Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎
☦︎

” بولس عبد ليسوع المسيح المدعو رسولا المفرز لإنجيل الله. الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة ” (1:1ـ2).

            1ـ  بينما كتب موسى النبي خمس أسفار، إلاّ أننا لا نجد ما يشير إلى أنه هو كاتب أي من هذه الأسفار الخمسة، وهذا أيضاً ما فعله الكتّاب الذين أتوا بعده وكتبوا الأسفار اللاحقة. أيضاً لا متى ولا مرقس ولا لوقا أو يوحنا أشاروا إلى أسماءهم على أنهم هم الذين كتبوا هذه الأناجيل. لكننا نجد المطوّب بولس يضع اسمه في مقدمة رسائله، إذاً ما هو السبب؟ السبب أن هؤلاء كتبوا إلى أناس عاشوا بينهم، واعتبروا أن كتابة أسمائهم يعد أمراً زائداً لا مبرر له. بينما نجد أن الرسول بولس قد أرسل كتاباته من أماكن بعيدة ومتفرقة علي شكل رسائل، ولهذا كان من الضروري إضافة اسمه في هذه الرسائل.

غير أنه لم يكتب اسمه في الرسالة إلى العبرانيين، والسبب في ذلك يرجع إلى أنهم كانوا يقاومونه، فلكي يتجنب معارضتهم ومقاومتهم اذا ما وجدوا اسمه في مقدمة الرسالة، فإنه قد لجأ إلى عدم كتابة اسمه حتى يسمح لكلمته أن تنتشر وتجد لها صدى لدى المستمعين إليها من العبرانيين، ولو أن بعض الأنبياء وسليمان كانوا قد وضعوا أسماءهم على كتاباتهم، فهذا أمر أتركه لكم لكي تفحصوه وتبحثوا لأي سبب وضع بعض الأنبياء أسماءهم ولم يضع البعض الأخر أسماءهم. لأنه لا ينبغي أن أخبركم بكل شيء بل يجب أن تتعبوا وتبحثوا من أجل المعرفة ” المعرفة ” .

            ” بولس عبد ليسوع المسيح ” دعنا نعرف السبب الذي لأجله غيّر الله اسم شاول ودعاه بولس، السبب أن الله أراد لبولس ألاّ ينقصه شيئاً عن باقي الرسل حتى في الاسم، لكي ينال ما حظي به أحد التلاميذ المختارين وأكبرهم [1] ، وبذلك يكون لديه دافع لمحبة أكبر. أمر آخر نلاحظه وهو أن بولس لم يدع نفسه ” عبد ليسوع المسيح ” هكذا مصادفة، لأنه في الحقيقة توجد طرق كثيرة للعبودية ـ منها على سبيل المثال ـ أننا كائنات مخلوقة ” لأن الكل عبيدك ” [2] وأيضاً يقول إرميا النبي ” هاأنذا أرسل فأخذ كل عشائر الشمال يقول الرب وإلى نبوخذ نصر عبدي ملك بابل ” [3] ، لأن المخلوق هو عبد لخالقه. هناك طريقة أخرى للعبودية تأتي من الإيمان والتي بحسبها يقـول ” فشكراً لله أنكم كنتم عبيداً للخطية، ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي سمعتموها، واذ أعتقتم من الخطية صرتم عبيدا لله” [4] وعندما يقول ” موسى عبدى قد مات ” [5] ، فهذه العبودية كانت بسبب فرادة موسى، لأنه وإن كان كل اليهود عبيداً، لكن موسى على وجه الخصوص هو الذي تميز عنهم بنشأته وتربيته.

