تمهيد الترجمة اليونانية(1)
بينما كان فلاديمير العظيم يحطّم تماثيل بيرون وأصنام الآلهات السلافية الأخرى – قبل ألف سنة من يومنا هذا – كانت رسالة الإنجيل تفتح أرض روسيا وتحتلها بثبات. (2)
فقد كانت العبادة الوثنية هناك هي السائدة إلا ّأن فيض النعمة الالهية المتدفق بلا إنقطاع قد تفوّق عليها مذ وزّع الروح القدس مواهبه بسخاء. فبرز للعيان رجال لامعون متوشحون بالله “أناروا الشعب الجالس في ظلمة”.
وكان البار ثيوذوسيوس من كياف أحد هؤلاء الرجال وهو المؤسس لدير اللافرا (3) المعروف باسم كيافو بتسير سكايا، وهو دير الكهوف في كياف. وما كانت حياته المفعمة بالروح والقوة إلا إحتلالاً متواصلاً لكل قمة تبرز في الأفق الروحي.
فإن أعماله البطولية في طفولته، ورحيله إلى مغاور كياف واعتزاله فيها، وإختباره الأحزان، وتمتعه بفيض من الفرح، وصراعه مع أعداء منظورين، وأعداء غير مرئيين، وسموّ تواضعه وحبّه، وإنشاءه دير اللافرا العظيم، وما أصابه من مجد بعد وفاته، كل هذا جعل منه شخصاً أبوياً في المرتبة الأولى، و “عاموداً في هيكل الله”.
وإن المرء ليتبيّن في شخصه وعمله طابع الشمول. إذ أن ممارسته حياة الإعتزال تتناسق عنده مع نشاطه الديري الجماعي، وانفراده ( نسكه ) يتفق مع حبه للآخرين، وعدم إنصبابه على الإهتمام بأمور المعيشة الدنيوية – وهو ما تتسم به حياة النسك – ينسجم مع إهتمامه بالشعب وتدخله بالقضايا الإجتماعية.
ولقد أفضى إليه البار أنطونيوس أبوه الروحي الناسك بسرِّ أصول حياة الإعتزال في آثوس، الجبل المقدس، ذلك الإعتزال الذي خبره بنفسه وعائشاً فيه من زمن سابق. وقدّم له دير أستوذيوس (4) نظامه الصارم في الحياة الديرية الجماعية. وألهمه آباء الرهبنة الفلسطينية العظام نشاطه في عمل الإحسان من أجل الإنسان.
بهذه كلها قامت الإعجوبة التي دعيت بإسم “لافركيافو – بتسير سكايا”. فإن هذا الدير قد غدا بتأثير ثيوذوسيوس وإيحائه المبدع، الكرمة حاملة الحياة التي كانت تغذي أرثوذكسية الشمال بعناقيد حياة، كما أمسى مركز انطلاق إلى المراقي الروحية والنهر الذي أفاض مياه التقوى على كل براري روسيا العطشى.
وسنستعرض إلى جانب شخصية ثيوذوسيوس شخصيات أخرى عجيبة، كالبار أنطونيوس شيخ ثيوذوسيوس أحد كبار عاشقي الله، الذي كان يعزز بقداسته المتحررة من قيود المادة عمل تلميذه ويثبته سراً والبار نيكون صاحب النفس الطيبة التي تكرّست لله، وكثير غيره من ذوي الفضل من رهبان ورؤساء أديرة وأساقفة وسواهم…
وسنعرف، إلى جانب ذلك، جوانب مجهولة من حياة دولة كياف، وعادات ذلك العصر وتقاليده. كما أننا سنلتقي وجوهاً من الشعب وعظماء وفوغيار ( شخصيات أعضاء في مجلس الأمير الاستشاري ) وزعماء كباراً في كياف، عالماً بكامله، بعيداً عن عالمنا الحاضر.
ويعود الفضل في هذه الترجمة الى المؤرخ البار نسطور الذي عاش بين سنة 1050 – وسنة 1116 م. فهو جدير بتقديرنا وعرفاننا لأنها جني من عمله.
سيم نسطور راهباً ولما يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، في دير بتسير سكايا. وعاش إلى جانب البار وعاشره. وهو لهذا جدير بالتصديق في ما كتب عنه.
ولئن بدت للبعض حوادث فائقة للطبيعة على شيء من المبالغة، فإنه أحرى بأن يضعوا في إعتبارهم أن التدخلات الإلهية تكون أقوى وأشد وقعاً في عصور “ترك الناس فيها حديثاً عبادة الأوثان وكانت أذهانهم ما زالت أضعف عجزاً عن الإدراك… فلا يفهمون ما هي النعمة المعقولة.. ” ( من العظة الأولى للقديس يوحنا الذهبي الفم في عيد العنصرة) (5).
إذن قصة حياة البار ثيوذوسيوس نشرت في كتاب آباء لافرا كياف – بتسير سكايا، وهو مدوّن باللغة السلافونية. وقد جمعه، في القرن الثالث عشر، كاتب مجهول، ويتضمن تراجم حياة قديسي اللافرا وأموراً أخرى متعلقة بها.
ولجامع كتاب الآباء تعليقات، مختصرة أحياناً أو مطوّلة، على ما كتبه نسطور، وذلك لمزيد من الإيضاح.
وقد بذل ناقله الى اللغة اليونانية جهداً للحفاظ على تعبير النص الأصلي.
إن الكرمة التي غرسها الله بواسطة البار ثيوذوسيوس، قد لقيت في عصرنا محناً لم يسبق أن تعرّضت لها من قبل. فإنك لا ترى هناك عيداً ولا بخوراً ولا تقدمة…
وعلينا أن نرفع مع قارئي هذا الكتاب توسلاتنا إلى الله طالبين أن يفتقد هذه الكرمة برحمته، ويعيد بنائها بقدرته.
