Indledning
ننشر في ما يلي ,,دروساً،، تلقاها رهبان دير الحرف في العام 1962 من فم الأب أندره سكريما، باللغة الفرنسية، بمناسبة اقبال أحدهم حينذاك على تقبل سر الكهنوت، وهي دروس لاهوتية كثيفة، لا تغفل في الوقت نفسه عن الوجه الروحاني التأملي والحياتي في سر الكهنوت. لا شك ان صاحبها لن يعطيها اليوم على الصورة التي اعطاها عليها منذ ثماني عشرة سنة، وهو بالفعل يعتبرها ناقصة من نواح كثيرة. ولكن هذا لا ينقص من قيمتها ولا من آنيتها، بل من يقرأ هذا الكتيب بفهم وتمعن لا بد أن يحس احساساً صارخاً بحاجة كهنتنا القصوى إلى العيش في مضمار مفهوم هذه الدروس وحرارة الالتزام التي تستوجبه، بل بحاجة كنيستنا كلها، بإكليروسها ومؤسساتها ومؤمنيها، الى تغير الكثير من “نمطها” الناجم عن عادات “المجتمع” ورواسب التاريخ، والذي هو “من هذا العالم”، وتحويله الى نمط “كهنوتي”، نمط سيدها الذي إنما جاء “ليخدم ويبذل نفسه عن كثيرين”.. لأنه اذا كان هذا العالم في الحقيقة بحاجة الى حب وحسب، فليس من غلبة وقيامة وليس من حياة “أبدية” بالنتيجة إلا عبر كهنوت المصلوب ومن على الصليب، حيث، على منوال المسيح وبنعمة المسيح الذي هو الكاهن الوحيد والأعظم، يبذل المسيحي حياته كل يوم حباً بالآخرين، بل يبذل حياة المسيح التي فيه، فيشرق على الكون وجود جديد وفرح جديد وملكوت جديد: هو ملكوت الله المحبة والثالوث، الملكوت الذي جاء به الينا المسيح.
وبالتالي فإن الصفحات التالية ليست فقط للكهنة أو طلاب الكهنوت وطلاب اللاهوت، بل لجميع المؤمنين ما داموا منتمين بالمعمودية “للكهنوت الملوكي” وحاملي ختم المسيح ليشهدوا لمحبة الآب للناس.
introduktion
الكهنوت وجه من وجوه سرّ الله الذي نحيا به ونتحرك ونوجد. وسنحاول في ما يلي أن نتأمل ونفهم ما هو الكهنوت والليتورجيا اللاصقة به، تلك المعطيات والحقائق العميقة في الكنيسة، بل قلب الكنيسة دون أية مبالغة. سنتناول هذا الموضوع من زاويتين: أولاً من زاوية الدراسة والفهم الموضوعي، بمثابة بحث نظري على ضوء اللاهوت والكتاب المقدس لنتبين ما هو الكهنوت وما هي الوظيفة الليتورجية. ثانياً من الداخل بمثابة حقائق ووقائع لكي ندعها تملأنا ونفهم على ضوئها سر حياتنا الروحية. أي اننا سنبحث الموضوع من زاوية علم اللاهوت ومن زاوية الروحانية.
أقسام البحث
- Det første afsnit: Rod i Gud
- سر الذبيحة (المسيح الكاهن الأوحد)
- دعوة وإرسال (الخدمة الرسولية)
- روح وحياة (سر الكهنوت والحياة الداخلية)
- Afsnit 2: Gudstjeneste
- شفاعة ووساطة
- اقتبال كل الناس } (الأبوة الروحية)
- محبة المصلوب
- القسم الثالث: بذل الذات
- الصلاة والتجدد الروحي
- التفاني } (قرباناً حياً)
- عبيد بطالون
سنبدأ بحثنا حيث ترسخ أصول الكهنوت: في عمق سر الإله الحي، حيث سر الله نفسه كما أعلنه المسيح وجسّده (القسم الأول). ولكن الله منذ الدهور قد أراد هذا السر لأجل الخدمة: إنه أولاً سر خدمة، وخدمة لأجل الجميع. فالمسيحي هو ذلك الكاهن الجديد الذي يتخطى الحدود والفوارق بين الناس، إذ في المسيح وفي كنيسة المسيح كل شيء يجمع. وبالتالي فالكاهن الذي يمارس خدمته في الكنيسة إنما يمارسها في وضع تقبل عام وشامل للجميع وللكل دون استثناء (القسم الثاني). أما بذل الذات (القسم الثالث) فيشمل حياة الكاهن الداخلية: فالكاهن كائن حي يتصل بالمسيح ويحيا حياة شخصية تنير كل حياته. ولكنه يعيش السر الذي يخدمه في الحق والمحبة كعبد بطّال: وهذه هي الحقيقة الأخيرة التي تعيدنا كما في حلقة الى ما بدأنا به: أن لا نعمل شيئا من أنفسنا، ولأجل أنفسنا، بل أن نكون منفتحين ومبذولين وشفافين كلياً لكيما يعمل فينا آخر هو الله. فإنه عظيم وكبير لدرجة أننا كلا شيء البتة إزاءه. إذن نحن نبتدئ فنتأصل فيه في الأساس ثم نعود وندرك ونبلغ التأصل الذي بدأنا به.
Det første afsnit: Rod i Gud
قد يكون التحديد الأكثر عمقاً للمسيحية التحديد التالي: المسيحية قبل كل شيء هي كهنوت وليتورجيا وعبادة[1]. إنها عمل المسيح الجوهري والأزلي الذي يتولى به و”يتخذ” كل انتظار البشرية ورجائها، أي الدخول في وحدة الله. “دم المسيح (…) يطهر ضمائركم (…) لتعبدوا الله الحي” (عب9: 14). إن المسيح يعرفنا ونحن نعرفه بصورة فضلى في الليتورجيا وكليتورجيا، على ذلك الصعيد الأسمى حيث قدم “نفسه” ضحية “بلا عيب”، “بروح أزلي” ليدخلنا معه في اتحاد الحب مع أبيه. في إطار هذا العمل تقوم عناصر الوظيفة المسيحية الكهنوتية. ولكن فلننظر أولاً كيف أن المسيح هو الكاهن الأوحد ولماذا.
1- سر الذبيحة: عناصر الوظيفة الكهنوتية
آ- الكهنوت قبل الشريعة
إننا نجد الكهنوت في كافة الأديان المعروفة منذ بدء التاريخ بمنزلة وظيفة عامة في المجتمع وكأنه يعبر عن غريزة غامضة في الإنسان تقول بأن البشرية هي في حالة غربة عن الله لا تستطيع التقرب اليه مباشرة دون وسيط. فتحتاج بالتالي الى اختيار بعض منها، بوصفهم أناساً مختصين، للتوسط لدى الإله الرهيب. وكانت “الألوهة” آنذاك غير واضحة المعالم تحدد فقط في علم تاريخ الأديان “بالقدسية” أي بكونها حقيقة “قدسية” رهيبة وجذابة في آن واحد، يحتاج الإنسان إليها احتياجاً مطلقاً ليعيش ولكنها ظالمة وكثيرة المطالب. فكان دور الوظيفة الكهنوتية استعطافها واسترضاءها. وكان الكاهن بمثابة من يستطيع ان يستعطف الإله من جهة البشر ويجعل البشر يفيدون منه، وكأنه “يعطي” الله للناس. إن كلمة كهنوت بالفرنسية Sacerdoce مشتقة من أصل لاتيني Sacrum donans معناه “الذي يعطي المقدّس”، وذلك أساساً في ذبيحة يقدمها لله لاسترضائه[2]، أي في نوع من مبادلة بين الله والناس. وظيفة الكاهن هي بالتالي وظيفة تقديم ذبيحة لأجل التوسط لدى الله، اذ يشعر الناس أنهم بحاجة إلى إعطاء شيء لله مقابل عطاياه. ولفظة ذبيحة “Sacrum facere: Sacrificium” تحمل معنى الفصل والتكريس والتقديس. المرء ينفصل عن شيء ما ويقدمه ذبيحة، يتخلى عنه ليكرسه ويجعله مقدساً. بل ينفصل عن شيء ثمين وذي اعتبار. ولما كان لم يكن هناك أثمن من الحياة فكانت مأساة البشرية الضالة آنذاك اعتقادها بأنها ترضي الله بذبحها للإنسان، سواء كان الشخص المذبوح من الأعداء أو من العبيد أو حتى من الأخصاء والأقارب[3]. وهذا لعمري إنكار لله وللإنسان معاً وهو الحد الأقصى للضلالة. ولذلك بانت المسيحية عند ظهورها كأنها تلحد. في حين أن الذبيحة الوثنية الآنفة الذكر كانت قد حولت الإنسان إلى مجرد شيء وذبحت لإله هو أيضاً بمثابة شيء لا حياة له [4]. إلا أن الكهنوت الكوني هذا يحمل مثل غريزة لا تخلو من معنى وهو أننا لكي نقترب إلى الله لا بد أن نموت، لكي نقتبل حياة الله لا بد أن نبذل حياتنا.
وعلى أساس مفهوم الذبيحة الوثنية كانت قد تألفت “طبقة” كهنوتية في البلاد المجاورة للشعب المختار (مصر، سوريا، بابل وأشور، بالإضافة إلى الهند والصين واليونان وروما). وكان الكهنة أفراد هذه الطبقة خداماً للطقوس وحراساً للتقاليد الدينية وعرافين بمثابة لسان حال الآلهة. ثم جمعت هذه الأديان بين الوظيفة الكهنوتية والوظيفة الملكية في شخص واحد هو كاهن وملك في آن واحد، وهو تطور مهم جداً في التاريخ إذ أخضع الوظيفة الدينية للسياسة ووسم الأوضاع الاجتماعية بطابع القدسية. وهذا ما يساعدنا على فهم موقف الشهداء المسيحيين عند رفضهم الإذعان لأوامر قيصر الدينية. إذ لم يكن قيصر ملكاً فقط يمثل الدولة بل كان يمثل الإله أيضاً. كان الكاهن العظيم لله وبالتالي كان على المسيحيين أن يعبدوا قيصر دينياً. فكان رفضهم لأوامره تحطيماً للالتباس بين الروحي والزمني، بين الاجتماعي والديني، بين السياسي والكهنوتي. وقد حققوا ذلك بإهراق دمائهم، فحرروا الإنسان. لم يكن الإنسان قد تجرأ وأقدم على مثل هذا التغيير قبلهم[5]. فجاءت المسيحية وقالت: قدوس واحد هو الله. وإن الله ليس أسيراً لأي وضع أو شكل اجتماعي أو سياسي. فالإنسان بعد تمجيده للإله الحقيقي يبقى حراً في كل مجالات التفسير والإبداع. إن فينا كلنا عقلية قديمة تجعلنا نخلط بين ما هو أساسي جوهري وما هو ثانوي نسبي (كالوجه الشعري والتفاصيل والشكل). وهذه بالنتيجة حماقة نقضي بها فينا على الله الحيّ.
ب- الكهنوت في العهد القديم
إن فهم الكهنوت في العهد القديم مهم جداً إذ أن كهنوت المسيح إنما بُنيّ وأعلن على أساسه وانطلاقاً منه. كان الكهنوت في العهد القديم نتيجة وعلامة للعهد الذي قام بين الله وشعبه والذي كان ميثاقاً ورباطاً فريداً ذا اتجاهٍ واحدٍ لا ينحل لأنه يقيد فقط الله الأمين. فلما كانت البشرية في حالة انحطاط وضلال عمد الله إلى أن يعلن ذاته للناس بواسطة شعب اختاره هو، ثم عمل على تهذيبه شيئاً فشيئاً على مدى الأجيال حتى يحين وقت مجيئه. وقد عقد الله هذا الميثاق مع إنسان هو أبونا ابراهيم فطلب إليه أن يترك كل شيء، أن يتخلى عن مفاهيمه الدينية والكهنوتية وأن يتعلق بوعد الله فقط، بذلك الوعد غير المعقول في الظاهر. وكان عهداً مبنياً على أساس جديد غير مادي بل على مبادلة روحية، على بعد جديد هو ذلك الإيمان والوثوق بوعد إلهي غير ذي وجه منظور، بوعد يفوق الإنسان ويتجاوزه ولكن على الإنسان أن يتعلق ويتمسك به. وتباعاً لهذا التغيير في المفهوم الديني كان على طبيعة الكهنوت أيضاً أن تتغير وتغتني. ولذا نراها تتصف بالمرحلتين التاليتين:
المرحلة الأولى: وهي الذبيحة التي تمّت ولم تتمّ في آن واحد أعني ذبيحة ابراهيم عندما قرّب ابنه اسحق فأوقفه الله عن ذبحه [6]. “ابنه وحيده” الذي ناله من الله بناءً على وعد منه تعالى، وكعلامة من الله ولأمانته، الذي هو ملك الله أكثر مما هو ملك ابراهيم. طلب إليه الله أن يذبحه. لا شك أن هذا كان أمراً أليماً جداً، ولكنه إذ كان أمراً اعتيادياً في ذلك الزمان وبحسب مفاهيم أديان ذلك الزمان، أذعن ابراهيم له ولم يتمرد. إنما كان عليه أن يدرك ويختبر ألماً جديداً. فعند قبوله الانفصال عن ابنه الوحيد لم يكن يفهم أن اتباع الله يتطلب بالضرورة ذبيحة روحية. وقد منعه الله أن يذبح ابنه مادياً لكيما يصل به إلى المفرق الفاصل بين زمان وزمان إذ أفهمه بالأحرى وجوب الذبيحة بالروح. وذلك لأن كل شيء إنما هو من الله ولا بد من التخلي عن أثمن شيء لدينا في سبيل الله وحينذاك يرده لنا الله لنا مضاعفاً: فاسحق قد ولد مرتين، الولادة الأولى الطبيعية ثم الولادة الثانية التي كانت مكافأة له على طاعته ومحبته. هذا وكانت ذبيحة اسحق رسماً للذبيحة الوحيدة، ذبيحة ابن الله الوحيد، الابن الحقيقي “الذات” الكلية، المطيع حتى الموت.
