ولد القديس تاراسيوس حوالي منتصف القرن الثامن الميلادي لعائلة جمعت رفعة المقام إلى الغنى والفضييلة. أبوه جاورجيوس كان قاضيا محترما لا غبار على أحكامه، وأمه أوكراتيا امرأة فاضلة تقيّة أنشأت ابنها على محبة العلم والفضييلة. كان تاراسيوس، بما تمتع به من مواهب وسيرة شريفة، موضع إكرام الجميع وتقديرهم. وقد ترقى في سلّم المناص حتى صار قنصلا، ثم بعد ذلك أمين السر الأول للأمبراطور قسطنطين وأمه إيريني. ومع انّ تاراسيوس كان عشير القصر الملكي وعرف أسمى المراتب وكان محاطا بكل ما يمكن ان ينفخ النفس ويُطيّب الحواس فإنه سلك سلوك رجل زاهد.
ثلاثة أباطرة منذ العام 726 ، كانوا قد حاربوا الايقونات ولاحقوا مكرميها، لاون الإيصافري وابنه قسطنطين الزبلي الإسم وحفيده لاون المدعو خازاروس. هذا الأخير كان قد تزوج من إيريني التي كانت، في خاصتها، أرثوذكسية وكانت قوية طموحة. رقد زوجها عام 780 م بعدما خلّف ولدا اسمه قسطنطين كان عمره يومذاك عشر سنوات. وقد تمكنت إيريني بجدارتها وعلاقاتها الطيبة بالنبلاء من ان تأخذ لنفسها الوصاية على ابنها قسطنطين. بولس الثالث، بطريرك القسطنطينية يومذاك، كان قد تبوأ السدّة البطريركية في زمن الأمبراطور الراحل وكانقد جنح إلى القبول بمحاربة الإيقونات رغم تمتّعه بمزايا عديدة طيّبة.
ويبدو ان ضميره صحا وأراد ان يكفّر عن ذنبه فاستقال واعتزل في دير فلورس. ولما جاءته إيريني وابنها محاولين ردّه عن قراره امتنع وتمسّك باستقالته. فسألاه بمن يوصي بطريركا محله فأوصى بتاراسيوس. ويبدو انه رقد بعد ذلك بقليل. أما اختيار تاراسيوس فطاب للملكة وابنها ورجال الكنيسة والنبلاء في آن معا. فلما علم تاراسيوس بما جرى حاول التهرّب ولكن عبثا فرضخ وجرت ترقيته في سلم الرتب الكنسية وصُيِّر بطريركا في عيد الميلاد من السنة 780م.
أول ما عمله تاراسيوس دعوته إلى مجمع مسكوني يُعيد الاعتبار للإيقونات ويضع حجا للأذى الذي سبّبته الحرب عليها. كتب إلى أدريانوس، بابا رومية وكذلك إلى بطاركة الإسكندرية وانطاكية وأورشليم. أدريانو رح!ب وأوفد رسولين. كذلك رحّب البطاركة الباقون، لكنه تعذّر عليهم الحضور بسبب وقوع بكريركياتهم في دائرة العرب المسلمين. إلا انهم تمكنوا من ايفاد مندوبين عنهم. التأم المجمع، أول أمره، في القسطنطينية في أول آب من السنة 786م لكن اضطرابات أثارها محاربو الايقونات أدّت إلى تأجيله وإلى تغيير مكانه. فعاد والتأم في نيقية في أيلول من السنة التالية 787م. عدد المجتمعين من الأساقفة أو المندوبين كان ثلاثمائة وخمسين إضافة إلى العديد من رؤساء الأديرة والكهنة والمعترفين. وقد أُعيد الاعتبار للإيقونات وأكد المجتمعون ان الإيقونة مستحقة للإكرام دون العبادة وان ه1ا الإكرام موجّه إلى المرسوم عليها. تاراسيوس هو الذي رأس الجلسات وقادها بح1ر وحكمة. ولما انفضّ المجمع سعى إلى التعاطي مع الهراطقة برفق ليستعيدهم إلى حضن الكنيسة،÷ فاجتنب الإجراءات الصارمة بحقّهم مما أثار حفيظة الأرثوذكس المتشددّين كرهبان دير ستوديون، لا سيما القدّيسي أفلاطون ونسيبه ثيودوروس المعيّد له في 11 تشرين الثاني.
إلى ذلك عمل تاراسيوس بجدّ على التخلّص من السيمونية في سيامة الكهنة ودافع عن حق اللجوء إلى الكنائس وهو القاضي بمنع السلطات المدنية من إيقاف أي كان إذا لجأ إلى الكنيسة واحتمى بالمذبح. على هذا ضرب بالحرم جنودا أوقفوا عنوة أحد القضاة المتهمين بتبذير أموال الدولة بعدما لجأ إلى كنيسة الحكمة المقدّسة.
هذا وقد كانت سيرة تاراسيوس نموذجا للكمال في عين الإكليروس والشعب معا. لم يكن على مائدته ما هو غير ضرورة ولا اجتاحت مقرّ البطريركية مظاهر العظمة كما كانالحال في أيام العديد من أسلافه. لم يسمح لنفسه إلا بالقليل من النوم. الصلاة والقراءة ملأتا أوقات فراغه. كانت متعة له، على غرار معلّمه ان يقوم بخدمة الآخرين بدل ان ينتظر الخدمة منهم. لذا نادرا ما سمح لخدّامه بخدمته. سلك في تواضع القلب وألغى استعمال الذهب والقرمز بين الإكليروس وعمل على استئصال العادات الكنسية السيئة بين الناس. محبته للفقير فاقت سائر فضائله. كثيرا ما كان يرفع أطباق اللحم عن مائدته ليوزّعها على الفقراء بيديه. وقد عيَّن لهم دخلا ثابتا. وحتى لا يتعرض محتاج إلى الإهمال كان يزور بيوت الفقراء والمصحّات بتواتر. إكرامه لهم كان يزيد بشكل ملحوظ في موسم الصوم الكبير. مواعظه حثّا قويا على التقشّف. وكان صارما بشأن التسليات المسرحية.