أخوية “المعزّي”
في أثينا
مقدمة البار نسطور
سيدي وربي يسوع المسيح. أشكرك لأنك أهلتني أنا غير المستحق لكي أعلن وأذيع سير عبيدك القديسين والآن أجدني في حاجة إلى القيام بهذا العمل، أعني ترجمة حياة البار ثيوذوسيوس برغم تجاوزها قواي. إذ أني لا أملك من الكفائة والثقافة ما يجعلني لذلك أهلاً. غير أني ذكرت قولك يا رب “إن كان لكل إيمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل إنتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لكم” ( مت 17: 20 ). فسلحتّني هذه الأفكار أنا الخاطىء نسطور، بالإعتقاد بأن كل شيء يمكن إتمامه بعونك.
وهكذا إنطلقت إلى تدوين قصة أبينا البار ثيوذوسيوس، المتوشح بالله، الذي كان رئيساً ( ايغومانس ) في دير السيدة العذراء الفائقة القداسة في بتسيرسك وأول أرشمندريت في روسيا.
وعند شروعي في هذا العمل أخذت أدوّن يومياً عناصر ترجمة حياة البار ثيوذوسيوس وكنت أتوسل إلى الله من أجل حسن معالجة هذا الموضوع. لكي يعرف من يأتي من الرهبان فيما بعد هذا الرجل فيلقوا بذلك مدداً في جهادهم التنسكي ويمجدوا الله ويكرموا عبده.
وإن لظهور عبد الله المختار أخيراً في وطننا أهمية مميّزة؛ وهنا يدخل كلام الرب مجال التطبيق “كثيرون آخرون يصيرون أولين”. فلئن كان قد ظهر متأخراً، إلا أنه في مرتبة الآباء الأولين. فهو لم يماثل أبا الرهبنة الروسية قديسنا أنطونيوس من بتسيرسك وحسب، بل إنه ليشبه أيضاً القديس المصري أنطونيوس الكبير، والقديس ثيوذوسيوس سميّه رئيس الدير الجماعي، أرشمندريت أورشليم (6).
لقد عاش هؤلاء الآباء بالروح النسكية عينها. وجميعهم خدموا السيدة والدة الإله ونالوا الأجر عينه الذي منحه الله كلا منهم، وأنهم ليصلّون على الدوام من أجلنا نحن أبنائهم.
ورد في كتب الآباء أن الأوقات ستكون سيئة في الجيل الأخير. وبرغم ذلك أبرز الرب في هذه الأيام راعياً عظيماً للأغنام الناطقة، قائداً للرهبان ومعلماً، وقد تميّز منذ نعومة أظفاره بنقاوة حياته، وبسلوكه المعادل سلوك الملائكة وبإيمانه العميق وفكره المستنير. إني لمقدم على عرض سيرة هذا الرجل من أيام طفولته. فأعيروا القصة يا إخوتي، إنتباهاً وإهتماماً تجنوا بذلك كبير فائدة.
تغاضوا عما تجدونه عندي من نقص، فإني قد اضطررت إلى وضع هذا الكتاب بدافع حبي العميق للبار، وخشيتي أن أسمع قول الرب: “أيها العبد الشرير الكسلان. كان ينبغي أن تضع فضتي عند الصيارفة، فعند مجيئي كنت آخذ الذي لي مع ربا” ( مت 25: 27 ).
فليس من اللائق ترك عظائم الله مستورة في الخفاء، طالما أن الرب ينصحنا: “الذي أقوله لك في الظلمة قولوه أنتم في النور، والذي تسمعونه في الأذن نادوا به على السطوح” ( مت: 10: 27).
بقيت فكرت تحفزي أيضاً إلى سرد هذه القصة. هي أن المطلعين عليها سيدفعهم ما سيقرأون فيها إلى تمجيد الله على عظائمه، وبذلك يجنون أجراً
***
بعد هذه المقدمة ينطلق المؤرخ المغبوط نسطور إلى سرد سيرة القديس…
عقبات في طريق الله
كان والد البار ثيوذوسيوس المسيحيان التقيان يعيشان في مدينة باسيلييف أو باسيلكوف بالقرب من كياف. ولم تمض ثمانية أيام على ولادة هذا المغبوط حتى أخذاه إلى الكاهن لكي يعطيه إسماً. فلما تأمله الكاهن رأى ببصيرته ما سيكون عليه في المستقبل، وعرف أنه سيكرّس لله من نعومه أظفاره، فأسماه ثيوذوسيوس ( عطية الله ) وتم تعميده وهو لا يتجاوز الأربعين يوماً. ونما الطفل مغموراً بحنان والديه وكانت في الوقت عينه نعمة الله تظللُه.
واضطر والداه بعد زمن إلى الإنتقال بعيداً إلى مدينة كورسك (7)، على أثر أمر أصدره الحاكم. وقد كان هذا من تدبير الله، لكي يلمع فيها الصغير ثيوذوسيوس بحياة الفضيلة. وقد أخذ ينمو في هذه المدينة من الناحية البدنية، كما أنه كان ينموا أيضاً روحياً في الحكمة ومحبة الله. وكان يتوسل الى والديه لكي يدعاه يقرأ الأسفار المقدسة. فسمحا له بذلك. ولم يمض وقت طويل حتى أصبح عارفاً بالكتاب المقدس كله، وقد بهر عارفيه بحكمته، وحسن فهمه وسرعة تعلمه. وكان كل يوم يزور كنيسة الله ويستمع إلى تلاوة الكتب المقدسة بإصغاء تام، وكان يعاف معاشرة أقرانه كما يحدث عادة. لذلك كان ينأى عنهم ويستقبح ألعابهم. ولم يكن ليرضى أن يتزيّنا بملابس مثيرة. وكان يرتاح إلى أبسط الملابس فيرتديها.