المرحلة الثانية: وهي خروج اسرائيل من مصر وتحرره من العبودية.إن هذه المرحلة أيضاً قائمة على ذبيحة كالمرحلة الأولى، إلا أنها ذات معنى خاص آخر. فالحمل الفصحي الذي ذبحه الشعب المختار ليلة خروجه من مصر، أرض العبودية، كان علامة لعلاقة خاصة بين الله وشعبه. فدم الحمل الذي وضع على أبواب بيوت بني اسرائيل هو الذي يدل على شعب الله دون غيرهم عند مرور الملاك المهلك وبالتالي يحميهم ويحفظهم. ومن جهة ثانية إنها ذبيحة فاعلة تؤدي وظيفة الذبيحة الأساسية، أي أنها ترضي الإله وتحفظ الإنسان. إن لخلاص شعب الله من العبودية طابعاً مأساوياً إذ يدور حوله ويتوقف عليه سر خلاص كل البشرية. والوقت الأساسي فيه هو بالضبط حادثة الحمل الفصحي. فإن تلطيخ قائمتي الأبواب وعتبتها العليا بدم الحمل يحمل معنى مزدوجاً هو أولاً الرمز للصليب (شكل الصليب على الأبواب) ولدم الرب يسوع (حمل الله المذبوح لخلاص العالم)، باعتبار الدم أداة للنداء. وهو ثانياً معنى الحماية وحفظ الحياة من الإبادة والهلاك. وهناك أيضاً معنى ثالث مشار إليه منذ الآن في أكل شعب الله للحمل الفصحي ليلة خروجهم من مصر وهو معنى الوليمة المقدسة وليمة العشاء السري وتناول جسد الرب. إن إسرائيل كله قائم مؤلف ومجتمع حول تلك الذبيحة وتلك المناولة. وقد أمروا أن يأكلوا الحمل الفصحي وهم واقفون إذ أنه على إسرائيل أن “يتّبع” إلهه. إنها علامة تجديد العهد القائم بين الله وشعبه، العلامة بأن شعب إسرائيل لا “يقيم” في أرض إسرائيل بل هو بمثابة مسافر في هذا العالم. هو في الأساس في وضع مسافر. يتناول الطعام وهو واقف مستعداً للسفر منسلخاً عن العالم. إن إسرائيل في هذه الحادثة يثبت ويعمق عهده مع الله. إن طعامه عينه ليس كطعام المصريين.
وفي الواقع إن الخروج من مصر يؤلف في تاريخ إسرائيل مرحلة عهد سيناء الذي يجدد ميثاق إسرائيل مع الله. إنه ذلك العهد المجدد الذي يشترك فيه جميع الشعب ويقتبل الموعد. كان الوعد الأول كان قد أعطي لرجل فرد هو ابراهيم، أما الآن، حول حبل سيناء، فجميع الشعب صار مقدّساً. وهذا رسمٌ للكنيسة. إنها كنيسة العهد القديم. ونلاحظ هنا وضعاً فريداً، إذ أن الله يخاطب جماعة الشعب كلها كأنها شخص واحد: “اسمع يا إسرائيل”. إن شعب إسرائيل واحد أمام الله مع أنهم كثيرون. ذلك لأن ذبيحة الحمل تضفي على الأمة هذه الوحدة[7].
إن عهد سيناء الذي أقبل عليه إسرائيل بعد خروجه من أرض العبودية هو عهد دم. لقد أخذ موسى نصف دم الثيران المذبوحة للرب ورشه على المذبح، ثم رش النصف الثاني على الشعب، وذلك بعد أن “قرأ كتاب العهد في مسامعهم” فقالوا طوعاً باختيارهم: “كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له” (خروج24: 3-8). وبعهد الدم هذا أصبح كل إسرائيل شعباً كهنوتياً أي مكرساً ومقدّساً، “وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدّسة” (خروج19: 6). إنه كهنوت الشعب الملوكي، مملكة الكهنة التي ليست هي مملكة أرضية. كان إسرائيل شعباً بدوياً رحلاً ولم يعِدَهم الله في عهد الدم هذا بمملكةٍ أرضيةٍ أو بوطن أرضي، بل انتزعهم بالعكس من كل أرض وكل مملكة أرضية. لقد جعلهم “مملكة كهنة” أي رجالاً هم ملك الله، مكرسين له لكي يؤدوا العبادة الحقيقية للإله الحقيقي، وحدهم بين سائر الشعوب. وعى أنه شعب مؤتمن على حمل كلام الله وتأمين عبادته. ونظراً لحرص الله على تأمين تأدية هذه العبادة واستمرار قيام هذه الوظيفة الكهنوتية اختار له عشيرة خاصة من بين عشائر إسرائيل لتختص بخدمة العبادة وهم اللاويون الذين كان أول كاهن فيهم هارون أخو موسى. وبهذا تألفت في إسرائيل “رتبة” كهنوتية وهيرارخية كهنوتية يرأسها الكاهن العظيم (أو رئيس الكهنة) يليه كهنة لتقديم الذبيحة ثم لاويون للخدمة العامة “ويقابل هذا الترتيب في المسيحية: الأسقف ثم الكهنة ثم الشمامسة”.
وكانت الوظيفة الكهنوتية تتضمن أولاً إقامة الذبيحة، وهذه لم تعد ذبيحة بشرية كما في السابق بل أصبحت ذبيحة بهائم أي ذبيحة “طقسية” يقربها الكاهن عن كل الشعب وتحرق بكاملها بالنار holo–causte، فهي “محرقة”، تتميز إذن بالدم والنار ويتقبلها الله بكاملها محولاً إياها. ثم إلى جانب المحرقة كانت الذبيحة التي لا تحرق بل توزع في حصص معينة للهيكل وليهوه وللكهنة، وتؤلف نوعاً من وليمة مقدّسة. ومن ناحية ثانية كانت وظيفة الكاهن تتضمن خدمة الكلمة أي تفسير الشريعة وذلك عن طريق نسخ التوراة وحفظها من الضياع وعن طريق تدريسها في المدارس الربانية مع شرحها وتأويلها. وكانت تخدم الكلمة بصورة خاصة أثناء أعياد إسرائيل المقدّسة فتتلى فيها أسفار التوراة على الشعب بأجمعه فيستمع إلى عجائب الله ومراحمه.
ثم هناك وجه ثالث للوظيفة الكهنوتية في العهد القديم هو التوسط من أجل الشعب، فكان رئيس الكهنة يدخل مرة في السنة إلى قدس الأقداس “داخل الحجاب”، إلى ألفة حضرة الله الحميمة التي لا يستطيع الشعب أن يقربها فيكفِّر عنه. إلا أنه لم يكن بوسع رئيس الكهنة الدخول قدس الأقداس متى شاء بل مرة واحدة في السنة فقط، وهذه دلالة على تسامي الله وعلى السر الرهيب الذي يحيط به بخلاف آلهة الأمم التي كان يمكن الاقتراب إليها في أي وقت. إن الإله الذي اختار إسرائيل ليتم قصده فيه هو بعيد عن متناول البشر إن رئيس الكهنة لا يدخل إليه كيفما اتفق بل “يلبس قميص كتان مقدّساً وتكون سراويل كتان على جسده، ويتمنطق بمنطقة كتان ويتعمم بعمامة كتان، إنها ثياب مقدّسة فيرحض جسده بالماء ويلبسها” (لاويين 16: 4). وكان يكفِّر عن نفسه وعن الشعب “لاويين 16: 17”. ويستنتج من ذلك أن رئيس الكهنة لم يكن بعد كاهناً حقيقياً يستطيع الدخول كل حين إلى حضرة الله الداخلية بل يحتاج إلى تطهير بوصفه غير كامل.
هذا وقد تعرّصت الوظيفة الكهنوتية في تاريخ إسرائيل لالتباسات مختلفة نجمت عن الدسائس والفساد والأوضاع السياسية… إن إسرائيل بخروجه من مصر انتقل من العبودية إلى حرية خدمة الله وعبادته. ولكنه كان يعود ويسقط في “عبوديات” مختلفة وذلك من جراء قيام ملوك غرباء يسودون عليه أو ظروف سياسية ضاغطة وغيرها… ولذلك عمد الله في سبيل إصلاح الكهنوت إلى إرسال الأنبياء. فقام الأنبياء بنقد الكهنوت الراهن لنقائصه وعيوبه ولفتوا نظر الشعب إلى الكهنوت الكامل العتيد أن يأتي. ورسموا وجه الكاهن الحقيقي الكامل، الخادم وحامل الأوجاع الذي يتنبأ عنه أشعياء (أش 53). ونبهوا إلى أن الطقوس والذبائح التي كانت تقام آنذاك إنما هي رموز لذبائح روحية. وبهذا نبه الأنبياء إلى بعد آخر للكهنوت هو العبادة الروحية التي تؤديها قلوب “لحمية” وحذروا من خطر الاكتفاء بإقامة الطقوس الخارجية وحسب وكأنها سحر. ليست الطقوس سحراً بل لا بد بالضرورة من الموقف الداخلي لإتمامها. وبفعل تنبيه الأنبياء هذا وتعليمهم اتجه إسرائيل إلى انتظار ماسيا، إلى انتظار ذلك العهد الذهبي حيث لن يعود الشعب بحاجة إلى تعليم، بل تكون الشريعة مكتوبة قلوبهم، في قلوب تستطيع أن تقدم ذبيحة الإيمان على غرار ابراهيم في الإصحاح 22 من سفر التكوين الذي يبقى النص الأساسي للكهنوت الحقيقي. غير أن الالتباس قد استمر أيضاً في الانتظار الماسيوي لأن الشعب أخذ يميل إلى انتظار ماسيا أرضي يكون على الأكثر ملكاً أرضياً. وقد كشفت حفريات خرائب قمران في فلسطين عن أن بعضاً من بني إسرائيل قد تخلوا في القرن الأول قبل المسيح عن الكهنوت الفاسد القائم آنذاك وتنحوا ليؤلفوا جماعة خاصة في سبيل انتظار ماسيا لا يكون أرضياً بقدر ما يكون ماسيا كهنوتياً، فكانت جماعة قمران بمنزلة همزة وصل وانتقال بين العهد القديم برجائه السليم الصحيح والعهد الجديد.
ج-الكهنوت في العهد الجديد
أولاً: وظيفة المسيح الكهنوتية-المسيح الكاهن
إن العهد الجديد بأكمله مبني ومنطوِ على إعلان فريد، كامل ونهائي، وهو أن ذبيحة يسوع على الصليب قد أبطلت كافة الذبائح في العالم لأنه صالحنا بها مع الآب وأدخلنا إلى عمق الاتحاد بالله. وقد تمت تهيئة ذلك خلال العهد القديم نفسه إذ أن إسرائيل كله مجموع وممثل في المسيح والمسيح هو إسرائيل الحقيقي الوحيد. كان الله قد اختار إسرائيل ليطيعه ويتمم مشيئته فعصى وتمرد، ولم يكن في إسرائيل من يطيع الله حتى الموت، موت الصليب، سوى واحد هو الرب يسوع المسيح. قبل المسيح كانت كل ذبيحة من ذبائح البشر هزيلة، “دون الله”. إذ أن أياً من الكائنات المقربة كذبيحة كان صائراً إلى الموت في الأساس وبصورة محتومة وليس بفعل الذبيحة. ولكن المسيح وحده، كإله متجسد ومنزه عن الخطيئة، كان غريباً عن الولادة الطبيعة التي يقترن فيها الموت بالحياة وبالتالي لم يكن مقضياً عليه أن يموت فضحى بنفسه وقرّب ذاته ذبيحة. إن الذبائح والذبيحة، المقرب “بكسر الراء” والمقرب “بفتح الراء”، هنا واحد. الله هو الذي يذبح الآن ويذبح نفسه “كإنسان”. وذبيحته هذه كاملة المفعول لأن سلسلة الموت قد حُطِّمت للمرة الأولى في تاريخ العالم. إن ذبيحة الصليب تُبطل وتُلغي كل الذبائح الأخرى لأنها إنما تكشف لنا الألفة القصوى التي بيننا وبين الله، سر الأعماق الأخير الذي في الله، سر المحبة. إن ذبيحة المسيح لأجلنا ذبيحة محبة، لأن الله محبة. وقد أتى المسيح ليتمم مشيئة أبيه بأن لا يهلك أحد. وتحقيقاً لهذه المشيئة كان من الضروري أن “يزدوج” الله بصورة ما فيكون مقرِّباً للذبيحة ومقرَّباً كذبيحة في آن[8]. لذلك حول هذه الذبيحة قد أُعلن لنا الثالوث، لجة المحبة، حيث الله واحد ولكنه غير وحيد. نحن في المسيحية فقط نفهم هذا، إذ حول الصليب فقط يكشف هذا السر الفائق الإدراك والوصف.
في المسيح إذن يبطل كل كهنوت سابق إذ يجد كماله في التجسد الإلهي وفي ذبيحة الصليب التي قرَّب بها المسيح الإله ذاته ذبيحة تفوق طهارتها العالم، لأن طهارة الخالق أزلية وليست من هذا العالم. إن المسيح بالتالي حطم بموته الموت، حطم سلسلة الموت المحتومة. فالجحيم لم يضبطه إذ لم يكن فيه شيء مما يستدعي الموت “أعني الأهواء”. وكل الذين يشاركون ذبيحته يشاركون حياته وقيامته، نوره وفرحه، يتغلبون على الموت. لقد مات من أجلنا ومن أجل كثيرين. أهرق دمه لا كدم ثور أو عجل بل كدم إله، كدم متدفق من أجل الخليقة كلها. إنه “الحمل الفصحي” الحقيقي المذبوح لخلاص العالم أجمع. لقد ذُبح على الصليب قبل عيد الفصح اليهودي أبان ذبح اليهود للحمل، وعلى غرار ذلك “لم يكسر له عظم”. بل فيه يجمع كل من كهنوت ابراهيم “الذي هو كهنوت إيمان” وكهنوت آدم “أي كهنوت الديانات القديمة الكونية”. إن كتاب ميلاد يسوع المسيح في إنجيل متى الموجه لليهود يبدأ من ابراهيم، وفي إنجيل لوقا الموجه للأمم يرجع حتى آدم. وذلك لأن كلا النسبين يلتقيان ويقترنان في المسيح. ويستولي المسيح بذبيحته على السيادة والملك لأن العدو الأخير قد غُلب (بضم العين) وهو الموت. فقد أخضع له كل شيء نتيجة ذبيحته. “ذبيحة وقرباناً لم تشأ لكنك هيأت لي جسداً….وحينئذ قلت ها أنا ذا آتٍ فإنه مكتوبٌ عني في صحائف الكتاب” (مزمور39: 6-7)… فجوهر كهنوت الله إذن هو بذل الذات كلياً (هيأت لي جسداً لا قرباناً) بدافع المحبة (ها أنا ذا آتٍ) وكأن الرب متعطش لتلك الذبيحة. إن الرب يسوع المسيح “ليتورجي” بالطبيعة إذا جاز القول، معد للذبح منذ البدء. فالخليقة وجدت من أجل التجسد والتجسد كان من أجل الصليب، والصليب من أجل خلاص العالم… إنه الحمل المذبوح “قبل كون العالم”. وعند مجيئه إلى العالم جاء ليلقي “ناراً على الأرض” وكيف ينحصر حتى تكتمل (لو12: 50). إنه لا يطيق صبراً حتى يدخلنا الخليقة الجديدة. في الخليقة الأولى كانت الذبيحة تحمل معاني الألم والضيق. أما الآن فقد تغيرت إذ أنها تحمل معاني الفرح والمحبة وروح الخدمة. ولذا يبني المسيح عهده الجديد حول ذبيحة يدعوها إفخارستيا أي شكر، حمد لله. إنه يقرب الذبيحة وهو يشكر ويبارك… وبالتالي نحن علينا أن نبث الشكر في كل شيء في الخليقة الجديدة eucharistifier، لأن كل شيء هو من الله وقد تحوّل كل شيء وصار جديداً في دم المسيح وجسده، في سر “المحبة المصلوبة”[9]. إن الروح قد خرج من جسد المسيح المصلوب وأُعطيّ لنا: لقد “أسلم الروح” يقول الكتاب. وفي تلك اللحظة تم العهد الجديد إلى الأبد.
