العظة الأولى: العنصرة
في يوم عيد العنصرة، وقف بطرس الرسول، وخطب في الجماعات التي أتت إلى أورشليم من كلّ حدب وصوب. إنّها الخطبة الأولى التي حفظها كتاب أعمال الرسل (2: 14- 36). ما سنفعله، هنا، هو أنّنا سنحاول، انطلاقاً من هذه الخطبة، أن نكتشف بعض قواعد الوعظ الكنسيّ. وهذه سنختصرها بثلاث:
1. تَحْكُم فاتحة العظة: “يا رجال اليهوديّة، وأنتم أيّها المقيمون في أورشليم جميعاً” (14) القاعدة الأولى لكلّ خطبة كنسيّة تُلقى على المؤمنين في خدمة العبادة. فهذا القول يبيّن أنّ أساس الوعظ أن يخاطب الواعظ أشخاصاً محدّدين. طبعاً، يعرف القارئ أنّ كاتب أعمال الرسل يسمّي أصول هؤلاء الذين جمعهم العيد. يقول: “فرثيّين (وهم يعيشون في أقصى الشرق الأوسط) وميديِّين وعَيْلامِيِّين (الذين يقيمون شمالي الخليج الفارسيّ) وسكّان الجزيرة بين النهرَيْن واليهوديّة وقبّدوقية (في آسية الصغرى) وبنطس (في شمال آسية) وآسية وفريجية (غربي آسية) وبمفيلية (على الساحل الجنوبيّ) ومصر ونواحي ليبية المتاخمة لقيرين ورومانيّين نزلاء ههنا من يهود ودخلاء وكريتيّين وعَرَب” (2: 9- 11). وهذا التعداد معناه العامّ أنّ الروح القدس هو مَنْ يجمع الكون كلّه (الذي قسّم في بابل قديماً)، ويوحّده فيه، وتالياً أنّ بشرى الله الجديدة تخصّ جميع الناس إلى أيّ بلد انتموا. وهذا يكشف لنا أنّ مسؤوليّة الواعظ أن يحسن مخاطبة الجماعة على تنوّع أعضائها. ففي كلّ لقاء كنسيّ، ثمّة مؤمنون يتنوّع جنسهم وعمرهم وثقافتهم ومستواهم الاجتماعيّ، وفي المدن يمكن أن نزيد أصلهم، ودور الواعظ أن يعرف أنّ مَنْ يكلّمهم ليسوا نوعاً واحداً، ويقدر، تالياً، على أن يقدّم خطبته بما يخدم حُسْن ارتباط المؤمن في جماعته ونموّهم معاً بالربّ.
2. القول التالي: “ليس هؤلاء بسكارى كما حسبتم” (15) يثبّت القاعدة الثانية للخطبة الكنسيّة. وهذا يمهّد له كاتب الأعمال، بقوله: إنّ بعضاً “كانوا يقولون ساخرين: قد امتلأوا من النبيذ” (13). إذا قرأنا السياق الذي ورد فيه هذا القول، لا يفوتنا أنّه لا يذكر أنّ بطرس سمع، شخصيّاً، أنّ ثمّة مَنْ حسبوا مظاهر الروح القدس سكراً. لكنّ الرسول، في عظته، يدلّنا على أنّه عرف. وهذا يأخذ التنوّع المذكور إلى معناه الأرحب. فإنّ من واجب الواعظ أن يعرف حتّى خطايا مَنْ يخاطبهم. إذ ليست الخطبة الكنسيّة كلاماً عامّاً في اللاهوت. الخطبة كلام موجّه إلى أشخاص لهم أفكارهم ومعتقداتهم وتالياً أخطاؤهم القاتلة (رومية 7: 15). وعلى مَنْ كُلّف بموهبة الوعظ أن يحاول معرفة كلّ فكر غريب في الجماعة التي يخاطبها من أجل أن يشفوا بالكلمة. فللكلمة الموزّعة توبيخها الراضي (طيطس 2: 15)، أي شأنها أن تحثّنا على التوبة عن “ذنوبنا الواضحة” (1 تيموثاوس 5: 24). لا يعني هذا تقليلاً من المعرفة اللاهوتيّة التي لا يمكن أن تقوم عظة على إهمالها. لكن يعني أنّ مآل العظة الموجّهة إلى أشخاص حاضرين هو أن تشفيهم هم بالله، وتجدّدهم هم بالله.
