إن القديسة إيريني (سلام) التي سوف نسرد سيرتها الآن هي غير القديسة إيريني العظيمة في الشهيدات، التي ولدت في القرن الأول الميلادي، والتي تعيّد لها الكنيسة في الخامس من شهر أيار. أما هذه القديسة، فقد ولدت في القرن التاسع حوالي العام 830 م، من أسرة شريفة تعود في نسبها إلى سلسلة الأباطرة التي تبوأت عرش القسطنطينة بالتتابع.
كان والدها فيلارييت قائداً مغواراً في جيش الإمبراطورة ثاوذورة التقية، التي انتهت في أيامها حرب الإيقونات، والتي استعانت بفيلاريت، والد إيريني، في إحلال السلام التام في المملكة والكنيسة. أما والدتها، فلم يذكر التاريخ عنها شيئاً، سوى أنها توفيت تاركة وراءها زوجاً شاباً وطفلتين صغيرتين: إيريني (ثلاث سنوات) وكالينيكي (ست سنوات).
احتضنت العمة صوفيا الطفلتين بعد غياب أمهما، جاهدة في تعويض الحنان والعطف لهما سيّما وأن عمل والدهما كان يفترض غيابه عنهما، وأحياناً لمدة طويلة.
كان للعمة صوفيا التأثير الكبير في تهذيب نفسي هاتين الطفلتين، فغرست فيهما منذ نعومة أظفارهما محبة التقى والفضيلة، وأذكت في قلبيهما، وخاصة في قلب إيريني الناعمة، محبة الله.
كانت كالينيكي فتاة حيوية جداً فائقة الجمال والذكاء، فأعجب بها أخو الإمبراطورة ثاوذورة وتزوجها، وهكذا انتقلت إلى القسطنطينية لتعيش في البلاط الحياة التي طالما أحبتها وتاقت إليها. أما إيريني الصغيرة، فكان هادئة ذات نفس حساسة شفافة، تميل إلى السكينة والوحدة، مزينة نفسها بالفضائل الروحية، ومضرمة نار الحب الإلهي في قلبها رغم صغر سنها، غير عابئة ولا مبالية البتة بما كانت تهتم به فتيات عصرها من زينة خارجية. بل كان تحصر كل اهتمامها بالعناية بالمساكين والبؤساء، مادة لهم يد العون دوماً، ومثابرة مع عمتها على زيارتهم وتفقد حاجاتهم. كما كانت دائمة التردد على أديار منطقتها، وخاصة على الدير النسائي، دير الأربعين شهيداً، حيث كانت تسترشد بالأب سيسينيوس، صاحب الفضل الكبير بتقدمها الروحي.
بلغ مسامع الإمبراطورة ما لإيريني من المحامد والجمال، فرغبت بها زوجة لابنها الملك ميخائيل، وأرسلت لها العربات الملكية لتنقلها إلى البلاط. فقامت إيريني متوجعة القلب تودع منطقتها وأصدقاءها المساكين والبؤساء، وزارت الأب سيسينيوس سائلة بركته وأدعيته. فطلب منها حينئذ أن تزور الأب البار إيوانيكيوس، الذي كان ينسك في جبل الأوليمبوس، الجبل الذي لا بد من اجتيازه لمن يقصد القسطنطينية.
تركت إيريني منطقتها، وكلها تطلع إلى رؤية الأب إيوانيكيوس، يخالج الشوق نفسها لما سيقوله لها. وقبل وصولها إليه، حطت رحالها في أحد الأديار، طالبة من رئيسه أن يرشدها إلى حيث يقيم هذا الناسك الجليل. وعند وصولهم إلى صومعته، فاجأها الأب بقوله: أهلاً وسهلاً بأمة الله إيريني التي لن تصبح زوجة للملك كما يريدون لها، بل رئيسة لدير خريسوفلاندو الذي ينتظرها.
دهشت إيريني لهذا الكلام، وانذهلت كل الانذهال، كيف تأتى لهذا الأب أن يعرف اسمها وهي التي وضعت برقعاً على وجهها بغية التخفي؟! بل كيف عرف قصتها ولماذا أتت إليه؟! لا بد أنه رجل الله الذي ألهمه هذا الكلام. لم تنبت إيريني ببنت شفة ولكنها لبثت متفكرة بهذا الناسك الذي عرف أحوالها دون كلام.