إننا نتبين ذلك أولاً في سفرين “كنسيين” هما أعمال الرسل والرؤيا يتميزان بعلاقة عميقة بينهما. فسفر الأعمال يروي قصة امتداد الكنيسة بعد صعود الرب، ويبدأها لوقا كاتب السفر بالتكلم عن صعود الرب والعنصرة: عن المسيح المنسكب، عن الكنيسة كعنصرة دائمة. أما سفر الرؤيا فيعرض الوجه الداخلي لهذه الكنيسة كما هو في السماء، إذ نراها مجتمعة حول “الحمل القائم وكأنه مذبوح” (رؤ5: 6)، مذبوح ولكنه أسد غالب في الوقت نفسه (رؤ 5: 5)، “خروف له سبعة قرون وسبع أعين هي سبعة أرواح الله المرسلة إلى كل الأرض” (رؤ5: 6). فالحمل المذبوح إذن هو الذي يغلب.
والرسالة إلى العبرانيين من جهتها ترينا المسيح رئيس كهنة إلى الأبد (عب5: 5 و 6) يعيش في أيام جسده كل هذا السر الكهنوتي بصراخ ودموع (عب5: 7) ويدخل وراء الحجاب إلى قدس الأقداس السماوي كوسيط العهد الجديد، يجد فداءً أبدياً (عب9: 11–15) ما دام يعود إلى حضن أبيه بالجسد، إلهاً وإنساناً معاً، حاملاً طبيعتنا معه… وهذا يبلغ بنا إلى النقطة التالية:
ثانياً: كهنوت المسيح في الكنيسة
لكي نفهم دور المسيح الكاهن في الكنيسة ينبغي أولاً أن نرفع نظرنا إلى السماء حيث دخل المسيح بعد إتمام رسالته على الأرض. إن ذلك المسيح الذي عاش بين الناس قد صعد إلى السماء “ليس بالمعنى المادي للكلمة طبعاً”. أي أنه خرج من الوضع البشري الأرضي، خرج من الزمان والمكان اللذين كان قد نزل إليهما، وقد اصطحب الآن في صعوده وجلوسه عن يمين الآب إنسانيته الممجدة المليئة بألوهية الله. لقد دخل إلى الله بعد أن غلب الموت… وفي هذا كله اشتركنا معه. أما هذا الاشتراك فيتم في الكنيسة وبواسطة الكنيسة: لقد رأينا أعلاه أن المسيح هو كاهننا الأوحد وأن ذبيحته على الصليب، بين سائر الذبائح، هي الذبيحة الوحيدة المرضية لله والفعالة حقاً. غير أن المسيح هو المذبح أيضاً بالإضافة إلى الذبيحة. نحن في الكنيسة نقدم ذبيحتنا عليه. وذلك بناءً على كلامه ووصيته. وبسبب استمرار قيام سرّ الليتورجيا في السماء حول المسيح نفسه المصلوب والمذبوح على الدوام لخلاص البشر فليس هناك سوى مذبح واحد في العالم هو المسيح. كل المذابح المسيحية في الدنيا هي في الحقيقة مذبح واحد، هو المذبح السماوي، هو المسيح. والمذابح الأرضية تشترك بصورة سرية بسر المسيح الجاري في السماء. وليس في الحقيقة سوى كاهن واحد هو المسيح، لأنه يقرب أمام الآب من دون انقطاع الإفخارستيا الوحيدة التي هي هو. وهكذا فإننا بالليتورجيا السماوية فقط نفهم ليتورجيا الكنيسة على الأرض.
أما اشتراك كل المذابح المتعددة في المذبح الوحيد فيتم بواسطة الكهنوت الكنسي. لقد وعدنا الرب بأنه لا يتركنا. فترك لنا نفسه. إن سر كنيسته هو بالضبط الاتحاد الذي لا ينفصم بين المسيح السماوي ووجودنا الأرضي. وقد حقق الرب هذا الأمر بصورة منظورة كليتورجيا. “خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي للعهد الجديد… اصنعوا هذا لذكري”. فكان عهد جديد وشعب جديد، شعب كهنوتي أيضاً وأكثر جدارة من شعب العهد القديم. وذلك لأنه على كل تلميذ أن يحمل صليبه (متى16: 24) وأن يشرب الكأس التي شربها المسيح (متى20: 22) وأن يحمل رسالته مبشراً بملكوت الله (لو9: 60) و(لو10: 1-16) وأن يشهد له حتى الموت (متى10: 17-42). كل الناس أبناء لله وملوك مسحاء. إنه يجعلنا كلنا كهنة معه لأن مسحة الروح المنسكبة على الرأس إنما تبلغ إلى كل أعضاء الجسد. كل عضو يشترك في المسحة لأنه عند انتمائه للكنيسة يدخل في الأسرار الثلاثة: المعمودية والميرون والشكر. فنصبح بتلك المسحة أمة كهنة وشعباً كهنوتياً (1 بط2: 5 و 9)؛ إن إيماننا هو حسب تعبير بولس الرسول بمثابة ذبيحة تنسكب (في 2: 17) وعطايانا “نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة”… (في4: 18) وأجسادنا وعبادتنا “ذبيحة حية مقدّسة” (رو12: 1). ذلك هو فحوى الكهنوت الملوكي الذي ينتمي إليه الشعب المؤمن.
غير أن الكنيسة هي أمة كهنة بالضبط وفقط لأن الرب قد سلّم إليها سر الشكر. فسر الشكر هو الذي “يصنع” الكنيسة كما أن الكنيسة بدورها “تصنع” سر الشكر. إن سر الشكر يصنع الكنيسة لأن سرها الأساسي، سر كيانها، هو سر حضور المسيح فيها، سر ذبيحة المحبة التي توحد الشعب. إنه السر الذي يخلق الكنيسة لأنه يجمع كل الذين يشتركون فيه ويجعلهم واحداً. والكنيسة بدورها تصنع سر الشكر لأنها هي التي تقيمه وتقرِّب القربان والذبيحة وليس أي كان وفي أي مكان. وهي تقيمه طاعة لأمر الرب الذي اختار له رسلاً وأوصاهم وخلفاءهم من بعدهم أن يقيموه. وبالتالي فإن هناك، إلى جانب الكهنوت الملوكي العام المشار إليه أعلاه، كهنوتاً خاصاً لإقامة سر الشكر، كهنوتاً “سرياً” sacramental. وذلك لأننا جميعاً سائرون نحو المقدّس السماوي، وسر الشكر يرافقنا في مسيرتنا هذه. الكنيسة كنيسة سائرة وسر الشكر هو الذي يشير إلى الطريق: “فأنتم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء” (1 كو11: 26). إن سر الشكر “يخبر بمجيء الرب” والكهنوت الذي يقيمه هو بالتالي كهنوت “سري” sacramental أي أنه “يحضر” المسيح بصورة سرية.
إن الكنيسة المسيحية مؤسسة على رسل المسيح وهي تؤلف من بعدهم جسد المسيح أي جماعة الذين يحيون حياتها بواسطة الأسرار والمناولة المقدّسة التي سلمها إليهم السيد المسيح. لقد اختار السيد اثني عشر تلميذاً سلم إليهم تعليمه وسلطانه ووصيته بإقامة الأسرار من أجل مد حضوره وذبيحته في العالم. إننا نرى أساس الكنيسة ممثلاً في سفر الرؤيا باثني عشر حجراً هم الرسل الاثنا عشر. فالكنيسة “رسولية” تحافظ على تعليم الرسل وعلى خلافتهم غير المنقطعة حتى الآن وتمدها بواسطة وضع الأيادي[10]. وقد ورد في الرسالة إلى العبرانيين وصف لكنيسة العهد الجديد بإزاء كنيسة العهد القديم يقول: “لأنكم لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار وإلى ضباب وظلام وزوبعة وهتاف بوق… حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد، بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية… وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات وفي الله ديّان الجميع وفي أرواح أبرار مكملين وإلى وسيط العهد الجديد يسوع وإلى دم رش يتكلم أفضل من هابيل” (عب12: 18-24)…
إلا أن كهنوت الكهنة الخاص ليس من شأنه بحدِّ ذاته أن يجعل منهم مسيحيين “أرقى” من غيرهم أو أفضل بل هو بالعكس مدعاة لمسؤولية أعظم إذ أنه وظيفة أخص لأجل خدمة أسمى. “كهنوت خدمة” فليس هناك درجتان أو فئتان في الانتماء للمسيح، بمعنى أن الكهنة لا يؤلفون طبقة خاصة ذات حقوق أو امتيازات. ولكن من جهة ثانية ينبغي الاحتراس من الضلالة الأخرى التي تزعم بأن كهنوت الكهنة إنما هو صادر وناجم عن الشعب وتفويض الشعب وحسب ولا يستمد سلطانه من المسيح. كلا بل يسوع وحده يستطيع أن يجعل الكاهن كاهناً، أن يعطي الكهنة سلطان ما يصنعه الكاهن كل يوم في الكنيسة. لا يستمد الكاهن كهنوته من سلطة بشرية وإلا فإننا نعود إلى الوراء حتى بالنسبة للعهد القديم. فالسلطان عمودي هنا وليس أفقياً، إذ لا يستطيع الشعب أن يُفوِّض أو يُوكِّل أو يُعطي سلطاناً ليس له. إن الكاهن الذي يقرِّب الذبيحة لا يمثل الحاضرين المشتركين في الذبيحة فقط بل يمثل المسيح أيضاً. لا شك إن في صلوات الليتورجيا قسطاً كبيراً يعود للشعب كالطلبات وما إليها، والكاهن في تلاوته لها هو لسان حال الشعب. ولكنه في الأعمال المتعلقة بإجراء السر وتحويل المقدَّسات إلى جسد الرب ودمه الكريمين هو يقيم أولاً “خدمة الرب”، خدمة العبادة التي يقرِّبها الرب نفسه. فالكاهن هو خادم للمسيح أولاً وممثل للمسيح بالدرجة الأولى. إنه يُكهن “في المسيح” (en Christo). وهو وحده يستطيع أن يقول: هذا هو “جسدي” (نحن نقول هذا هو “جسد الرب”). إن الذين يختارهم للكهنوت يحققون في الكنيسة استمرار الخلافة الرسولية التي إنما تمثل الأسقفية سرها: سر رسولية الكنيسة. “فحيث الأسقف هناك الكنيسة” كما يقول القديس أغناطيوس الأنطاكي. في الكنيسة مذبح واحد، وأسقف واحد، وجسد واحد، وكأس واحد… ولكن الأسقفية بالإضافة إلى تأمين استمرار الخلافة الرسولية تحفظ أيضاً تعليم الكنيسة، أي العقيدة الصحيحة التي هي شرط الملء والحياة: “فالمحبة الكبرى والفضلى تبقى الحقيقة”. وشرعة الإيمان هي أساس شرعة الصلاة وإقامة الطقوس (lex credendi lex orandi). إن العلاقة الصحيحة بين كهنوت الشعب وكهنوت الكهنة علاقة “هيرارخية” تسلسلية وهي لا تنكر الوحدة القائمة بين الفئتين. يقول القديس ديونيسيوس الأريوباغي: “المسيح في الليتورجيا هو واحد للجميع ولكن الأسقف يعطيه للكهنة والكهنة يعطونه بدورهم للشعب” إنها هيرارخية الإعلان الإلهي التدريجي[11].