وفقاً لكل هذه المعاني كان الرسول بولس عبداً، وبدلاً من أن يعطى لنفسه أعظم الرتب قال ” بولس عبد ليسوع المسيح ” ثم أخذ يستعرض الأسماء الخاصة بالتدبير الإلهي، صاعداً من أسفل إلى أعلى لأن اسم يسوع قد أحضره الملاك من السموات عندما بشّر العذراء. وسمى بالمسيح من المسح، والذي كان يحصل للجسد أيضاً. وقد يتساءل المرء وبأي زيت يُمسح؟ إنه لم يُمسح بالزيت لكنه مُسح بالروح. وأين دُعوا مسحاء هؤلاء الذين لم يمسحوا بالزيت، عندما قال ” لا تمسوا مسحائي و لا تسيئوا إلى أنبيائي ” [6] لأن وقتها أيضاً لم يكن إجراء المسح يتم بالزيت؟

” المدعو رسولا ” في كل موضع يصف القديس بولس نفسه “بالمدعو” مظهراً شكره وامتنانه للمسيح، لأنه لم يَسْعَ ولم يبحث عن المسيح، بل إن المسيح نفسه هو الذي دعاه، أما بولس فقد أطاعه لأن الدعوة هي من الله. بل إن المؤمنين أيضاً يدعوهم القديس بولس هكذا ” مدعوين قديسين”. غير أن دعوة هؤلاء هي أن يصيروا مؤمنين، أما هو فقد استأمنه المسيح على عمل آخر. أي على العمل الرسولي المليء بالخيرات السمائية غير المحدودة وبكل المواهب وبالسمو اللائق. وما هو الإحتياج لأن أتكلم أكثر؟ سأشير فقط، لما تكلم به المسيح عندما أتى وعندما سلّم الرسل عمل الخدمة وتركهم قائلاً لهم: ” اذهبوا إلى العالم أجمع اكرزوا بالإنجيل إلى الخليقة كلها” [7] ، وكان عليهم أن يتمموا خدمتهم. هذا هو أيضاً ما يعلنه الرسول بولس، مُرفّعا رتبة الرسل قائلاً: ” إذ نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا” [8] .

” المفرز لإنجيل الله” ومثلما يحدث داخل البيت الواحد، أن لكل شخص عمل معين يقوم به، هكذا داخل الكنيسة توجد خدمات متنوعة، لكن يبدو لي هنا أن الرسول بولس لا يشير فقط لاختياره ضمن خدامه لأجل عمل الخدمة، بل لاختياره الإلهي منذ البداية لهذا العمل الكرازي. هذا بالضبط ما جاء بإرميا النبي ” وقبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبياً للشعوب” [9] .

والرسول بولس عندما يكتب ” المفرز لإنجيل الله ” هو يعلن أنه يكتب إلى أهل رومية الذين يتباهون ويتفاخرون بأنفسهم، مما دفعه لأن يُبين للجميع أن تعيينه للخدمة أتى من الله نفسه. لأن الله هو الذي دعاه والله هو الذي أفرزه. وهو يشير إلى هذا لكي يجعل رسالته أكثر قبولاً وتصديقاً لديهم.

” لإنجيل الله” فكما أن متى ومرقس ليسا فقط من الإنجيليين، بل هما أيضاً من الرسل، هكذا فإن بولس ليس رسولاً فقط بل هو إنجيلي أيضاً، إذ هو مفرز ” لإنجيل الله”. ولذلك يصف عمله وخدمته بأنها بشارة مفرحة أي ” إنجيل”. ليس فقط لأجل الخيرات التي أُستعلنت، بل أيضاً لأجل الخيرات التي ستستعلن في الدهر الآتي. لكن كيف يقول إنه يبشر بالله عندما يقول   ” المُفرز”، ” لإنجيل الله”؟ ذلك لأن (الله) كان ظاهراً قبل أن يُبشر به، ومع أنه كان ظاهراً لليهود، لكنه لم يكن ظاهراً للأمم. وحتى في ظهوره لليهود لم يكن ظاهراً كما ينبغي، لأنهم لم يعرفوا أنه هو الآب، وتخيلوا أمور لا تليق به. لهذا أشار المسيح إلى أن الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، وأن ” الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له” [10] . وفي ملء الزمان عُرف الآب مع ابنه في كل المسكونة، لأن هذا ما شهد به المسيح ” أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” [11] ولذلك وصف الرسول بولس كرازته بأنها ” إنجيل الله”، وذلك لكي يبعث الفرح في نفوس المستمعين منذ البداية. لأنه لم يأتِ لكي يبشر بظلال كما صنع الأنبياء، أو ليتحدث عن جرائم أو عن مراثي، بل لكي يعلن أخباراً مفرحة عن الله، وعن عطايا لا تحصي وخيرات أكيدة لا تنتهي، تلك التي وعد الله بها أنبياءه في الكتب المقدسة. لأنه يقول ” الرب يعطي كلمة المبشّرات بها جند كثير” [12] . وأيضاً ” ما أجمل على الجبال قدمي المبشّر المخبر بالسلام المبشّر بالخير” [13] .