3. القاعدة الثالثة يبيّنها أنّ الرسول يأخذ من أقوال الكتب ما يبني عليه أقواله، أي يشرح الكتب القديمة (التي كانت تستعمل قديماً في اجتماع المؤمنين)، ويؤكّد أنّ المسيح هو مَنْ يحقّقها وحده (16- 36). وهذه القاعدة تكشف المسرى الصحيح لكلّ عظة. فالواعظ شأنه الثابت أن يشرح الكلمة، أي أن يعرفها ومعانيها، ويقدّمها هي ذاتها إلى المؤمنين. لا يحتمل موقع الواعظ أن ينادي بآرائه الشخصيّة مثلاً، بل إنّما عليه أن يوزّع الكلمة التي يقرأها بما يوافق “تقليد الكنيسة وتعليم الآباء في مؤلّفاتهم” (مجمع ترولّو، القانون 19). وخير شرح أن يقدر الواعظ على أن يقول مع بطرس الرسول: “فليعلم بيت إسرائيل جميعاً أنّ يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم (فلننتبه إلى هذا القول الذي يذكّرنا بالقاعدتين الأولى والثانية) قد جعله الله ربّاً ومسيحاً” (36). أي أن يضع المؤمنين في خطّ الكلمة التي تريدهم هم أيضاً شهوداً للمسيح الربّ. كيف نبيّن، في كلّ عظة، أنّ يسوع هو إلهنا الوحيد الذي مات، لنحيا، ونخدم الله في عالم يعدو وراء أوهامه؟ هذا ما يدعو إليه الرسول في هذه القاعدة الثالثة.
يبقى أن نعرف حال مَنْ سمعوا هذه العظة، لتكمل هذه القواعد من جهة أخرى. نقرأ: “فلمّا سمعوا ذلك الكلام، تفطّرت قلوبهم” (37). وهنا، يجب أن نلاحظ أمرين. الأوّل، أنّ بطرس استطاع، في كلامه، أن يصيب الناس في قلوبهم. والثاني، أنّ كلامه كان فرصة للسامعين، ليتوبوا إلى الله. ثمّة، في الواقع، مسؤوليّة على السامع لا تقلّ عن مسؤوليّة الواعظ. وفي هذا القول الأخير، تبدو المسؤوليّتان في أجلى بيان.
ثمّة أمر أخير، لا يكمل كلام من دونه. لقد استعمل كاتب الأعمال، في وصفه حدث العنصرة، لفظة “صوت” (و”ريح عاصفة” و”نار”) التي تدلّ على حضور الله في العهد القديم. ولكنّه، عندما قال عن بطرس إنّه قام ورفع “صوته”، أرادنا أن نعرف أنّ الله، في العهد الجديد، بات يخاطب العالم من كنيسته. الوعظ هو موقعٌ لله جديدٌ في مخاطبة شعبه. وهذا، فيما نرجو وعيه دائماً، خير ما تختم به.
العظة الثانية: شفاء رجل كسيح من بطن أمه
لقد تكلّمنا، في مقال آنف، على بعض قواعد الخطبة الكنسيّة في عظة بطرس الأولى (أنظر: رعيّتي 41/2007). وسنحاول، هنا، أن نبيّن قواعد جديدة للخطبة انطلاقاً من عظته الثانية (أعمال الرسل 3: 11- 26).
قَبْلَ الشروع في تحديد قصدنا المبيّن، يمكن أن يلاحظ القارئ أنّ لكلّ عظات بطرس المسجّلة في كتاب أعمال الرسل ظرفاً يستدعيها. فلقد رأينا أنّ الرسول ألقى عظته الأولى بعد حدث العنصرة مباشرة. وأمّا هذه العظة الثانية، فقد ألقاها بعد أن شفى، باسم الربّ يسوع، “رجلاً كسيحاً من بطن أمّه، كان يحمله بعض الناس، ويضعونه، كلّ يوم، على باب الهيكل المعروف بالباب الحسَن، ليطلب الصدَقة من الذين يدخلون الهيكل” (أعمال 3: 1-10). فبعد حدث الشفاء توّاً، أسرع الشعب كلّه إلى بطرس (ويوحنّا الذي كان معه منذ البدء) نحو الرواق المعروف برواق سليمان. هذا هو ظرف العظة. أمّا القواعد، التي سنختصرها أيضاً بثلاث، فهي:
أوّل ما يثيرنا، في هذه الخطبة، أنّ الناس، الذين خاطبهم الرسول، شعروا بأنّ ما جرى يعنيهم. أثارهم ما جرى، فتبعوا الرسول. خاطبهم ما جرى، ففعلوا. وهذا، في الواقع، أمر لا مثيل لأهمّيّته في سياق تتميم الخطبة الكنسيّة. من حيث إنّ دور الواعظ الأعلى أن يخاطب المؤمنين على أساس كلمات، أو أحداث، يجب أن يبيّن أنّها تخصّهم هم. قد يعتبر بعضُنا أنّ هذا الأمر بديهيّ جدّاً. وهو هكذا فعلاً. ولكنّ الواقع يُظهر أنّ كثيرين، ممّن يصغون إلى التعاليم الإنجيليّة، يتلقّفونها على أساس أنّها تمّت مع سواهم. هكذا تعوّد الكثيرون، مثلاً، أن يصغوا إلى مَثَلِ الفرّيسيّ والعشّار ومَثَلِ الابن الشاطر وشفاء المخلّع والسامريّة والأعمى وغيرها، من دون أن يحسبوا أنّ هذه الشخصيّات، في اللقاء الكنسيّ، تغدو مَنْ يسمعون عنها أيضاً. العظة الصحيحة من قواعدها أن تنبّهنا إلى أنّ ما يبني عليه الواعظ كلامه، وليس كلامه فحسب، إنّما يخصّنا نحن أيضاً.