2-دعوة وإرسال: الخدمة الرسولية في الكهنوت
لقد تحقق قصد الله عندما أتمّ المسيح ذبيحته وصار “كل شيء جديداً” (رؤ21: 5) بعد القيامة. والكهنوت إذ يمدُّ ذبيحة المسيح وقيامته هو عيد دائم: عيد جدة الفصح. إن الكاهن في الحقيقة يقيم باستمرار فصح الرب، الفصح الذي يجدد الحياة حولنا وفينا على الدوام. ليس من كهنوت إذن خارج المسيح الذي قام من بين الأموات، وكل كهنوت يستمد قوته وحقيقته من كهنوت المسيح. هذا هو سر الكنيسة. إنها “تتألف” حول هذا الكهنوت. إنها بمثابة وضع أو حالة ليتورجية، موجودة وكائنة بارتباطها واتحادها بحياة المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات. بل يمكن القول أن الكنيسة هي ليتورجيا دائمة، وذلك على صورة رئيسها ومؤسسها الذي هو في السماء في حالة ليتورجيا دائمة كما رأينا أعلاه. غاية الكهنوت بالنتيجة هي أن يفتح هذا العالم على الأبدية. وأن لا يقتصر وجود الإنسان على الأرض على ما في هذه الدنيا وحسب ويحرم من الحياة. “إن هيئة هذا العالم تزول”، وبدون الكهنوت الإنسان منذور أيضاً مع هذا العالم للفناء والموت. ولكن “الليتورجيا” قد تمّت. المسيح بذل نفسه فانفتح الزمن للأبدية أو بالحري انفتحت الأبدية على الزمن. والكاهن هو الإنسان الذي بنعمة المسيح يقف دوماً بين عالمين هما واحد في المسيح الذي “جمعهما” في ذاته. فانظروا ما أعظم سر الكنيسة وسر حياتنا فيها: نحن من هذا العالم وفي الوقت نفسه لسنا من هذا العالم. إننا نقرِّب الى الرب هذا العالم الذي هو له، وذلك في حالة أفخارستيا دائمة. ولأننا نقرِّب هذا العالم إليه فهو يرسل إلينا عالمه، العالم الإلهي، نعمة الروح القدس، أي نعمة الحياة الإلهية. عندما قال يسوع لتلاميذه “أنتم ملح الأرض” لم يكن يقصد ملحاً أخلاقياً، على نحو ظهور نخبة من الأدباء والحكماء لإصلاح العالم بمثالهم الصالح وما إلى ذلك، بل كان يعني ملحاً آخر بالكلية إذ أنه يمنح العالم الملح الحقيقي الذي هو الروح القدس. “لأن كل واحد يملَّح بنار”(مر9: 49). سيملح هذا العالم بالنار، هي نار الروح القدس. الملح العادي يحفظ الطعام من الفساد ويعطيه طعماً جاعلاً إياه قابلاً للأكل ولحفظ الحياة. والملح الذي يحفظ العالم من الفساد ويعطيه معنى هو الروح القدس الذي نناله مقابل ذبيحة الليتورجيا. لقد أحبنا الله أولاً، ونحن تجاوباً مع حبه نُعطي ذواتنا له في الليتورجيا فيعطينا هو ذاته: يعطينا روحه القدّوس وذلك بواسطة الكهنة. فالكاهن بالتالي يحمل رسالة بل يُجسد رسالة، إنه لا يمثل نفسه بل يمثل أعظم منه: إنه مبعوث من قبل آخر: هو رسول. إننا لا نستطيع أن نفهم دور الكهنوت في الكنيسة ما لم نعمق مفهومنا لمعنى الوظيفة الكهنوتية، ولوضع الكاهن على حقيقته، في أصوله ما وراء المنظور، أي في أعماق الله حيث جذور الكهنوت: الكاهن رسول الله. إننا بالكهنوت نعود لأحضان الثالوث الأقدس لأن الكاهن يقبل ويلبي دعوة تأتيه من قلب الثالوث وبها يمدُّ رسالة المسيح المبعوث إلى العالم من حضن الثالوث. هذا أساس خدمة الكاهن الرسولية وهذا معناها: إن لفظة رسول تحتمل معنيين: الأول يدلّ على نوع من همة ونشاط “رسوليين” ولكنه قد بدَّل المدلول الأصلي للكلمة وحطَّ من فحواها في وجدان الناس. فعبارة حياة “رسولية” أصبحت تعني حياة نشيطة، متّجهة نحو خدمة الآخرين. ليس هذا المدلول خطأ ولكنه يبقى جزئياً وخارجياً، كأن يقال مثلاً عن طبيب متفان مخلِّص أو عن مدرس أنه “رسول” أو أنه يتحلّى بروح “الرسولية”. فمن البديهي أن رسولية رسل المسيح تتجاوز هذا المعنى إذ أنهم يدعون رسلاً ليس لقيامهم بنشطات وخدمات شتى بل لقيامهم بأعمال قد أرسلهم آخر أعظم منهم لكي يعملوها. هذا أساس “الرسولية” وكنهها، لا ما نقوم به من خدمة إذ قد يستطيع أي إنسان أن يقوم بأية خدمة حتى بذل الذات دون أن يكون رسولاً. إن الرسولية تضفي معنى جديداً على أعمال الرسول لأن المسيح قال لرسله بعد القيامة: “كما أرسلني الآب أنا أرسلكم” (يو 20: 21). إن لفظة som ليست هنا للمقارنة والتشبه بل هي تعني أن الرسل يواصلون عمل المسيح المرسل من الآب إلى العالم، إذ أضاف يسوع وقال لهم: “خذوا الروح القدس” (يو20: 22)، روح الله. إن المسيح هو الرسول الأول، رسول الآب للعالم بمعنى مطلق وفريد إذ أن الرسول هنا -ولأول مرة- لا يمثل من أرسله وحسب بل هو عينه إياه. فيه كل حضرة المرسِل بكامل فعلها وقوتها، بل فيه كل المرسِل. هنا يكمن ربما قلب سر الكنيسة الأرضية إذ أن رسوليتها هي انعكاس وامتداد للرسولية التي في داخل الثالوث الأقدس. ففي الثالوث الأقدس الآب الساكن “في نور لا يدنى منه” (1 تي 6: 16) هو بحسب تعليم الآباء مصدر الثالوث أي لجة المحبة والخصب الدائم والحضرة الغنية القصوى حتى أن اللامنظور الأول يعتلن مظهراً ذاته في الأقنومين الآخرين: “من رأني فقد رأى الآب” يقول المسيح (يو13: 9). إن إرسال الآب للابن ناتج عما في داخل الحياة الإلهية من ألفة حميمة جوهرية قصوى. في حياة الله الأكثر داخلية وسرية، خروج من الذات بدافع المحبة. فالله الآب الأزلي يلد أزلياً ابناً أزلياً هو صورة الآب الكاملة. إنه “كلمة” الآب يحمل في ذاته كل ما للآب. أما الآب الذي لا يحتفظ لنفسه بشيء يعطي الابن أيضاً تلك الإمكانية اللامحدود من المحبة. فمحبة الله هذه تستقر في الابن والابن يرتضيها. ولكنه أيضاً لا يحتفظ بها لنفسه (دون أن “يحتسبها اختلاساً”) فيسكبها بدوره داخل الثالوث حباً روحياً، يذهب نحو الروح، كفي دهش، فيتقبل الروح حب الآب للابن الواصل إليه ليرده بدوره للآب… غير أن هذا الفيض من الحب ضمن الثالوث يفيض إلى الخارج إذا جاز القول. فالحب بطبيعته لا يحدُّ بل يعبر عن ذاته تلقائياً حتى وإن في صمت. “الله سكوت” حسب قول المعلم أكهرت، ومن لجة السكوت هذه نبع الكلام. هكذا نور البرق قبل أن يضيء يكمن في السحب السوداء. وبقدر ما يكون التعبير عن المحبة متواضعاً تكون المحبة أقوى. فكان تعبير محبة الله التجسد والصليب بعُريه. المحبة لا تستطيع أن “تنفخ” بل تعرف بالعكس أن تبقى داخل القلب، في ذلك الصغر الحميم. الله اللامحصور يصير بدافع حبه محصوراً وقابلاً للحصر. إن بعض الآباء تكلموا في تأملهم في تدبير الله عن “انتزاع” الابن من الثالوث. إن كلمة الله يُنتزع من أحضان الثالوث، يخرج من حضن الآب إلى حضن العذراء. إذ وَجَد على الأرض تواضعاً قادراً على أن يسعه. والحقيقة أنه ليس تواضعاً ولا كبرياء بل هو تسليم. وهذه أولى صفات الرسولية وشروطها: حالة التسليم الكامل لله حتى يستطيع الله أن يأتي: فأتى المسيح إلى العالم كرسول الآب. وبذل ذاته عن البشر طاعة للآب وبهذا عَبَرَ اللجة التي تفصل بين الله وخليقته وملأها، فوجدت الخليقة فيه حضور خالقها، حضوراً محيياً وممجداً. وهذه الحضرة الإلهية فينا حقيقية وأصلية لدرجة أن بولس الرسول يقول: “فإنْ كنا أبناء فنحن ورثة أيضاً، ورثة الله وارثون مع المسيح” (أنظر رو8: 14-17). نحن ورثة بالتبنّي. أما المشترِك بالطبيعة في إرث الآب ومجده فيدعى أولاً رسول الآب وهو يدعو بدوره أناساً ليكونوا رسلاً له كما هو رسول الآب.
إن هذه الدعوة يدعوها الله منذ البدء. “من أرسل ؟” يقول الله في (أش6: 8). يدعو فيجيب أشعياء: “هائنذا فأرسلني”: إنها سرعة التلبية، وذلك على منوال إبراهيم أبي المؤمنين عندما قال له الله: “يا إبراهيم” فأجاب هائنذا فطلب إليه أن يُصعِد ابنه اسحق محرقة (تك22: 1 و2). أما الآن فقد جاء المسيح وأرسل أولاً الاثني عشر رسولاً الذين دعاهم دعوة فريدة خاصة. اضطرهم تقريباً إلى ترك حياتهم السابقة قائلاً لهم: “اتركوا شباككم فأجعلكم صيادي الناس…”. أما هم فسيرسلون بدورهم رسلاً بعد أن يمنحوهم نعمة الآب بوضع الأيدي فيبثوا فيهم كل معرفتهم وتسليمهم واضطرام إيمانهم.. وهكذا كانت الكنيسة “رسولية”. ولكن هؤلاء الرسل الأخيرين لا يمثلون الرسل الاثني عشر تمثيلاً خارجياً بشرياً وحسب. ليسوا رسل أناس لأناس ولا رسلاً كيفما اتفق بل بقوة المسيح بفعل الروح القدس نفسه، الأقنوم الخفي في الثالوث الأقدس. الروح القدس لا يظهر ذاته بل يحي وراء الإنسان ويحييه من الداخل على منوال إحياء النفس للجسد، إذ نحس بأننا واحد لا نفس وجسد. بالروح القدس يصبح الإنسان “روحياً” وذلك دون أن يشعر: أنه سر سكنى الروح فينا منذ المعمودية، أو منذ السيامة الكهنوتية: يحل فينا ليجعل منا رسلاً لله. هو الذي يصلي فينا، ويئن أو يتكلم. وبالتالي الإنسان غير مهم هنا. الإنسان مهم بقدر عدم أهميته، أعني بقدر ما يعرف أن يمحي ويتخلى عن ذاته ليفسح مكاناً للآب. إن الاثني عشر رسولاً كانوا شهوداً للرب حتى النهاية، حتى الموت. الكنيسة مبنية على “الرسل” ولكنهم أيضاً شهداء. بل من مقومات الرسول أن يكون شهيداً. فقد أرسلهم الرب “كخراف وسط ذئاب” (متى10: 16). وهم يشهدون لا بكلامهم أولاً بل بكيانهم المملوء ممن يشهدون له: الله هو الذي يشهد للسر فيهم وموت الشهادة ذروة وتتويج للحب وحسب…”ليس من حب أعظم من أن يبذل المرء نفسه عن أحبائه” (يو15: 33): بهذه البساطة. فالكنيسة بالنتيجة لم تنتصر عن طريق الكرازة الشفهية بل عن طريق الدم المهراق ثمناً للظفر: “الكنيسة التي اشتريتها بدمك الكريم” (نشيد كنسي). وانسكاب دم الشهداء هو مواصلة وامتداد لانسكاب دم المسيح، لأن دم المسيح فينا، نأخذه في سري المعمودية والشكر، وعندما نستشهد نسكب دم المسيح. وقد قال ترتوليانس: “كلما قتلتم أناساً منا كلما ازددنا وانتشرنا لأن دم الشهداء هو بمثابة زرع…” فالراهب راهب لأنه يعتنق الصليب لا ككلام بل كأداة تحويل كياني. يروى أنه لما بلغ المبشرون المسيحيون إلى سويسرا في القرن الثاني كان أحدهم “وقد أصبح أول شهيد وقديس فيها” يردد أمام الشعب إن الفرح الأعظم هو أن يموت الإنسان من أجل المسيح فقتله الشعب إرضاء له وتلبية لرغبته.. ثم تأثروا بشهادته واهتدوا إلى الإيمان بالمسيح.. ما هو كنه شهادة الرسل للرب أمام الناس؟ هو الشهادة لحياته على الأرض بل الشهادة لقيامته، بأنه قام من بين الأموات. وهذه القيامة التي يشهدون لها ليست أمراً عاماً مجرداً بل هي قيامة شخص معين، قيامة واحد من الناس هو المسيح. لما ظهر الرب لبولس على طريق دمشق قال له: “أنا يسوع الذي أنت تضطهده”. فعاين بولس الرب القائم من بين الأموات ومنذ تلك اللحظة صار رسولاً. والكاهن الذي هو أحد رسل المسيح يكمن سره كله في أنه يحيا في ألفة المسيح القائم من بين الأموات. إنه يشهد للمسيح عن طريق حياته الصميمية مع المسيح المنبعث من الموت. وعندئذ يتحقق القول: “الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني” (لو10: 16). ذبيحة المسيح قد ولدت الكاهن وهو مدعو لأن يكمل تلك الذبيحة. إنه يرفع بيديه القرابين المقدّسة التي هي تقدمات الكنيسة وفي الوقت نفسه هبة الله أي روحه القدوس، وهكذا يكمل “الرسالة” بصيرورته رسولاً للآب وللابن وللرسل أي أن رسالته هي استمرار مباشر لرسالة الابن والرسل، والتي هي خدمة المجد الأخروي الأبدي (أنظر2كو3: 7-11).
غير أن التناقض الأخير هو الكاهن في خدمة لذلك المجد الإلهي الذي خبر عنه الابن الآتي من حضن الآب وأعلنه بذبيحته وقيامته يواصل باتضاع سكبه ونشره سرياً في العالم. إنه مجد خفي لا يعرفه العالم. ولكنه يسطع من وقت لآخر إذ هو في العالم. فنشعر حينذاك “بالسلام الذي يفوق كل عقل”، سلام “السبت”، يوم الراحة، سلام “اليوم الثامن”. إننا نعاين بالإيمان منذ الآن في لحظات النعمة مجد سكنانا المقبلة مع الآب. وهذا هو فرح الكاهن العميق. ولكن هذا هو أيضاً صليبه، إذ الفرح والصليب لا ينفصلان إلى الأبد. إن الكاهن لا يستطيع أن يستولي على تلك القوة وذلك المجد، بل هو دائماً مرذول ومضطهد، يسلَّم للموت لكي تعطى الحياة للناس، إذ له هذا الكنز في إناء خزفي ليكون فضل القوة لله لا منه، مكتئباً في كل شيء لكن غير متضايق، متحيراً لكن غير يائس، مضطَهداً لكن غير متروك، مطروحاً لكن غير هالك، حاملاً في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع… (أنظر2 كو4: 7-12). ذلك هو سر “الرسولية”، سر الله..
3-روح وحياة: سر الكهنوت والحياة الداخلية
نصل الآن إلى وجه آخر من أوجه الملكوت، إلى وجه عميق وقريب منا نفهم معه حقَّ الفهم روحانية الكهنوت والكاهن: فرحة وتضحيته، كرامته وهزالته، خدمته وأبعادها…
أ-ثمار كهنوت المسيح هي الروح والحياة
لقد أعطانا المسيح الروح، ولم يكن هذا العطاء الإلهي الأخير سوى ثمرة ذبيحة المسيح على الصليب، أي ثمرة كهنوت المسيح: “إن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجِد بعد” (يو7: 39): أي أنه لم يكن قد صلب بعد: “أتت الساعة، مَجِد ابنك” (يو17: 1). ولقد تمّ هذا الكشف الأخير عن ألفة الله مع الناس من خلال جسد المسيح على الصليب. كان المسيح مملوءاً من الروح. فكل كلمة من كلماته كان يقولها بالروح وكل عمل من أعماله كان يعمله في “الروح”، وذلك طبيعياً: لقد نال “مسحة” الروح منذ تجسده. إن “المسحة” وردت في العهد القديم بمثابة علامة لكرامة جديدة تنسكب على الرأس ومنه على كل الكيان فالدهن الذي يمسح به المرء ينسكب عليه وهذا رسم لقوة الروح السرية أعني الانسكاب والانسياب والتغلل.. أما الآن فنرى الروح لأول مرة في كل ملئه في جسد المسيح. لم يكن الروح قبلاً في ملئه في العالم (بعد الخطيئة الجدية) إذ لم يكن هناك كائن نقي وشفاف، مطواع ومتواضع يستطيع أن يستقر فيه الروح. كان الروح يعمل من الخارج وبطريقة عنيفة أحياناً إذ يضطر خدام الرب إلى العمل بوحيه رغماً عنهم. فالخطيئة في الأساس هي “ضد الروح”، ولذلك نتيجتها الموت. لقد تقسّى آدم ضد الله واختار ذاته عوض خالقه، فانسحب الروح. أما الروح المنسحق “فلا يرذله الله” (مز50: 17). هناك في العهد القديم رسوم “ظلِّية” للروح: مثال مرنم المزمور الخمسين ومثال “عبد يهوه” المنسحق في سفر أشعياء (الإصحاح 53). فالروح ثمرة الانسحاق وانكار الذات والتخلي عنها ولذا هو ثمرة الصليب. فقد انسحب قديماً لما أراد آدم الأول أن يرفع نفسه متعظماً، ثمّ عاد فأتى لما وضع نفسه يسوع آدم الجديد. اتضع طوعاً حتى موت الصليب فأفاض الروح. إن الروح والتواضع كما نرى متلازمان على الدوام.