واصلت إيريني سفرها بعد ذلك، قاطعة القيافي لتصل إلى القسطنطينة التي ما إن وطئتها حتى علمت بزواج الملك ميخائيل من فتاة أخرى، قبل أيام معدودة لوصولها.
جرى لإيريني استقبال حافل في القسطنطينية، حتى أن الإمبراطورة أرسلت ابنتها الأميرة تقلا مع اثنتين من سيدات الشرف في البلاط لاستقبالها والتأهل بها. أما لقاؤها مع الإمبراطورة فكان مهيباً، إذ كانت إيريني بالنسبة إليها كملاك ذي طلعة منيرة سماوية هابط عليها. وأما إيريني فعندما رأت عرش الملكة الفخيم تمثّلت عرش الديّان الضابط الكل. ولكن مع كل هذا كان اللقاء أيضاً حميماً، تبادلتا فيه مختلف الأحاديث الوديّة، إلى أن أفصحت إيريني للملكة عن رغبتها في الترهب، وطلبت مساعدتها إن مانع أبوها في ذلك. وعدتها الملكة خيراً وأهدتها صليباً ثميناً مرصعّاً يحوي داخله ذخيرة من عود الصليب عربون محبتها لها.
أقامت إيريني في البلاط نزولاً عند رغبة الإمبراطورة وابنتها تقلا التي أحبتها حبّاً جمّاً، والتي كانت لها نعم الرفيق في زيارة أديار وكنائس القسطنطينية. ومن بين الأديار التي زارتها وأعجبت بها، دير رؤساء الملائكة في منطقة خريسوفلاندو، التي أقامت فيه يومين اطّلعت خلالهما على نظامه وطريقة حياة الراهبات فيه، وتعرفت على رئيسته وفاتحتها برغبتها في التوحد . فطلبت الرئيسة منها حينئذ أن تحصل على موافقة أبيها في ذلك، نظراً لصغر سنها إذ كانت تبلغ آنذاك خمسة عشر سنة فقط.
عندها قررت إيريني مكاشفة والدها بعزمها فور عودته من سفره. ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن. كان أباها قد قرر تزويجها من شاب يتمتع، حسب رأيه، بكل الصفات الحسنة التي تجعل كل فتاة تتمناه شريكاً لحياتها. لذا فاتح ابنته بالأمر فور عودته. غير أنه فوجئ برفض إيريني المطلق لهذا الشاب وإعلان رغبتها بكل ثبات في الترهب. فثار ثائره واشتد غضبه وأمهلها مزمجراً مدة أربع وعشرين ساعة لتفكر خلالها باختيار أحد الأمرين: إمّا الرضوخ لإرادته، أو بقضاء بقية حياتها داخل سجن يعدّه لها بنفسه. لم تستطع إيريني الصغيرة الناعمة تحمّل هذا الموقف، فوقعت فريسة حرارة عالية جداً، وخارت قواها وأصيبت بضغف شديد ألزمها الفراش. عجز أطباء البلاط الذين أرسلتهم الإمبراطورة عن شفائها وقرروا سرعة موتها المحتّم. حينئذ ثاب ذلك الأب العاتي إلى رشده وجاء ذات يوم نادماً باكياً، وركع عند سرير ابنته متضرعاً إلى الله وطالباً من العذراء شفاء ملاكه واعداً بأخذها بيده إلى الدير.
يا للفرح، ويا للدهشة معاً، لأن صحة إيريني بدأت بالتحسن فجأة، وكأن يد الله وشفاعة العذراء تدخلا! فها قد انخفضت درجة الحرارة، وأخذ الضعف في التلاشي. وبدأت إيريني تتماثل للشفاء، حتى إن أولئك الأطباء الذين كانوا قد قرروا موتها السريع، نصحوها وهم منذهلون بتمضية فترة نقاهة خارج القسطنطينية ريثما تتمالك صحتها وتعود عافيتها.
عندها أسرعت الامبراطورة بتقديم قصرها الكائن في منطقة خريسوفلاندو قرب دير رؤساء الملاشكة، لتقيم فيه إيريني. وهكذ، وبتدبير إلهي، أتاحت لها فرصة التردد والتعرف أكثر فأكثر على هذا الدير، والتحدث مع رئيسته حول موعد التزامها الحياة الرهبانية. فحددت لها الرئيسة موعد قدومها بعد ارتفاع عيد الصليب الكريم.
وفي الموعد المحدد، رافقها ابوها وسلمها إلى الرئيسة، التي أمسكتها بيدها وقادتها إلى الكنيسة، حيث ألبستها أمام والدها ثوب الابتداء الأسود، معلنة بذلك انصمام إيريني إلى صفوف المجاهدين الذين ملأ الحب الإلهي قلوبهم.
عاشت إيريني في الدير ممارسة أسمى أنواع الفضائل، فبرزت طاعتها المثالية والعميقة للرئيسة ولكافة الأخوات، وحتى للجرس الذي ما إن كانت تسمع رنينه، حتى تكون الأولى في الكنيسة أو على المائدة أو في أية خدمة يدعو إليها. وظهر أيضا تواضعها في كل تصرفاتها منذ الأيام الأولى، فكانت حريصة مثلاً على عدم التفوه بكل ما يخص شرف أسرتها، أو عظمة أو بطولات أو انتصارات والدها، غير متذمرة البتة من القيام بكل الأعمال حتى الصعبة منها، كتقطيع الحطب أو إشعال النار أو غسل الثيات، إلى ما هنالك من أعمال لم تكن تمارسها قبلاً، بل لم تكن تعرفها أيضاً. كما أوكلت اليها الرئيسة العناية براهبتين عجوزتين مريضتين، فقامت بتلك المهمة الشاقة بكل صبر وتفان ومحبة، حتى إن الرئيسة شاهدت ذات يوم فوق رأسها هالة من نور فيما كانت تصحب إحدى الراهبتين إلى الكنيسة.
ملأت إيريني قلبها وعقلها بالصلاة الدائمة خلال يومها ملازمة الصمت التام. فكانت الراهبات تنذهل لصمتها وتواضعها أمام الانتهارات والتوبيخات، متعلمات منها طلب السماح بوداعة وانسحاق. أما هي فكانت تسارع كل ليلة لتركع عند قدمي رئيستها معترفة بما كانت تسميه خطايا النهار مما أثار عليها حسد الشيطان، عدو كل خير، فأصلاها نار التجارب، إذ بدأ بتزيين حياة العالم في عينيها، بكل ما فيها من مغريات وشهرة وأمجاد فانية كي تعود إلى حياتها الأولى. ولقد كانت تشتد عليها هذه التجربة عندما كانت تقوم بأعمال شاقة مذكراً إياها بعظمة ماضيها وشرف أسرتها، أو كان يشعل قلبها بحنان قوي جارف كاد يخنقها تجاه والدها الذي تركته وحيداً. أما هي فكانت تردد دوماً في سرها: “من أحب أباً أو أمّاً أكثر مني فلن يستحقني.” ثم أصلاها بنار تجارب الجسد وشهواته، ملوثاً أفكارها بكل ما يدنسها، فكانت إيريني تسارع إلى تطبيق إرشادات رئيستها، بالصلوات المتواصلة، أو بسهر الليالي في الصلاة والدموع وطلب عون الله، أو بالسجدات للعذراء مريم طالبة غوثها، وهي مرشدة المؤمنين إلى العفة والمربية الصالحة للعذارى، أو بالرقاد جالسة على مقعد دون أن تسمح لجسدها بالتمدد والراحة. فبهذا وغيره، استطاعت كبح جماح هذا الجسد وتطويعه لإرادة الروح.
وبعد فترة ارتأت الرئيسة أن تمنحها الاسكيم الرهباني الملائكي، بحضور جميع الراهبات وحضور الإمبراطورة وابنتها تقلا ووالد القديسة وأختها الذين استمعوا إلى أجوبتها وهي نتذر وفاء العيش للفقر والعفة والطاعة، النذور الرهبانية الثلاث.
وبدأ جهاد إيريني المغبوطة يزداد خاصة بعد قراءتها سيرة القديس أرسانيوس الكبير، فطلبت بركة رئيستها، إذ لم تكن تعمل أي شيء دون بركة خوفاً من حبائل الشيطان، لتتشبه بطريقة صلاته رافعة يديها منذ غروب الشمس حتى شروقها. كانت تمضي بادئ الأمر الساعات الطوال في السجود للصليب المقدس رافعة يديها إلى العلاء تاركة ذهنها في صلاة قلبية عميقة. ثم أصبحت تمضي يوماً كاملاً أي أربعاً وعشرين ساعة كاملة وهي على هذه الحال مما أثار دهش الرئيسة، وخافت عليها من وقوعها في الكبرياء، أو في أية تجربة أخرى وهي لم يمض عليها سوى عام واحد في الدير فقط.
