القديس ايريناوس اسقف مدينة ليون في بلاد الغال (فرنسا الحالية)، عاش في القرن الثاني، واستشهد على الأرجح في السنة 202 . ولد في آسيا الصغرى (تركيا الحالية)، وتتلمذ على القديس بوليكارپُس الشهيد أسقف إزمير، المتتلمذ بدوره على القديس يوحنا كاتب الإنجيل الرابع. وصلنا من أعماله الغزيرة مؤلفان فقط، هما من أهم الكتب اللاهوتية في دحض البدع والهرطقات في تاريخ الكنيسة: “ضد الهرطقات” و”توضيح التعليم الرسولي”. وتحدثت المراجع القديمة عن مؤلفات أخرى له لم تصلنا ك “مجموعة مواعظ حول الرسالة الى العبرانيين” و “مواعظ حول سفر الحكمة”. تعيّد الكنيسة تذكاره المجيد يوم 23 آب.
لم يكن همّ ايريناوس التنظير حول ماهية الله، بل إظهار عمل الله الخلاصي وتدبيره من اجل حياة العالم أجمع. وهو، وإن لم يرد عنده اي كلام على “الثالوث”، يذكر بصورة دائمة الأقانيم الثلاثة بأسمائها: الآب والابن والروح القدس، ويؤكد على وحدته. فنراه، قبل اكثر من قرن على المجمع المسكوني الأول المنعقد في نيقية (325)، يشدد على هذا الايمان، فيقول: “إن الكنيسة، وإن تكن منتشرة في المسكونة كلها حتى أقاصي الارض، قد تسلمت من الرسل وتلاميذهم الإيمان بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء والارض والبحار وكل ما فيها، وبيسوع المسيح الواحد، ابن الله، الذي تجسد لأجل خلاصنا، وبروح قدس واحد نطق بالأنبياء معلناً تدابير ربنا الحبيب يسوع المسيح”. ثم يتابع إيريناوس، بعد أن يعدد الأحداث الخلاصية التي أتمها يسوع وعلى رأسها القيامة، قائلا: “لكي تجثو امام ربنا يسوع المسيح وإلهنا ومخلّصنا وملكنا”. هنا يؤكد الاسقف القديس أن المسيح إله، وهو واحد مع الآب والروح القدس. ويبدو واضحا للقارئ أن هذا النص قد ألهم الآباء المجتمعين في نيقية عندما صاغوا دستور إيمان الكنيسة الجامعة، الذي نتلوه كلّما اجتمعنا في سرالشكر (القداس الإلهي).
واجه ايريناوس الهراطقة الغنوصيين (العرفانيين) الذين تكاثروا في القرنين الأولين للمسيحية. ثم اضمحلوا بفضل الآباء القديسين المدافعين عن الإيمان والذين لم يألوا جهدا في التصدي لهم. وقد أكد إيريناوس في مواجهة هؤلاء ألوهة المسيح وبشريته الكاملتين، فيقول: “الآب رب، والابن رب، الآب إله والابن إله، لأن الذي وُلد من الله هو إله. وهكذا، وإنْ كان هناك، حسب تدبير فدائنا، ابن وآب، نبيّن أن ليس الا إله واحد، في جوهر كيانه بالذات وطبيعة هذا الكيان”. وفي تأكيده على وحدة شخص المسيح يقول: “الكلمة، الابن الوحيد، الحياة، النور، المخلّص، المسيح وابن الله هم أسماء لكيان واحد، هو نفسه قد تجسد من أجلنا”. وفي مكان آخر يعيد التذكير بأن “يسوع الذي تألم من أجلنا وسكن بيننا هو نفسه كلمة الله”، هذا بدون شك يستند الى تعليم الإنجيلي الرابع: “والكلمة صار جسدا” (1: 14).
تشديد القديس إيريناوس على وحدة شخص المسيح يأتي في سياق التأكيد على أهمية هذا الموضوع بالنسبة الى خلاص الانسان. وهو يقول أن لا خلاص للذين ينكرون اتخاذ ابن الله جسداً حقيقيا كجسدنا وظهوره في التاريخ انسانا كاملا، كما يذكر بأن الذين ينكرون حقيقة قيامة المسيح من بين الاموات لا رجاء لهم بالحياة الأبدية. وما رفض التجسد إلاّ حجة لرفض القيامة عند هؤلاء العرفانيين. فيكتب قديسنا: “اذا كان (ابن الله) لم يولد، فهذا يعني ايضا انه لم يمت، واذا كان لم يمت، فهذا يعني كذلك انه لم يقم من الموت، واذا كان لم يقم من الموت، فذلك يعني انه لم ينتصر على الموت ولم يهدم مملكته، واذا كان لم ينتصر على الموت، فكيف بإمكاننا نحن أن نرتفع الى الحياة؟”. ثم يستنتج قائلا: “اذاً، الذين لا يقبلون خلاص الانسان، والذين لا يؤمنون أن الله سيقيمهم من الموت، هؤلاء وحدهم هم الذين يرفضون ولادة إلهنا ومخلّصنا”. انه لجليّ أن هذا التأكيد على حقيقة القيامة إنما هو استعادة لما كتبه القديس الرسول بولس من أن القيامة هي أساس إيماننا المسيحي: “وإن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم ايضا باطل” (1 كورنثوس 15: 14).
ويعلّم القديس إيريناوس أن الإنجيل “أساس إيماننا وعموده”. وهو يدعو المؤمنين الى قراءة الكتاب المقدس في الكنيسة المؤتمنة على الحقيقة الموجودة فيه، فيقول: “إن الرسل قد وضعوا، في الكنيسة، ملء الحقيقة، بحيث ان كل الخارجين عنها هم اللصوص وقطاع الطرق. لذلك يجب البعد عن هؤلاء ومحبة الكنيسة والتعلق بالتقليد. واذا كان هناك بعض الأمور الصغيرة التي تستدعي المناقشة، فإنه من الضروري العودة الى الكنائس الرسولية القديمة للتأكد من التفاسير الصحيحة”. وهنا يشدد على أهمية التقليد، فيقول متابعا: “إن الرسل عاشوا في هذه الكنائس وعلّموا شعبها ومؤمنيه. واذا اعترض قائل إن الرسل لم يتركوا لنا شيئا مكتوبا فإن التقليد المعيوش، في هذه الكنائس، يثبت حقيقة ما أقول”.
لقد أحب إيريناوس ربه كجواب على حب، الله هو المبادر فيه. لقد اعتقد إيريناوس أن “المسيح، لأجل محبته اللامتناهية، قد صار مثلنا لكي يجعلنا مثله”. لقد جاهد إيريناوس ليعمل بمقتضى هذا القول، فأحب السيد الباذل نفسه فبذل هو ايضا نفسه على مذبح الرب ليغمره الحب الأبدي. مَنْ منا قابل بأن يجعلنا المسيح مثله؟