الأمر الثاني أنّ هذه الخطبة هي بكليّتها، جواب عن سؤالين يتعلّقان بشفاء المخلّع. يقول الرسول: “يا بني إسرائيل، لماذا تتعجّبون من ذلك؟ ولماذا تحدّقون إلينا، كأنّنا بذات قوّتنا أو تقوانا جعلناه يمشي؟” (12). طبعاً، يمكننا أن نلاحظ أنّ كاتب الأعمال مهّد لطرح هذين السؤالين، بقوله: “فأخذهم العجب والدهش كلّ مأخذ ممّا جرى له” (10). ولكنّ كلام بطرس يجعلنا نعتقد أنّ شأن الواعظ أن يساعد سامعه على أن يطرح على نفسه الأسئلة التي تجول في خاطره، ليجيبه عنها. فطرح الأسئلة، التي تعني المؤمنين، فنّ من فنون الوعظ الكنسيّ. ومَنْ امتهن الخطاب، في أيٍّ من مجالات العمل الذي يستدعيه، يعرف أنّ من خصائص السؤال أنّه يدلّ على شخصيّة سائله. بطرس، في إجابته، كان يردّ على أشخاص محدّدين. لا يعني شيئاً أن نطرح أسئلة لا تعني مَنْ نخاطبهم. وهذا، من حيث هو قاعدة، أمر آخر لا يمكن أن يتمّ من دون قربى تجمع بين الواعظ والمؤمنين.
الأمر الثالث أنّ الرسول، في جوابه، يُشعرنا بأنّ ما يقوله لا ينتهي عند ما يقوله. بلى، لقد قدّم جواباً كاملاً عن السؤالين المذكورين. ولكنّه جواب يفترض أن يتحوّل السامع من شخصٍ متلقٍّ إلى شخص باحث، من شخص يصغي إلى شخص له علاقة شخصيّة بكلمة الله، أي قارئ دائم لها. إلامَ نستند في هذا القول؟ إذا قرأنا العظة، في موقعها، ندرك أنّ الرسول يبدأ جوابه بتذكير الشعب بخطاياهم. يكلّمهم على مسؤوليّتهم عن إنكارهم يسوع القدّوس البارّ وقَتْلهم سيّد الحياة، وعن عمل الله الذي أقامه من بين الأموات. ثمّ يشهد أنّ فضل الإيمان باسم الربّ يسوع هو “شدّد هذا الرجل الذي تنظرون إليه وتعرفونه”، ووهبه “كمال الصحّة بمرأًى منكم جميعاً” (13- 16). وهذا، استطراداً، يعلّمنا أنّ الكلام على القيامة يجب ألاّ نحصره في إطار الشهادة لما جرى في فجر اليوم الثالث فحسب، بل أن نراها في فعلها المستمرّ أيضاً، وذلك لكون القيامة تخصّنا نحن أيضاً، أي لكون الربّ يريدنا أن نعرف، دائماً، أنّ قيامته ليست حدثاً من ماضٍ مفصول عنّا. فنحن ربّما نحسب أنّ المسيح قام قديماً وكفى. ويريدنا الرسول، في ما قاله هنا، أن نزيد على إيماننا ما هو منه، أي أنّ المسيح، بقيامته، أقامنا أيضاً معه، وما زال يقيمنا. ثمّ نلاحظ أنّ الرسول ينتقل إلى ما جاء في كتب الأنبياء من أنّ مسيح الله “سوف يتألّم”. ويدعو سامعيه، الذين كان قد وصفهم بأنّهم عملوا ما عملوا بجهالة، إلى أن “يتوبوا ويرجعوا”، “لكي تمحى خطاياهم، وتأتيهم من عند الربّ أيّام الفرج” (17- 20). وبعد أن يسترجع ذكر الأنبياء الأطهار جميعاً وما قاله الله على لسان موسى، يحثّهم من جديد على التوبة، بقوله: “من أجلكم أوّلاً أقام الله عبده (يسوع، كما يصفه إشعيا النبيّ) وأرسله ليبارككم، فيتوب كلّ منكم عن سيّئاته” (21-26). هذا الانتقال يؤكّد ما عرفناه قبلاً، وهو أنّ شفاء المخلّع أتمّه الربّ نفسه. ولكنّ الرسول، هنا، يذكّر بالحدث في سياق استرجاعه الكتب القديمة التي تكلّمت على يسوع الذي تمّم تدبير أبيه. فالكلام الكثيف المستقى من الكتب، وإن قَدَّرْنا أنّ سامعيه يعرفونه، يؤكّد أنّ ما ينتظره الرسول أن يعتادوا قراءة الكتب على قاعدة هذا الإتمام. فإن كان ما جرى قد أتمّه يسوع، وإن كانت الكتب أنبأت عنه، فهذا وذاك سببان يحثّاننا على أن نبحث عن الربّ في كُتُبِهِ. وطريقة البحث الجديدة، التي يثبّتها الرسول، لا يمكن أن تتمّ من دون توبة حقيقيّة. بكلام آخر، إنّ شأن الواعظ، فيما يحثّ المؤمنين على التوبة، أن يعرف أنّ هدفَ الوعظِ الأخيرَ لا ينحصر بالكلمات التي يقولها توضيحاً لنصٍّ محدّد مثلاً، بل أن يلتزم المؤمنون قراءة الكلمة، التي تثبّت قلوبهم، دائماً وفي كلّ حين. هذه قواعد جديدة تحكم صحّة الخطاب الكنسيّ.
العظة الثالثة: على رؤساء الشعوب والشيوخ
في الخطبة الثالثة، التي ألقاها بطرس على رؤساء الشعوب والشيوخ (أعمال الرسل 4:8-12)، يدلّنا الرسول على قواعد جديدة للخطاب الكنسيّ (أنظر: رعيّتي 41 و42، 2007).
أخذنا نعرف أنّ لكلّ عظة ظروفَها. وظرف هذه العظة أنّها تمّت في المجلس بعد أن بسط الكهنة وقائد حرس الهيكل والصدُّوقيّون أيديهم إلى بطرس ويوحنّا، وأودعوهما في السجن (4:1-4). وفي اليوم التالي تحديداً، “اجتمع في أورشليم الرؤساء والشيوخ والكهنة، وكان في المجلس حنّان عظيم الكهنة وقيافا ويوحنّا والإسكندر وجميع الذين كانوا من سلالة عظماء الكهنة. ثمّ أقاموا الرسولين في الوسط، وسألوهما (عن شفاء بطرس الرجلَ المخلّع): بأيّ قوّة أو بأيّ اسم فعلتما ذلك؟” (4:5-7).
خطبة بطرس الثالثة هي، إذاً، ردّ على هذا السؤال. وهذه، أيضاً، سنستخلص منها قواعد ثلاث تفيدنا في سياق تتميم الخطبة الكنسيّة.
القاعدة الأولى نأخذها من تمهيد العظة، أي: “فقال لهم بطرس وقد امتلأ من الروح القدس” (8). أساس الخطاب الكنسيّ هو الامتلاء من الروح القدس. لا يعني هذا “اتّكالاً بطّالاً!” على روح الله، بل يعني أنّ الواعظ شأنه، في كلّ عظة، أن يقول ما يريده روح الله. قلتُ “اتّكالاً بطّالاً”، وهذه عبارة تفترض توضيحاً. لا أعتقد أنّ كلّ مَنْ كلّفهم الربُّ بتوزيع كلمته يدركون جميعهم أنّ الامتلاء من الروح يفترض جهداً شخصيّاً من بركاته الصلاة الموصولة والقراءة الدائمة. فالواعظ شخصٌ مصلٍّ وقرَّاء. أي شخص لا “يتباهى بملكاته الطبيعيّة، كحدّة الذهن وسرعة التعلّم وحسن النطق، وسائر المواهب المماثلة غير المكتسبة بالتعب” (السلّم إلى الله 22:31). وتالياً، لا يعتقد أنّ روح الله يعينه فيما هو كسول، ولو استدعاه بحرارة قَبْلَ أن يباشر عظته! العبارة، التي مهّد لها كاتب الأعمال هنا، إنّما تعني أنّ الروح يتعهّد الواعظ الجدّي فحسب. بطرس كان جدّيّاً في كلّ شيء. وسجنه، المذكور هنا، خير إثبات على ذلك، أي على أنّ ما يقوله قد تعب من أجله فعلاً.
