انتشر منذ فترة في وسائل الإعلام كافّة مصطلح جديد هو لفظ “العولمة”، ورأينا الناس منقسمة بين مؤيّد ومعارض لها، وقد سقط منذ ثلاثة أسابيع قتيل في إحدى المظاهرات المناهضة للعولمة في مدينة جنوى الإيطاليّة. وصدر الكثير من الكتب والمقالات التي تناولت بالتحليل ظاهرة العولمة في ميادينها العديدة: السياسيّة والاقتصاديّة والتجاريّة والثقافيّة. فما المقصود بالعولمة؟ وهل ثمّة موقف مسيحيّ منها؟
نتج مفهوم “العولمة” من ازدهار وسائل الاتّصالات وتقنياتها وتطوّر المعلومات، بحيث أصبح العالم قريّة كبيرة واحدة. فوجود الإنترنت في أماكن العمل والسكن وضع الإنسان في تواصل دائم مع ما يحدث في أيّ بقعة من بقاع الأرض. هذا بالإضافة إلى أنّ انفتاح الحدود أمام التجارة الحرّة وتبادل السلع وتحوّل المجتمعات الإنسانيّة إلى مجتمعات استهلاكيّة، قد ساهمت كلّها في انتشار العولمة. فصرنا نرى مؤسّسات دوليّة (كالبنك الدوليّ ومنظّمة التجارة الدوليّة) وشركات عالميّة أقوى من الدول القائمة، إذ تفرض على هذه الدول، الفقيرة عموماً، سياستها الاقتصاديّة التي تتعارض مع مصلحة الفقراء، أي أغلبيّة أبناء البلد. البلد.
أمّا التعريف الثاني بالعولمة فيتلخص بأنّها تعني هيمنة نمط واحد على كلّ مسائل الحياة والأفكار والمبادلات التجاريّة والاقتصاديّة والاستهلاكيّة والنظم السياسيّة. فلا مكان للتمايز والتنوّع والاختلاف البناء، بل ثمّة سيادة أحاديّة على العالم في كلّ المجالات. إلاّ أنّ أخطرها، بلا ريب، فإنّما هي الأحاديّة الثقافيّة التي تبرز في شكل هيمنة أسلوب واحد ونموذج واحد على حياتنا. نقول بخطورة هذه الأحاديّة لأنّها تنكر الخصوصيّات التي يتميّز بها كلّ فرد أو شعب أو أمّة، ولا تحترم تالياً فرادة كلّ إنسان. بل هي تسعى إلى جعل البشريّة كلّها تسلك على نمط واحد في كلّ بقاع الدنيا المسكونة، فتأكل طبقاً موحّداً وتشرب شراباً موحّداً وتلبس زيّاً موحّداً… هكذا تشكّل العولمة خطراً إذ تجعل الناس كافّة نسخاً طبق الأصل لا نكهة خاصّة تميّز واحدهم عن الآخر.
لا بدّ، إذاً، من القول إنّ للعولمة، على الصعيدين الإيمانيّ والمسلكيّ المسيحيّ، وجهين: إيجابيّ إذ تفتح أمامنا فرصاً نافعة، وسلبيّ إذ إنّها قد تؤدّي إلى أضرار إنسانيّة كبيرة. أمّا الوجه الإيجابيّ فيكمن في استثمار التقنيات الحديثة (الكومبيوتر، الإنترنت، وسائل نقل المعلومات) لنشر الإيمان وتبادل الأخبار وتعزيز القيم المسيحيّة والإنسانيّة وبثّها في واقع الناس والأمم. وفي السياق عينه يمكن الاستفادة من هذه الوسائل الحديثة لإتاحة الفرصة أمام كلّ باحث أن يدخل، وهو جالس إلى مكتبه في غرفته، إلى كلّ مكتبات العالم ومراكز البحوث والمتاحف والجامعات إذا ما أراد الاطّلاع على العلوم والنهل منها. لقد جعلت العولمة المعرفة في متناول الجميع، إذ ألغت المسافات.
يلتقي القادة الكنسيّون والمؤمنون على انتقاد العولمة ذات البعد الاقتصاديّ الاحتكاريّ التي تغلّب فكرة الربح والاستغلال على فكرة العدالة الاجتماعيّة. فيشدّد هؤلاء على أولويّة الإنسان، في حين أنّهم يرون أنّ حركة اقتصاد السوق، على نقيض الفكر المسيحيّ، تهتمّ بالمستهلك وتهمل الإنسان. وفيما تقدّم العولمة الاقتصاديّة معيار النجاح والفشل لتقويم أي نشاط فيكون حينئذ كلّ ما هو ناجح هو جيّد بالضرورة، ثمّة في المسيحيّة معيار آخر هو معيار الخير والشرّ وعندها ليس كلّ ما هو ناجح هو جيّد بالضرورة.