وفي الثالث عشر من عمره حرمه الموت والده. فزاد من ذلك الحين من زهده وتقشفه. وكان يذهب وخدام بيته إلى الحقول ولم يستنكف القيام بأي عمل، بتواضع عميق. وكانت أمه توبّخه على هذا المسلك وتطلب منه أن يرتدي أجمل الثياب ويعاشر أقرانه ويلعب معهم. وكانت تقول له: “انك بهذا السلوك تجلب المهانة لنفسك ولأرومتك”.
غير أن ثيوذوسيوس لم يكن ليستجيب لهذا الكلام لا بل أنه كان أكثر تشوقاً إلى أن يكون واحداً من الفقراء. وهذا لأمر كان يثير سخط أمه ويحمي غضبها الى حد أنها كانت في كثير من الأحيان تنهال عليه بالضرب بلا شفقة.
وفي هذه الأثناء كان يفكر في طريقه يجد فيها خلاصه، وقد أمسى هذا هاجسه وشغله الشاغل. وسمع ذات يوم كلام عن الأماكن المقدسة، حيث مشى الرب “بالجسد” متمماً عمل الخلاص، فاشتهى السفر إلى هناك للسجود فيها. وكان يرفع التضرع إلى الرب قائلاً يا ربي يسوع المسيح، استجب لصلاتي، وأهلني لأن أحجّ إلى أماكنك المقدسة.
وبينما كان يلح في هذه الصلاة قدام حجاج الى كورسك. فما كاد أن يراهم حتى أقبل إليهم فرحاً، وسجد أمامهم وقبّلهم بخشوع وسألهم من أين أقبلوا و الى أين هم ذاهبون ؟ فأجابوا: لقد عدنا من أورشليم المدينة المقدسة، واننا لنرغب كثيراً – لو سمحت مشيئة الله – في الحج إليها مرة أخرى.
فتوسل المغبوط إليهم أن يصطحبوه معهم واذ وعدوه بإشباع شوقه كاد أن يطير من شدة الفرح، وعاد إلى بيته سعيداً.
وحان موعد سفر الحجاج، فاتصلوا به وأبلغوه، فما كان منه إلا أن قام في هدأة الليل خفية متحاشياً أن يشعر أحد بتحركه، وخرج من بيته دون أن يحمل معه شيئاً ما عدا ملابسه الضرورية ولحق بالحجاج. غير أن الله الكلي الصلاح لم يشأ له أن يبتعد عن أرض روسيا، فهي التي عيّنه لها ( من بطن أمه ) ليكون راعياً للأغنام الناطقة التي ستنخرط في السلك الملائكي.
تحققت أمه بعد ثلاثة أيام أنه رحل مع الحجاج فبدأت تطارده. وأخذت تترصد هؤلاء الذين أخذوا ولدها الأصغر وتتعقب خطواتهم، وما لبثت أن لحقت بهم بعد أن اجتازت طريقاً طويلة شاقة وانتزعت منهم القديس. وقد استولى عليها غضب شديد وهوس حيواني، فما كادت تصل إلى إبنها حتى قبضت على شعره وشدته بقسوة وطرحته أرضاً وأخذت ترفسه برجليها. ثم وبّخت الحجاج بوحشية وعادت بإبنها بعد أن قيّدته. وكانت تجرّه أمامها كأحد المجرمين. وكان غضبها من الشدة أنها لم تتورع من ضربه في البيت حتى كلّت من الضرب.
بعد ذلك سحبته إلى إحدى الغرف وأقفلت عليه الباب وهو مقيّد. وكان ذلك الشاب الوديع المبارك يتقبّل كل شيء بفرح ويصلّي شاكراّ الله.
وبعد يومين فكته من القيد وقدمت له طعاماً ليأكل. ولكن غضبها لم يكن قد تلاشى. وقد ربطت قدماه بسلسلة ثقيلة من الحديد وحرصت على مراقبته بصورة مستمرة لئلا يفلت منها من جديد.
قضى الأسير أياماً كثيرة على هذا المنوال. وأخيراً رأفت بحاله وتوسلت إليه بحرارة أن لا يعود مرة أخرى إلى الهرب بعيداً عنها. فقد كانت تكنّ له حباّ أكثر من حبها لأخوته. ولم تكن لتقوى على مفارقته.
أمّا هو فوعدها بعدم الإبتعاد عنها إن كان ذلك فيه فائدة. ففكت الحديد الذي كان يطوّق رجليه وأتاحت له حرية التحرك.
وعاد ثيوذوسيوس المغبوط من جديد إلى رياضته السابقة. فكان يذهب يومياً إلى هيكل الله. إلاّ أنه كان يشعر بحزن عميق لتعذّر إقامة خدمة القداس الإلهي مرات عديدة بسبب عدم وجود خبز التقدمة ( القربان ) بصورة دائمة. لهذا إنتهى بذهنه المتواضع الذي تميّز به إلى فكرة قام بتنفيذها، وهي أنه إشترى قمحاً وقام بطحنه وعجنه وصنع منه قرباناً خبزّه وقدمه إلى الكنيسة. وكان يبيع القليل منه ليقتصد بعض المال يشتري به القمح، ليصنع به القربان على التوالي. أمّا ما كان يتبقى من المال، فكان يوزّعه على الفقراء.
إن عمل كهذا كان يرضي الله لأنه كان يؤمن للكنيسة قرابين نقية مصنوعة بيدي هذا الشاب الطاهر.