القاعدة الثانية تبيّنها أنواع الناس الذين يخاطبهم الرسول. يقول: “يا رؤساء الشعب ويا أيّها الشيوخ” (8). إنّه يخاطب أولي القوم. وهذا شأن من شؤون الوعظ الكنسيّ. فقد أوحينا، آنفاً، أنّ من قواعد الوعظ أن يحسن الواعظ أن يكلّم المؤمنين على اختلاف أنواعهم. وقد يضمّ اللقاء الكنسيّ أشخاصاً مقتدرين في الدنيا. هنا، تدلّنا العظة على أنّ الواعظ حرّ من الوجوه. حرٌّ، أي لا يخافها (إرميا 1: 8-17). فما يجب أن يقوله مثلاً، لا يغيّره وجود أشخاص يحسبهم مجتمعهم من ذوي النفوذ. الواعظ مكلّف بخدمة رسالة الله الكلّيّ القدرة. وإن نظر إلى المجتمعين في رحاب العبادة، فإنّما ينظر فيما وجهه إلى الربّ. هذا لا يعني أنّ العظة هي ظرف يستغلّه الواعظ، ليأخذ مواقف سياسيّة يمكن أن تقسّم الرعيّة التي وحّدها الربّ بدمه (يوحنّا 11: 19-52). العظة ظرف لله وحده. والله، الذي يطلب خلاص الجميع، يجب أن تكون مشيئته على فم الواعظ فيما يخاطب الكلّ.
القاعدة الثالثة يظهرها قول الرسول: “اعلموا جميعاً، وليعلم شعب إسرائيل كلّه” (10). وهنا، علينا أن ننتبه إلى أمرين. الأوّل أنّ الرسول يلتزم قاعدة الوعظ الثابتة، أي أنّ الواعظ يخاطب سامعيه (اعلموا جميعاً). ولكنّه، في الأمر الثاني، يخاطب عبرهم كلّ مَنْ يجب أن يسمع كلمة الله. ليس معنى هذا أنّ الوعظ مناسبة، ليخاطب الواعظ مَنْ غابوا عن الخدمة الإلهيّة. لكنّه مناسبة يستعملها الواعظ، ليسعى إلى أن يكون المؤمنون خدّاماً للكلمة في العالم. بهذا المعنى، قال القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم في إحدى عظاته: “أضرع إليكم، بمحبّة المسيح، أن تتفّهموا أقوالنا، وتسمعوا عظاتنا، وتقبلوا التعاليم الروحيّة بسكينة ورغبة، لتعودوا إلى منازلكم غانمين، وتعلّموها نساءكم وأولادكم وأصدقاءكم” (عظة على فضائل الصوم). وقال أيضاً في عظة أخرى: “أريدكم أن تكونوا جميعاً معلِّمين. لا تُنْصِتوا لعظاتنا فحسب! أخبروا الآخرين بتعاليمنا! هلمّوا اصطادوا الذين هم في الزلاّت، حتّى يسلكوا هم أيضاً طريق الحقّ” (عظة على سفر التكوين). فـ”وليعلم شعب إسرائيل كلّه”، عبارة تنتظر أن يحسن الواعظ خطابه، ليغدو السامعون أشخاصاً قادرين على أن يخاطبوا مَنْ تعوّدوا بُعدهم. فَمَنْ يحجّ مؤمناً إلى ملكوت الله في خدمة الأبد، لا ينظر إلى العالم نظرة سلبيّة، أو ينخرط فيه انخراطاً سلبيّاً. لا يكتفي المؤمن بنفسه. المؤمن الحقيقيّ هو مَنْ يقلقه حال العالم. ودور الواعظ أن يثبّت فيه هذا القلق، وأن يسعى إلى أن يحوّله إلى “أداة” تخدم مشيئة الله في الدنيا، أي أن يذكّره بأنّه، هو أيضاً، “مسؤول عن اسم الله” في العالم (أعمال الرسل 9: 15-16).
هذه قواعد أخرى جديدة لحسن الخطاب الكنسيّ.