وفعلا فقد أثار الشيطان حسد بعض الراهبات، فبدأن يزعجنها بتصرفاتهن. ولكن إيريني أحست بفخه، واستطاعت أن تربح قلوبهن بتواضعها أمامهن، وبإظهار محبتها لهن بشتى الطرق وفي مختلف المناسبات. إلى أن ظهر لها الشيطان ذات ليلة، بينما كانت تصلي، مزمجراً في وجهها وقائلاً: “لن أدعك تنتصرين علي، سوف أحاربك وأذيقك مرّ العذاب لتري وتعلمي مدى قوتي وسلطتي.” لكن إيريني لم تعره اهتماماً، بل رشمته بإشارة الصليب، فاختفى تاركاً وراءه أصواتاً مزعجة.
ومن يومها، تعرضت إيريني لقتال شديد وتجارب كبيرة، وتراكمت الأفكار تزعجها وتقض مضجعها. فكانت ترمي بنفسها أمام الرب بصلاة حارة ونفس منسحقة، متوسلة إلى العذراء مريم وإلى رئيسي الملائكة أن يساعدوها ويعضدوا ضعفها.
كما عانت في هذه الفترة الزمنية القصيرة من آلام وأحزان جمة، أولها كان موت والدها وحيداً في قيصرية بعد أن تركته عمتها لتلتزم الحياة الرهبانية في أحد الأديار، ثم آلام أختها ومشاكلها الزوجية التي كانت تعانيها من زوجها المستبد القاسي، وبعدها مرض صديقتها تقلا ابنة الإمبراطورة وعذابها الشديد وهي على فراش الموت، وأخيراً مرض رئيستها الذي أودى بها إلى القبر مملوءة من الأجور والخيرات السماوية.
وقد جمعت الرئيسة راهباتها قبيل وفاتها بقليل لتسدى إليهن نصائحها الأخيرة التي ركزت فيها على الطاعة الكاملة لمن ستكون خليفتها قائلة لهن بأن بركتها ستشملهن دوماً طالما هن مطيعات لهذا الأمر وطلبت منهن أن تنتخبن إيريني خليفة لها مطلعة إياهن على عظم فضائلها ونقاوة سيرتها، وأطلقت عليها اسم ابنة النور وإناء الروح القدس.
وبعد وفاة الرئيسة، انتخبت الراهبات بالإجماع إيريني رئيسة عليهن بحضور البطريرك القديس مثوديوس المعترف رغم ممانعة إيريني نفسها.
أحست إيريني بصعوبة وثقل هذا الصليب الملقى على عاتقها، لهذا كانت تسارع عند كل صعوبة إلى السجود أمام إيقونة السيد قائلة بدموع غزيرة: “أيها الرب يسوع المسيح، أنت هو الراعي الصالح وأنت باب الخراف، فقدسّنا وعلمنا طرقك. ساعدني أنا أمتك مع قطيعك هذا الصغير، إذ دون عونك وعضدك لا أستطيع أن أعمل أي صلاح. فارحمني أنا الخاطئة وأعنّي.” ثم كانت تتوجه إلى نفسها قائلة: “ويحك يا إيريني المسكينة، إن ابن الله قدّم دمه الطاهر من أجل خلاصن، فأي اهتمام يجب عليك تجاه النفوس التي اقتناها بدمه لئلا تهلك. صلي وصومي واسهري حتى يساعدك الرب لئلا تأتي عثرة ما، لأن الرب قال: ” أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة.” ثم كانت تحني رأسها بتواضع وتسليم لمشيئة الرب متعلمة من فتاة الناصرة القديسة التي قالت يوماً ما: “ها أنا أمة للرب.” وهكذا كانت أيضاً تمارس الطاعة وهي رئيسة مَحبةً بالرب والأخوات.
مضى على إيريني ست سنوات في الدير كانت خلالها تعمل على تقديس نفسها ونفوس الآخرين، مرشدة إياهم بكل حكمة وصبر. أما اهتمامها الأكبر فكان مساعدة الراهبات على كشف أفكارهن لها، وقد منحها الله بناء على طلبها، موهبة معرفة خفايا القلوب، حيث خاطبها ذات يوم ملاك قائلاً: “سلام لك يا إيريني، لقد أرسلني الله لأكون قربك، وأكشف لك المكتومات والخفايا. وهكذا رافقها هذا الملاك طيلة حياتها. وبفضل هذه الموهبة استطاعت أن تساعد وتصلح نفوس الراهبات والعلمانيين الملتجئين إليها على السواء. فشاع صيتها وملأ الآفاق واعتبرها الكثيرون قديسة رغم صغر سنها. وأرادت الكثيرات أن يقلدنها فتركن العالم وانضممن إلى الدير حيث أصبح عدد راهباته مئة راهبة، بعد أن كان حين تسلمت رئاسته ثلاثين راهبة.
