[يجد مسيحنا في النفس المقدسة جنة روحية تحمل ثمارًا متنوعة، للأكل والشرب. خمرها المسكر يَهب للإنسان هيامًا في الحب، تنسى كل الأمور الزمنية لترتفع نحو السماويات باتحادها مع عريسها؛
- أ. لكي يُيْقظها؛
- ب. يقرع على بابها؛
- ج. يُنهضها من سريرها؛
- د. يكشف أسراره لها؛
- هـ. يجتذبها إليه بحبه؛
- و. يستر عليها بالحب؛
- ز. يشبعها بالحنطة السماوية.]
المسيح يُيْقظ النفس الهائمة حبً
50. عند سماعها ذلك، تسكر النفس بالأسرار السماوية، وكأنها تنام بالخمر، كأنها راقدة في نشوة أو في سبات، فتقول: “أنا نائمة وقلبي مستيقظ” (نش 5: 2). وإذ يغشاها النور الذي يسببه حضور الكلمة ما أن ترقد وعيناها مفتوحتان حتى يوقظها الكلمة. هنا يتحقق التقدم الرابع للنفس:
أولاً: إذ يَنْفذ صبر حبها ولا تحتمل تأخير الكلمة عنها تسأله أن تتأهل لقبلاته (نش 1: 2)، وأن ترى حبيبها، وتُقتاد إلى حجال الملك.
ثانيًا: إذ كانا يتحدثان إلى بعضهما البعض استراحت في ظله (نش 2: 3)، وفجأة رحل عنها الكلمة وسط حديثهما، لكن لم يغب طويلاً. لأنه ما أن طلبته حتى جاء طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال (نش 2: 8). وبعد برهة قصيرة وكغزال أو وعل (نش 2: 9) وبينما يخاطب محبوبته طفر وتركها.
ثالثًا: على الرغم من أنها لم تجده وهي تطلبه ليلاً وهي في الفراش (نش 3: 1)، في المدينة والساحات والشوارع (نش 3: 2)، فإنها أخيرًا استعادته بصلواتها وبالنعمة، لهذا دعاها العريس إلى الاقتراب منه.
رابعًا: الآن يوقظها من النوم مع أنها كانت متيقظة بقلبها لتسمع صوته في الحال حين يطرق الباب (نش 5: 2)، لكنها بينما تنهض تأخرت قليلاً إذ لم تقدر أن تجاري ركض الكلمة. إذ فتحت الباب مَرّ الكلمة وعبر (نش 5: 5-6). خرجت على كلمته وبحثت عنه وهي مجروحة بجراحات الحب. وأخيرًا بصعوبة وجدته وعانقته حتى لا تفقده. لقد تعرضت لهذه الأمور التي ذكرناها في إيجاز واقتضاب؛ لنتأملها الآن واحدة فواحدة.
المسيح يقرع باب النفس ليستريح فيه
51. حتى إن كنت نائمًا وجاء المسيح فقط ليعرف تكريس نفسك، إنما يأتي ويطرق الباب، قائلاً “افتحي لي يا أختي” (نش 5: 2). حسنًا تُستَخدم كلمة “أخت”، لأن زواج الكلمة والنفس روحي. النفوس لا تعرف عهود الزواج أو أساليب الاتحاد الجسداني، لكنها كملائكة في السماء (مت 22: 30).
“افتحي لي”، واغلقي أمام الغرباء. اغلقي أمام الأزمنة وأمام العالم. لا تخرجي خارج الأبواب إلى الماديات. لا تهجري نورك لتبحثي عن نور الآخرين. لأن النور المادي يسبب عتمة داكنة فلا تري نور المجد الحقيقي، لهذا “افتحي لي”.
لا تفتحي للخصم، ولا تعطي مكانًا لإبليس.
افتحي لي ذاتك، لا تكوني ضيِّقة بل اتسعي وأنا أملأك.
أثناء عبوري في العالم صادفت متاعب جمة ومضايقات، ولم أجد موضعًا أستريح فيه، أفلا تفتحي إذن حتى يسند ابن الإنسان رأسه عليكِ، إذ لا يجد راحة (لو 9: 58) إلاَّ في الوديع والمتضع.
