القديس قسطنطين الكبير هو أول إمبراطور مسيحي صار بنعمة الله، وكما دعته الكنيسة “رسول الرب بين الملوك”.
الأبوان والمكان والزمان
كان ابن جنرال روماني لامع اسمه قسطانس كلور وأمه القديسة هيلانة. ولد حوالي العام 280م. موطئ رأسه غير محدد بوضوح. ثمة من يقول في طرسوس أو نائيسوس، بقرب الدردانيل، أو أثينا أو يورك في بلاد الإنكليز أو سواها هنالك. ويبدو انه ترعرع في ساحات المعارك واخذ عن أبيه لا فن الحرب وحسب، بل كذلك، أن يسوس بحكمة الخاضعين له وأن يرأف بالمسيحيين. مما يُنقل عن أبيه انه لما كان قيماً على بلاد الإنكليز وبلاد الغال(فرنسا) جاءته توجيهات أن يبطش بالمسيحيين.
أما هو فلم يحكم على إنسان واحد بالإعدام لانه مسيحي، ورغم انه هو نفسه لم يكن مسيحياً. والحكام الخاضعون له الذين تعرضوا لبعض المسيحيين من ذاتهم ما لبث أن أوقفهم عدد حدهم. وإذا كان عدد من ضباطه وخدامه من المسيحيين خيّرهم بين أن يضحّوا للأوثان وأن يخسروا وظائفهم وحظوتهم عنده. فآثر بعضهم مصلحته على إيمانه وضحى. هؤلاء من تلك اللحظة، احتقرهم واعفاهم من خدمته لانه قال إن الذين يؤثرون مصالحهم ويخونون إلههم لا يمكنهم أن يحفظوا الأمانة له. على هذا أبقى لديه الذين تمسكوا بإيمانهم ومسيحهم. هؤلاء، دون سواهم، أمّنهم على نفسه وعلى حكمه. كذلك جاء سفراء من عند الإمبراطور ذيوكلسيانوس يتهمونه بأن خزانة الدولة لدية فارغة ولا يبالي بما يختص بالمال العام. فاستمهلهم لبعض الوقت ثم بث بين أصدقائه والشعب خبر حاجته لاستعارة مبالغ من المال يرده لهم بعد أيام. للحال امتلأ بيته ذهباً وفضة وجواهر جزيلة القيمة. فلما أرسل في طلب السفراء تعجبوا فسألهم أن يشهدوا لما عاينوا وان محبة الشعب وغناه للأمير خير خزينة. كذلك ورد أن قسطانس، والد قسطنطين كان كثير العطف على فقراء المسيحيين. وثمة من يقول انه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة آمن بإله واحد.
هذا عن أبيه، أما عن أمه هيلانة فالأقوال عن نشأتها عديدة لعل أبرزها أنها الابنة الوحيدة ل”كول” الملك الإنجليزي الذي إليه يُعزى بناء أسوار مدينة كولشستر وتجميلها. منه، كما قيل، استعارت هذه المدينة أسمها. وهي الزوجة الأولى لقسطانس كلور وقسطنطين هو ابنها البكر. ويبدو من أفسافيوس القيصري صاحب “تاريخ الكنيسة”، أنها لم تصر مسيحية إلا بعد أن حقق قسطنطين، ابنها النصرة العجائبية على أعدائه. ويبدو انه سلكت في الكمال المسيحي بجد كبير، لا سيما في التقوى وعمل الإحسان. وروفيينوس المؤرخ يقول عن إيمانها وغيرتها المقدسة أنهما لا مثيل لهما. كذلك أكد القديس غريغوريوس الكبير، في القرن السادس الميلادي، أنها أشعلت النار عينها التي اشتعلت فيها، وذلك في قلوب الروم. كانت تتناسى قدرها كإمبراطورة فتبادر إلى مؤازرة الكنائس وتسلك بين الناس بلباس عادي متواضع. صارت أماً للمحتاجين والمضنوكين. بنت الكنائس وأغنتها بالزينة والآنية الثمينة.