لكن الشيطان لم يهنأ له بال وهو يرى عظم المواهب التي أسبغها الله على أمته، فقام عليها من جديد، وظهر لها مرة ثانية وهي تصلّي، لكنها لم تلتفت إليه فثار ثائره وأخذ ناراً من القنديل الذي كان يضيء قلايتها وأشعل المنديل الذي على رأسها. وهكذا أخذت النار تلتهم ملابسها، وكادت تصل إلى جسمها. ولكن القديسة لم تحس بشيء من هذا، إذ كانت مختطفة بالروح. إلا أن إحد الراهبات اشتمت رائحة الحريق، فهرولت إلى قلاية القديسة فشاهدتها تحترق دون أن تترك صلاتها. فأسرعت في إطفاء ملابسها، وعندها عادت البارة إلى وعيها راسمة إشارة الصليب وأما الراهبة فقد استمرت في نزع الثياب مع بعض من لحم جسمها، الذي كان قد التصق بالثياب المحترقة، والممزوج برائحة طيب عطرة بقيت تفوح من جسد القديسة لعدة أيام. وهكذا لم يجسر الشيطان، بعد هذا الحادث، أن يظهر لها مواجهة بل عمد إلى إزعاجها بطريقة أخرى.إذ إن إحدى الفتيات الشريفات حضرت ذات يوم إلى الدير لتعتنق الرهبنة. ففرحت بها القديسة، إذ كانت الفتاة الأولى التي تأتي الدير من بلدها. وكانت هذه الفتاة يتيمة الأبوين، تعيش تحت كنف أحد أقاربها الذي لم تخبره بدخولها الدير.
وما إن علم قريبها باختفائها، حتى استعان بساحر شرير يتعامل مع الشياطين، باذلاً في سبيل إيجادها الأموال الطائلة. وفجأة بدأت هذه الفتاة تأتي حركات وأقوالاً غريبة تدل على جنون صريح، وتحدث أصواتاً وتمزق ثيابها مريدة الهرب من الدير. فدعت الرئيسة الراهبات إلى الصوم والصلاة أسبوعاً كاملاً، عسى الله يمنّ على أختهن بالشفاء ويحلها من رباط الشيطان الذي يعذبها.
وفي اليوم الثالث من الصوم، ظهر القديس باسيليوس لإيريني، وطلب منها أن تأخذ الأخت الممسوسة إلى مزار للعذارء الكفيلة بشفائها. وهكذا كان. فلقد أخذت الرئيسة ابنتها المريضة متوسلة إلى العذراء أن تعتقها من هذا الرباط الثقيل الذي عذبها سنوات طوال. فاستجابت العذراء لطلبها وحررت الابنة من رباط العدو، وعادت إلى الدير تمجد الله وتشكر أمه العذراء.
كانت إيريني تمضي الصوم الكبير صائمة تأكل مرة واحدة في الأسبوع قليلاً من الخضار منتصبة الأسبوع بكامله رافعة يديها تصلي. ولقد شاهدتها إحدى الراهبات ذات ليلة وهي مرتفعة عن الأرض مسافة متر تقريبا تنحني أمامها شجرتا سرو باسقتان. ثم رأت القديسة تلتفت وترسم الشجرتين بإشارة الصليب، فعادتا إلى وضعهما الأول. وفي اليوم التالي، ربطت الراهبة رأس الشجرتين بمنديل لتبرهن للراهبات صحة الخبر الذي روته لهن. وفعلاً شاهدت الراهبات المنديل مربوطاً في أعلى الشجرتين، فتعجبن جداً، لأنه من المستحيل الوصول إلى رأس الشجرتين لربطهما، خاصة بسبب علوهما الشاهق، وتأكدن من صحة قول أختهن، من أن الشجرتين كانتا تنحنيان يومياً عندما كانت القديسة تبدأ صلاتها.