وقد ظل يمارس هذا العمل الشريف على هذا المنوال أكثر من سنتين. وفي هذه الفترة بالذات كان الأولاد في سنة يواجهون بالسباب والشتائم والهزء والعداوة. فكان المغبوط يتحمل كل ذلك بفرح وصمت.
غير أن عدو الخير لم يهدأ، مذ رأى نفسه مهزومة، وقد دحرها تواضع ذلك الشاب المجدّ. فحاول إلهاءه عن عمله المرضي لله بتعزيز أمه ضده، لكي تثنيه بصراخها عن متابعة هذا العمل. وإذا لم تطق رؤية ولدها وهو منهمك في هذه المهمة المذلة – في نظرها – والتي شغلت وقته، كانت تقول له بمحبة:
– أتوسل إليك يا ولدي أن تتوقف عن هذا العمل. لأنك به تجلب العار لجيلك. أمّا أنا فما عدت لأقوى على تحمّل الإهانات من الجميع. وإن هذه الأفعال غير لائقة بولد مثلك.
وكان ثيوذوسيوس المغبوط يردّ على أمّه باتضاع قائلاً:
– ألتمس منك، يا أمي، أن تستمعي لي. إن اللاب إلهنا يسوع المسيح أراد أن يصير فقيراً ووضيعاً، فأعطانا بذلك مثالاً نحتذيه فنصير متواضعين لأجله. وقد تلقى الشتائم، وتقبل الإهانات واللطمات وتحمّل كل شيء لأجل خلاصنا. فكم بالحري يجب علينا الآن أن نتحمل نحن أيضاً من أجله؟
واسمعي ما أقوله، بشأن عملي الذي أقوم به: إن ربنا يسوع المسيح أخذ بيديه، في العشاء السرّي، الخبز وباركه، ووزّعه على التلاميذ قائلاً: “خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يكسر من أجلكم لغفران الخطايا”. فبما أن الرب قد أسمى ذلك الخبز جسده، أفليس من الواجب عليّ أن أفرح أنا أيضا إذ صرت مستحقاً أن أصنع الخبز الذي يتحوّل في سرّ الافخارستيا الإلهية إلى جسد المسيح؟
سمعت أمه هذه الكلمات فأعجبتها كلمة ولدها، فتركته. غير أن العدوّ ( الشيطان ) لم يدع هذه الأم. فكان يقودها الى مشاكسته، بسبب هذا العمل “الوضيع”.
ومرت على ذلك سنة من الزمن. ورأت ولدها ذات يوم وقد لطخ وجهه وملابسه دخان الفرن، فهاجت وماجت، وأشفقت عليه، ثم أخذت توبخه من جديد، بهدوء تارة، وتقرن توبيخها له بالتهديد طوراً. وكانت تلجأ إلى إستعمال العصا أيضاً فتضربه بها لتمنعه عن هذا العمل. فتضايق الشاب كثيراً من معاملة أمه. وما كان يدري ما كان يتوجب عليه عمله، لكنه ما لبث أن صمم على الفرار. وتسلّل خفية من بيته، وهرب، في إحدى الليالي الدامسة، إلى مدينة أخرى لا تبعد عن كورسك كثيراً وأقام فيها عند كاهن كان يعرفه. وهناك إستأنف عمله المعتاد.
وفتشت أمه عنه في أنحاء المدينة ولم تعثر عليه وإستولى عليها حزن عميق. وبعد فترة من الزمن عرفت مكان وجوده فأسرعت إليه وقد استبد بها الحنق. فلما وجدته في بيت الكاهن، إنهالت عليه بالضرب وجذبته بعنف وعادت به. وأنذرته قائلة:
منذ هذه اللحظة لن تبتعد عني أبداً، فإن عاودت محاولة الهرب أرجعتك إلى كورسك مقيّداً.
واستأنف هذا الشاب التقي ذهابه كل يوم إلى الكنيسة كعادته مواظباً على الصلاة وقد إكتسب محبة حاكم كورسك بما تحلى من تواضع وطاعة يظهرها للجميع. وقد لاحظ تواضعه وإخلاصه للكنيسة وإلتصاقه بها. وبلغ به التقدير أنه طلب منه أن يزور كنيسته الخاصة، وأهداه كسوة جميلة ليرتديها عند مجيئه إلى الكنيسة.
وإرتدى المغبوط هذه الكسوة بضعة أيام فأحسَّ أنها ثقل يرهقه، فوهبها للفقراء، وظهر في الكنيسة بثيابه المتواضعة.
فلما رآه الحاكم على هذه الحال قدم له كسوة جديدة أفضل من الأولى وطلب منه أن يرتديها. غير أن المغبوط عاد فقدم هذه أيضاً للفقراء. وعاد الحاكم إلى إهدائه كسوة غيرها وغيرها. أما هو فكان لا يتردد عن التخلي عنها للفقراء. وزاد سلوكه هذا من تعلّق الحاكم به وحبه له ومن إعجابه بشدة تواضعه.
ومن مآثره – عدا ما ذكرت – أنه ذهب إلى حدَّاد وكلّفه بأن يصنع له حزاماً من حديد. فلما أتم الحداد صنعه أخذه ولبسه على جسده ولم ينزعه أبداً. وكان الزنار ضيّقاً على جسده ضغطاً شديداً وسببَّ له آلاماً مضنية كان يتحملها البار بالصبر والتجلّد، كأنه لم يحدث له سيء.