في كنف هذين الأبوين الفاضلين إذا نشأ قسطنطين فكان على مزايا كريمة ونبل في المسرى ورحابة في التعاطي مع الآخرين وإنصاف في العدل وعطف على المحتاجين، مستعداً لان يعفوا عن المتحاملين عليه بعد أن يكسر شوكتهم إلا إذا تمادوا. هذه المزايا بالإضافة إلى الرأفة بالمسيحيين اتسم بها قبل أن يعرف المسيح، فلما عرفه اخذ منه وازداد.
في الحجز
قضى قسطنطين سحابة من عمره في نيقوميذية، العاصمة الشرقية للإمبراطورية الرومانية، أسيراً. سبب ذلك أن الأمبراطور ذيوكلسيانوس عيّن أباه قسطانس كلور قيصراً، في الغرب، على بريطانيا وبلاد الغال وإسبانيا. ولكي يضمن بقاءه أمنياً له، أحتفظ بابنه قسطنطين- ربما كما جرت العادة في ذلك الزمان- لديه أسيراً مكرماً في نيقوميذية، ولكن تحت الرقابة. فتوّة قسطنطين، إذاً أمضاها في وسط وثني في قصر ذيوكلسيانوس ثم غاليريوس من بعده.
بعض مزاياه:
قالوا عنه إنه كان مهيباً، صنديداً في المعارك. أخلاقه القويمة وجودته حببا به كل الذين عرفوه. وقد سما على سيرة المؤامرات والخسّة المعتادة في قصور الملوك. لكن مزاياه الطيبة حركت المحاسد، لا سيما غاليريوس قيصر الذي خشي جانبه وود لو يتمكن من التخلص منه بطريقة “بطولية” نظيفة. لذا كثيراً ما كان يُقحمه في معارك خطرة. لكن بتدبير الله، كان كل مرة يخرج منتصراً ويسمو رفعة في عيون الناس.
زمن الصراعات:
أخيراً تمكن قسطنطين من الإفلات من تقييد غاليريوس له، وتحول إلى الغرب، على جناح السرعة. كان أبوه مشرفاً على الموت. لكنه أسند إليه كرسي الحكم في الغرب، فأعلنه العسكر امبراطوراً في 25 تموز سنة 306م. إثر ذلك توفي والده في يورك فدخل قسطنطين في صراع مع الطامعين، من الأباطرة والقياصرة، في حكم الشرق والغرب معاً. أهم هذه الصراعات مواجهته لمكسنتيوس الذي اخذ عن أبيه مكسيميانوس في رومية، وكان ظالماً ماجناً. أهل رومية استجاروا بقسطنطين الذي كانت عاصمته، يومذاك، آرل الفرنسية فتسلق جبال الألب واجتاح بيسر، مدن إيطاليا من الشمال، وتابع سيره إلى أن وصل إلى ضواحي رومية حيث حشد مكسنتيوس قوات تفوق قسطنطين عدداً وعدة.
وقيل إن قسطنطين صعد إلى مكان عال وعاين أعداءه وعرف تفوقهم فارتبك. فإذا بصليب هائل يظهر في السماء عند الظهيرة، قوامه نجوم وحوله استبانت الكلمات التالية باللغة اليونانية: “بهذه العلامة تغلب”. ثم في الليلة التالية ظهر له الرب يسوع بنفسه وأوصاه بإعداد صليب ماثل للصليب الذي عاينه في الرؤيا وأن يرفعه بمثابة راية على راس جيشه. إذ ذاك تلألأت علامة الغلبة من جديد في السماء. فآمن قسطنطين من كل قلبه أن يسوع المسيح هو الإله الأوحد، خالق السماء والأرض، الذي يعطي النصرة للملوك ويرشد الكل إلى النهاية التي سبق فرآها من قبل كون العالم.
وهكذا ما أن طلع النهار حتى شرع قسطنطين في إعداد صليب كبير من الفضة وأعطى الأمر أن يُضع على رأس العسكر عوض النسور الملكية. وكعلامة للنصرة على الموت ونصباً للخلود. مذ ذاك أخذ قسطنطين يتعلم المسيحية وينكب باجتهاد على قراءة الكتب المقدسة. فلما دارت رُحى المعركة المصيرية عند جسر ملفيوس، المعروف اليوم ب”Ponte Mole” على بعد ميلين من رومية، في 28 تشرين الأول سنة 312م، حقق قسطنطين بنعمة الله وقوة الصليب، نصراً كاسحاً وغرق مكسنتيوس وضباطه في نهر التير.