وذات يوم استقبلت إيريني أحد الزوار الذي قال لها: “كنت منطلقاً في سفينتي من جزيرتنا بطمس، متوجهاً مع البحارة إلى القسطنطينية. وفجأة بعد أن بعدنا عن البر، إذا بشيخ جليل ينادينا بملء صوته، ملوحاً لنا بيديه طالباً منا التوقف. وبما أنه لم يكن بمقدورنا ذلك تجاهلناه وأكملنا السير. ولكن ويا للعجب! إذ توقفت السفينة من تلقاء ذاتها، وإذا بي أرى الشيخ ماشياً فوق الأمواج متجهاً نحونا. وعند وصوله قال لي: “لا تخف، إني رسول المسيح وحبيبه يوحنا، لقد أرسلني لأعطيك هذه التفاحات الثلاث لتوصلها إلى بطريرك القسطنطينية، وأعطاني إياها. ثم أخرج ثلاثاً أخر وقال لي: أعطها لأمة الله إيريني في خريسوفلاندو وقل لها: الرب يقول: “كلي من هذه الثمار الجنية التي طالما حنّت نفسك العفيفة إلى تذوقها”، ثم باركني واختفى عني. أخذت القديسة التفاحات وخبأتها دون أن تُعلم أحداً بأمرها. وعند بدء الصوم الكبير، أخذت التفاحة الأولى، وقطعتها إلى قطع صغيرة جداً، وأخذت تأكل منها كل يوم قطعة لا غير دون أن تذوق طعاماً آخر مما أثار عجب الراهبات لصوم رئيستهن، كما انذهلن من الرائحة الذكية التي كانت تفوح من فمها جاهلات أمر التفاحة. يوم الخميس العظيم، أخذت التفاحة الثانية وقطعتها إلى قطع صغيرة، موزعة إياها على الراهبات ساردة لهن قصة التفاحات. فتناولت الراهبات منها بفرح وخشوع معاً، مرتلات المجد لك يا مظهر النور. أما التفاحة الثالثة، فقد أبقتها القديسة إلى يوم وفاتها.
ويوم الجمعة العظيم، ينما كانت القديسة تستمع راكعة إلى تراتيل جناز المسيح، إذ بها تبصر أمامها ملاكاً هابطاً من السماء بمجد ونور بهيين يقترب منها ويقول: “استعدي، لقد أزفّت الساعة.” وعندها علمت إيريني بقرب رحيلها عن هذا العالم، فلم تجزع من كلام الملاك، ولكنها أحست بخشية ورهبة من ملاقاة الله، ومن صدور الحكم عليها. فالموت قاس حتى للقديسين أيضاً. ولكنها بدأت تستعد لهذة الملاقاة بالمناولة المتواصلة والصلاة الدائمة، ثم أخذت تأكل من التفاحة التي احتفظت بها إلى هذه الساعة.
ويوم وفاتها، اشتركت بالقداس الإلهي لآخر مرة، وفي نهايته، استدعت راهباتها مباركة إياهن واحدة فواحدة، ثم توجهت نحو الباب الملوكي وركعت أمامه قائلة: “أيها الرب يسوع المسيح، يا ابن الله الحي، يا من هو وحده الصالح، ووحده الذي حررنا بدمه الكريم من رباطات خطايانا، استمع إلى طلبة أمتك هذه الأخيرة، صن بيدك العزيزة هذا القطيع الصغير، حوطه بعنايتك الإلهية، واحرسه من كل الأعداء المنظورين والغير المنظورين، لأنك أنت مخلصنا ومقدسنا وإياك نمجد إلى الأبد آمين.
وبعدها توجهت القديسة بصمت نحو قلايتها، واستلقت على سريرها، محاطة بكل راهباتها اللواتي رأينها تبتسم ابتسامة عريضة مشرقة مغمضة عينيها عن هذه الأرض الفانية الزائلة مع مجدها الباطل لتفتحهما على الأرض السماوية الجديدة ومجدها السرمدي الذي لا يفنى.
لقد هزّ موتها المدينة بأسرها، فتراكض الألوف من الناس من كل الجهات ليتبركوا من جثمانها الطاهر الذي كانت تفوح منه رائحة عطرة جداً، رائحة القداسة والجهاد. ولقد شارك البطريرك نفسه في نقلها إلى مثواها الأخير الذي أضحى بعد قليل من موتها مزاراً شرفه الله بصنع العجائب لشفاء أمراض كثيرة. ولا يزال مزار هذه القديسة مع ديرها قائمين حتى الآن يؤمهما يومياً الآلاف من الحجاج الطالبين بركتها وشفاعتها.
صلواتها وشفاعاتها فلتحفظنا كل حين. آمين
إعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطّع، دده – الكورة