وفي أحد الأعياد أقام الحاكم مأدبة في قصره، دعا إليها وجهاء المدينة. وكان على ثيوذوسيوس، أن يذهب إلى القصر ليقوم بالخدمة. فأجبرته أمه على إرتداء بذلته الحسنة. وإذ شرع في إرتدائها لم يستطع أن يخفَّى أمام أمه ولا أن يتحاشى نظراتها الثاقبة التي كانت تراقبه ؛ وقد رأت بقعاً من الدماء على سترته الداخلية. فاقتربت منه لتفحصها وما كادت تلحظ أن نزف الدماء ما كان إلاّ من ضغط الحزام الحديدي حتى إشتعلت في نفسها نار الشر والغضب. وهجمت عليه بجنون. وأخذت تضربه، وقد مزقت سترته الداخلية ونزعت عنه الزنار.
أما هو فإنه لبس ثيابه بهدوء وكأنه لم يصبه مكروه. ومضى بسلام قاصداً القصر لكي يقوم بالخدمة.
في الجبال والمغاور
سمع البار ثيوذوسيوس الرب ذات يوم يقول في الإنجيل: “إن من أحب أباً أو أمّا أكثر منّي فلا يستحقني” (متى 10: 37) … “إنّ أمي وإخوتي هؤلاء هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها…” (لو 21:8).
وسمع أيضاً أقوالاً أخرى: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم… إحملوا نيري عليكم وتعلّموا منّي، لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لأنفسكم” (متى 28:11-29). فأشعلت هذه الكلمات قلب ثيوذوسيوس، هذا القلب الذي أناره الرب، وفيما هو يلتهب بالعشق الإلهي أخذ يفكر يوماً في إيجاد وسيلة تمكنّه من الفرار خلسة بعيداً عن أمّه لكي ينخرط في سلك الرهبنة ويرتدي الإسكيم الرهباني المقدس (8). وغابت أمه عن البيت بتدبير إلهي لبضعة أيام في القرية. فقدم الشاب صلاته إلى الله وقلبه مفعم بالفرح ثم غادر المنزل سراً ولم يحمل معه شيئاً سوى ملابسه التي كان يرتديها، وقليلاً من الخبز “درءاً لوهن الجسد”، وتوجه صوب كياف، لأنه سبق له أن سمع عن الرهبان العائشين هناك.
ولم يكن يعرف الطريق فتوسّل إلى الله لكي يرسل له شخصاً يرافقه ويرشده إلى غايته. واستجاب الله له. وبتدبير منه تعالى ظهرت أمامه جماعة من التجار يحملون بضائعهم على عربات، كانوا متجهين في الطريق عينها إلى كياف. فلما عرف المغبوط وجهتهم. ابتهجت نفسه ومجد الله حقق له أمنية قلبه وتبعهم من بعيد بدون أن يلحظوا ذلك. وكان إذا وقفوا في الطريق لقضاء ليلتهم وليستريحوا من عناء السفر يتوقف هو أيضاً عن المسير على مقربة منهم لكي لا يختفوا عن نظره. وكان يستريح وليس له من يعتمد عليه سوى الله الذي يرعاه.
ودامت المسيرة ثلاثة أسابيع بين كورسك وكياف العاصمة. وما إن وصل إليها حتى أقبل على زيارة أديرتها ولم يكن آنئذ قد تمّ تنظيمها تنظيماً حسناً … وأعرب عن شديد رغبته في أن يصير راهباً. وكان يتوسل إلى الرهبان لي يقبلوه. أمّا هم فلم يبدوا ميلاً إلى قبوله بينهم إذ رأواه فتى صغيراً مهلهل الثياب وينم مظهره على البؤس والشقاء.
ولكن الله أراد أن يذهب إلى ذلك المكان الذي كان قد أعدّ له (من بطن أمّه). وهو الأمر الذي تمّ في ما بعد …
في ذلك الوقت سمع البار أنطونيوس الناسك وما يمارسه من أنواع التقشف الصارم في الكهوف. فابتهجت روحه وانطلق فوراً إلى هناك. وما كادت عيناه تقعان على الشيخ البار، حتى إنحنى أمامه ليسجد له وتوسل إليه بدموع طالباً أن يقبله عنده كراهب. فقال له البار أنطونيوس:
– ألا ترى يا ولدي ما هي عليه هذه المغارة من ضيق وضغط. أمّا أنت فلن تقوى على تحمّل الإقامة في هذا المكان الضيق.
لم يقل البار هذا الكلام لكي يمتحنه لكنه كان مبصراً نبوياً ما سيقوم به ثيوذوسيوس مستقبلاً بتوسيع هذا المكان وبتشييد دير شهير يجمع فيه العديد من الرهبان. أما ثيوذوسيوس المستنير بالله فقد ردّ عليه بتضرّع قائلاً:
– إعلم أيها الأب الكريم أن المسيح إله جميع البشر والسابق تدبيره لأمورهم قد أرشدني إلى قدسك لكي أخلص، وإني لعلى أتم الإستعداد أن أنفذ ما تطلبه منّي.
حينذاك قال له البار أنطونيوس: يا ولدي، ليكن إسم الله مباركاً، فهو الذي يقوّيك في هذه المحاولات. وها هو المكان الذي لك، فأقم فيه.
وعاد المغبوط ثيوذوسيوس إلى الركوع على ركبتيه أمام ذالك الناسك الشيخ طالباً بركته، فباركه. وعلى الفور طلب إلى المغبوط نيكون الذي كان كاهناً أن يقصَّ شعره ويلبسه رداء الراهب. فتقدم الكاهن وأخذ ثيوذوسيوس وقصَّ شعره حسب رتبة الآباء القديسين (9) كأنه خروف لا عيب فيه وألبسه ثوب الراهب. وكان آنئذ يبلغ الثالث والعشرين عاماً من العمر، في عهد حكم ياروسلاف فلاديميروفيتش الكلي التقوى. (10)
واستسلم أبونا البار ثيوذوسيوس بكل قلبه إلى الله وإلى شيخه أنطونيوس المتوشح بالله. وانهمك في رياضات كبرى، وبينَّ أنّه كان يحمل نير الحياة الرهبانية بارتياح.