ب- إن ثمر كهنوت المسيح السماوي أيضاً هو الروح
بعد ما قال الرب يسوع في انسحاق أقصى وأخير: “أنا عطشان” وأعطوه خلاً ليشرب (والخل عكس ما يروي العطش) قال: “قد أكمل ونكس رأسه وأسلم الروح” (يو19: 28-30) لفظ النفس الأخير الذي يسبق انسكاب الروح. فقد أسلم روحه للآب الذي منه ينبثق الروح. أما جسده (وهذا يبقى سراً) فقد قام من بين الأموات مليئاً بالروح وصعد بمجد إلى السماء. وهذا الصعود المجيد هو الاستمرار والتكملة المباشرة للانسحاق وإفراغ الذات على الصليب. إن مجد يسوع يبدأ عند كمال انسحاقه. الصليب والصعود متداخلان: “وأنا متى ارتفعت عن الأرض جذبت إليّ الجميع” (يو12: 32). فإن أقصى التنازل والاتضاع يؤول إلى أقصى التمجيد. إننا هنا أمام حقيقة من نار وهي أنه منذ أن “صعد” الرب إلى السماء (بحسب مفهومنا الأرضي وتعبيرنا) ببشريته الممجدة تمّ السر الكبير فصار “المقرِب (بكسر الراء) والمقرَب (بفتح الراء)” وبدأ كهنوته السماوي أعني عمل الذبح السري المستيكي “دونما ألم جسدي”. ففي مجده يتشفع بنا متعطفاً، وآلامنا كلها فيه ليست بعد بشرية فقط بل إلهية وبشرية. المسيح هناك في السماء لأنه صعد ولكنه هنا أيضاً لأنه بكهنوته السماوي أرسل لنا روحه. وهكذا نفهم قوله إلى تلاميذه قبل الآلام: “خير لكم أن أنطلق” (يو16: 7)، “لقد ملأ الحزن قلوبكم” (يو16: 6) “ولكن إن كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني ذاهب إلى الآب” (يو16: 16)، وإن انطلقت أرسل اليكم المعزي (أنظر يو16: 7). وهذا الروح “يشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها” (1 بط1: 11). فالروح إذن استمرار للرب، إنه يمده إلينا، يبقيه حاضراً، بل يجعله حاضراً حضوراً أكثر حقيقة وألفة من حضوره السابق في الجسد. يمكن القول إنه منذ صعود الرب وانحدار الروح صارت حضرة الرب أكمل وأنقى من حضرته أثناء حياته على الأرض وذلك لأن الروح الذي فينا الآن يجعلنا نطلب المسيح حيث يجب أن نطلبه أعني فوق، في السموات جالساً مع الآب (وليس مادياً وعالمياً). “طوبى للذين لم يروا وآمنوا” (يو20: 29) وذلك لأن إيمانهم أنقى، إذ ليس هو مبنياً على براهين حسية تبقيني هنا على الأرض بل هو إيمان من نوع آخر يتجاوز الإيمان نفسه. وحينئذ ذلك الإيمان “يغلب العالم” (1 يو5: 5). “من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ” (يو7: 38) الذي هو الروح القدس. ولذا فالأفضل لكم أن أنطلق. ولذا لا تضطرب قلوبكم.. بالروح القدس يدخلنا الرب في وضع جديد، في وضع من القوة والنور والحضرة الجديدة…
ج-الروح استمرار للمسيح بيننا
“أما الرب فهو الروح” (2 كو3: 17). والروح هو الذي يعطينا المسيح إذ “لا يقدر أحد أن يقول أن يسوع رب إلا بالروح القدس” (1 كو: 3): أما حضور الرب هذا بالروح فهو أولاً في الكنيسة حضرة بواسطة الأسرار المقدّسة. إنها حضرة بشرية وإلهية في آن واحد على مثال الرب نفسه. ففي الكنيسة (كما هو واضح) واقع إنساني منظور لأن الكنيسة قائمة من أجل الخطأة ومع الخطأة. ولكنها تغلب الخطيئة لأنها تقتني روح الرب. لقد تأسست يوم الصعود: عندما عاين الرب الكنيسة قد ائتلفت على الأرض فصعد إلى السماء، ثمّ يوم العنصرة: عندما نزل الروح ليوحد جسد المسيح الجديد هذا ويؤلهه فألف من البشرية الكنيسة. فكما كان الروح يستقر في المسيح فهو يستقر الآن في الناس في جماعة الكنيسة، ولذا فالكنيسة هي سر بل هي محل الأسرار، هي السر الأصلي والأول. يقول القديس لاون الكبير: “إن ما كان في المسيح جسدياً هو قائم الآن في الأسرار الكنسية”. ويقول كبازيلاس: “الأسرار الكنسية هي الطريق الذي رسمه الرب والباب الذي فتحه بمجيئه، ولما عاد إلى الآب لم يغلقه بل بمروره فيه أعده للناس. بل المسيح هو بيننا بروحه كل الأيام إلى انقضاء الدهر، وذلك تتميماً لوعده وأمانة له”. فالروح هو ختم وعد المسيح.
د-الروح هو الذي يُجري عرس الحمل والعروس
هو الذي “يرتب” العرس فيفرح العريس. في سفر الرؤيا نشاهد عرس الحمل المذبوح (رؤ4 و5): إنه بالتالي عرس الذبيحة، عرس حب، “والخدر هو الصليب” على حدِّ قول الذهبي الفم. أما العروس فهي الكنيسة (وذلك بالمعنى المزدوج أعني جماعة الجسد الواحد، وأيضاً كل نفس شخصيّاً لأن كل منا هو الكنيسة: هي واحدة في كثيرين وكلها في كل واحد بصورة سرية). في أيقونة الشفاعة (يوم القيامة والدينونة العامة، حيث علامة الصليب هي المجد الذي يحيط بالمسيح، لأن المسيح “يدين” العالم في اللقاء الأخير النهائي بين الله والخليقة كونه ذُبح من أجل العالم) نرى يوحنا المعمدان “صديق العريس” واقفاً إلى جانب المسيح والعذراء: فمقابل العذراء التي تمثل الخصب الكامل وتحقيق ملء الكيان بالاتحاد الكلي مع الله، يوحنا يمثل العري الكامل وهو الذي “ينقص” ويتوارى أمام الإله الآتي مع أنه الصديق الأليف. فدوره فريد، يمثل الصورة الأخرى للشفاعة في التخلي والتواري (إنه صورة الراهب المنسحق المسكين يشفع بالكنيسة منطبقاً مع الروح).
هـ-عمل الروح في الحياة الشخصية، داخل هيكل القلب (في الكنيسة بمعنى كل شخص)
ليس للروح في عمله هذا أسم نسميه به من أسماء البشر: إننا لا نعرف من أين يأتي وهو يهبُّ حيث يشاء (يو3: 8). فالله هو روح (يو4: 24) أي أنه لا يُمسك ولا يُضبط. وتلك الحرية هي حرية الرب نفسه، حرية العطاء الكامل، حرية عشقية يعطي الله ذاته بموجبها للإنسان عطاء أخيراً، عطاءً عميقاً لدرجة أن الله في الروح وبالروح ينطبق مع من يتقبل العطية، الله يمحي وراء عطيته الروحية. ولذا فالروح مقيم دائما في شخص آخر ومن هناك يغيره، من الداخل فقط. إننا بالروح نحيا وبه نعرف وبه نحتفل ونبتهج بالرب. “وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم” (يو14: 17). إن روح الله يزور روح الإنسان ويسكن فيه فيتجدد: “أن تتجددوا بروح ذهنكم” (أفسس4: 23)، (رو8: 16) أي يتّحد مع روحنا ليشهد، “ويشفع فينا بأنات لا ينطق بها”” (رو8: 26)، “وبه نصرخ يا أبا الآب” (رو8: 15)، لأن “من التصق بالرب فهو روح واحد” (1 كو6: 17). وذلك الالتصاق هو التصاق كلي لدرجة أننا لا نعود نفرق بين روح الله وروح الإنسان فينا، فيحتار المفسرون مثلاً في تفسير العبارة “حارين بالروح” في الرسالة إلى أهل رومية (رو12: 11) أو العبارة الواردة في الرسالة الثانية إلى أهل كورونثوس: “نظهر أنفسنا كخدام الله.. في الروح القدس” (2 كو6: 6).. ولذا ينبغي علينا أن نميز الأرواح وألا نطفئ روح الله فينا. إذ هناك أرواح تقاوم الروح، تقاوم حرارته ومحبته.. فتطفئه. في حين أن كل طريق الإنسان الروحي يمر بالروح لا محالة. من البديهي أن الإنسان الروحي ينمو بالروح علماً بأن عمل الروح فينا عمل رقيق كل الرقة، فعلينا أن نقابله بثقة واستسلام واطمئنان لكيما نولد بالروح. هكذا تتم ولادة الإنسان الروحي في الكنيسة، أي بالنتيجة ولادة الكنيسة، ولادة الروح في الكنيسة (إن دعوة الراهب هنا أيضاً تجد لها مكاناً إذ عليه أن يكون متشحاً بالصليب ومن خلاله بالله، حاملاً الصليب وحاملاً روح الله).
و- عمل الروح في جماعة الكنيسة
الكنيسة تولد بالروح، ومن خلالها تتم ولادة البشرية الجديدة التي أشار إليها الرب يسوع في حديثه مع نيقوديموس (يو 3: 1-8). عند خلق البشرية في البدء نفخ الله من روحه في آدم. أما مجيء الرب يسوع آدم الثاني فالروح يأتي ويحي لا إنساناً فرداً بل البشر كجماعة، وذلك على الدوام وإلى الأبد. إن الروح يحقق عمله التوحيدي هذا في الكنيسة لأنه يحولنا فيها إلى المسيح فنصير فيه جسداً واحداً وروحاً واحداً (أفسس4: 4). إن المسيحي الذي يسكن فيه الروح يكون متّحداً مع كل الناس، لا يستطيع أن يبغض أحداً ولا أن يفصل ذاته عن أحد ولا أن يحتقر أحد.. إن إحساسنا بمشاعر البغض وأمثاله في سياق نضالنا الروحي ضد الأهواء لا يؤلف بحد ذاته خطيئة بل يعني بالعكس أننا في طريق التغلب عليها، نحن في مسيرتنا نتغير إلى صورة الرب “كما من الرب الروح” (2 كو3: 18). فهذا التغيير هو من مواهب الروح. والروح في عمله هذا يتطابق من الداخل مع مختلف مواهب الطبيعة ليجعلها فائقة الطبيعة، وبذا تسهم بأجمعها في بناء ملء جسد المسيح. وليس كل ما يتقلده الكاهن بكهنوته سوى خدمة الروح هذه بغية إبقاء حضور الرب في الكنيسة، وذلك بواسطة الأسرار المقدّسة، والكرازة، وحضرة الإنسان الجديد، بالروح المحيي الذي يجب أن يكون فاعلاً فيه. وهذا هو بالضبط معنى وضع الأيدي على الكاهن عند سيامته: دعوة للحياة بالروح لأجل خدمة الروح. فالكاهن يتولى خدمة الروح في علامة بركة وتكريس على منوال وضع الأيادي على الكبش في ذبائح العهد القديم بغية جعل الخطيئة في الكبش. إنها علامة توحيد الكاهن مع المسيح الرافع خطيئة العالم، إذ نحن “مسحاء”، وأيضاً علامة امتلاك الروح للكاهن وقد أصبح هذا أداة له: “ويضعون أيديهم على المرضى فيتعافون” (مر16: 18) كما وضع حنانيا يده على شاول لكي يبصر (أعمال9: 12) وبولس على أبي بوبليوس مقدم جزيرة مالطة فشفاه (أع28: 8).
Afsnit 2: Gudstjeneste
En præst er en tjener i kirken. Han er i kirken og tjener kirken. Dette skyldes, at kirken er en tjenesteinstitution, da dens grundlægger ønskede det på den måde, levede den på den måde og grundlagde den på den måde ifølge hans eksempel. Menneskesønnen kom for at "tjene"... og Kirken, hans legeme, yder kun denne tjeneste til ham. Desuden er det en stor fristelse for Kirken at forvandle denne tjeneste, der er betroet hende, til en kilde til hendes rettigheder og privilegier... Og da Kirken i virkeligheden ofte falder menneskeligt ind i denne fristelse og af de simpleste formål, afviser verden det og vender sig væk fra det. Tjeneste er altså på samme tid årsagen til Kirkens eksistens, dens virkelighed og kilden til vanskeligheden ved fuldt ud at omfavne den i sin fylde: altså som en institution for tjeneste.
Hvad angår præsteembedet, er de to sager identiske, ligesom præsten er det for kirken: han er specifikt den, der tjener kirken og har viet sine kræfter, liv og væsen til den. Han lever for hende (forudsat at han ser hende i al hendes ophøjethed og styrke såvel som i virkeligheden af hendes menneskelige svagheder). På den anden side er han den, som kirken bruger til at tjene menneskeheden og verden i opfyldelse af Guds vilje "at synderen skal vende tilbage og leve" (Ezekiel 33:11).
Vi må her skelne mellem de to aspekter af præstens tjeneste ved at beskrive ham som et redskab for kirken: For det første er han et overnaturligt redskab, hvorigennem Helligånden udgydes. Floder af levende vand strømmer ud fra den hellige treenigheds arme og genopliver verden gennem præsten. Men samtidig skal vi ikke glemme, at han i denne tjeneste, der udføres gennem ham, forbliver et menneske af kød og blod, et menneske med selvfølelse og et væsen udsat for alle de såredes svagheder menneskelig natur, der stadig er på vej mod fuldstændig bedring og herlighed på den yderste dag... Dette er betingelsen for præstens tjeneste.
Lad os nu dykke dybere ned i begrebet betydningen af ordet "service". Verbet "tjener" er ikke et almindeligt trivielt begreb. Ja, det bruges ofte på alle sprog og i alle mulige situationer og omstændigheder, men det er et af de mest dybtgående ord i frelsens historie. Dette er fordi det blev helliget af Guds hensigt bag det, men snarere af tjenesten for Gud inkarneret. Hele historien om frelse og guddommelig åbenbaring kan udtrykkes inden for rammerne af tjeneste og inden for begrebet tjeneste. Man kan for eksempel sige, at frelsens hemmelighed er menneskets overgang fra en slavestilling til en tjenestestilling, fra en slave til en frivillig tjener, altså fra slaveri til frihed. Selv på det psykologiske plan er korset grundlaget for menneskets frelse. Det skyldes, at der i mennesket, uanset hvor uvidende det er om sig selv, er en modsætning og et skænderi mellem slaveri og frihed: Vi føler alle, at vi er trukket mellem de to, mellem en mystisk evne, der ønsker at underkaste os kræfter og magter. som er fremmede for os og i os på samme tid, og en tendens, der presser os til at blive os selv, til at tilpasse os os selv, til at blive befriet. Denne eksistentielle strid i mennesket fandt ikke en løsning undtagen på Golgata-korset, Guds-menneskets, Jesu Kristi kors. Kun gennem hans kors var det muligt for en person, der var underlagt synd, som manglede sin frihed, sandhed og ånd og var tilbøjelig til slaveri, at blive befriet.