2ـ أرأيت كيف يشير العهد القديـم بشكل صريح ومحدد للدعوة الخاصة بهذه البشارة والطريقة التي ستتم بها؟ وهكذا يؤكد الرسول بولس أيضاً على أن الكرازة بالإنجيل لم تكن بالكلام فقط، لكن بالأعمال أيضاً، فالعمل هو عمل إلهي ومعجزي ويفوق كل قدرات البشر. ولأن البعض يدَّعون أن “البشارة” بالإنجيل هو أمر مستحدث نقول لهم إن “البشارة” بشخص المسيح هي أقدم من عبادات الوثنيين، وكيف أن الأنبياء قد تكلموا عن “البشارة” في أسفارهم. لكن لو أن الإنجيل أي البشارة المفرحة بشخص المسيح لم تعط منذ البداية، فهذا راجع إلى ردود أفعال أولئك الذين لم يريدوا قبوله، لكن الذين قبلوه رأوا وسمعوا. هكذا يقول رب المجد ” أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح” [14] وإلاّ فكيف يقول: ” إن أنبياء وأبرارا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا” [15] . وأنت يجب عليك أن تنتبه، منذ كم من السنين قيل هذا الكلام؟ لأنه حقاً عندما يريد الله أن يُعد لأمر عظيم، فإنه يتحدث عنه قبل ذلك بسنوات عديدة، لكي يهيئ السامعين لقبوله.

” الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة ” (2:1).

فالأنبياء لم يتكلموا فقط، لكن سجلوا هذا الذي تكلموا به، ولم يكتبوا فقط، بل أعلنوه بأعمالهم، مثلما فعل إبراهيم، عندما قاد اسحق للذبح، ومثلما رفع موسى الحيّة في البرية ورفع يديه في مقابل عماليق، وذبح خروف الفصح.

” عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد ” (3:1).

ماذا تفعل يا بولس؟ لقد ارتفعت بنفوسنا إلى أعلى وجعلتنا نتطلع لأمور عظيمة فائقة، وتحدثت ليس فقط عن الإنجيل، بل إنجيل الله، وقدمت لنا أعمال الأنبياء، وكيف أن جميعهم كرزوا منذ سنوات بعيدة بهذا الذي سوف يحدث في أجيال لاحقة، إلاّ أنك تهبط بنا مرة أخرى إلى داود. أخبرني عن أي إنسان أنت تتحدث وكيف تتساوى هذه الأمور في القيمة مع كل ما قيل؟ نعم تتساوى وبشكل كامل، لأنه يقول إن الكلمة المتجسد ليس هو إنسان عادي ولهذا فقد أضاف “من جهة الجسد”، مشيراً إلى أن هناك ميلاد أزلي له. لكن لأي سبب بدأ بعبارة  “من جهة الجسد” وليس من الميلاد الروحي؟ ولماذا لم يبدأ من أعلى وبدأ من أسفل؟ لأن متى ومرقس ولوقا أيضاً بدأوا من ميلاده الجسدي، حيث أن هذا الميلاد الجسدي هو الذي يقود إلى السماء. لقد كان هناك احتياج وضرورة أن يقود الجميع من أسفل إلى أعلى.

