تبثُّ المحطة الاجنبية الفضائية المتخصصة National Geographic برنامجاً وثائقياً بعنوان “انجيل يهوذا”، مرتين في الاسبوع طوال شهر نيسان (2006). يتمحور حول موضوع هذا البرنامج حدث اعلامي انتشر عبر أبرز المجلات والصحف العالمية، وأدى الى طرح أسئلة عدة في ما يخص الصدقية التاريخية للعهد الجديد وقيمة التعليم المسيحي في الكنائس. ما يلفت الانتباه ان توقيت هذا البث يأتي في موسم احتفالات عيد الفصح والقيامة اذ اثناءه يزيد اهتمام المؤمنين بالتعمق في ايمانهم. الا ان هذا البرنامج يأتي مشككاً بأهم معتقدات المسيحيين الايمانية وبتقليدهم. في هذه المرة، وخلافاً لكتاب دان براون ولفيلم المخرج ميل غبسون اللذين تطرقا الى شخص يسوع الناصري، يسلط الضوء على شخص يهوذا وعلى ما يسمى “إنجيل يهوذا”. ما هو أصل هذه الوثيقة؟ متى كتبت وأين؟ ما هو مضمونها وما هو تأثير هذا المضمون على المسيحيين؟ هذا ما نحن في صدد معالجته في هذا المقال من خلال التطرق الى أهم النظريات التي استند اليها منتجو البرنامج المذكور. تم اكتشاف النسخة الوحيدة التي وصلت الينا من “إنجيل يهوذا” في كهف بالقرب من مدينة المنيا المصرية، في العقد السابع من القرن الماضي. واشتراها تاجر تحف واثريات من مدينة زوريخ السويسرية عام 2000. تحتوي هذه المخطوطة على احدى وثلاثين صفحة موضوعة باللغة القبطية، وهي لغة مصرية مطعّمة باليونانية القديمة تعود الى حقبة الامبراطورية الرومانية. وأخيراً توصل فريق من الباحثين، تحت اشراف البروفسور رودولف كاسر، الاستاذ المتقاعد من جامعة جنيف والمتخصص باللغة القبطية، الى ترميم المخطوطة وترجمة مضمونها. وقد أعلن هؤلاء الباحثون، قبل بضعة اشهر، نتائج أعمالهم، وقالوا ان هذه المخطوطة تعود، على الأرجح، الى النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، وذلك استناداً الى نتائج فحص الكاربون 14. ثمة العديد من الوثائق القبطية القديمة التي عثر عليها في منطقة مصر، منها الوثائق التي دعيت إنجيل توما وإنجيل فيليبس وإنجيل المصريين وإنجيل مريم المجدلية وإنجيل الحقيقة. وتنتمي هذه “الأناجيل” الى مكتبة نجع حمّادي الشهيرة التي اكتشفت عام 1945 ونُشرت نصوصها باللغات المعاصرة ابتداء من عام 1978.
تنتمي الوثائق القبطية المكتشفة حتى يومنا هذا الى جماعات غنوصية تنتشر خصوصاً في مناطق مصر القديمة. ويعود المصطلح “غنوصي” الى الكلمة اليونانية “غنوسيس” (Gnosis) التي تعني بالعربية “المعرفة”. كان الغنوصيون يعتقدون بوجود مصدر سام للخير اسمه العقل الالهي. يحمل كل انسان في داخله شرارة من هذا العقل الالهي، إلا ان العالم المادي يمنعه من التعرف اليها. لم يكتف الغنوصيون باعتبار العالم الجسدي والمادي عالماً سفلياً، كما اعتقدت مجمل المدارس الفلسفية اليونانية آنذاك، بل شدّدوا ايضاً على ان هذا العالم شرير، وكل ما يتصل به هو شرير أيضاً، كالجسد والزواج والجنس، بصرف النظر عن مسبب وجوده، سواء أكان إلهاً خالقاً، أم وسيطاً، أم شيطاناً.