Hvad angår slaveri, er det af to typer: at være slaver eller at ønske, at andre skal slavebinde os. Enten bliver vi slaver, frihedsberøvet, kan lide materielle ting, og det er på grund af en lidenskab, der fanger os, eller på grund af materielle kræfter, der er stærkere end os, der får os til at miste vores identitet.[12]Kort sagt, ved vores accept og underkastelse til den kraft, der ønsker at underlægge os, hvad angår os, der ønsker at underlægge os vores næste og dominere ham, påtvinger vi ham slaveri i en eller anden form (enten gennem penge, socialt pres, kulturel overlegenhed, tyrannisk. lederskab osv.), og vi gør ham til en ting, og dermed bliver vi uden opmærksomhed fra os, slaver, til vores slaver, fordi den, der slavebinder andre, er den første, der bliver grebet af slaveriets ånd og bliver en fange af hans begær (svarende til lidenskabernes tragedie). Helt). Derfor spørger vi i syrerens Efrems bøn: "Befri mig Fra præsidentskabets kærlighed."
Det forstod vi først med Kristi komme. Mennesket var ikke tidligere i harmoni med sig selv, det var ikke frit, det var en slave ude af stand til at tjene, fordi tjeneste kun udføres i frihed, jeg mener i selvudgivelse, hengivenhed og lydighed. Vi ser en illustration af denne tjeneste i Det Gamle Testamente i udvandringen fra Egypten, da Gud befriede sit folk fra egyptisk slaveri for at gøre dem til sine tjenere. Gud accepterer ikke nogen tjenere undtagen frie og forløste mennesker. Men den, der tjener Gud, regerer med ham. En af teologerne siger: "Vær forsigtig, mand, for Gud accepterer ikke undtagen guderne i sit rige." Tjeneste gør os lig Gud og hans hjælpere, der sidder "på tolv troner ..." (Matt 19:28). Jesus lovede Peter dette, da Peter sagde til ham: "Se, vi har forladt alt og fulgt dig (for at tjene dig) hvad skal vi have?" Jesus svarede: "Du vil sidde hos mig..." Dette er meningen med tjeneste: at bidrage til Kristi rige og hans herlighed, inklusive korset. "Det, som Gud har forberedt for dem, der elsker ham, er aldrig kommet ind i menneskets hjerte" (1 Kor 2:9).
Så gennem Herren Jesus begynder vi at forstå, at tjeneste er deltagelse i Guds liv. Tjeneste er en handling af offer og lydighed, der er bedre end noget offer (1 Samuel 15:22). Siden Det Gamle Testamente begyndte de at forstå, at ydre materiel tjeneste ikke har nogen mening undtagen gennem indre offer og lydighed: "Jeg ønsker kærlighed (barmhjertighed), ikke offer" (Hoseas 6:6). At tjene Gud befrier os altså, det får os til at forstå, at Gud selv er friheden til at tjene og give fuldstændig af kærlighed, og at vi gennem denne tjeneste og kærlighed opnår os selv, og det er i forhold til, hvad vi giver og ikke i. forhold til, hvad vi tager, fordi "det er mere velsignet at give end at modtage" (ApG 20:35). Derfor finder vi i Guds ansigt "Memon", pengenes gud, i Jesu ordsprog: "Du kan ikke tjene to herrer" (Matt 6:24). Herren Gud er også repræsenteret ved penge som Herre, men mens vi i den levende Guds tjeneste bliver befriet, vokser vi, og vi opfyldes, fordi vi ikke er bange for at give os selv væk, tjene og ofre os selv med Gud til det sidste Vi er i Mamoons tjeneste og tilbeder et livløst idol, da jo mere vi erhverver, erhverver og forener vores forbindelse med landet, blev vi fanget og nødstedte i stedet for at blive befriet, udvidet og tiltaget.
Desuden er Kristus Guds første tjener, Guds "tjener" nævnt i Esajas' Bog (Esajas 52:13 og kapitel 53) Han er den, der kom "for at tjene og give sit liv som en løsesum for". mange” (Salme 10:45). "De, der anses for at være herskere over nationerne, hersker over dem, og deres store udøver myndighed over dem, sådan vil det ikke være blandt jer, men den, der vil være den første blandt jer, skal være alles træl" (Mark 10: 42-44), "Og den, der vil være stor blandt jer, skal være jeres tjener" (Matt 20:26). Guds rige er et rige af tjeneste, offer og offer: "Tag, spis dette er mit legeme... dette er mit blod, som udgydes for mange..." (Mark 14,22-24). "Jeg er iblandt jer som en, der tjener" (Luk 22:27). Herren gav os et eksempel på dette ved at vaske disciplenes fødder (Joh 13:3-5). Ikke alene opmuntrede han til gudstjenesten, men han udførte faktisk vask af fødderne umiddelbart før den sidste nadver, som var en forberedelse til det store offer. Der er en forbløffende dybde af guddommelig visdom og åbenbaring i denne hændelse, da Mesteren tager den enkleste og mest trivielle ting, "vaske fødder", og hæver det til niveauet for det største offer, hvilket gør det næsten til en slags eukaristi. Det betyder, at for at komme ind i præstetjenesten, skal vi altid igennem ydmyg tjeneste på måden at vaske fødder og forstå, at de små ting siden inkarnationen rummer Gud mere end de store. Eller rettere sagt, der er ikke flere små ting, for selvom de er små, gør de os i stand til at tjene Gud mere og bedre.
Sådan forstod og opfyldte apostlene deres budskab: som en tjeneste. Da de talte om Judas Iskariot efter hans afgang fra De Tolvs klasse, nævnte de, at han havde "del i denne tjeneste" (ApG 1:17). Da Matthias blev valgt til at erstatte ham, blev han udvalgt "til at påtage sig denne tjeneste og mission" (ApG 1:25). Hvad angår apostlen Paulus, taler han om "den tjeneste, som jeg modtog af Herren Jesus for at vidne om evangeliet om Guds nåde" (ApG 20:24) og om "alt, hvad Gud gjorde blandt nationerne gennem sin tjeneste" (Apostelgerninger 21:19). Han omtaler sig selv som Guds forsonings tjener (2 Kor 15:18) og som Kristi tjener (2 Kor 11:23). Dette er rammen og traditionen for tjeneste i Kirken fra begyndelsen. Vores tjeneste for Gud er den dybeste af alle ting. Det er lige så dybt som menneskets sandhed, fordi det er vejen for mennesket til at udvide sig og blomstre i sin sandhed gennem kærlighed, selvopgivelse og opofrelse, der fører til sejr og ære.
Hvad angår præsten, udfører han denne tjeneste ved at gå ind i kirken og indvie kirken til ham som et åndens redskab til at tjene den. Kirken her er ikke en abstrakt og imaginær ting, men derimod specifikke mennesker, et sogn, hvor præsten etablerer reelle forhold til mennesker af kød og blod. Vi forstår hele mysteriet om den guddommelige inkarnation herigennem, fordi alle disse sandheder og andre som dem er givet til os for at vide i små, umanifesterede ting, bag hvilke Gud er skjult. Apostlene kendte ham ikke, da han talte til dem efter opstandelsen, men han var til stede. Disciplene i Emmaus genkendte ham "ved brødets brydning" (Luk 24:35), som symboliserer og udtrykker fylden af hans præstelige tjeneste.
Præstens tjeneste i kirken foregår i tre aspekter eller niveauer:
1- I forbøn og mægling
Mediator-forbederen er den, der står i midten mellem to grupper, når dem og forsøger at bringe dem sammen ved at etablere enhed mellem dem. De to grupper her er Gud Skaberen og Mennesket Skaberen. Hvad angår Gud, er han i sit forhold til mennesket evigt trofast, men mennesket vendte sig bort fra Gud i den frihedstragedie, hvormed det blev skabt. Derfor havde Gud til hensigt at finde mæglere, mennesker mere kvalificerede end andre til at tale til ham og mægle med ham på vegne af den uretmæssige part. Disse mæglere, "det Gamle Testamentes fædre og profeter", var en repræsentation og skygge af den, der var ved at komme, som er Jesus, Guds søn, den eneste mægler, fordi de to sider blev forenet af ham og i ham i én person, både Gud og mennesker. Hans guddommelighed forenede sig med hans menneskelighed og accepterede den ydmygede menneskelige tilstand. Denne formidling af hans gik til enden, indtil korset, og antog således tilgangen til den ultimative tjeneste, ud over hvilken der ikke er nogen tjeneste, tjenesten for guddommelig kærlighed.
Hvad angår Jesus, valgte han fra begyndelsen af sin forkyndelse på jorden sine assistenter, som var apostlene (se det tiende kapitel i Matthæusevangeliet). Men deres mission var ikke begrænset til denne verden, og den var heller ikke begrænset til den, Herrens hjælpere er med ham, hvor han er, og de deler deres autoritet (Matt 28:18), og det, de mister på jorden, vil blive løst i himlen. (Matt 16:19 og Joh 20:23). Og i Åbenbaringens Bog, som er det himmelske præstedømmes bog (se det femte kapitel af), ser vi dem overvinde dem, der lider med ham og går i forbøn for andre og siger: "Hvor længe, O Herre, Hellige" (Åbenbaringen). 6:9-11). Dette er den formidlende præsts stilling i hans tjeneste for Kirken. Præsten er også et mellemled med Ånden i den forstand, at Ånden er den, der gør kirkens legeme til ét, og ved præsternes formidling giver, udgyder og bygger kirken. Præsten står på samme tid på Guds vegne og på folkets side Han repræsenterer folket for Gud og Gud for folket. Derfor er det "jordens salt", saltet, der forhindrer korruption i verden (det er blevet sagt, at den hellige præst laver de dydige mennesker, den dydige præst gør de ikke-onde mennesker og den ikke-onde præst gør de gudløse mennesker). Præsten er en mellemmand i at tjene sakramenterne og tilbyder dem til Gud på vegne af folket. Han er et vidne om Gud over for folket gennem sine ord, sit eksempel og sit liv. Præsten skal først tro på den religion, han tjener. Ellers går den rituelle tjeneste, som han udfører regelmæssigt, hvis den er begrænset til det ydre niveau, og han ikke "adopterer" den i sit liv, nadverens kraft ikke gennem den, selvom det er en reel og effektiv tjeneste. . Det er ikke så strålende som selve nadveren, så længe præsten modstår det og ikke hælder sin lydighed ind i det. Præsten viser sig altid for folket med det letteste ønske, "og uden hans vilje", hvilken gud han tjener: den levende Gud eller "Mammon" eller en anden Herre... Vi glemmer ikke, at vi er Kristi præster og Guds arvinger med ham (se Rom 8:14-17). Præsten er et levende billede på Faderens kærlighed til verden, fordi han er "udleveret" (med L'et understreget og åbnet) til mennesker som Kristus (af Faderen) for at formidle til dem Guds kærlighed: ikke bare enhver kærlighed ( abstrakt eller menneskelig kærlighed), men en aktiv, fungerende kærlighed, der føler menneskers vilkår og lider med dem, søger og søger at redde "det tabte" (Matt 18:11). Med ét ord skal præsten være Kristus i verden. Nej, præsten blev ikke kun salvet med Åndens salvelse for at sikre de ydre ritualer "det ville være en forfærdelig ting. I stedet er vi som præster indviet og indsat til Kristus, hans tjenere og udvalgte medlemmer." gennem hvem han giver sig selv til verden.. Det er naturligt for præsten i denne henseende at stå over for forskellige vanskeligheder, forhindringer og chok, fordi dette. Verden kværner stadig og forventer frelse.
Så lad os ikke glemme, at præsten også profet: Ikke i betydningen en, der forudsiger fremtiden, men derimod en, der forudsiger og forkynder Gud med et "råb" i ansigtet på folket, en, der taler til et døvt og ufølsomt folk, hvis hjerter er blevet forhærdede. I denne erklæring og råb søger han ikke sit eget gode og ære, men tjener blot. Den eneste sande profet er Kristus, i hvem profetierne åbenbarede deres hemmelighed. Da han viste sig, var han en profet af Faderens kærlighed til mennesker og en ydmyghedens profet, der udførte Guds Søns tjeneste, som kom til hans egne, og hans egne tog ikke imod ham, men han elskede dem til enden. Det betyder, at præsten, ligesom Kristus, altid vil kollidere med menneskers forstenede vaner og blindhed. Men mægleren er på trods af alt nødvendig for at forhindre åndens religion i at falde ind i materielle, sociale og ydre stereotyper. med eftertryk meme” den sande og levende kirke, så ånden ikke slukkes.
2- Accepter alle
Præstens tilgang til mennesker skal være inkluderende og omfatte alle, og kan ikke tolerere nogen afvisning fra nogens side. Dette skyldes, at præsten ikke tiltrækker folk til sig selv, men til dem, der repræsenterer og tjener ham. Det er ikke let som menneske ikke at afvise nogen, at acceptere alle uden at udelukke nogen, da vores utålmodighed og irritation hurtigt viser sig, når folk irriterer os. Præsten skal modtage alle med generøsitet og et åbent hjerte, blive et lys og finde sig til rette i ro, sindsro og gennemsigtighed over for mennesker (uden nogen som helst ligegyldighed). Ethvert menneske, vi møder, åbenbarer Gud for os, udtrykker Guds skabende hensigt Gud, hans Skaber, ville have ham til at være og kendte ham før verdens skabelse, og hvordan kan jeg afvise ham, på trods af min ærgrelse eller smerte fra ham? Præsten er ansvarlig i kirken Han er en Guds mand. Han ejer ikke længere sig selv, men Gud er for andre. Gud uddeler ved at "åbne hjertet" uden afbrydelse i eukaristien, og præsten skal også være et levende offer, i en position til at uddele og modtage til alle, i en tilstand af konstant "Amen". Ja, dette er ofte smertefuldt og udmattende, hvilket gør præsten stiv, men på trods af det, lad ham altid være selvsikker og beroliget og bryde sig selv ned i mod, tålmodighed og glæde for andre. At give sig selv er faktisk den bedste måde for en at forny og få sig selv på og omvendt. "Den, der vil miste sit liv, skal redde det, og den, der vil redde sit liv, skal miste det" (Matt 16,25)... Med denne omfattende accept og selvopgivelse til alle, når vi modenhed: den anden så nej længere skræmmer os, hans nærvær er ikke længere en kilde til angst og forvirring for os, men tværtimod bliver det en kilde til glæde. Så længe vi ikke har opnået dette, er vi endnu ikke "voksne" i Kristus. Så længe vi har arven fra frygt, tøven og mistillid foran mennesker, vil Kristi tjeneste ikke blive fuldført gennem os.
3- I korsfæstet kærlighed
Præstens tjeneste foregår altid, fra begyndelse til slut, i "korsfæstet kærlighed". At tjene mennesker betyder at leve efter kærlighed Gud er for mennesker, og denne vores kærlighed er korsfæstet, fordi dette er virkeligheden af vores tjeneste. Vi er korsfæstet for folks ligegyldighed og deres afvisning af at tjene os. Denne verdens synder afviser og modstår det, vi bærer i os fra oven, ikke fra os. Kristus blev korsfæstet, da han blev forkastet af dem, han elskede, og som han kom til: "Han kom til sine egne, men hans egne tog ikke imod ham" (Joh 1:11) Derudover blev han også korsfæstet fysisk... så vi kan ikke undslippe korsfæstelsen. "Hvis de forfulgte mig, vil de også forfølge jer" (Joh 15:20), "Tjeneren er ikke større end sin herre" (Joh 13:16). Ud over det, er vi også korsfæstet over vores svagheder, mangler og den korruption, der er i os, lad os overvinde dem, ikke ved at stræbe efter en teoretisk perfektion, som vi forestiller os i vores sind (en sådan perfektion findes ikke. Dette er. den sterile oplevelse af "perfektion"), men ved yderligere at tilbyde os selv som levende ofre, som vi er, på trods af vores fejl. Kristus betroede os alle til folket, og gennem os betroede han sig selv til dem.
