يقول شهود يهوه إن مرجعنا الوحيد هو الكتاب المقدس ويرفضون تفسير الكنيسة لهذا الكتاب ويرذلون المجامع المقدسة التي أوضحت الايمان ويزعمون أن “الإكليروس الذي يسمي نفسه مسيحياً هو الذي علم الايمان بالتقاليد”. الحقيقة إن السيد أعطى تلاميذه تعليماً شفهياً وهو لم يكتب وإن الكنيسة كانت قائمة قبل أن يظهر العهد الجديد. فالأناجيل الثلاثة الأولى كتبت بين السنة الـ 55 أو الـ 60 أي عاش المسيحيون الأولون حوالي ثلاثين سنة وليس لديهم كتاب. وإنجيل يوحنا صدر في نهاية القرن الأول أي أن الذين عاشوا 60 سنة بعد قيامة المخلص لم يقرأوه.
وعندما يقول بولس: “إني أنا الذي ولدتكم بالانجيل” (1 كورنثوس 4: 15 ) يقصد تعليماً شفوياً لأن كتاب الإنجيل في ذلك الوقت لم يكن موضوعاً. وعندما يقول في رسالته إلى أهل غلاطية 11:1 “إن الإنجيل الذي بشرت به ليس حسب الإنسان” فإنما كان يشير إلى البشارة التي هو أعطاها وليس إلى كتاب مكتوب. وما وضعت الأناجيل إلا لتثبيت التعليم الذي أعطاه الرسل. كذلك لما وقف بطرس بعد العنصرة يكلم الشعب “الذي قبلوا كلامه اعتمدوا” (أعمال الرسل 41:1). بالكلام كانوا يحيون. هؤلاء كانوا “يواظبون على تعليم الرسل” (اعمال 42:1) الذين كانوا يتلقونه بالوعظ.
لذلك كان شهود يهوه على خطأ عندما يقولون إن الكتاب المقدس ما أعطي لسانياً إلى جماعة هم الرسل. وهؤلاء سلموا إلى تيموثاوس وتيطس وسواهما تعليماً بالكلام. هذا هو ما نسميه التقليد أي العقيدة التي يسلمها السلف للخلف. وبهذا المعنى قال بولس لتلميذه: “يا تيموثاوس، احفظ الوديعة” (1 تيموثاوس 6:20 ).
إلى أهل تسالونيكية يقول بولس: “حافظوا على التقاليد التي أخذتموها عنا، أما مشافهة وأما مكاتبة” (1 تسالونيكية 2:14). وفي رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس 3:15، يكتب: “سلمت إليكم قبل كل شيء مل تسلمته أنا أيضاً وهو أن المسيح مات من أجل خطايانا”. فعلم بولس بموت المخلص وقيامته استمده هو من الرسل الذين كانوا قبله بالحديث. وكذلك أول ما عرفه المسيحيون عن العشاء السري لم يأتِنا من وصف الانجيل له بل من رسالة بولس الاولى إلى اهل كورنثوس وهي بدورها تدون تعليماً شفهياً جاء إلى الرسول من الشهود الاوائل وعبر عنه هكذا: “اني تسلمت من الرب ما سلمته اليكم. وهو ان الرب يسوع في الليلة التي اسلم فيها اخذ خبزاً وشكر” (1 كو 11:23 و24). المعنى إني استلمت تقليداً يرقى إلى عهد الرب.
التقليد هو التقليد الرسولي أي ما تسلمه الاثنا عشر من الرب نفسه وسلموه إيانا بدورهم. نطيعهم لأنهم أطاعوه وهو القائل: “من سمع إليكم سمع إلي. و من أعرض عنكم أعرض عني، ومن أعرض عني أعرض عن الذي أرسلني” (لوقا 10: 21). فالرسول عنده “فكر المسيح” (1 كورنثوس 16:2) والرسل كانوا على حق لأن الروح القدس أيّدهم “هو يعلمكم جميع الأشياء ويذكركم جميع ما قلته لكم” (يوحنا 14: 26 ). الروح القدس، تلك هي الكلمة السر. هو الذي يجعل الكنيسة مخلصة للمسيح وحافظة أقوال الرسل. وهي التي عندها حكمة الله، وبواسطة الكنيسة عرف الملائكة حكمة الله (أفسس 3: 10).