دخل قسطنطين رومية دخولاً مظفراً فحيته الجموع بمثابة محرر ومنقذ ومحسن. وقد رفع راية الصليب فوق النُصب الرئيسية في المدينة، كما أقيم تمثال للإمبراطور حاملاً في يده الصليب بدل الرمح، علامة نصرة وشعار سلطان اقتبله من المسيح. وعند قاعدة التمثال جُعلت هذه الكتابة: “بهذه العلامة الخلاصية التي هي علامة الشجاعة الحق، أنقذت مدينتكم من نير الطاغي وأعدت للمشيخة وشعب رومية مجده السالف.
هذا وقد ردّ قسطنطين للمسيحيين كل الممتلكات التي سبق لمكسنتيوس أن صادرها منهم، كما أرجع المنفيين وحرر الأسرى. وأوعز بالبحث عن رفات الشهداء الذين سقطوا أثناء الاضطهاد الكبير. المسيحيون، بعد هذه النصرة، وبعد تشنيع واضطهاد طال أمدهما بات بإمكانهم أن يخرجوا من الظل ويتمتعوا بحماية الحاكم. بعد ذلك بأشهر التقى قسطنطين الإمبراطور ليسينيوس، إمبراطور المشرق، في ميلانو(313م) فوقّع الاثنان مرسوماً وضع حداً لاضطهاد المسيحيين وأجاز لهم ممارسة إيمانهم بحرية في كل أرجاء الإمبراطورية. مما جاء في ذلك المرسوم:
“إذ أدركنا منذ زمن بعيد، أن الحرية الدينية يجب أن لا يُحرم منها أحد، بل يجب أن يُترك لحكم كل فرد ورغبته أن يتمم واجباته الدينية وفق اختياره، أصدرنا الأوامر بان كل إنسان من المسيحيين وغيرهم، يجب أن يحتفظ بعقيدته وديانته.. لذلك قررنا بقصد سليم مستقيم، أن لا يُحرم أحد من الحرية لاختيار واتباع ديانة المسيحيين، وأن تعطى الحرية لكل واحد لاعتناق الديانة التي يراها ملائمة لنفسه، لكي يُظهر لنا الله في كل شيء لطفه المعهود وعنايته المعتادة.
وعلاوة على ذلك نأمر من جهة أماكن المسيحيين الذين اعتادوا الاجتماع فيها سابقاً … إذا ظهر أن أحداً اشتراها إما من خزانتنا أو من أي شخص أخر وجب ردّها لهؤلاء المسيحيين من دون إبطاء ولا تردد، ومن دون مطالبتهم بتعويض. وإن كان أحد قد قبل تلك الأماكن كهبة وجب ردّها لهم بأسرع ما يمكن…
ولكي يعرف الجميع تفاصيل أوامرنا الرحيمة هذه نرجو أن تنشروا رسالتنا في كل مكان وتعلنوها للجميع…”
القديس قسطنطين من ناحيته، لم يكتف بإطلاق حرية العبادة للمسيحيين، بل أخذ في ترويج المسيحية. منح الكنيسة مساعدات نقدية لبناء كنائس جديدة وتزيين أضرحة الشهداء. كما أعاد للمعترفين ما سبقت مصادرته منهم. وممتلكات الشهداء الذين لا وريث لهم أعطاها للكنيسة. كذلك رد للأساقفة اعتبارهم وكان يستقبلهم إلى مائدته ويساند المجامع المحلية لاحلال السلام والاتفاق.
ولكن، فيما، أخذ نور الحق يلمع على هذا النحو، في الغرب كانت ظلمات الوثنية والتعسف تشتد على الكنيسة في الشرق. مكسيميوس دايا كان من أشرس الذين اضطهدوا المسيحيين. وفي إطار التنازع على السلطة قام على ليسينيوس فقهره هذا الأخير وأعلن نفسه سيد الإمبراطورية في الشرق بلا منازع. ليسينيوس، الذي سبق له أن ابرم اتفاقاً مع القديس قسطنطين، ما لبث أن انقلب عليه. فاستعر في كنفه اضطهاد المسيحيين من جديد. ما رمى إليه هو التخلص من قسطنطين ليكون هو الإمبراطور الأوحد لكل الإمبراطورية. المسيحيون حلفاء قسطنطين والمحظيون لديه، إذن يجب خنقهم. لهذا فرض ليسينيوس على الأساقفة، في الشرق القيود وأغلق الكنائس ونفى المسيحيين الذين طالتهم يده وصادر ممتلكاتهم وعاقب بوحشية كل الذين تجاسروا فمدوا يد العون للموقوفين. كما فرض على الموظفين الكبار أن يقدموا الذبائح للأوثان. فساد الظلم والعنف في كل مجالات الإدارة.