Desuden skaber Gud børn til sig selv gennem vores korsfæstelse: "Mine børn, for jer arbejder jeg også med barsel, indtil Kristus er dannet i jer" (Galaterne 4:19), og gennem dette arbejde realiserer Kristus sig selv i kirken "som er Hans legeme, fylden af ham, som fylder alt i alle« (Ef 1:23). "Jeg glæder mig over mine lidelser for jer, og jeg opfylder i mit legeme, hvad der mangler i Kristi lidelser for hans legemes skyld, som er kirken" (Kolossenserne 1:24). Præsten i sin tjeneste er derfor i kamp og konflikt. Han ønsker at give mere, end hvad folk forventer af ham: ikke tegn og undere, men åndeligt faderskab. En præsts tjeneste er at føde børn for Gud. Han lider for sine børn og på grund af dem, ligesom han lider med dem i deres vækst som Guds børn.
Han er også en hyrde for sin hjord, og han får denne tjeneste fra den eneste hyrde, Herren Jesus Kristus. Han er som en hyrde, der går med sin hjord, hvor end han går, og hvad der end rammer dem, og deler sit livs omstændigheder. Han er både ledsageren og lederen, uden hvem flokken er spredt. Men hvis han er spredt, "vil han blive slået mange gange" (Luk 12:48).
Så vi må give vores liv i alt, hvad vi gør. En præsts tjeneste for kirken er at give sit liv til kirken. Han kan ikke føde liv uden at give sit liv. Men det mærkelige og vidunderlige er, at han ikke giver sit eget liv, men det er derimod Kristi liv, der gives og udgydes gennem ham. Jo mere vi ofrer os selv for Kristi kærlighed, jo mere vil Kristi liv sejre, som virker i Guds børn og genopliver dem, mens vi er hos dem til evigt liv.
Afsnit tre: At give sig selv (et levende offer)
إن حياة الكاهن الداخلية التي نتناولها في هذا القسم الثالث تحيي كهنوته كسر في الله (القسم الأول) وكخدمة في الكنيسة (القسم الثاني). إن الصعد الثلاثة تؤلف في الحقيقة وحدة حيّة ومتداخلة، وعلى هذا الأساس فقط تحيي حياة القلب سر الكهنوت في أصالته وسعته، وذلك على مثال سعة الليتورجيا التي تشمل الليتورجيا السماوية والكنسية والقلبية.
لقد رأينا أن الخدمة هي فعل عبادة بالنتيجة: سر اتحاد بالله وعودة إلى الآب. ونعلم أن كل خدمة ليتورجية هي بدورها حركة كبرى نعود بها إلى الآب وراء السيد المسيح. إن الكاهن في خدمته يدخل قدس الأقداس ولكن دون أن ينفصل عن الكنيسة المُسَلَّمة إليه والتي تسلمه هو إلى الله. ولهذه الحقيقة أوجه ثلاثة:
1-الصلاة والتجدّد الشخصي
إن الكاهن (ككل مسيحي ولكن بصورة أخص) يلتزم التجدّد الدائم، إذ عليه على مثال المسيح أن ينسكب بلا انقطاع ولا ينضب، مضحياً بذاته دون هوادة، وبالتالي أن يتجدّد دوماً لئلا يذبل ويذوي ويهترئ. ويجدر بنا أن نذكر هنا قول الكاهن في القداس الإلهي عند تجزئة القربان: “يجزأ ولا ينقسم، يوزع دائماً ولا يفرغ أبداً”. فالكاهن هو بمثابة قربان حي، على منوال المسيح، تكمن غلبته في كسره وتوزيعه وهي نتيجة وثمر لكسره وتوزيعه. فعليه إذن أن يدخل في سر التحديد هذا، أن يسكب باستمرار على مثال نهر ماء حي، وهو بقدر ما يُسكب يتجدّد ولنذكر أيضاً قول بولس الرسول إلى أهل كورنثوس: “… نُشتَمْ، فنبارك، نُضطهد فنحتمل، يُفترى علينا فنعظ…” (أنظر كل المقاطع في1 كو 4: 9-13)، وقوله إلى أهل فليبي: “وإني ولو أرقت دمي سكيباً على ذبيحة إيمانكم وخدمته أُسَرُ وأفرح معكم أجمعين” (فيل2: 17). إنه “سكيب” أي في حالة انسكاب متواصل، كمحرقة دائمة على مذبح إيمان رعيته. إن “دم” الكاهن، إي حياته وروحه، هو الذي يُراق على الدوام كذبيحة ليسقي إيمان الناس. وهذا التجدّد والانسكاب المطّرد علامة على أن الكاهن يحيا الخدمات التي يقيمها ويحيا منها ويقدم ما يحياه للآخرين.
إن في حياته “شدة”: هو مشدود بين واقعين أو قطبين. القطب الأول أن له “سلطاناً” على جسد المسيح ودمه الكريمين، يحمل بين يديه ذبيحة الجسد كله، الرأس والأعضاء معاً، متولياً من قبل الله خدمة “سرية” بصرف النظر عن أي فضل شخصي أو أهلية بشرية إذ يكهن ويغفر للناس خطاياهم لا باسمه هو بل باسم المسيح (En Christo, in persona Christi). فخدمته “تفعل” بحد ذاتها (ex opera operato)[13]، إنها وقائع رتبها الله بنعمته. إلا أن في ذلك نوراً عظيماً وفي الوقت نفسه خطراً للكاهن: خطراً بأن يؤول إلى نوع من “أوتوماتيكية” تنجم عن الاعتياد على السر، عن عادة البقاء خارج الطقوس دونما اشتراك داخلي حار فيها. إننا، شيئاً فشيئاً ودون أن نعي ذلك، نفقد الحرارة الداخلية، فننضب ولا نبلغ إلى تجسيد ما نمارسه ونمتهنه. ولذا فالقطب الثاني من “الشدة” في حياة الكاهن هو الصلاة، أعني ضرورة صلاته الشخصية: إن الصلاة “سر” بشري (un sacrament humain) بمعنى أنها تنقل إلينا نعمة الله من خلال عمل أو حركة روحية معظمها بشرية. إنها سر يفعل بقدر ما نتبناه ونتخذه ونحييه بحياتنا ودمنا وروحنا. فيجب بالتالي عدم إهمال الصلاة الشخصية بداعي قيام الصلاة الليتورجية. هذا ولا نخجلن من أن نصلي الصلاة الليتورجية بصورة شخصية ونحياها بالفعل كصلاة ثقة وشكر وتوسط وأنين.
فمن المهم أولاً أن تعبِّر صلاة الكاهن تعبيراً جلياً عن ثقته وإيمانه بالله. نحن في وضع ألفة حميمة مع سر الإله الحيّ المتسامي والبعيد عن كل ألفة. إن الله يريدنا “أليفين” وإياه كوننا من عائلته وبيته، من أبناء البيت. الله يريدنا أن نبلغ حالة دائمة من الألفة والدالة لديه: “أن نجسر بدالة وندعوك آبا غير مدينين”.. فلا يكن الكاهن خائفاً متخوفاً، ولا يرتبكن بصغره ونقائصه، فهذا لا يليق به، إنه جبنٌ في الإيمان، جبن الأطفال في الإيمان، أن يعثر بضعفاته. إن نعمة الله القدير تدعوه لتكسوه بكرامة الخدمة الفضلى، ولذا ينبغي أن تكون صلاته صلاة ثقة قبل كل شيء. ينبغي أن يشهد دون انقطاع عن ثقته بإلهه، مُقِراً ومُعْتَرفاً باستمرار بالإيمان به وبقوته وقدرته.
ثم إلى جانب الثقة بالله على الكاهن أن يعتاد الشكر، أن يشكر لله كل ما يحصل له فلا يتزعزع في إيمانه والتصاقه بالرب وخدمته له من جراء المحن والمصائب والفشل وما إلى ذلك. ولا ينسين أن ترتفع صلاته توسطاً من أجل رعيته وأبنائه لغفران خطاياهم وتقديسهم ونموهم الروحي. ثمّ ينبغي أيضاً أن تكون صلاته صلاة أنين لأنها حاجته العميقة المسجلة في لحمه ودمه بالرغم من كل الظواهر. فلا يخجلن من الأنين أمام الرب فهذه أيضاً ذبيحة مرضية أمام الله: “أسكب أمام الرب تضرعي وأحزاني قدامه أخبر” (مز141: 2). فليسكب أمام الرب دائماً عجزه وحقارته.
إن صلاة الكاهن تنهل مباشرة من صلاة الكنيسة (التي هي صلاة الإله المتجسد) متغذية من القداس الإلهي، وكل الخدمات الطقسية. فإذا كان متيقظاً “حياً” تنسجم فيه الصلاتان وتتطابقان، أعني صلاة الكلام وصلاة الروح، صلاة الكنيسة التي هي صلاة الروح القدس، وصلاة روحه هو، لأن هناك ارتباطاً صميماً بين روح الله وروح الإنسان يمكننا من أن نلتصق بسهولة بنعمة الرب، فنبقى في نضارة وتأهب وثقة ولا نعود نلتفت إلى حقارتنا أثناء إقامتنا للقداس الإلهي. عند ذاك يدخل فينا فعل الروح ويفعل، وهو روح الصلاة، فنصير خيراً من روح صلاتنا.
ولكن لا يظن ّ الكاهن من جراء هذا أنه معفى من مطالعة الكتاب المقدّس وأنه يستطيع أن يستغني عنها بل الأمر هو عكس ذلك، لأن مطالعة الكتاب هي أيضاً طريقة وطريق لتجديد نفسه تجدّداً عميقاً. فليقرأ الكتاب ببطء مكتفياً ببضع آيات منه يتأملها ويتعمق في معناها فتكون فرصة لتجمع ذاتي وتأمل كياني. ينبغي أن “نجترّ” الكتاب المقدّس في هدوء وصمت، في لحظات نرفع فيها النفس صباحاً باكراً وفي مجرى النهار انطلاقاً من آية كتابية ما وحول فحواها، فيكفي هذا عند ذاك لأن تكون نفسنا متجردة وغير لاصقة بالاهتمامات الأرضية بل “مرطّبة” وفرحة بالروح. إن الكاهن بحاجة إلى ذلك لكي لا يغرق في فرائضه وواجباته الخارجيّة…
وإلى جانب تجدّد الكاهن عن طريق الفرح الداخلي بالسر الذي يحياه في الليتورجيا الإلهية فإنه يتجدّد أيضاً عن طريق اتصاله بالآخرين اتصالاً حياً وعميقاً وبروح الاحترام للشخص الآخر. فإن الرب كثيراً ما يكشف لنا ويفهمنا أموراً أساسية ثمينة عن طريق الآخرين ويفتق فينا فرحاً شخصياً من خلال فرح الآخرين وذلك من جراء ما نصادفه وما ننصح به وما نعلّمه (بتشديد اللام) في ممارسة سر الاعتراف مثلاً أو بمناسبة الإرشاد والمحادثات الروحية. فعلينا إذن أن نكون على دوام الاستعداد لفهم سر الخلاص في نور جديد في كل آن يتم فيه أمامنا يوماً بعد يوم. كل ذلك استمداداً من السر المحوري الذي هو الليتورجيا. فكل ما يحدث معنا في حياتنا اليومية ومن نعيش معهم إنما يدخل في نطاق سر واحد ويتيح لنا أن نجدّد معرفتنا لسر الخلاص الوحيد. يقول الرسول: “جدّدوا أذهانكم” (أف4: 23)، فيمكن مثالاً على ذلك أن يحصل هذا في الإفخارستيا، إذ تتكشف لنا فيها يوماً بعد يوم مفاهيم جديدة على صعد مختلفة فنغتذي من هذه الرؤية ونرى كل شيء من خلالها، ونصير في حالة “شكرية” تمد عمل سر الشكر في كل مكان وتحول كل شيء إلى شكر فيتجدّد كل شيء بحضور الرب ويضحي احتفالاً ومدحاً وحمداً وتسبيحاً. وهكذا يوماً بعد يوم نصبح مقيمين في سلام داخلي أساسي لا يناله القلق ولا الآلام والاضطرابات المختلفة. الآلام والاضطرابات قد تبقى وهي في كثير من الأحيان من نسيج الحياة لا تخلو من فائدة للمرء الممتحن إلا أنه هناك في الأعماق يبقى سلام للرب وإن كنا لا ندرك ذلك دائماً.
هكذا نفهم رسالة الكاهن لا كعرس من أعراس الريف. الكاهن “راعٍ”، وفي صورة الراعي قساوة عيش ونضال وتضحية وموت. الراعي الصالح يبذل نفسه عن خرافه. إنها صورة قوة ورجولة.. والكاهن خلّاق في نضاله هذا. إنه يترك الروح يحركه لكيما يبدع، كأن يدفعه مثلاً إلى أن يصرح بأمر ما من عنده ويؤكده، وليس بما تعلّمه فقط كالببغاء. وفي هذا الاستسلام للروح يكون بمثابة خروف لا بمثابة راعٍ، يتحلى بروح “غنمية” طيعة.. وهكذا يصبح ينبع من حياته “حقيقة” وخدمة ومواقف خلاقة تلائم تقدم القطيع المُسَلَّم (بتشديد اللام وفتحها) إليه في مراحل مسيرته[14].
