس أوريليوس، ورد فيه للمرّة الأولى أنّ العلاقات السلميّة بين الكنيسة والدولة هي القاعدة الأساسيّة وينبوع الخير للطرفين.
لئن كانت هذه الدفاعات مبنيّة في غالب الأحيان على الفلسفة والمنطق والعقل، غير أنّ المدافعين لم يتخلّوا عن برهان الحياة الذي هو من أقوى البراهين. وفي هذا الصدد نستشهد بقول لأثيناغوراس: “في وسعكم أن تجدوا عندنا جهّالاً، وعمّالاً، وعقولاً صغيرة، إنْ لم يكن في وسعهم أن يبرهنوا بالكلام عن فائدة تعليمهم، فإنّهم، بأعمالهم، يبرهنون عن فائدة مبادئهم. لا يحفظون عن ظهر قلب كلمات، لكنّهم يقدّمون أعمالاً صالحة. وإذا ما ضُربوا لا يردّون الضربات، وإذا ما سُلبوا لا يلاحقون لدى العدالة، يعطون لمَن يطلب منهم، ويحبّون قريبهم كأنفسهم”.
Din buletinul meu parohial 2002
[1] ليس كل المدافعين هم من القديسين، بل إن هناك منهم لكثرة تمسكهم بالفلسفة فعضوضاً عن تعميد الفلسفة راحوا يتفلسفون. مثل تاتيانوس السوري. ومنهم من تأثر بالفلسفة لحد كبير مثل أثيناغوراس.