الكنيسة الأولى هي البيئة الإيمانية التي منها انبثق العهد الجديد. الرعيل الأول فيها كان من الشهود العيان ومنهم تقصى لوقا أخباره ليكتب إنجيله ولم يكن هو من الاثني عشر. إنجيله يجيء بعضه من تراث منقول سماعاً. وعندما نقل بولس الرسول رواية العشاء السري كما أسلفنا روى نصاً من الرب كان انتقل إلى القداس في عهد سابقيه من الرسل. كذلك التعميد باسم الآب والابن والروح القدس الذي يذكره متى في 28:19 كان يجري في الكنيسة قبل تدوين انجيل متى أي من كلام الرب انتقل من فمه إلى نظام في الكنيسة وبقيت هذه تحافظ على هذه العبارة في التعميد. التراث المنقول ترسب في الكتاب.
لا يعني هذا أن كل شيء جاء في العهد الجديد بصورة كلية الوضوح. فالمعمودية بتغطيسات ثلاث لم يرد ذكرها صراحة ولكنهم هكذا سلكوا منذ البدء. وإشارة الصليب لم يرد ذكرها نصاً في الإنجيل ولكنهم هكذا سلكوا وعبروا بها عن إيمانهم بقوة المصلوب. ما كان عليه الأقدمون في كل مكان قاعدة لنا. منذ البدء استلمنا تراثاً رسولياً لا نتجاوزه تناقله الأولون تناقلاً وما دونوه وسمي إنجيلاً اعتبروه قاعدة الإيمان وما حفظوه في جوهر العبادات وجوهر التنظيم الكنسي اعتبروه أيضاً قاعدة. فاذا نظرنا إلى الوظائف الثلاث في الكهنوت: وظائف الشماس والكاهن والمطران. فالتسميات: شماس وقس (كاهن) وأسقف موجودة وعندنا من بين تلاميذ الرسل مثل تيموثاوس من يشرف على أكثر من كنيسة في آسيا الصغرى. ثم تظهر مسؤولية الأسقف واضحة في رسائل القديس اغناطيوس الأنطاكي المستشهد السنة الـ 117 فمن أين أتى اغناطيوس بهذه الوظيفة في وقت مبكر؟ أليس من أسلافه الذين عرفوا الرسل في انطاكية وعرفوا يوحنا الحبيب في منطقة قريبة في تركية الحالية؟ لا يمكن التفريق بين كتب العهد الجديد والممارسات الاولى.
المسيحيون أولاً صلوا وبعد هذا كتبوا. ما كان عندهم في الصلاة لم يخترعوه اختراعاً. جوهر عباداتهم أتاهم من الأسلاف. فعندما يصف القديس يوستينوس الفيلسوف الشهير في منتصف القرن الثاني طريقة القداس المتبعة قبل تنصره معنى ذلك أنها تعود إلى الأجيال السابقة الملتصقة بالرسل. ألا يكون القداس في جوهره تراثاً رسولياً؟
عندنا تراث واحد مدون في البدء أو معمول به ولم يدون في البدء لأن الأشياء المعمول بها معروفة ولا تحتاج دائماً إلى تدوين. كتبنا عنها فيما بعد لأن الهرطقة أنكروها. الشيء المهم أن الروح القدس تكلم بطرق شتى واختار الطريق المكتوب والطريق غير المكتوب.
حركة الروح القدس الواحد التي نشأ منها الكتاب ونظم الحياة الكنسية لا تنقطع في الكنيسة. والروح القدس ينشىء لنفسه شهوداً في كل زمان. القداسة التي فبها عاشوا والتعليم القويم الذي علموه يشهد للكتاب والكتاب يشهد لهم. إنه أساسهم وهم أوضحوه. فالشجرة النامية كلها كانت في البذرة والبذرة تنبىء بظهور الشجرة.
هكذا جاءت المجامع المقدسة توضح الكتاب المقدس بقوة الروح الإلهي. الروح كان يرد آباءنا إلى الإنجيل ويذوقون هم أن نفحات الروح في العهد الجديد هي نفحاتهم إذا تكلموا. وبهذا المعنى قال الرسل في مجمع أورشليم: “قد حَسُنَ لدى الروح القدس ولدينا” (أعمال 28:15). في المجمع هم والروح يعملون معاً. هكذا في المجمع النيقاوي الأول الذي سن دستور الايمان ونعلن فيه ايماننا بالثالوث. فالروح القدس الواحد الذي تكلم في الإنجيل هو تكلم بالآباء المجتمعين في نيقية السنة الـ 325 ليعاينوا الإيمان الأرثوذكسي.
الإيمان الأرثوذكسي ليس سوى الإنجيل مُوضحاً ومكشوفاً في عمق جيل بعد جيل في لغة أهل العصر.
الاحد 16 شباط 1992، العدد7