لما بلغ قسطنطين تغير الأحوال في الشرق وما يلاقيه المسيحيون من إجراءات تعسفية، قام فجمع جيشاً قوياً تحت راية الصليب الأقدس واتجه صوب الشرق فدحر ليسينيوس في ادرينوبوليس أولا ثم في خريسوبوليس بصورة نهائية. كان ذلك في 18 أيلول سنة 324م.
سلام الشرق والغرب:
على هذا النحو ارتفع الكابوس عن كاهل الكنيسة في الشرق أيضاً كما سبق له أن ارتفع عن المسيحيين في الغرب. وفي مرسوم أصدره قسطنطين وأذاعه في كل الإمبراطورية أعلن أن الله وحده يجب اعتباره صاحب انتصاراته وأنه هو اختارته العناية الإلهية ليكون في خدمة الصلاح والحق. وقد جعل على المقاطعات حكاماً جدداً حرّم عليهم تقديم الأضحية الوثنية وارسل إلى كل الأصقاع الخاضعة لسلطانه ما يفيد طعنه بالوثنية وتحريضه على الهداية إلى المسيح. حث اتباعه جميعاً على حذوه ولكن دون أن يرغم أحدا على ذلك.
مدينة جديدة:
بهذه الإمبراطورية المسيحية التي استمر حكمها الف سنة ويزيد، كانت تليق عاصمة جديدة اكثر موافقة، من الناحية الجغرافية، من روميه وخالية من آن من ذكريات الوثنية والتعسف. وإذ تلقى قسطنطين، كما ورد، علامة إلهية، اختار مدينة صغيرة-في ذلك الزمان- أسمها بيزنطية، كانت تشغل موقعاً مفصلياً بين الشرق والغرب. وقد أوعز إلى اوفراتا، رئيس مهندسيه، ألا يدّخر جهداً ولا يقتصد مالاً ليجهز المدينة بكل النصب والطرق العامة التي شاءها أن تفوق بعظمتها ومجدها سائر مدن العالم.
أثناء وضع حجر الأساس للمدينة الجديدة في 8 تشرين الثاني سنة 324م اُعطيت اسم القسطنطينية، رومية الجديدة وكُرست فيما بعد لوالدة الإله. في وسط القصر الملكي ارتفع صليب هائل مزين بالحجارة الثمينة. وفي الميدان وُضع على قمة عمود من الرخام السمّاقي تمثال لقسطنطين اُدعت فيه بقايا مقدسة. كما اُقيمت، عند اسفل العمود السلال التي قيل أنها استعملت في أعجوبة تكثير الخبز. سار العمل بسرعة كبيرة. وبمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتولي قسطنطين الحكم، أي في 11 آب سنة 330م، احتفل بأبهة زائدة بتدشين العاصمة الجديدة.
مجمع نيقية:
بعد أن أحرز قسطنطين انتصاره على ليسينوس، جعل همه الأول أن يستعيد وحدة الكنيسة ويرسخها، بعدما تهددتها هرطقة آريوس، الكاهن المصري. لتحقيق هذا الهدف بعث، بواسطة هوسيوس، أسقف قرطبة، رسائل إلى الكسندروس الإسكندري وآريوس عبّر فيها عن ألمه إزاء الانقسام الحاصل ، ثم دعا كل أساقفة المسكونة إلى نيقية إلى أول مجمع مسكوني مقدس، وذلك عام 325م. هذا التلاقي، الأول من نوعه، والذي أتى بأساقفة من أطراف المسكونة، كان تعبيراً كاملاً عن ملء الكنيسة ووحدة الإمبراطورية المسيحية. وقد جلس الإمبراطور في وسط الأساقفة، مرصعاً بالجواهر. أفتتح الجلسات موجهاً الشكر إلى الله لهذا الاجتماع وحث المشتركين على السلام وأن يحلوّا الخلافات التي بذرها إبليس في بيت الله. كما اشترك في المداولات، ونجح بوداعته واتزانه في مصالحة المتخالفين. ثم عند المجمع إلى إدانة آريوس وأتباعه. كذلك تقرر الاحتفال بالفصح المجيد حيثما كان، في تاريخ واحد، بمثابة علامة لوحدة الإيمان. وبعدما جرى ختم الجلسات دعا قسطنطين الآباء القديسين، بمناسبة عيد حكمه العشرين إلى مأدبة كبرى، قدم لهم بعدها الهدايا السخية وأعادهم بسلام إلى ابرشياتهم.