المسيح يُنهض النفس المُحبة
52. إذ تسمع النفس “افتحي لي”، “رأسي امتلأ من الطلّ” (نش 5: 2)، النفس التي باغتتها التجارب وأزعجتها في العالم، وقد أُمرت أن تنهض، وها هي على وشك القيام، تتحدث وقد تعطرت بالصبر والمرّ (نش 5: 5) علامة الدفن، وتقول: “قد خلعت ثوبي، فكيف ألبسه؟ قد غسلت رجليّ، فكيف أوسخهما؟” (نش 5: 3). لأنها تخشى أن تستيقظ ثانية فتحل بها التجارب وتعود مرة أخرى إلى الإثم والخطية، فتبدأ في تلويث بدئها وتقدُّمها في الفضائل بخطوات عالمية. بهذا تؤكد كمالها في الفضيلة، هذه التي استحقت حب المسيح العظيم، فيأتيها ويطرق بابها ويأتي والآب ليتعشى مع النفس وهي معه تمامًا كما قال في سفر الرؤيا (رؤ 3: 20؛ يو 14: 23). ولأنها سمعت في نص سابق: “تعالي من لبنان يا عروسي، تعالي من لبنان” (نش 4: 8)، ولأنها أدركت أنه لا يمكنها أن توجد في المسيح في الجسد لكنها تكون معه فيما بعد، وإن كانت حاضرة في الروح، فقد سلّمت ذاتها لمشيئته حتى تُشبِه صورة المسيح (رو 8: 29). الآن لا تعي آثار الجسد وإنما كروح قد جردت نفسها من رباطات الجسد. كأنها قد نسيت اتحادهما ولم تعد تتذكر ذلك حتى إن أرادت، لذا تقول: “قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟”
لقد خلعت ثوب الجلد الذي استلمه آدم وحواء بعد خطيتهما (تك 3: 21)، ثوب الفساد، ثوب الشهوات.
“كيف ألبسه؟” إنها تطلب ألاَّ ترتديه مرة أخرى، لأنها تعني بقولها هذا أنه قد طُرح بعيدًا ولم يعد الآن غطاءً.
“قد غسلت رجليَّ فكيف أوسِّخهما؟”، غسلت رجليَّ لأذهب وأَنْأَى بنفسي عن الارتباط بالجسد (شهواته).
“كيف أوسِّخهم” بأن أعود إلى قيد الجسد وسجن شهواته المظلم.
المسيح يكشف أسراره للنفس المحبة
53. إذ كانت تقول هذا أَرسَل الكلمة عمله الصالح خلال فتح الباب، وإن لم يكن ذلك وجهًا لوجه لكنه جعله بين يديها، إن جاز التعبير (نش 5: 4، 1 كو 13: 12).
“أَنَّ عليه قلبي، قمت لأفتح لأخي ويداي تقطران مرًا وأصابعي مرّ قاطر على مِقْبض القفل” (نش 5: 4-5). فلنتأمل في معنى ذلك. أولاً، يُرى الله الكلمة في أعماله – كما قلت – كما من فتحة في الباب ولا يُرى كاملاً بالتمام. عندئذ يزداد حبها الذي ما أن يُزرع حتى ينضج… فتتوق أن ترى ملء كمال لاهوته الحال فيه جسديًا كما قرأنا (كو 2: 9).
قامت لترى كلمة الله العجيب عن قرب، هنا يُعبّر عن تقدمها، إذ تنهض بقوة الفضيلة. بحضور الكلمة تتهلل النفس في الفضيلة كما حدث عند حضور مريم التي حملت بالطفل (يسوع)، أرشد يوحنا الذي كان في الرحم فركض متهللاً لمعرفته بحضرة الرب (لو 1: 44).
قامت النفس لتفتح وقد ماتت أعمالها عن العالم، فإن النفس التي تقترب من قبول الكلمة يجب أن تموت عن العالم (غل 6: 14)، وأن تُدفَن مع المسيح (رو 6: 4؛ كو 2: 12)، هكذا نجد المسيح، وهكذا يكون الاستقبال الذي يطلبه لنفسه. تُمات نفس أعضاء (أدوات) الأعمال الصالحة، أعني بذلك اليدين والأصابع التي بها تُمسَك المسيح… لكي تُمسِك الكلمة بيديها الروحيتين تقول النفس التقية إنه ذهب، لكن ليس إنه لا يزال يعبر (نش 5: 6). هذه علامة على التقدم لأن كلمة الله يمضي ويعبر خلال النفس. وكما هو مكتوب: “وأنت أيضًا يجوز في نفسك سيف، لتُعلَن أفكار من قلوب كثيرة” (لو 2: 25). في هذه الحالة يكون هناك فعل الذهاب لا العبور، ربما كما جازت نفس مريم فيما بعد حينما جُعِل الرب يسوع خاتمًا في وسطها (نش 8: 6).
المسيح يجتذب النفس المُحبة
54. يوجد تقدم آخر في ذهاب الكلمة، لأن النفس تخرج على كلمته، أي تتبع كلمته. تخرج من الجسد وتسمو فوق مسكنها، مُتغرّبة عنه، لكي تستوطن عند الله، وتصير رعية مع القديسين (أف 2: 19). لأنه لا يمكننا أن نكون عبيدًا للجسد ولله في وقتٍ واحد. بهذا يكون المعنى – كما قلت – إن النفس تنطلق بانسحابها من اللذات الجسدية.