من أبرز الفروقات بين تعليم الغنوصية وتعليم المسيحية نظرتهم الخاصة الى مسألة اصل الشر في العالم. يعتقد المسيحيون ان الله هو إله صالح، خلق عالماً صالحاً وخيّراً، وان الانسان استغل حريته فادخل الخطيئة والفساد الى العالم مما سبب الألم والخلل في نظام الطبيعة. اما الغنوصيون، فقد نسبوا شر العالم الى إله خالق قصد ايجاد عالم فاسد. لذلك توصلوا، استناداً الى هذه المعتقدات، الى تصوير بعض الشخصيات الوارد اسمها في العهد القديم على انهم أبطال وقدوة رغم أعمالهم الشريرة. نذكر منهم قايين (الذي قتل اخاه هابيل) وعيسو (أخو يعقوب الكبير الذي تخلى عن بكريته مقابل صحن من العدس). وفي هذه الرؤية الغنوصية التي تظهر رضى الخالق عن وجود الشر في العالم، تدخل تماماً شخصية يهوذا ودوره المسيء الى شخص يسوع الناصري. تفسر هذه الرؤية رفض الكنيسة الأولى لهذه التعاليم التي تتناقض مع الرؤية المسيحية للانسان والخليقة. اما أية اعتبارات اخرى لتفسير هذا الرفض فهي من نسج خيال صاحبها لغاية في نفسه ربما.
كانت الجماعات الغنوصية ذات طابع نخبوي، غير منفتحة على العالم، بل تقتصر على مجموعة من المبتدئين بتعليمهم. واعتبر الغنوصيون انفسهم مختارين ومتميزين عن اي تجمع ديني آخر. هذا هو السبب الرئيسي لبقاء نصوص الجماعات الغنوصية مكتومة. لا يمكننا توصيف الوثائق الغنوصية بوثائق مسيحية، اذ انها تعود الى جماعات توفيقية syncretistic تجمع اعتقاداتها من ديانات عدة، منها المسيحية واليهودية والديانات الرومانية والفلسفة اليونانية. منذ نشوء الغنوصية اظهر المسيحيون رفضهم لوثائقها، وقالوا بعدم انسجامها مع الايمان المسيحي. ويندرج “انجيل يهوذا” في هذه المجموعة من الوثائق التي لها قيمة تاريخية كبيرة لأنها تساهم في معرفة الحركة الغنوصية ولكنها لا تشكل اي خطر على الايمان المسيحي كما تعلّمُه الكنيسة.
ما يرد في هذا البرنامج عن انجيل يهوذا يتناغم مع الاعتقادات الغنوصية، يهوذا هو الوحيد الذي “يعرف”، وهو من يتسلم من يسوع الامر التالي: “سوف تقدم الجسد البشري الذي ارتديه ذبيحة”. وبالفعل، يشير هذا النص الغنوصي الى ان يسوع ليس إنساناً حقيقياً، ولكنه ليس جسدا بشريا، وبفضل يهوذا سيتحرر منه. علاوة على ذلك، يهوذا “يعرف” ان البشرية كلها سترفضه على مدار القرون، باستثناء الغنوصيين طبعا لأنهم يعرفونه ويعرفون مضمون انجيله.
يذكر القديس ايريناوس الذي من ليون (+ 200 الميلادي) وجود النزعة الغنوصية، وذلك في كتابه “ضد الهرطقات”، الذي يتطرق فيه الى بدعة القايينيين. في الكتاب الاول، الفصل 31، يقول ايريناوس ان القايينيين شددوا على “معرفة” يهوذا المميزة وعلى انه اتم رسالة سرية عندما سلّم المسيح الى السلطات اليهودية، وان هذه المعلومات ترد في قصة خرافية سماها اصحابها “انجيل يهوذا”. الا اننا لا نقدر ان نجزم حتى الان ان “انجيل يهوذا” الذي ذكره ايريناوس هو نفسه الذي نحن في صدد دراسته، لانه وبحسب ما جاء في البرنامج الوثائقي، لا احد يدري ما هو مصدره: هل هذه الوثيقة كتبت باليونانية وترجمت، ام انها وضعت باللغة القبطية؟