العظة الرابعة: أمام عظيم الكهة وحاشيته
للعظة الرابعة، التي ألقاها بطرس الرسول (أعمال الرسل 5: 29-32)، ظرفُها أيضاً. فكتاب الأعمال يخبرنا أنّ “عظيم الكهنة كان قد قام وجمع حاشيته من مذهب الصدّوقيّين، وقد اشتدّت نقمتهم، فبسطوا أيديهم إلى الرسل ووضعوهم في السجن العامّ. غير أنّ ملاك الربّ فتح أبواب السجن ليلاً، وأخرجهم. ثمّ قال لهم: اذهبوا وَقِفُوا في الهيكل، وحدّثوا الشعب بجميع أمور هذه الحياة” (5: 17- 21). ثمّ ينقلنا الكتاب إلى اجتماع دعا إليه عظيم الكهنة وحاشيته. وإذ أوفد إلى السجن مَنْ يحضر الرسل، عاد الموفَد، وأخبر المجتمعين بما جرى. ثمّ إنّ رجلاً أقبل إليهم، وأخبرهم عن مكان الرسل. فذهب قائد حرس الهيكل ورجاله، وأحضروهم “من غير عنف”. وبعد أن أتوا بهم، قال لهم عظيم الكهنة: “نهيناكم أشدّ النهي عن التعليم بهذا الاسم (يسوع). وها قد ملأتم أورشليم بتعليمكم، وتريدون أن تجعلوا علينا دم هذا الرجل” (5: 21- 28). على هذا الكلام ردّ بطرس بخطبة جديدة. ولهذه الخطبة قواعد أخرى تخدم صحّة الخطبة الكنسيّة (أنظر: رعيّتي 41، 42، 43، 2007). وهذه، أيضاً، سنختصرها بثلاث.
القاعدة الأولى تطرحها علينا قولة كاتب أعمال الرسل: “فأجاب بطرس والرسل”. لقد قلنا، آنفاً، بعض أمور تؤكّد ما معناه أنّ موقع الواعظ لا يسمح له بأن ينادي بآرائه الشخصيّة فيما يخاطب الجماعة. فاللقاء الكنسيّ يخص الله فحسب. وكلّ كلام يطرحه مَنْ كُلِّف بأن يعظ الجماعة تحكمه هذه الخصوصيّة. هنا، يوحي كتاب الأعمال أنّ الواعظ هو مَنْ يحوط به جماعة الرسل في أوان وعظه. بمعنى أنّه يشهد للتعليم الرسوليّ الذي تسلّمناه جيلاً فجيلاً. وهذا ما أوصى به العلاّمة أوريجانس، ببلاغة كلّيّة، بقوله: “تجدر المحافظة على البشارة الكنسيّة كما نُقلت منذ الرسل بالخلافة، وأُودعت في الكنائس حتّى الآن. والحقيقة، التي ليست على تناقض والتقليدَ الكنسيَّ والرسوليَّ، توجب وحدها الإيمان بها” (في المبادئ، المقدّمة، 2). وأوّل ما يبيّن هذا الوعي هو أن نتعلّم ما قاله الرسول هنا، أي أنّ “الله أحقّ بالطاعة من الناس” (29). لقد كان الرسل جماعة طاعة. هذا خير وصف لهم. ولذلك رسالتهم الحيّة في الكنيسة أن يُنادى بهذه الطاعة. لا يجلس في مجلس الرسل مَنْ لا يطيع الله. من حيث إنّ الطاعة هي خير جاذب في الحياة الكنسيّة. الناس، وإن فتنهم خطاب هذا الواعظ أو ذاك، يبقى أنّ ما يصطادهم لله هو أن يشاهدوا ما يقوله مرتسماً على حياته، أي أن يتبيّنوا أنّ ما يقوله قناعة عنده راسخة، أي قناعة تقنعه أوّلاً. فأنت لا تقدر على أن تقنع غيرك بما لا يقنعك. وإن فعلت، فلا يكون لك فضل في ذلك. الله يريد أن يكون لك دور. وهذا يثبّته أن تطيع الله، كما الرسل، فيما تطلب أن يُطاع.
القاعدة الثانية تظهرها العظة بتأكيد قائلها أنّ الله، مهما كانت خطايا المؤمنين، قادر (الآن) على أن يهب “التوبة وغفران الخطايا” (30 و31). العظة ظرف توبة غير مؤجّلة. توبة الآن. كلّنا يعلم أنّ التراث حدّد العظة بعد قراءة الإنجيل. وهذا هدفه الواقعيّ أنّ الواعظ يوزّع على المؤمنين الكلمة التي تقودهم طاعتُها إلى قرابين الله. التوبة، التي هي حياةُ المؤمنِ و”درسُ عمرِهِ”، تفرض ذاتها هنا فرضاً ملزماً. وما من شكّ في أنّ التوبة هي الحالة الوحيدة التي تبيّن أنّ المؤمن يعي أنّ خطاب العظة يخصّه هو تحديداً. فقد يشارك مؤمن في الخدمة الإلهيّة، ويشعر، في أوان توزيع الكلمة، بأنّ ما يسمعه يخصّ غيره. وهذا، في الواقع، لا يفرّغ الخطاب الكنسيّ من مضمونه فحسب، بل يجعل السامع يخسر الفائدة التي يقدّمها الله له الآن. الله يهب “التوبة وغفران الخطايا” الآن، هي قاعدة كلّ عظة يجب أن تحرّك الواعظ والموعوظ في آن واحد.