مكتوب أيضًا: “اخرجوا من بابل؛ اهربوا من أرض الكلدانيين” (إش 48: 20). يُنذِر العبراني بكلمات النبي، لا لكي يهرب حقًا من أرض البابليين، وإنما من سيرتها الأخلاقية، إذ كان العبرانيون في أرض بابل، وظهروا بسلوكهم الأخلاقي أنهم قد رحلوا عنها. عن هؤلاء يقول المرتل إنهم جلسوا على أنهار بابل (مز 137: 1). هم مكثوا فعلاً في أرض بابل لكنهم لم يكونوا في رذائلها المخزية. وفي خضم تلك النقائض المشينة بكوا وتابوا لأنهم سقطوا عن تابوت الإيمان والعبادة التقية وعن الفضيلة واستحقاقات آبائهم.
النفس التي تخرج تسير بكلمته ( أي في طاعة لها)، إذ تطلب الكلمة.
المسيح يستر على النفس المحبة
55. حين كانت (النفس) تطلب (الكلمة) مَرَّت بالحراس الذين كانوا يطوفون بالمدينة. “ضربوني، جرحوني، حفظة الأسوار رفعوا إزاري عني” (نش 5: 7). حسنًا كان هذا الوصف، فإنها كعروس جاءت وقد غطت رأسها بإزارها لكي تقابل العريس. هكذا صنعت رفقة حين علمت أن إسحق قادم لملاقاتها، نزلت عن الجمل وغطت نفسها بإزار (برقع) (تك 24: 65). هكذا النفس التي تحمل علامة ثوب العروس لئلا تُطرَد خارجًا في حالة عدم ارتدائها ثوب العرس (تك 24: 65)، وترتديه لتغطي رأسها من أجل الملائكة (مت: 22: 12-13).
ضربها الحراس إمعانًا في امتحانها، إذ تُمتَحن النفوس بالتجارب. نزعوا عنها الإزار لأنهم كانوا يبغون معرفة إن كانت تحمل جمالاً حقيقيًا للفضيلة المكشوفة (العارية)، أو لأن مَنْ يدخل الملكوت السماوي يلزم أن يكون بلا ملابس، غير حامل أي غطاء.
هناك من يطلب ألاَّ تحمل النفس أي آثار للبهجة الجسدانية وشهوات الجسد. تتعرَّى من الثوب حين ينكشف ضميرها. هناك أيضًا النفس التي تتعرَّض بنية صالحة حين يُسمح لها أن تمتثل بالمسيح القائل “رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء” (يو 14: 30). لا يجد شيئًا فيمن لا يخطئ (1 بط 2: 22). طوبى للنفس التي لا يوجد فيها خطايا خطيرة أو كثيرة، إنما يجد فيها ثوب الإيمان وتدبير الحكمة.
المسيح يشبع النفس المحبة
56. من ثَمَّ لا تفقد (النفس) شيئًا، لأنه ما من إنسان يضيع ما دامت له الحكمة الحقيقية، فإنه وإن أثار الخصم فتنة ضده يبقى كمال حياته غير الملومة تشرق على الدوام. هكذا بدون تحقيق خسارة تجاوزت النفس الحرس ولحقت ببنات المدينة السماوية تطلب الكلمة، وبسعيها إليه تستثير حبه لها. إنها تعرف أين تبحث عنه، إذ تعرف أنه يتأخر بين صلوات قديسيه ويظل قريبًا منهم، وتعلم أنه يقوت كنيسته وأنفس أبراره وسط السوسن (نش 2: 16).
يُعلن لكم الرب هذا السر في الإنجيل، إذ قاد تلاميذه وسط سنابل القمح يوم السبت (مت 12: 1؛ مر 2: 23؛ لو 6: 1)، أما موسى فقاد شعب اليهود عبر البرية. قادهم المسيح عَبْر سنابل القمح، وسط السوسن، لأنه بآلامه أينعت البرية كسوسنة! فلنتبعه إذن، ولنقطف الثمار في السبت العظيم، الذي فيه نجد راحة عظيمة (لا 23: 25؛ يو 19: 31). لا تخشوا اتهام الفريسيين ضدكم إنكم تجمعون الحنطة. فإنهم وإن اتهموكم فإن المسيح يغفر لكم ويصفح عنكم (لو 6: 3-5)، ويجعل الأنفس التي يريدها أن تتبعه أن تصير مثل داود الذي أكل خبز الوجود متعديًا الناموس، إذ سبق فأدرك في فكره الأسرار النبوية الخاصة بالنعمة الجديدة.