فالبشر رأوا المسيح في البداية كإنسان على الأرض، لكنهم عرفوه كإله. كما أعلن هو عن ذاته. هكذا أيضاً فإن التلميذ (بولس) قد تبع نفس الطريق الذي يقود إلى أعلى. لذلك فهو يتحدث عن الميلاد الجسدي، لا لأنه كان أولاً، بل لأن الميلاد الجسدي لكلمة الله يقودنا لمعرفة ميلاده (الأزلي).

” وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات. يسوع المسيح ربنا ” (4:1).

بعدما قال ” من نسل داود من جهة الجسد ” يقول ” وتعين ابن الله” هذا الامر أضحى غير واضحٍ بسبب تداخل الكلمات، ولذلك فالضرورة تفرض علينا أن نحلل ونشرح هذا الأمر. كونه آتي من نسل داود من جهة الجسد هو أمر واضح. لكن من أين يظهر أن هذا الذي صار إنساناً، هو ابن الله ؟

أولاً: من الأنبياء، ولهذا قال ” الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة” وهذا الدليل يسمى بالدليل العادي البسيط.

ثانياً: من خلال طريقة الميلاد ذاتها، لأن ميلاده فاق قوانين الطبيعة.

ثالثاً: من خلال المعجزات التي صنعها، وهذا ما يعنيه بكلمة (تعين بقوة).

رابعاً: من خلال الروح الذي أعطاه لأولئك الذين آمنوا به، لأن من خلاله صاروا قديسين. ولهذا يقول ” من جهة روح القداسة” فالله وحده هو القادر أن يمنح هذه العطية.

خامساً: من خلال قيامة السيد لأنه هو فقط أول من قام. فهو الذي قال “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه” [16] وأيضاً ” متى رفعتم الإنسان فحينئذٍ تفهمون أني أنا” [17] وقال لهم ” جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له إلاّ آية يونان النبي” [18] . إذاً فماذا تعني كلمة ” تعيّن”؟ تعني ذاك الذي أُستعلن، الذي اعترف به الجميع، وتنبأ عنه الأنبياء، ووُلِدَ بشكل معجزي كإنسان، وتأيد بقوة صنع المعجزات، أعطى الروح القدس الذي بواسطته منح القداسة لآخرين، وأخيراً أُستعلن من خلال قيامته التي بها أبطل سلطان الموت.

” يسوع المسيح ربنا الذي به لأجل اسمه قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإيمان في جميع الأمم ” (5:1).

انتبه إلى امتنان العبد (بولس) الذي لا يريد أن ينسب لنفسه أي شيء،  بل هو يؤكد على أن كل الأشياء هي من الله. خاصة وأن الروح القدس هو عطية الله. ولهذا يقول السيد له المجد ” إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع فيتكلم به ويخبركم بأمور آتية” [19] .

وأيضاً ” قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل” [20] وفي رسالة الرسول بولس إلى أهل كورنثوس يقول ” فإنه لواحد يُعطي بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد” [21] وأن ” هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء” [22] ويقول لقسوس أفسس ” احترزوا اذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي اقامكم الروح القدس فيها أساقفة” [23] .

هل لاحظت أن الرسول ينسِب للابن ما يُنسَب للروح، وما يُنسَب للروح يُنسَب للابن. ويقول: ” قبلنا نعمة ورسالة ” أي أننا لم نَصِرْ رسلاً بواسطة إمكانياتنا، ولم نَصِرْ رُسلاً لأننا عانينا كثيراً وتعبنا، ولكن لأننا أخذنا نعمة، وهذه الإمكانيات هي نتيجة العطية الإلهية التي تهدف “لإطاعة الإيمان”.