وكان يكرس لياليه لتمجيد الله مستغنياً عن راحة النوم. أمّا في النهار فكان يعوّد نفسه على التقشف الصارم بالإمساك والصوم والعمل اليدوي، ذاكراً على الدوام قول صاحب المزامير: “انظر إلى تواضعي وجهدي واصفح عن كل خطاياي” (مزمور 18:25) وكان يقهر نفسه ويذلها بالتواضع والصوم ويرهق بدنه بالسهر والعمل اليدوي. فحاز إعجاب البار أنطونيوس ونيكون المغبوط، لما كان يتحلىّ به من حكمة وتواضع وطاعة وشجاعة وقدرة على التحمل على الرغم من صغر سنّه، وكانا يشكران الله على ذلك.
وجع الأم
كانت أمه تبحث عنه في كل مكان في المدينة وضواحيها. لكنها لم تعثر عليه. فأخذت تلطم نفسها وتنوح عليه كأنه مائت، وأعلنت في كل أرجاء الوطن أنها تدفع مكافأة سخية لمن يراه ويخبرها عنه. وحضر البعض من مدينة كياف وأخبروها قائلين:
– لقد شاهدناه من أربعة أعوام تقريباً في مدينتنا كياف يسأل عن أحد الأديرة لكي ينخرط في سلك الرهبنة.
فما كادت أمه تسمع هذا حتى إنطلقت تحث السير صوب كياف غير عابئة بالجهد لبعد المسافة. فلما حطت رجليها هناك فتشت عنه في كل الأديرة. وأخيراً أخبروها أنه مقيم في الكهوف عند الشيخ (11) أنطونيوس. وما كادت تصل إلى هناك حتى أخذت تسأل عن مكان ذلك الزاهد الشهير ووجهت كلامها إلى الآباء الرهبان قائلة:
– قولوا للبار إني قد حضرت من مكان بعيد جداً لكي أسجد له وأتقبل بركته.
فلما أبلغ الشيخ الروحاني نبأ وصولها خرج من مغارته، فتقدمت وسجدت أمامه سجدة عميقة منحنية حتى الأرض والتمست بركته. فصلى الشيخ الروحاني من أجلها وباركها، ثم إستقبلها لكي تتحدث معه. فحدثته عن أمور كثيرة فكشفت له عن سبب مجيئها وأضافت:
– على هذا أتوسل إليك يا أبتي أن تقول لي الحقيقة، هل إبني هنا لديك؟ ولدي الذي تألَّمت كثيراً من أجله دون أن أعلم إن كان لا يزال على قيد الحياة.
ولم يدرك ذلك الشيخ البريء ما تخفيه من خبث فكشف لها الحقيقة.
– إن ولدك حيّ فلا تتضايقي ولا تتوجعي من أجله. إنه موجود هنا.
فقالت الأم:
– هل لي أن أراه؟ بعد أن قطعت هذه المسافة الطويلة حتى أصل الى هنا. ما أوده هو أن أراه فقط ثم أعود.
فأجاب الشيخ:
– من مبادئه أن لا يرى أحداً. فإذا شئت أن تقابليه فاذهبي الآن وعودي غداً عند الفجر. أما أنا فسأخبره.
إنحنت المرأة ساجدة أمام الشيخ وابتعدت على أمل أن تقابل ولدها في اليوم التالي بينما دخل الشيخ إلى الكهف وأطلع ثيوذوسيوس المغبوط على ما جرى فتألم كثيراً حين علم أن أمه عثرت عليه.
وما بزغ الفجر حتى جائت أمه. ولكن ثيوذوسيوس أبى أن يقابلها برغم إصرار شيخه الروحاني البار أنطونيوس. فقال للمرأة:
– لقد توسلت إلى بنكِ كثيراً لكي يأتي ويقابلك فرفض… إنتفضت المرأة لدى سماعها هذا الكلام – وهي التي كانت حتى تلك اللحظة ذليلة – فهاجت وخرجت عن رصانتها وطار صوابها وصرخت بصوت مليء بالغضب:
– أوه ! أأسأل أنا هذا الشيخ بالذات؟ وهو الذي أخذ ولدي وأخفاه في الكهف، ولا يريني إياه؟
هيّا أرني ولدي. فإني أموت، وما عدت لأطيق تحمل شيء آخر ما لم أره. فإمّا أن تحضر لي ولدي أو أنتحر هنا على مدخل الكهف…
تضايق الشيخ الروحاني البار وأسرع إلى ثيوذوسيوس ليتوسل إليه من جديد.
ولم يشأ ثيوذوسيوس أن يحزن شيخه فأطاعه، وخرج من الكهف مذعناً.
فما أن شاهدته أمه هزيلاً نحيفاً شاحب الوجه، من شدة التقشف، حتى وقعت على عنقه طويلاً وهي تذرف الدموع السخية.
ثم عادت إلى رشدتها تدريجاً وكفكفت دموعها وتوسلت إليه بحرارة وإلحاح قائلة:
– عد يا ولدي إلى بيتك، فإن ما تفعله هنا لأجل نفسك تقدر على تحقيقه في البيت أيضاً. تعال لكي تكون معي، وتدفن جسدي بيديك يوم يحين الحين وأرحل عن هذه الدنيا. وبعدها تعود إلى هذا الكهف. لأني يا ولدي لا أقوى على العيش بدون رؤية وجهك.
فـأجابها ابنها المغبوط قائلاً: حسناً” يا أمي إن شئت رؤيتي فابقي هنا في كياف. انخرطي في سلك الرهبنة وصيري راهبة في دير للنساء” لكي تتمكني من مقابلتي بين الحين والآخر وتضمني خلاصك. فإن لم تعملي بقولي هذا”أؤكد لك أنك لن تريني مرة أخرى.