القاعدة الثالثة نستشفّها من قول العظة الأخير: “وكذلك يشهد الروح القدس الذي وهبه الله لمن يطيعه” (33). في سياقه، يعني هذا القول أنّ الرسول الشاهد يقول ما يوافق السماء، أي روح الله. ولكنّ الكلام يوحي بأمر لا يقدر على أن يتجاهله واعظ متّزن، وهو عمل الروح القدس في نفوس مَنْ يسمعون الكلمة. ما معنى هذا القول؟ من التجارب، التي تضرب بعض الواعظين، اعتبارهم أنّ لهم قدرة، بما يقولونه، على إقناع غيرهم. هنا يوحي الرسول أنّ للواعظ شهادته. ولكنّ شأنه، فيما يؤدّيها، أن يكون على قناعة تامّة بأنّ الروح هو، وحده، مَنْ يثبّت الحقّ في قلوب مَنْ يطيعونه. ليست لقدرة الكلام، مهما سما، قدرة الروح القدس. معنى ذلك عمليّاً أنّ الواعظ لا ينتهي دوره بانتهاء تبليغه الكلمة. الواعظ شأنه أن يعرف أنّ الربّ ينتظر منه أن يقدّم رعيّته قرباناً لله في صلاة دائمة، ليثبّت أعضاءها روحُ الله القدّوس. هذه قواعد أخرى من أجل خطبة كنسيّة ترضي روح الله.
العظة الخامسة: في بيت قائد المئة
العظة الخامسة ألقاها الرسول بطرس في بيت قائد المائة قرنيليوس الذي اهتدى إلى الإيمان بالربّ يسوع، وشكّل اعتماده ومَنْ معه دخول أوّل جماعة وثنية في شركة الحياة الكنسية. سنكتفي، هنا، بهذا القدر من تبيان ظرف العظة (أعمال الرسل 10: 1- 33، 44- 48)، ونختار القواعد الثلاث الأخيرة، التي تقدّمها لنا هذه الخطبة (10: 34- 43)، في سياق كشف صحّة الوعظ الكنسيّ.
القاعدة الأولى يرسمها قول الرسول إنّ “الله لا يراعي ظاهر الناس” (34). ويمكن أن يلاحظ القارئ اعتراف بطرس (أدركتُ حقّاً) الذي يسبق هذا القول مباشرة، والذي يؤكّد أنّ ما يقوله إنّما يقوله عن خبرة شخصيّة. سنترك، هنا، الكلام على الخبرة إلى ما بعد القاعدة التالية. إذاً، شهادة الرسول، التي تشكّل قاعدة من قواعد الوعظ، أنّ الله يقبل جميع الناس. وفي اللقاء الكنسيّ، هذا يعني أنّه لا يفضّل الملتزمين على غير الملتزمين. طبعاً، يفضّل الالتزام. ولكنّه لا يفضّل وجهاً ملتزماً على آخر غير ملتزم! “لا يحابي أحداً” (رومية 2: 11). إن كان من أعلى أهداف الوعظ أن “يتفطّر قلب” السامع، فهذا لا يحتمل سوى أن يرى أخطاءه الشخصيّة. الوعظ فرصة تُظهر محاسن الله التي تُلملم مَنْ يقبلها، وتجعله، في عيني الله، ذا شأن. أهمّيّة هذه القاعدة أنّها من أصول خطاب هدفه أن يذكّر السامعين بأنّهم مدعوّون إلى أن يروا أنفسهم “أوّل الخطأة” (1 تيموثاوس 1: 15). هذا شأنهم الدائم، ليقدروا على أن ينخرطوا في العالم انخراطاً فاعلا، أي ليستطيعوا أن يحبّوا الجميع من دون أيّ تمييز، أي ليقتدوا بالله، ويعتمدوا حبّه العظيم في سبيل جذب الناس إليه. فهذه القاعدة خير ما يؤكّد أنّ الله، وحده، هو “الذي يعمل فينا الإرادة والعمل في سبيل رضاه” (فيلبّي 2: 13).