3ـ وعليه فليس الرسل هم الذين تمكنوا من نشر الرسالة، ولكن النعمة هي التي مهدت الطريق. لأن عملهم كان أن يجولوا وأن يكرزوا وأن يقنعوا، لكن نعمة الله هي التي عملت معهم، كما يقول لوقا ” ففتح ذهنهم” [24] وفي موضع آخر يقول ” لكم قد أعطى أن تعرفوا أسرار ملكوت الله” [25] وهذه المعرفة هي “لإطاعة الإيمان” ولم يقل للبحث وأداء العمل، ولكن “لإطاعة” لأنه لم يرسلنا لكي نجمع مجموعة من الناس، بل لكي ينتشر عمل الله الذي استؤمنا عليه. وعندما يقول الرب شيئاً، ينبغي على أولئك الذين يسمعون أن يقبلوه ببساطة، بدون أن يفحصوا ويبحثوا في هذا القول بارتياب، وكذلك لا يضيفوا شيئاً من أنفسهم. فالرسل قد أُرسلوا لأجل هذا، أي لكي ينقلوا ما سمعوه، ثم بعد ذلك لكي نؤمن نحن. وأتساءل بأي شيء نؤمن؟ وأقول نؤمن باسمه، ولا ننشغل بأمور تفوق العقل، بل نؤمن باسمه فقط. لأن باسم يسوع المسيح صارت المعجزات ” باسم يسوع المسيح الناصري قم وأمش” [26] هذه الأمور تحتاج إلى إيمان، فلا يوجد شيء من هذه الأمور كلها يمكن أن نفهمها بالمنطق فقط. 

ويضيف قائلاً: لإطاعة الإيمان في جميع الأمم. هل كرز الرسول بولس لكل الأمم؟ لقد جال من أورشليم حتى خليج إلليريكون، ومن هناك وصل حتى أقاصي الأرض، وهذا الأمر واضح من خلال ما كتبه إلى أهل رومية بقوله ” لإطاعة الإيمان في جميع الأمم” فهو لا يتكلم عن نفسه فقط، ولكن عن الاثني عشر رسولاً، وكل من بشّر بكلمة الإنجيل من بعدهم. كما يُلاحظ أنه يسمو بهذه العطية (أن الإيمان وصل إلى جميع الأمم)، ويظهرها أنها عطية عظيمة وأسمى بكثير من العطية القديمة السابقة. فلو كانت العطايا القديمة قد صارت لأمة واحدة، فإن هذه النعمة الجديدة تمثل دعوة لكل المسكونة.

ولاحظ من فضلك أن للقديس بولس نفساً نقية لا تعرف التملق أو المداهنة. فعلى الرغم من أنه يكتب لأهل رومية تلك المدينة التي تمثل المركز الحضاري لكل المسكونة في ذلك الوقت، فإنه لم يفضلّهم عن باقي المسكونة. ولم يقل أنهم متميزون عن غيرهم في الروحيات، أو أنهم يسودون لأنهم يمتلكون القوة لكنه يقول، كما نكرز بالإيمان لجميع الأمم، هكذا نكرز لكم. فهو يتحدث إليهم كما يتحدث إلى السكيثيين وإلى أهل ثراكي، معتبراً إياهم مثل غيرهم من الأمم من جهة الدعوة والإيمان، ولهذا نجده يخاطبهم قائلاً:

” الذين بينهم أنتم أيضاً مدعوو يسوع المسيح ” (6:1).

أي أن مع هؤلاء الذي دعاهم من بين الأمم، هم أيضاً (أهل رومية) مدعوين لهذا. لم يقل إنه دعي الآخرين (الأمم) معهم. حتى لا يشعروا بتميزهم على الآخرين وبقوله ” أنتم أيضاً مدعوو يسوع المسيح” قصد أن يوضح أنه إن كان في المسيح لا يوجد عبد ولا حر، فبالأولى كثيراً لا يوجد فرق بين ملك ومواطن عادي، لهذا فأنتم وهؤلاء قد دعيتم ولم تأتوا من تلقاء أنفسكم.

” إلى جميع الموجودين في رومية أحباء الله مدعوين قديسين. نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح ” (7:1).