وتوالت زياراتها لابنها عدة أيام” كان خلالها ينصحها ويحاول إقناعها.
أمّا هي فكانت لا تريد أن تسمع شيئاً عن الدير.
وكان إذا تركته وابتعدت دخل الكهف وإستغرق بكليته في الصلاة والتضرع الحار. وكان يتوسّل إلى الله بخشوع ولجاجة طالباً إليه أن يحوّل قلب أمه” لكي تقبل نصائحه الخلاصة.
وقد استجاب الله لتوسلات عبده وفقا لقول النبي: “الرب قريب لكل الذين يدعونه. الذين يدعونه بالحق” (مزمور18:145). فتمّ له ما تمنى. ولم يمض قليل من الوقت حتى بدأت أمه تغيّر موقفها وقد بادرته معلنة له عزمها وقالت له:
– أجل ياولدي. لقد عزمت على تحقيق ما طلبته مني. فلن أعود إلى البيت. وبما أن الله هكذا ارتضى فإني سأقيم في دير للنساء أعيش فيه كراهبة في ما تبقى لي من عمر. ولقد أقنعتني كلماتك فأدركت جيداً أن هذا العالم وقتيّ.
أبهج هذا التصريح روح ابنها المغبوط فأسرع إلى شيخه الروحاني أنطونيوس ليزف إليه بشرى عزم أمه على الإنخراط في الرهبنة.
فمجّد أنطونيوس البار الله على هذا التحوّل وهرول من الكهف ليقابل الأم ويوجّه لها بعض نصائحه المفيدة. وبعد ذلك ذهب إلى الأميرة لتسهل دخولها إلى دير القديس نيقولاوس للنساء. هناك جرت خدمة صلاة قصِّ شعرها وسميت راهبة” وقد عاشت بالتوبة بقية حياتها. ومدًّ الله في عمرها فعاشت طويلاً إلى أن رقدت في الرب.
إن عناصر سيرة حياة أبينا البار ثيوذوسيوس المغبوط منذ حداثته حتى الآن كان مصدرها أمه بالذات. وقد حكتها للراهب ثيوذوسيوس خازن المؤونة في دير القديس ثيوذوسيوس. وقد سمعها نسطور المغبوط في ثيوذوسيوس وسجلها في كتاب -كما يقول هو نفسه- لكي تحفظ ويستفيد منها من يطلع عليها.
أمّا الأخبار التالية التي تذكر بقية سيرة حياة هذا القديس” فإن الفضل في تسجيلها يعود إلى نسطور الذي دونها” إذ كان شاهد عيان لحياته.
[قبل أن نختم هذه الصفحة، نود أن نُضيف أن الكنيسة الأرثوذكسية تُعيد للبار نسطور في 27 تشرين الأول/أوكتوبر، بالإضافة إلى عيد جامع لآباء دير الكهوف في كييف 28 أيلول/سبتمبر. ولقراءة لمحة عن حياة البار تفضل اقرأ الرابط her]
(1) قام بتعريب هذا الكتاب عن اليونانية الأستاذ جرمانوس لطفي بطلب من سيادة المطران الياس، متروبوليت بيروت وتوابعهما الجزيل الاحترام وتوجيه منه.
(2) فلاديمير العظيم هو أمير كياف وقديس الكنيسة الروسية. تولى حكم كياف سنة 972م. وانضم إلى المسيحية وحطم أصنام الآلهة الوثنية التي كان الشعب الروسي يعبدها. وبنى العديد من الكنائس واهتم بتثقيف الناشئة على المبادئ المسيحية. وقد توفي 1015م. واعتبر في القرن الثالث عشر قديساً معادلاً للرسل، وللرسول بولس بنوع أخص. لأنه كان في شبابه مضطهداً للمسيحية ثم انقلب مثله إلى مؤمن حار بالمسيح (المترجم).
(3) اللافرا لفظ أُطلق في القرن الرابع الميلادي وفي فلسطين بنوع خاص على تعايش الرهبان في قرية واحدة. ودير اللافرا يعني مجموعة من قلالي الرهبان، كل واحدة مستقلة عن الأخرى، منفصلة عنها يعيش فيها الراهب حياته التقشفية على حدة؛ إلا أنه يشترك مع إخوانه الرهبان في العبادة وممارسة الأسرار في كنيسة المجموعة ويخضع لرئاسة واحدة. ودير اللافرا يختلف عن الأديرة الجماعية التي أنشأها القديس باخوميوس التي كان يعيش فيها الرهبان داخل مبنى واحد ويتناولون طعامهم على مائدة مشتركة ويقومون بأعمال جماعية ويخضعون لنظام صارم (المترجم).