2 – التفاني
إن هذا التجرد من الذات والتسليم للروح يفعل فينا بصورة تناقضية سلبية في الظاهر ولكنه في الحقيقة إيجابي جداً ومصدر فرح لنا. إنه يثبتنا في إنكار الذات والتفاني وبقدر ثباتنا فيهما بل يحيا فينا فنعطيه للناس. فلا نكون نحن بعد بل هو فينا ويبذل للناس من خلالنا. هذا هو مفهوم القربان الحي. وتبرز هنا سنَّة “بتشديد النون” عامة وحرة للروح القدس. إذا جاز القول، وهي أنه عندما يضبط الروح إنساناً ليستخدمه لا بد على ما يبدو من أن يصدمه ويحيره أولاً وذلك بتسيير الأمور بما يعاكس أفكاره ومفاهيمه ورجاءه وتطلعاته، قبل أن يتخطاها ويلبيها ويملأها. إننا عادة لا ننتبه إلى هذه السنّة البعيدة المدى، فلكي نتوغل في ذلك التفاني الكامل ينبغي أن نعلم أننا نخضع طوال مسيرتنا الروحية إلى عملية نضج خفية وصامتة. نحن في وضع “استواء” ساكن ومستمر وذلك حتى في الظروف المادية أحياناً. فالمسيح مثلاً أتمّ كرازته خلال ثلاث سنين بينما قضى ثلاثين سنة في الخفاء، في النضج الصامت والاستعداد الطويل الهادئ.. وكذلك بولس الرسول فإنه بعد اهتدائه إلى الرب اختلى في العربية سنوات كثيرة لكيما يدخل الصليب فعلاً إلى حياته (غلاطية1: 17). وبالتالي علينا في خدمتنا الرسولية أن نعمل دائماً بشعور التفاني الصامت هذا واثقين بأننا سائرون رغم كل الظواهر العكسية، وأننا لا نستطيع أن نطلب بثمار رسالتنا لصالحنا. هذا، ومن النزعات الأولى التي يجب محاربتها منذ بدء رسالتنا روح التسلط على الآخرين والغيرة الحسودة الذميمة. إن روح الغيرة طبيعي في الإنسان. فالكاهن الصالح يغار مضَاعفاً على رعيته لكيما يربح النفوس للمسيح. ولكن إن لم يتوفر فيه ذلك التفاني الصامت قد يحول تلك الغيرة لمصلحته هو دون أن يعي الأمر في البداية. إذ يبدأ فيحس برضا على ذاته بتأثير كلام الناس الذين يحيطون به ويمدحونه بطرق شتى فيأتي شيئاً فشيئاً إلى ادعاء السيطرة والتسلط التام على الرغبة فيحمله هذا على الغيرة من نجاخ الكهنة الآخرين مثلاً أو على التراجع عن الخدمة الغيورة في حالات الفشل أو على القيام ضد الرعية أحياناً.. وهذا لعمري خطر حقيقي يفسد حياة كهنة كثيرين ويسممها مانعاً صفاء حكمهم في أمور الرعاية والرسالة. فيؤول الأمر بهم في خدمتهم قضية مقدسة إلى تقليص معنى الكنيسة والنعمة والمجانية الإلهيّة وإلى حصرها في مجرد مُصَلَّى وهم لا يدركون، فتقوم مقام عبادة الرب عندهم عبادة شخصهم الصغير. وليس هذا بخطر وهمي نظري بل هو وارد كل يوم. لا بد، في كثير من الأحيان من أن يحدث عند المؤمنين نوع من “التركيز النفسي” على الكاهن والتعلق به. فسلطة الكاهن تبدو لهم ذات طابع خاص تجذبهم إليه. قد لا يريدها هو كذلك ولكن هذا من الأمور النفسانية الإنسانية. النساء مثلاً كثيراً ما يُعجبن بالكاهن ويتعلقن به، وأيضا الشباب، إذا كان يتحلى بمواهب طبيعية تسهم في أن تتكون حول شخصه نوع من “هالة” تضر شيئاً فشيئاً به وبقضيته. فيجب عليه بالضرورة أن يقيم نضالاً ضد رعيته في هذا المضمار وذلك بشكل مهذب ولكن بشكل عنيف أحياناً، لكي يفهِمهم أنها ليست هذه هي العلاقة الصحيحة التي يجب أن تقوم بينه وبينهم، ولا هي طريقة الخدمة الكنسية السليمة، بل التفاني المتبادل من كلا الجهتين وبالتالي لا ينبغي أن يتورطوا بنشاط محموم غير معتدل، فهذه تجربة خطرة تؤول إلى نكسات وخيمة العاقبة.
وهناك إطار آخر للتفاني هو الوضع العكسي للوضع المنوه أعلاه، أعني قيام العقبات من قِبل الآخرين في وجه الخدمة أو من قِبل الكاهن نفسه: أما العقبات المتسببة من الآخرين فهي كثيرة لا تعد ومتوفرة على الدوام، تتخذ إجمالاً شكل الرفض وعدم التجاوب مع الكاهن أو شكل اللامبالاة والبرودة إزاء مبادرته مقرونة بالجهل الجسيم، وأحياناً كثيرة يصبح الكاهن موضوع كره وخصومة ووشايات وما شابه ذلك.. فمقابل هذه العقبات كلها ليس للكاهن إلا أن يتوغل ويتعمق في تفانيه، فينمو الرب بتواضعه فيه ومن خلاله.
أما العقبة الناجمة عن الكاهن نفسه فهي ضعفه اللاصق به. إن القديس بولس العظيم الذي لم ينقص شيئاً عن فائقي الرسل (2 كو11: 5) قد اُعطي شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمه لئلا يستكبر (2 كو12: 7). فاختبار ضعفنا البشري بل عجزنا حتى درجة اليأس لهي خبرة ضرورية لا بد منها حتى تتم رسالتنا. إذ أن شهادتنا الرئيسية في حضورنا للآخرين هي أن يتكلم الله وحده من خلالنا فيثبت وجوده ومحبته للناس. وهذا لن يكون ما دامت ثقتنا بأنفسنا تحجب ظهور نعمته فينا. من هنا يتبين لنا معنى النسك الرهباني، إذ أنه لا يستهدف كثرة الإماتات الجسدية والمادية بحد ذاتها بل جعلُنا شفافين للنعمة بتحطيم ثقتنا بأنفسنا. فالحقيقة إن النعمة الإلهية وحدها فرحنا وغلبتنا. وتبيان هذه الحقيقة هو أيضاً جوهر رسالة الكاهن فكيف ننقلها إلى الآخرين إن لم نتحسسها شخصياً وبصورة مطلقة. لذا يسمح الله بهذه النعمة: نعمة خبرة ضعفنا. ولكن لا يكفي أن نيأس من أنفسنا لنصير أداة طيعة للنعمة بل ينبغي أيضاً أن يصبح إيماننا بالنعمة كاملاً وآنياً كإحساسنا بضعفنا. وبالتالي يجب أن نعلم أن إحساسنا بضعفنا هو العطية الأولى للنعمة، فنفهم حينذاك لماذا يأبى الرسول أن يمجد نفسه بالرغم من فرط الإعلانات والنعم العظيمة التي حظي بها، حتى اختطافه إلى السماء الثالثة وسماعه كلمات لا يُنطق بها ولا يسوغ الإنسان أن يتكلم بها (2 كو12: 4): إنه يرفض أن يُمجِد ذاته لسبب واحد فقط وهو أن يحتفظ حتى النهاية بنعمة الضعف وحسب التي هي قوته (2 كو12: 9).
هذا ولا ننسين أن الرسول بولس يقتدي في ذلك بمثال الرب نفسه ويحياه وإنه هذا هو سر الصليب. فإن يسوع يُقدِّس اسم الله ويمجده بتقديس ذاته بالصليب، أي عندما يضحي بنفسه ويخليها ويصير ضعيفاً كل الضعف من أجلنا حتى نتقدس بالحق.. ثمّ لنا أيضاً مثال العذراء مثالاً نيراً حياً لكي نغذي به تفانينا ونقويه. فإن العذراء تنتصب في الأناجيل نموذج تفان كلي منذ البداية وحتى النهاية، مضحية ينفسها وبأثمن ما عندنا أي بابنها. فعندما طلب منها الملاك أن تخدم الرب بالاشتراك في تحقيق تصميمه الخلاصي لم تقل “أني أؤمن” وحسب بل “ليكن لي حسب قولك” (لو1: 38) أي بصيغة التقبل الكامل الذي لا دور لها فيه (au passif)، فاتخذت بذلك موقف تفان لا تحفظ فيه ولا حدّ له، مستسلمة لمشيئة الله استسلاماً مستديماً دون انقطاع، في استعداد وانفتاح كياني لخدمة مطياعة صامتة.
فواجبنا نحن أيضاً أن نتخذ مثل هذا الموقف فنظهر به الإيمان الحق: الإيمان بأن الله إنما يفعل فينا ومن خلالنا كما فعل من خلال العذراء، علماً بأن العذراء مريم قد جددت إلى النهاية ذاتها وتفانيها بسلام وسخاء إلى أن جاز السيف في نفسها. أي أنها قبلت باستمرار أن يكون ابنها لها وفي الوقت نفسه ليس لها: هذا هو “الاقتناء” بحسب الله. فالمسيح لنا ولكنه ليس ملكاً لنا: فلا نرغبن في الامتلاك بل في الافتقار على منوال العذراء التي لم ينجم “خصبها” الفائق الطبيعة إلا عن انسلاخها عن ذاتها، ذلك الانسلاخ الناتج عن حب قد فاق وتجاوز كل حب. إنها مثال ومصدر إلهام للكاهن حقاً.
3-عبد بطال
إن فرح الكاهن في خدمته هو في الأساس على منوال التناقض الإنجيلي: فنحن عبيد الله أي أننا الأولون في مجال الخدمة والتواضع والتفاني، ولكن فرحنا هو بالضبط في أن نكون عبيداً بطالين. إن الله يحتاج إلينا لكي يتمم قصده الخلاصي، لكي يعبُر حبه المحيي من خلالنا إلى الناس. ولكنه هو الذي يتمم قصده، أما نحن فلا فضل لنا في ذلك: “… متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا” (لو17: 7-10). إن كرامة الكاهن هي أن يمحي “بتشديد الميم” أمام الرب حتى يستعلن الرب ويتجلى فيه، فيصبح “ظهوراً” لله. ولذلك يستطيع أن يكون أكثر الناس حرية، إذ لا يعود يفكر بنفسه ولا يمتلك ذاته بل في كل ما يفعل يعلم أن هناك “آخر” يفعل. وعندئذ يبلغ إلى ملء الفرح، الذي هو بداية الفرح الأبدي. إن من يحس بعدم منفعته وعدم جدواه بالذات يستطيع إن يكون متّحداً بالله. إن مثل هذا سيفهم منذ الآن وجه التناقض الآخر في إنجيل لوقا12: 37: “طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم سجدهم ساهرين. الحق أقول لكم انه يتمنطق ويتكئهم ويتقدم ويخدمهم”. فالوليمة السماوية تبدأ منذ الآن.. إن فكرة بداهة عدم منفعتنا يجب أن تحيي حياتنا الكهنوتية كلها إلى جانب حبنا لله وحبه المحيي لنا. يجب أن نفهم أننا إنما نحمل الرب، إن كلاً منا يحمل الرب، وإننا شركاء ومعاونون له في عمله، وذلك على منوال خبرة بولس الرسول الفريدة التي أوردها في1 كو3: 5-9: “فمن هو بولس ومن هو أُبلس، بل خادمان آمنتم بواسطتهما.. أنا غرست وإبليس سقى لكن الله كان ينمي…”. علينا إذن أن نفهم أخيراً أن الله نفسه بالنتيجة يعطي ذاته في سر الكهنوت، يوزَع “بفتح الزين”، ينسكب من خلالنا حتى يُعرف “بضم الياء” ويشرك الناس به منذ الآن كمقدمة حية للأبدية. فهذا هو سر الكنيسة…
[1]على ان تفهم هذه الكلمات بجدتها وعمقها، فالعبادة غير الواعية والتي لا تقف أمام الله لا تنتمي الى المسيحية بصلة.
[2] – لا تزال بعض الشعوب في أفريقيا والهند في هذه المرحلة البدائية، بل نجد هذا الموقف البدائي حتى عند المسيحيين وذلك في أنواع ( الوساويس ) التي هي بمنزلة رواسب لاعتقادات الأديان القديمة تستتر في أعماق وجداننا، كالإعتقاد بقديس معين لحماية المسافرين مثلاً … وقد ورد في رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية أن المؤمنين كانوا يعبدون القوات الكونية (غلاطية 4: 8 – 10، أنظر أفسس 6: 12 ): les forces cosmiques ou les forces elementales
[3] -يصورون الإله مولوك وفمه كانون يرمون فيه بالأطفال.
[4] – كثيراً ما نتصرف نحن التصرف نفسه إذ لمجرد ما نتمتع بسلطة ما على بعض الناس لا نعاملهم كإشخاص مساوين لنا بل كأشياء يذبحون على مذبح يدعى الغنى أو الكبرياء أو الشهوة…
[5] – في الصين مثلاً منذ زمن غير بعيد كان لا يزال كل شيء مقدساً والإمبراطور إبناً للشمس، وكذلك في اليابان.
[6] – لم يكن ابراهيم يعرف معنى ما يفعل. وكذلك نحن أيضاُ. ربما نعرف الآن أكثر مما كان ابراهيم يعرف، ولكننا عندما نكون في أتون المحن والتجارب لا نعود نعرف ما يجري لنا.
[7] – إن الله يبدأ دائماً باختيار واحد ( هو هنا أبراهيم ) فيدعوه، وهذا الواحد يصبح كثيرين، يصبح أمة. ولكن حيث كثيرون هناك تعددية وقلق وما إلى ذلك فيصير الشعب بسببها إلى العبودية. إلا أنه بالخلاص من العبودية وفي الذبيحة يعود الكثيرون واحداً ويتّحد الشعب بالله ويتوحد. وبعد ذلك تكون الدعوة إلى شمول البشرية كلها بالخلاص، الدعوة إلى افتداء كل الخليقة وجمعها إلى واحد في الله. ولكن إسرائيل بدافع أنانيته وتفرده وانغلاقه على ذاته لم يحقق هذه الدعوة. لقد أبى أن( يموت) عن ذاته، أن يحطم إطاره الخاص وحدوده، ولذا فشل في رسالته. إن الخروج من حدودنا وذواتنا وبذل أنفسنا ضحية تلك هي بالنتيجة ( الذبيحة )، ذبيحة القداس الإلهي التي ينبغي أن نتمثل بها.
[8] – لا يستطيع العقل البشري أن يدنو من هذا السر بل الأحرى به أن يصمت أمامه ويسجد.
[9] – أنظر رسالة القديس أغناطيوس الإنطاكي إلى أهل رومية.
[10]– يبقى الرسل أساس وحدة المسيحيين على اختلافهم وبالرغم من اختلافهم.
[11]– يبقى صحيحاً إننا جميعاً واحد وإننا جميعاً مسؤولون عن حياة الكنيسة فلا ينبغي أن نعود باللائمة على الأسقف المخطىء وحده ونبتعد عن الكنيسة بسببه فنرمي بالطفل مع ماء غسيل الطفل كما يقول المثل الفرنسي. إن المسؤولية في الكنيسة مشتركة نحملها معاً بالأنين والصلاة وتكريس ذواتنا للرب وليس بالإنفصال عن الكنيسة والأسقف كما جرى في أفريقيا الشمالية في القرن الخامس حيث ظهرت بدعة تربط بين صحة إقامة السر وأخلاق الكاهن أو الأسقف مقيم السر، وهي شيعة الدوناتيين الذين أبوا الإعتراف بالأساقفة الذينكانوا قد ضعفوا ورضخوا للمضطهد ( بكسر الهاء )، وذلك رغم توبتهم اللاحقة وإرجاعهم إلى وظائفهم.
[12]– إن دوستويفسكي في كتابه ( ذكريات دار الأموات )، في سيبيريا حيث نفي وأسر في وضع من العبودية القضوى، يروي كيف اكتشف هناك الحرية في وسط الذل والظلم والضرب وما إلى ذلك، لأن الإنسان لا يمكن أن يستعبد داخلياً إن كان يتطلع إلى الله.
[13]– نتكلم على الصعيد المعنوي لا على الصعيد الإيماني.
[14]– كتجديد فهمه للفقر مثلاً … وغيرها وغيرها من نواحي الحياة الشخصية والاجتماعية.