ثم ان الأمبراطور قسطنطين السادس وقع في هيام إحدى وصيفات الملكة ماريا الأرمنية. اسم الوصيفة كان ثيودوتا. وإذ رغب في التخلّص من الملكة ادّعى انها حاولت دسّ السم له. قوانين الكنيسة لا تسمح له بالطلاق منها، والكل، بمن فيهم تاراسيوس، كان عارفا بنواياه. حاول الملك استمالة البطريرك فلم يوافقه. قال للرسل الذين أتوا إليه في هاذا الشأن:” لا أدري كيف يمكن للأمبراطور ان يحمل وصمة العار على هذه الفعلة الشائنة أمام الملأ، ولا كيف سيكون بإمكانه ان يمنع أو يعاقب الزنى والفجور إذا كان هو نفسه قد أقام مثالا سيئا للآخرين. قولوا له اني مستعد لأن أكابد الموت وكل صنوف التعذيب ولا أوافقه على عزمه”. وقد هدّد البطريرك الملك بالحرم ان هو استمرّ في غيّه. هذا الموقف أثار سخط الأمبراطور فحكم على تاراسيوس بالإقامة الجبرية ومنع أيا كان من الاتصال به، كما ألزم زوجته ماريا بالدخول إلى الدير واستمال كاهنا اسمه يوسف، مدبّر الكنيسة العظمة، فعمد إلى مباركة زواجه من ثيودوتا. هذا الحدث، فيما يبدو، شجّع عددا من الحكّام ورجال السلطة على الطلاق من زوجاتهم أو حتى على الزواج من أكثر من امرأى كما شجّع الناس على الفسق. تاراسيوس لم يعمد إلى إطلاق الحرم ضد الأمبراطور لئلا تكون العاقبة على الكنيسة والشعب أشدّ وطأة مما كانت عليه. لكن هذا الموقف المتروي لم يمنع الملكمن اضطهاد البطريرك بشتى الطرق الممكة كالتجسّس عليه وتقييد حركته بسلسلة من المراقبين الذين أخذوا يتدخّلون مباشرة في شؤون البطريركية، وكذا نفي العديد من خدّامها.
استمرت هذه الحالة سنة كاملة أُطيح بقسطنطين فينهايتها. وتمكّنت أمه إيريني من وضع يدها على العرش بعدما استمالت العديد من رجالات الجيش والقصر فسجنت الملك وعمدت إلى قلع عينيه فمات بعد مدة قصيرة متأثرا بما جرى. أما تاراسيوس فاستعاد حريّته وأصدر حرما بحق يوسف الكاهن الذي زوّج قسطنطين وثيودوتا واستعاد الشركة مع دير ستيوديون وقسم من الشعب بعدما كان القديس ثيودوروس الستوديتي قد قطعها معه بسبب تمنّعه عن قطع الأمبراطور.
ثم ان نيقيفورس الأول (802 – 811م) تمكّن من انتزاع العرش من إيريني. في أيامه استعادت الكنيسة سلامها. أما تاراسيوس فبعد أسقفية دامت اثنين وعشرين عاما مرض مرضا طويلا مؤلما، لكنه اعتاد إقامة الذبيحة الإلهية كل يوم متكئا على عصاه. وقد ورد انه لما أشرف على الموت دخل في صراع مع الشيطان الذي اتهمه بخطايا لم يرتكبها. وإذ كان ضميره مرتاحا لدى الله أزاح الشيطان بيده لأنه لم تكن له بعد طاقة على الكلام. رقد في الرب في 18 شباط 806م . ودفن في الخامس والعشرين منه في ديره. الزيت المشتعل فوق ضريحه ظهر شافيا للعديدين.
بعد ذلك بسنوات، وبالتحديد في سنة 820م، لما كان الأمبراطور لاون الخامس الأرمني يدعم محاربي الإيقونات ظهر له تاراسيوس في الحلم وأمر شخصا واقفا بجانبه اسمه ميخائيل بطعنه بالسيف.بعد ستة أيام قُتل لاون بيد شخص اسمه ميخائيل استولى على عرشه.
يُذكر ان هيئة القديس تاراسيوس كانت تشبه هيئة القديس غريغوريوس اللاهوتي.
تعيد له كنيستنا الأرثوذكسية في الخامس والعشرين من شهر شباط
Troparia în a patra melodie
لقد أظهرتْكَ أفعال الحق لرعيتك قانوناً للإيمان، وصورةً للوادعة، ومعلماً للإمساك، أيها الأب رئيس الكهنة طاراسيوس، فلذلك أحرزتَ بالتواضع الرّفعة، وبالمسكنة الغنى، فتشفع إلى المسيح الإله أن يخلّص نفوسنا.
Qandaq cu a treia melodie
لقد أبهجتَ الكنيسة بعقائد استقامة الرأي أيها المغبوط، وعلَّمتَ الكل أن يوقروا ويسجدوا لأيقونة المسيح المكرَّمة، ووبختَ معتقد محاربي الأيقونات ذا الإلحاد، فلذلكَ نهتفُ إليك: السلام عليكَ أيها الأب طاراسيوس الحكيم.