(4) دير أستوذيو تأسس في القسطنطينية سنة 463 م. وقد أسسه استوذيوس أحد كبار المسؤولين في بيزنطية على أرضه فحمل اسمه. وأقام إلى جانبه كنيسة على اسم القديس يوحنا المعمدان؛ وجمع فيه رهباناً لا ينامون يرفعون الصلاة إلى الله بصورة مسترمة متواصلة. ولم يلبث هذا الدير أن صار من أعظم الأديرة [لقراءة معلومات أكثر عن الدير راجع سيرة القديس Marcellos af Apamei, leder af klosteret for dem, der ikke sover..(الشبكة)]. وكان له أثر كبير في الدفاع عن العقيدة الأرثوذكسية، وفي تقدم العلوم اللاهوتية، والحياة الليتورجية وفن الرسم الكنسي. ولقي رهبانه إبان حرب تحطيم الأيقونات الكثير من العذاب وقد قتل بعضهم وسجن آخرون. وهدم الدير في عهد الملك قسطنطين الخامس محارب الأيقونات. ثم عاد إلى نشاطه بعد المجمع المسكوني السابع سنة 787. وتولى إدارته سنة 798 م، البار ثيوذوسيوس أحد كبار المثقفين في العهد البيزنطي وكان غيوراً على الإيمان فجمع حوله مئات الرهبان ونسخ المخطوطات التراثية. وعلّم رهبانه الفلسفة وعلوم اللاهوت وأنمى حركة الشعر والترنيم الديني والرسم الكنسي وأسس مدرسة للناشئة. وكان مركزاً للنهضة الأدبية والفنية في القرن التاسع. وعرف التاريخ العديد من كبار رهبانه القديسين، وكان له أثر كبير في الرهبنة في الكنيسة الشرقية عموماً ومنها الرهبنة الروسية. وقد تفرح رهبانه على أثر الفتح [الغزو والاحتلال] التركي للقسطنطينية سنة 1453. وحوّلت كنيسته إلى جامع… (المترجم)
(5) نقل هذه العظة إلى العربية المرحوم الأرشمندريت توما ديبو المعلوف (مجلة النعمة، مجلة البطريركية الأنطاكية الأرثوذكسية – دمشق السنة الثالثة عدد أيار 1912، ص 978-992).
(6) حاشية للمترجم: كلمة أرشمندريت معناها رئيس الصيرة (الروحية) أو رئيس الدير. يذكر أبيفانيوس في كتابه ضد الهرطقات (80، 6) أن هذا اللفظ أُطلق أولاً في بلاد ما بين النهرين لأن الصيرة (الماندرة أو المنطرة كما تستعمل اليوم في سوريا ولبنان ونحتت منها كلمة الناطور) هذه الكلمة كانت تطلق في القرن الرابع الميلادي على الدير في سوريا وأضيفت إليها كلمة (آرخي – من أرخيفوس اليونانية) فأصبحت أرخمندريت. اي رئيس المنطرة (الصيرة = الدير) ثم شاعات في الكنائس الشرقية وتبلورت فيما بعد فصار معناها الأب -الرئيس- ثم أخذ هذا الاصطلاح من القرن السادس إلى رتبة رهبانية أعلى من رتبة رئيس دير امتدت وظيفة الأرشمندريت إلى رئاسة عدة أديرة. ثم أخذت رتبة الأرشمندريت تتضاءل إلى أن اصبح من بعد القرن العاشر لقباً إكرامياً في بعض الأماكن يُعطى للاكليروس الأعزب تقديراً لخدماتها في حقل الرب.
(7) كورسك مدينة كبيرة في الجانب الجنوبي لروسيا المركزية. وهي وطن البار المشهور سيرافيم ساروف ومركز تجاري وصناعي هام. راجع “سيرافيم ساروفسكي”، منشورات النور 1982.
(8) الأسكيم كلمة منحوتة عن “سخيما” اليونانية وهي الثوب الخارجي الذي يلبسه الراهب (الجبة) وهو نوعان: 1) الإسكيم الصغير الذي يلبسه الراهب في بدء حياته الرهبانية ويعطى له مع الصليب، 2) الاسكيم الكبير وهو الثوب الذي يُعطى عادةً للكاملين من شيوخ الرهبان الذين مارسوا أنواع الرياضة النسكية (المترجم).
(9) (حاشية للمترجم) قص الشعر: هو قص شعر الرأس على شكل صليب سطحياً عند الدخول إلى الإكليروس (قص شعر الأناغنوسط أي القارئ في الكنيسة) وقص الشعر بكامله عند الدخول إلى الرهبنة أو الإنخراط فيها نهائياً. وهو يرمز إلى الخضوع والطاعة التامة لله.
وكان الوثنيون القدامة إذا ما اشتروا عبداً قص سيده شعر عبده للدلالة على تجريد الشخص العبد عن إرادته وخضوعه التام لسيده. وقد أُدخلت هذه العادة في حفلة صلاة تكريس الرهبان. فيقص فيها شعر رأس المتقدم إلى الرهبنة، للدلالة على أنه أصبح تحت تصرف تام لديره تاركاً كل علاقة له مع العالم ومتجرداً من إرادته الذاتية. ولهذا جاء في خدمة صلاة تكريس الراهب عند لبس الإسكيم الصغير والكبير دعاء لرئيس الدير يقول فيه -: “انزع عنه كل شهوة جسدية، ونهضة بهيمية، حتى أنه بقص شعر رأسه، العادم الحس، يطرح معه جميع الأفكار البهيمية ويستحق أن يتخذ نيرك الصالح، وحملك الخفيف، ويحمل الصليب، ويتبعك أيها السيد…” (انظر كتاب الأفخولوجي الكبير نقله الاسقف رافائيل هواويني عن اليونانية والسلافية. طبع في بيروت مجدداً سنة 1955 صفحة 208-209) (المترجم).
(10) ياروسلاف هو ابن فلاديمير الكبير الذي أدخل رسمياً سنة 988 المسيحية إلى روسيا. وكان حاكماً قديراً ونشيطاً (سنة 1017-1054) وقد لقب بالحكيم وعزز المسيحية وثبتها. وشيّد في كاتدرائية المطرانية وهي كنيسة الحكمة المقدسة. وكان عهده عهد ازدهار لدولة كياف.
(11) جرت العادة أن يطلق على كبار الرهبان المرشدين لقب شيخ (غيرونداس ). والشيخ في العرف الرهباني هو الأب الروحي المكلف بتوجيه المتقدمين إلى الرهبنة وعليهم أن يطيعوه طاعة تامة ويكشفوا له عن خفايا حياتهم ليعمل بدوره على توجيههم في طريق الخلاص (المترجم )