لاحظ كيف أنه باستمرار يستخدم عبارة ” المدعو”، فيقول ” المدعو رسولاً”، وأيضاً ” الذين بينهم أنتم أيضاً مدعوون”، ثم ” إلى جميع الموجودين في رومية أحباء الله مدعوين” وهو لا يفعل هذا بدون هدف يخدم كرازته، لكنه يريد أن يذكّرهم بالدعوة الموجهة للجميع. لأنه كان طبيعياً أن يوجد بين المؤمنين قوم في رتب عسكرية، ونبلاء، وفقراء، ومواطنين بسطاء، وهو فعل ذلك لكي ينزع جذور التمييز بين الرتب والمناصب. فهو يكتب في رسالته تحية واحدة موجهة للجميع. فإن كان في الأمور الأكثر أهمية أي في الأمور الروحية كل شيء مشترك بين العبيد والأحرار، مثل محبة الله، الدعوة، البشارة المفرحة والتبني والنعمة والسلام، والقداسة وكل الأمور الأخرى، فكيف لا يكون التمييز بين الناس على أساس الأمور الأرضية دليلاً على الحماقة الشديدة، خصوصاً إن كان الله قد وحدّهم وجعلهم متساوين في منحهم العطايا الأكثر سمواً؟ لذلك نجد أن المطوّب بولس ـ منذ البداية ـ يُبعد هذا المرض المخيف ويقود الجميع نحو الاتضاع الذي هو أساس كل صلاح. فهذه المساواة في الأمور الروحية قد جعلت العبيد يشعرون بالإرتياح والرضا، لأنهم أدركوا أنهم لن يتضرروا من كونهم عبيداً، طالما قد امتلكوا الحرية الحقيقية. وأيضاً جعلت السادة الأحرار معتدلين، لأنهم أدركوا أن أعمال الإيمان لابد وأن تسبق الحرية وإلاّ فإنهم لن يحققوا أية فائدة من وراء تلك الحرية، وهو يعرف كيف يختار أقواله بشكل واضح ومحدد. ولذلك فإنه لم يوجه رسالته إلى جميع الذين في روما، لكن بالتحديد إلى ” أحباء الله”، وهذا هو أفضل تحديد إذ أيضاً يُظهر من أين تأتي القداسة.

4ـ حسناً فمن أين تأتي القداسة؟ تأتي من المحبة، لهذا قال ” أحباء الله” وحينئذٍ أضاف ” مدعوين قديسين ” موضحاً أن من خلال المحبة نقتني كل الخيرات وكل صلاح. وهو يدعو كل المؤمنين قديسين ” مدعوين قديسين نعمة لكم وسلام” هذه هي المحبة التي تحمل خيرات غير محدودة، وهذه هي التحية التي طلب المسيح من الرسل أن يقولوها عندما يدخلوا البيوت، ولهذا فإن الرسول بولس كان على الدوام يبدأ بهذه التحية، أي بالنعمة والسلام. لأن المسيح لم يبطل حرباً صغيرة، لكن حرباً طويلة الأمد متعددة الأشكال والأساليب وأتى لنا بالسلام، ولذلك فهذا السلام لا يأتي بجهادنا نحن، لكن من خلال نعمته.