القاعدة الثانية يثبّتها قول الرسول: “نحن شهود” (39). وهذه العبارة، التي وردت في معظم عظات بطرس، أهمّيّتها أنّها تبيّن أنّ الخطبة الكنسيّة هي، في آخر معانيها، شهادة لعمل الله الخلاصيّ. في العظة الأولى، قال بطرس: “فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن بأجمعنا شهود على ذلك” (2: 32)؛ وفي الثانية: “فقتلتم سيّد الحياة، فأقامه الله من بين الأموات، ونحن شهود على ذلك” (3: 15)؛ وفي الرابعة: “إنّ إله آبائنا أقام يسوع الذي قتلتموه إذ علّقتموه على خشبة. وهو الذي رفعه الله بيمينه وجعله سيّداً ومخلّصاً، ليهب لإسرائيل التوبة وغفران الخطايا، ونحن شهود على هذه الأمور” (5: 30- 32)؛ وفي هذه العظة الأخيرة: “ونحن شهود على جميع أعماله في بلاد اليهوديّة وفي أورشليم”. ولهذه الشهادة معانٍ عدّة. أوّلها أنّها تكليف الربّ (أعمال الرسل 1: 8). وثانيها أنّها شهادة جماعيّة (دائماً يقول بطرس: نحن). وثالثها أنّها تتعلق بقيامة يسوع (أنظر أيضاً: 1 كورنثوس 15: 3- 8). ورابعها أنّها تدلّ على عمله المستمرّ في العالم (كما تُبيّن العظة الأخيرة). معنى ذلك كلّه أنّ الواعظ هو شخص متأصّل في شهادة الجماعة الأولى، يقول قولها كما لو أنّ ما شاهدته هي شاهده هو، وأنّه، تالياً، يبيّن فعل هذه الشهادة في حاضر الكنيسة. بهذا المعنى، الواعظ شخص ذو رؤية، هي ذاتها رؤية الكنيسة التي دفعها الروح إلى أن تشهد لحياة الله في العالم.
القاعدة الثالثة تبيّنها القولة: “نحن الذين أكلوا وشربوا معه”. فمِن أُسس الواعظ أن تكون للواعظ علاقة حميمة بالربِّ معلِّمِهِ تُفضي إلى خبرة وطيدة (فلنذكر شهادة بطرس: “أدركتُ حقّاً”). “نحن الذين أكلوا وشربوا معه” ليس كلاماً يتعّلق، فقط، بماضٍ مضى. القولة، وإن كانت تتحقق في الرسل تحقّقا عظيماً، غير أنّها تحمل رنّة إلى ما لا نهاية. فالربّ حاضر معنا وفي وسطنا وفينا. كيف نحبّه، ونقاربه، ونعاشره معاشرة الصَديق للصَديق، وكيف نشعر بأنّنا في ضيافته دائماً، أمور لا يمكن أن يكون، من دونها، ثمّة “وعظ في المسيح” (فيلبّي2: 1). والخبرة تبيّن فعل الله في نفوس تتّقيه. فالواعظ إنّما هو شخص مختبِر، أي مختبَر، بمعنى أنّ الله نفسه قد اختبره (1 تسالونيكي 2: 4). ويجب أن تحمل “نحن الذين أكلوا وشربوا معه” الدلالة على أنّ الله هو الذي يحيي مَنْ كلّفه بتوزيع كلمته. فَمَنْ لا يُظهر، في كلّ أقواله وأفعاله، أنّ الربّ قد أحياه (غلاطية 2: 20)، لا يقدر على أن يوزّع “كلمة الحياة” (1 يوحنّا 2: 20). الخبرة، كما تُظهرها الآية التي بنينا عليها هذه القاعدة الأخيرة، هي حياة الله التي تفيض على ألسنة لن يقدر عليها موت. الخبرة هي ما يعطي الواعظ أن يمدّ مائدة الله بكلمته قبل أن يمدّها بقرابينه.
لقد حاولنا، بمقالات خمس، أن نكشف بعض قواعد الوعظ الكنسيّ انطلاقاً من خطَب بطرس المحفوظة في كتاب أعمال الرسل (أنظر: رعيّتي 41، 42، 43، 44، 2007). نحن لا ندّعي أنّ هذه المقالات تكشف كلّ القواعد التي بثّها روح الله في هذه العظات الرسوليّة. إنّها مساهمة. والمساهمات تمتمة في كنيسة تعجز أقلام الأرض عن الإحاطة بغناها المحيي.
وردت هذه الدراسة في نشرة رعيتي على خمسة أجزاء:
من الأحد 14 تشرين الأول 2007 العدد 41
حتى الأحد 11 تشرين الثاني 2007 العدد 45