إمبراطور للمسيح:
في السنة التالية 326م، جرت عمادة الإمبراطورة هيلانة. ثم قامت برحلة حج إلى فلسطين. بعد أن شرح القديس مكاريوس أسقف أورشليم حالة الأماكن المقدسة وخشبة الصليب التي دثرها الإمبراطور أدريانوس عام 126م تحت الأتربة والأزبلة. هذا وقد أمر قسطنطين بتشييد بازيلكيا(كنيسة صغيرة) فخمة في المكان، جعلها باسم كنيسة القيامة. جرى تدشينها في العام 337م، بمناسبة الذكرى الثلاثين لتبوئه سدة الحكم.
إلى ذلك زارت القديسة هيلانه أماكن مقدسة أخرى وبنت كنائس في بيت لحم وجبل الزيتون. وقد ورد في شأنها أيضاً أنها أطلقت الأسرى وبددت الحسنات في الشرق كله. وبعدما أكملت سعيها رقدت في الرب عن عمر ناهز الثمانين. جرت مراسم دفنها في القسطنطينية وتم نقل جسدها، فيما بعد إلى رومية حيث يُشاهد اليوم تابوتها الحجري في متحف الفاتيكان.
مما قيل عن القديسة هيلانه أنها كانت دمثة، طيبة المعشر، لطيفة، وادة لكل فئات الناس، لا سيما لمن كانوا في موقع الخدمة الكنسية. لهؤلاء، كما قال روفينوس المؤرخ، كانت تبدي من الاحترام ما يجعلها أحيانا تخدمهم بنفسها وهم إلى المائدة، كما لو كانت واحدة من الإماء. تضع الصحون وتسكب الشراب وتمسك وعاء الماء لتغسل أيديهم. هذا وقيل أنها بنت ديراً للعذارى القديسات في أورشليم. كما جمّلت مدينة دريبانوم في بيثينيا، إكراماً للقديس لوقيوس حتى أن القديس قسطنطين الملك أطلق على المدينة، فيما بعد أسم والدته (Helenoplis).
وبالعودة إلى الكلام على قسطنطين الملك نقول إنه بنعمة الله، نجح بحكمة أستمدها من فوق في إشاعة السلام وتوفير الأمن على الحدود حتى أن من سُمّوا “برابرة” حوّلوا سيوفهم إلى أدوات زراعية. وهكذا انصرف رجل الله إلى تثبيت اساسات الإمبراطورية المسيحية ومؤسساتها. وقد شجع بكل الوسائل المتاحة، انتشار المسيحية، كما حوّل في العمق، القوانين الرومانية بحيث أخضعها لروح الرأفة الإنجيلية. ومنذ أن ارتقى سدة العرش، رسم أن يكون يوم الأحد عطلة في كل الإمبراطورية. كما أزال عقوبة الموت صلباً ومنع ألعاب المصارعة وعاقب بشدة على الاغتصاب وقلة الحشمة. بعد ذلك شجع مؤسسة العائلة كأساس للبناء الاجتماعي مُحدّاً من الطلاق ومُديناً للزنى وسن قوانين جديدة بشأن حقوق الإرث. كما ألغى القوانين التي كانت سائدة في حق الذين لا يتركون عقباً مشجعاً بذلك على الرهبانية التي عرفت في أيامه انطلاقة مهمة، وأفرز للعذارى المكرّسات هبات سخية. هؤلاء كان يحترمهن احتراماً كبيراً. وعندما انتقلت الإدارة إلى القسطنطينية سنة 330م، منع قسطنطين الاحتفال بالأعياد الوثنية وحال دون وصول الوثنيين إلى سدة المسؤولية في الدولة.