إذاً فما دامت المحبة قد منحت النعمة والنعمة منحت السلام، فقد تمني لهم أن يقيموا فيها دوماً وبثبات، لكي لا تنشب الحرب مرة أخرى. ثم يترجى من ذاك الذي أعطى النعمة والسلام أن يحفظهما على الدوام بقوله: ” نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح”. وهنا هو يطلب من الآب وابنه يسوع المسيح معاً. لأنه لم يقل لتكن لكم النعمة والسلام من الله الآب من خلال ربنا يسوع المسيح، لكن قال من الله الآب والرب يسوع المسيح. عجيبة هي محبة الله القوية. فالأعداء والفجّار صاروا قديسين وأبناء. وعندما يدعو المسيح قائلاً إن الله ابيه، فإن هذا يمثل إعلاناً عن بنوته لله، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تعبير “أبناء” يكشف عن عمق غنى صلاح الله. إذاً فلنتبع السلوك الحسن بالنعمة ولنحفظ السلام والقداسة. لأن الرتب والمناصب الأخرى هي وقتية وستختفي مع الحياة الحاضرة، بل وتشترى بالمال. وعليه فإن كيان الشخص الحقيقي لن يأتي بتقلد المناصب، لأن الرتب والمناصب لها فقط قوة في الزي وفي تملق الحراس، بينما النعمة والسلام، لأنهما قد أعطيا من الله، فلن يستطيع ولا حتى الموت أن يوقفهما. فإن النعمة والسلام يجعلانا مشرقين هنا في هذه الحياة، وترافقانا في الدهر الآتي أيضاً. لأن الذي يحافظ على عطية التبني والقداسة بكل تدقيق هو حقاً مشرق وأكثر سعادة من ذاك الذي يرتدي التيجان وله الرداء الملوكي. بل إنه في هذه الحياة الحاضرة أيضاً يتمتع بهدوء عظيم، متمسكاً بالرجاء الصالح، دون أن يتملك عليه القلق والاضطراب، كما أنه ينعم بالفرح والشكر على الدوام. لأن المسرة والفرح لا تجلبهما ـ عادةً ـ السلطة الكبيرة، ولا الأموال الكثيرة، ولا حجم المُلك، ولا قوة الجسد ولا المأكولات الشهية والملابس المزينة، أو أي شيء من هذه الأمور العالمية الأرضية، بل فقط النمو الروحي والضمير الصالح هما اللذان يمنحان هذا الفرح وهذه المسرة. كما أن ذاك الذي يحمل ضميراً نقياً، حتى وإن كان يرتدي ملابس رثة ويتضور جوعاً، فهو أكثر سعادة من أولئك الذين يحيون في غنى فاحش، وبالعكس فمن يحمل ضميراً شريراً، حتى ولو مَلكَ كل الأموال فهذا يكون الأكثر تعاسة من الجميع.

ولهذا فإن القديس بولس على الرغم من أنه عاش زاهداً في عوز مستمر وتجرد، وكان يعاني من الآلام بشكل يومي، إلاّ أنه كان فرحاً أكثر من ملوك عاشوا في عصور سابقة، وأعني آخاب على سبيل المثال. فعلى الرغم من أنه كان ملك وعاش في غنى كثير وافر، لكن لأنه صنع الشر، فقد أصيب بالاكتئاب والضيق، وكان وجهه حزيناً قبل وبعد الخطية. إذاً فلو أردنا أن نتمتع بالفرح، فيجب علينا ـ قبل كل شيء ـ أن نتجنب الشر وأن نسعى نحو الفضيلة. فبدون هذا لن نستطيع أن نشترك في هذا الفرح الروحي. ولهذا فان الرسول بولس يقول في موضع آخر إن ” ثمر الروح هو محبة فرح سلام” [27] . هذا الثمر إذاً يجب أن نبتغيه ونغذي به أنفسنا حتى نتمتع بفرح هذه الحياة، ونقتني الملكوت الآتي بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.


[1] يقصد القديس بطرس الذي قال له السيد المسيح ” أنت سمعان بن يونا، أنت تدعى صفا الذي تفسيره بطرس ” (يو42:1).

[2] مز91:119.

[3] إر9:25.

[4] رو17:6ـ18.

[5] انظر يش2:1.

[6] مز15:105.

[7] مر15:16.

[8] 2كو20:5.

[9]  إر5:1.

[10]  يو23:4.

[11]  يو3:17.

[12] مز11:68.

[13]  إش7:52، انظر أيضاً ناحوم 15:1.

[14] يو56:8.

[15]  مت17:13.

[16]  يو19:2.

[17]  يو28:8.

[18] مت39:12.

[19] يو12:16.

[20] أع2:13.

[21] 1كو8:12.

[22] 1كو11:12.

[23] أع28:20.

[24] لو45:24.

[25] لو10:8.

[26] أع6:3.

[27] غلا22:5.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

information Om side

adresser Artiklen

tilfreds Afsnit

Tags الصفحة

da_DKDanish
Rul til toppen