هل لرواية انجيل يهوذا اية صدقية تاريخية؟ اذا ما راجعنا الاناجيل القانونية نلاحظ عدم التوافق على السبب الذي دفع بيهوذا الى تسليم يسوع. يروي متى ان يهوذا سلم يسوع من اجل المال (مت 26: 14 – 15)، ولا يأتي مرقس على ذكر السبب (مر 14: 10 – 11)، بينما لوقا ويوحنا يؤكدان ان الشيطان دخل فيه ودفعه الى فعل التسليم (لو 22: 3، يو 13: 27). فضلا عن ذلك، لا نجد رواية موحدة لطريقة موت يهوذا. فبحسب انجيل متى، يشنق يهوذا نفسه (مت 27: 5). ويذكر سفر اعمال الرسل ان يهوذا “وقع على رأسه منكسا وانشق من وسطه” (أ ع 1: 18). هذا الاختلاف في السرد الروائي يعود الى ان العهد الجديد لا يهتم في وصف الاحداث كوقائع تاريخية مجردة، بمقدار ما يفسرها تفسيراً لاهوتياً. ولكن، اذا اعتمدنا مناهج علم التاريخ الحديث، يمكننا ان نستنتج ان القاسم المشترك في هذه الروايات يؤكد امرين اساسيين: الاول ان يهوذا سلم يسوع، والثاني انه انفصل عن مجموعة الرسل الاثني عشر اثر ذلك. وما يعزز الصدقية التاريخية لهذين الامرين هو بالضبط الاختلاف في تفاصيل الروايات الانجيلية حول يهوذا، لأن هذا الاختلاف يؤكد شهادة موحدة تنبع من تقاليد آتية من مصادر مختلفة، حسب مبدأ تعدد الشهادات multiple attest الذي يعتمد عليه علم التاريخ. ولا بد من ان نذكر ان كتّاب العهد الجديد يقدمون قراءة للاحداث التاريخية من منظار ايماني تتبلور في قراءة كل اسفار الكتاب المقدس.
بناء على ذلك، يمكننا تناول احدى النقاط الجوهرية التي تطرق اليها البرنامج الوثائقي، الا وهي التهمة بأن مسؤولية الاعتداءات على الشعب اليهودي من المسيحيين عبر التاريخ تقع على ما يعلمه العهد الجديد، وبصورة خاصة على تعليم انجيل يوحنا. ويستنتج منتجو البرنامج ان انجيل يهوذا قد يُحدث تغييرا مهماً اذ انه يعيد الى شخصية يهوذا (وفي العبرية، اسم يهوذا يشتق من اسم اليهود) دورا ايجابيا بين الرسل. هذا النوع من التحليل يبتعد كل البعد عن اطار الكلام المذكور في النصوص الكتابية، ويُفهم فقط في اطار التفسير الحرفي للكتاب المقدس. ولو طبقنا هذا النهج التفسيري الحرفي على نصوص العهد القديم، لوجدنا ان العهد القديم، قد علّم الكراهية ضد الامم غير اليهودية، وانه برر القتل من اجل الحصول على الارض بحق الهي. لذلك، لا يمكننا ان نقرأ الكتاب المقدس، الا في اطار قانونه الذي حدده تقليد الكنيسة، وبمناهج تفسيرية تعتمد العقل والفكر النقدي. ولا يسمح العهد الجديد بأي موقف كراهي تجاه اي انسان، ولا يعلم العنصرية ولا التمييز. ويكفي ان نذكر كخلاصة لنهج تفسير يسوع للاسفار المقدسة النص الآتي الذي ورد في انجيل متى: “اما الفريسيون فلما سمعوا انه أبكم الصدوقيين اجتمعوا معاً. وسأله واحد منهم وهو ناموسي ليجربه قائلاً: يا معلم اية وصية هي العظمى في الناموس” فقال له يسوع: تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الاولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والانبياء”. (مت 22 : 34 – 40).
في هذا النص، يعلم يسوع ان علاقة الانسان بالله وبقريبه مبنية اولاً على المحبة كما يُعرف عنها في اسفار الشريعة والانبياء. لا شك في ان الصورة التي يرسمها “انجيل يهوذا” عن يسوع تختلف كل الاختلاف عما ترويه الاناجيل الاربعة القانونية. ولكن البرنامج الوثائقي وصف مضمون “انجيل يهوذا” بـ أصيل (authentic). والصفة “أصيل” تتردد مرات عدة بمعان مختلفة اثناء البرنامج. فماذا يعني اذا قيل إن المخطوطة اصيلة؟ هل يقصد التلميح الى ان كاتبها كان يهوذا الاسخريوطي؟ او ان رواية يهوذا حول يسوع هي ذات اصالة؟ او، بكل بساطة، يقصد ان المخطوطة تحتوي على كتابة غنوصية اصيلة تعود الى القرنين الثالث او الرابع الميلاديين؟ يعرف الاختصاصيون ان درجة الاصالة التي قد تنالها هذه المخطوطة تتمحور على تعلق مضمونها بالفكر الغنوصي فحسب، وليس بأصالة الكاتب، ولا بصدقية روايتها حول يسوع.