كذلك كان سخي التوزيع على كل محتاج، على المسيحيين وغير المسيحيين معاً، يؤازر الأرامل ويقدم نفسه أباً للأيتام. واهتم أيضا بحماية الفقراء من ابتزاز الأقوياء، وآثر ازدهار شعبه فخفف الضريبة السنوية بنسبة الربع، كما أعاد النظر في تقدير قيم الممتلكات بغية إعادة توزيع الأعباء المالية.
ميزات شخصية:
كان قسطنطين هادئاً، ساكناً، سيّداً على الأهواء التي تضني المقتدرين بعامة. على القطع النقدية ظهر واقفاً ونظره إلى السماء كما ليؤكد بذلك، أن على الحاكم أن يكون رجل صلاة، وسيط سلام واتفاق في مُلكه. في قصره، كما قيل، أفرز صالة كان يعتزل فيها ليصلي ويتأمل في الكتاب المقدس. كما كان يمضي لياليه أحيانا، في كتابة الأحاديث التي كان يحثّ الشعب فيها على محبة الحقيقة والفضيلة. وإذ علم ذات يوم أن أحدا ألقى حجراً على رسم يمثله وطُلب منه أن يكون عقابه للجاني صارماً، مرر يده على وجهه وابتسم قائلاً: “لست أُحسن بأي جرح في وجهي وأنا بصحة جيدة”. ثم ترك المتهم يذهب في سبيله. كل من كان يدنو منه ملتمساً خدمة مباركة كان واثقاً من حصوله عليها. في ذلك الحين كما عبّر العديد من الآباء القديسين، كان بالإمكان القول أن الله كان هو الحاكم بالفعل بين الناس.
معموديته ورقاده:
بعد أن احتفل قسطنطين بتبوئه الثلاثين للعرش بقليل سنة 337م، حمل شابور الثاني، ملك الفرس على المسيحيين في مملكته. ثم إذ تنكر لتحالفه مع قسطنطين اجتاح أرمينيا. لذلك أعد الإمبراطور التقي جيشاً قوياً وخرج بنفسه للدفاع عن المسيحيين. لكنه مرض في هيلينوبوليس ونُقل على وجه السرعة إلى ضواحي نيقوميذية حيث جرت عمادته. المعمودية في ذلك الزمان، كان المؤمنون يؤجلونها إلى سن متقدمة، وقليلاً إلى ما قبل رقادهم توقيراً منهم لسر المعمودية وظناً أن المؤمن بعد أن يعتمد لا يجوز له أن يخطئ وإلا لا تكون له مغفرة بعد. وفاته كانت يوم العنصرة المجيدة من العام 337م. كان لا يزال يلبس الأبيض نظير المعتمدين حديثاً. ثمة صلاة تُنسب غليه قبل وفاته جاء فيها: “ألان عرفت أني مغبوط حقاً. ألان عرفت أنى صرت مستحقاً للحياة الأبدية. ألان عرفت أنى اشترك في النور الإلهي”.
حال وفاته نُقل جسد القديس قسطنطين المعادل الرسل إلى القسطنطينية حيث جرت الصلاة عليه بحضور شعبي كثيف، ثم أودع كنيسة القديسين الرسل، وسط الأضرحة الحجرية الفارغة للإثني عشر رسولاً.
سيرة القديسين مأخوذة من كتاب سيرة القديسين”السنكسار” الجزء الثالث
Тропарь в восьмом напеве
يارب إن قسطنطين الذي هو رسولك في الملوك، لما شاهد رسم صليبك في السماء عياناً وبمثابة بولس قبل الدعوة ليس من البشر، وأودع بيدك المدينة المتملكة، فأنقذها بالسلامة كل حين، بشفاعات والدة الإله يا محب البشر وحدك.
Кандак с третьей мелодией
اليوم قسطنطين مع هيلانة أمه، يظهران لنا الصليب، العود الكلي الوقار، الذي هو خزي لجميع اليهود، وسلاح للملوك المؤمنين على الأعداء، لأنه قد ظهر لأجلنا، آية عظيمة ورهيباً في الحروب.