أطلق علماء المسيحية اسم “الآباء الرسوليون” على الجيل الأول من الكتّاب الذين عاشروا الرسل وخلفوهم في قيادة الكنيسة الناشئة، فكانت ثمرة كتاباتهم هي الاولى التي تلت مرحلة تدوين الأناجيل والرسائل. يتكوّن هذا الأدب الرسولي من رسالة القديس كليمنضُس أسقف رومية الى أهل كورنثوس وثمة رسالة ثانية منسوبة اليه، والذيذاخي (تعليم الرسل الاثني عشر)، ورسائل القديس اغناطيوس الأنطاكي السبع، ومقاطع من أعمال بابياس، ورسالة برنابا، ورسالتي القديس بوليكَربُس أسقف إزمير ووقائع استشهاده، وهرماس الراعي. كل هذه الأعمال، ما عدا استشهاد بوليكاربوس، قد دُوّنت قبل عام 130 للميلاد.
يتبين لنا أن مهمة الآباء الرسوليين تتلخّص، من خلال دراسة ما كتبوا، بأربعة أمور أساسية يبدو انها كانت تستحوذ على كل وقتهم، وهذه الأمور هي: البشارة والحفاظ على الإيمان الحقيقي، تنظيم الكنيسة، خلاص الإنسان والشهادة ليسوع المسيح. فهؤلاء الآباء عالجوا في كتاباتهم وضع الجماعات المسيحية ومشكلاتها الداخلية والخارجية والمسائل التي كانت تعترض المؤمنين في حياتهم اليومية. لذلك، وبفضل أعمالهم المكتوبة، نستطيع أن نكوّن صورة عن الحياة المسيحية الأولى وعن أبرز العوائق التي نشأت في طريق المؤمنين الأوائل.لأوائل.
نلاحظ بعد قراءتنا لأعمال الآباء الرسوليّين أن نشوء البدع المسيحية قد ترافق مع نشوء الكنيسة، والإشارات عندهم الى شطط بعض المجموعات عن الإيمان الأصيل كثيرة. كما أن التصادم الفكري بين المسيحيين من أصل يهودي واليونانيين من اصحاب الفلسفة كان يستدعي معرفة بأصول المنطق لإقناع دارسي الفلسفة بالتوحيد الإلهي وبقيامة يسوع المسيح وكسبهم بما يتمتعون به من علم هذه الدنيا. ولم يقتصر نشوء البدع على الآتين من الفلسفة اليونانية بل تعداهم الى المسيحيين من اصل يهودي. فنجد الآباء الرسوليين يدحضون تعاليم العرفانيين، كالمشبِّهين الذين أنكروا أن يكون ابن الله قد صار إنسانا، فتصدى لهم القديس اغناطيوس الأنطاكي مؤكدا حقيقة التجسد من أجل خلاص الإنسان. كما أكد الآباء الرسوليون ألوهة السيد المسيح في وجه الإبيونيين الذين أنكروها وشددوا على القول انه كان نبيا كسائر أنبياء العهد القديم. كما تجدر الإشارة الى أن الآباء الرسوليين قد استطاعوا التمييز في المخاطبة أثناء توجّههم في البشارة. فالذين كتبوا الى اليهود شدّدوا على اكتمال نبوءات العهد القديم بمجيء المسيح وصلبه وقيامته. اما الذين كتبوا الى الأمم فاختلفت لغتهم، حيث استرسلوا في الحديث عن وحدانية الله وعن قيامة المسيح. القيامة، اذاً، هي الأمر الوحيد المشترك في بشارة اليهود والأمم.
يتطرق الآباء الرسوليون الى دور الأسقف في الجماعة، فيُجمعون على انه الأمين على وحدة الإيمان والتعليم ونقل البشارة. وهو بحسب ما يعني لقبه المراقِب على حُسْن سير العمل في الكنيسة والمؤتمَن على خراف المسيح. والأسقف هو الذي يرئس الإفخارستيا في الكنيسة نهار الاحد محاطا بمحفل الشيوخ (او الكهنة) والشمامسة والشعب. وكان هو الذي يلقي العظة بعد قراءات من العهدين القديم والجديد، وكانت الجماعة تعترف بعضها لبعض بخطاياها، ثم تقام رتبة الافخارستيا ويقوم الشمامسة بتوزيع الخبز والخمر للمشاركة. وبعد الخدمة الليتُرجية، كان الحاضرون يقدّمون من أموالهم للفقراء والمحتاجين، فيمتد بذلك سر الشكر والمشاركة الى الحياة ايضا. ولا ينسى الآباء الرسوليون التنويه بمهمات الأسقف الرعائية، التي تشكل ركنا اساسيا من أركان رسالته.
يدعو الآباء الرسوليون المؤمنين الى الوحدة بشكل دائم. لهذا نراهم ينبذون الكبرياء والحسد ويعتبرونهما الأساس الذي يقوم عليه كل انشقاق في الكنيسة، فيشدّدون على التذكير بفضائل الطاعة والمحبة والتواضع، وبخاصة بوجوب طاعة الاسقف المؤتمَن مع مجمعه على الإيمان وصحته. اما كليمنضُس الروماني فيرى أن الحسد والغيرة والكبرياء هي سبب النزاع في كنيسة كورنثوس، لذلك يدعوها الى السلام والعودة الى الوحدة قائلا: “ايها الإخوة، عار جدا وغير جدير بالمسلك المسيحي أن نسمع أن كنيسة كورنثوس القديمة الراسخة قد قامت ضد متقدّميها بسبب شخص او شخصين”.
ما تتميز به هذه الكتابات الرسولية ايضا إنما هو الدعوة الى قبول الاستشهاد، الذي هو الطريق الحقيقي الى ملاقاة الرب عاجلا. لقد كان المؤمنون الأوائل يعيّدون لاستشهاد رفيق لهم لأنهم كانوا يعتبرون ذلك قيامة شخصية له، فالله يأتي ويحضن مختاره ويُدخله في ملكوته. لقد كان الاستشهاد بمثابة مجيء ثانٍ للمسيح خاص بالشهيد. لذلك لم يخَف الشهداء مواجهة الموت لأنهم آمنوا أنهم لا شك سيكونون مع المسيح في اليوم ذاته لاستشهادهم. فها القديس اغناطيوس الأنطاكي يقول: “إني أموت بمحض اختياري من اجل المسيح(…) اتركوني فريسة للوحوش. انها هي التي توصلني سريعا الى الله. انا قمح الله أُطحن تحت أضراس الوحوش لأُخبز خبزا نقيا للمسيح”.
لم يتخلّ الآباء الرسوليون ومعاصروهم من المسيحيين عن التزامهم بالإيمان المسيحي الذي تسلّموه من الرسل، على الرغم من كل الاضطهادات التي عانوا منها، واضطرارهم الى التخفّي لممارسة عباداتهم. لقد كان الانتماء الى المسيحية خيارا صعبا لا ترفا، فلم يترددوا في اقتبال المعمودية، ودفع الكثير منهم دمهم ثمنا لما اعتبروه أغلى ما عندهم. هذا لأن حياتهم كلها كانت متمحورة حول صلاة يمكن تلخيصها بالآية الخاتمة للكتاب المقدس: “تعال ايها الرب يسوع”.
Din buletinul meu parohial 1998