لا شك في ان البحث في نصوص “انجيل يهوذا” سيساهم في فهم افضل للنزاعات الدينية والفلسفية داخل الامبراطورية الرومانية التي عاصرت المسيحية. من جهة اخرى، لن تفيدنا هذه المخطوطة في التعرف على شخص يهوذا التاريخي بطريقة افضل، لكونها لا تعتمد وقائع تاريخية موثوقاً بها. كما انها لا تؤثر لا من قريب ولا من بعيد في جوهر الايمان المسيحي كما تدعي الدعاية الاعلانية للبرنامج. ان تلميح منتجي البرنامج الوثائقي باستمرار الى نظرية مؤامرة الكنيسة على كشف بعض الحقائق الخاصة بحياة يسوع وتلاميذه، والتي يسندون اطلاقها زوراً الى القديس ايريناوس، ليس له أية جذور علمية ولا تاريخية، حتى وان كان الموضوع مشوقاً جداً بالنسبة الى دور نشر الكتب والمجلات والى معدي الافلام السينمائية ومنتجيها” وبالفعل، يمكن اي شخص ان يحصل على نسخة من الاناجيل الغنوصية من اية مكتبة متخصصة.
لقد أدت نظريات المؤامرة الى ارتفاع نسبة الارباح في التسعينات من القرن الماضي عندما اصر القائمون على الاعلام العالمي على كشف “اسرار” مخطوطات قمران اي مخطوطات البحر الميت. اما كتاب دان براون حول “اسرار” يسوع والكنيسة، فقد ادى الى حركة تجارية ضخمة ليس لها سوابق. وليس صدفة ان الموعد المختار لكشف نصوص “انجيل يهوذا” يتزامن مع فترة عيد الفصح المسيحي ويسبق الاطلاق العالمي لفيلم “شيفرة دافنشي” في 19 ايار المقبل (2006). هذا الاخراج التسويقي يوقع الجماهير في حمى الاستهلاك الجماعي، الامر الذي يدرّ ارباحاً عملاقة لشركات الاعلام وان كان ذلك على حساب الانجيل والايمان المسيحي. ان هذه النظريات حول يهوذا ليست بجديدة ففي العصر الحديث ظهرت صور جديدة ليهوذا تبعده عن شخصية يهوذا الخائن المذكورة بتكرار في الادب والفنون. يجدر، على سبيل المثال، ذكر المسرحية الغنائية Jesus Christ Superstar عام 1973، التي يلعب فيها دور يهوذا رجل اسود، ويقول عند تسليم يسوع “بالحق لم آتِ الى ههنا بارادتي أنا” للدلالة على انه لم يشأ تسليمه. كما اننا نذكر ايضاً رواية نيكوس كازنتزاكيس، “تجربة المسيح الأخيرة” (1951)، التي صورها سينمائياً مارتن سكورسيسي عام 1988. في هذين العملين، يأخذ يهوذا دور ضمير المسيح، فيطالبه بأن يتمم رسالته المسيانية، اي ان ينظم ثورة شعبية من اورشليم. وفي هذا الاطار، نستذكر ايضاً رواية تيلور كالدويل بعنوان “انا يهوذا” عام 1977.
لقد تعددت الاتهامات ضد الكتاب المقدس منذ زمن بعيد، كما تعددت منذ نهاية القرن الماضي النصوص المشككة بشخص يسوع المسيح. لكن الكتاب المقدس سيبقى ثابتاً أمام كل تلك التحديات لان رسالته متينة ومنسجمة في كل ابعادها، ولان حافزه الاول هو اعلان محبة الله واعماله من اجل الانسان، من خلال يسوع المسيح وعمل الروح القدس في الكنيسة. مَن درس الكتاب المقدس علمياً عرف انه من المستحيل اعتباره كتاباً مزيفاً او مضللاً، بل هو كتاب اصيل، يخاطب الجميع ويدعوهم الى التأمل بالخيرات التي وضعها الله في الإنسان وفي الخليقة كلها.
كما يهوذا كذلك الإعلام
Kommenterer det såkaldte "Judas-evangelium"
حقائق الإنجيل واستغلالها لاختلاق الحدث الإعلامي
د. دانيال عيّوش