يشبّه الدكتور طارق متري (في مقالة له في كتاب “الدين والعولمة والتعدّديّة” الصادر عن مركز الدراسات المسيحيّة الإسلامية في جامعة البلمند) العولمة بروايتَي برج بابل والعنصرة الواردتين في الكتاب المقدّس، الأولى في العهد القديم (سفر التكوين 11: 1-9) والثانية في العهد الجديد (سفر أعمال الرسل 2: 1-11). تخبرنا رواية العنصرة أنّ الرسل المجتمعين في العلّيّة، بعد نزول الألسنة الناريّة على رؤوسهم، أصبحوا قادرين على إعلان بشارة يسوع السارّة إلى الأمم على اختلاف ثقافاتها ولغاتها من دون أن تشترط تجانسهم الثقافيّ، إنّها تخاطبهم بلغاتهم. ثمّ إنّ معجزة العنصرة لا تحلّ على أفراد منعزلين بل تتحقّق عند اجتماعهم، أي أنها فعل جماعيّ. البعد الكونيّ الواضح هنا ليس قائماً على سلطة أو مال أو صفقة أو ربح اقتصاديّ، بل هو قائم على التخاطب والتفاهم وإعلان بشرى المسيح السارّة للناس. من منظور العنصرة، إذاً، لا يرفض المسيحيّون العولمة برمّتها لأنّها تعزّز فرص التلاقي والترابط والتفاعل بين الناس عبر اللغات والأعراق والأوطان. ولكنّها لا تقبل العولمة برمّتها، لأنّ العولمة في بعض وجوهها لا تعطي الأولويّة للإنسان وحرّيّته.
على نقيض العنصرة تأتي رواية برج بابل، فالناس تبلبلت ألسنتهم وباتوا عاجزين عن التفاهم والتخاطب وتشتّتوا في العالم كلّه، لأنّ عولمتهم تمحورت حول الذات والسلطة ومنطق القوّة. ويتساءل الكاتب المذكور أعلاه: “أليست وحدة السوق الماليّة، مثلاً، أقرب إلى صورة بابل منها إلى صورة العنصرة؟ أليست إمكانات الاتّصال بين الناس التي تتيحها العولمة أقرب إلى فكرة العنصرة منها إلى فكرة بابل؟”
لقد قال السيّد المسيح لتلاميذه بعد قيامتة: “إذهبوا الآن وتلمذوا كلّ الأمم معمّدين إيّاهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متّى 28: 19). هذا يعني أنّ الأرض كلّها للربّ وهي حقل لبذاره وحصاده. العولمة فرضت نفسها على الناس، علينا أن نجعلها أقلّ استغلالاً للبشر وأكثر إنسانيّة. العولمة قد تكون أيضاً، بإرادتنا، مكان تجلًّ للمسيح.
نقلاً عن: نشرة رعيتي
مطرانية جبيل والبترون
الأحد 19 آب 2001
العدد 33
[important color=blue title=العولمة – عظة لصاحب السيادة جاورجيوس خضر]
نبحث في العولمة بسبب من نتائجها الثقافية والروحية اذا نجحت. وهي آتية لا محال تفعيلا للاقتصاد الليبرالي الجديد والسوق العالمية التي تعني تبادل السلع بين الدول جميعا. وما يرافقها انتشار اللغة الانكليزية الرهيب بحيث يظن بعضهم انها قد تطغى على اللغات الأخرى فيزول تراثها.
الكثيرون لا يعتقدون ان هذا الطغيان اللغوي ممكن فالشعوب متمسكة بلغاتها ولو استعملت الانكليزية للتجارة.
ما يخيف حقا هو ان تستبد الدول العظمى بالدول الصغرى اقتصاديا فتستغل مواردها ولا تفيدها كثيرا. ما كانت تحلم به الدول النامية اي التبادل المتكافئ لن يكون. فهناك تصميم على ان العالم الأول اي العالم الصناعي يحتكر الصناعات الأساسية والتكنولوجيا العليا. في ظل استعمار متجدد بطرق اخرى قد تُساء معاملة الكبار للمسلمين والعرب وهذا من شأنه أن يؤذينا نحن مسيحيي الشرق في علاقاتنا مع المسلمين الذين لا يزالون يظنون ان الغرب مسيحي. ونحن نريد ان نبقى شهودًا للمسيح في الحضارة العربية كما كنا دائمًا وأعطيناها الكثير كما أعطتنا الكثير.
نحن ليس بمقدورنا لا من حيث نحن عرب ولا من حيث نحن مسيحيون أن نقاوم ظاهرة العولمة حتى تعطيلها. ولكنا نستطيع أن نحمي أنفسنا روحيًا من ويلاتها. وهذا لا يتوفر الا بنهضة روحية كبيرة تجعلنا نحيا من المسيح في كنيسته وذلك بالتقارب مع الكنائس المسيحية الأخرى التي لا بد ان تذوق هي نهضة فيها. طبعًا ليس من السهل أن تحيا في بلد مقهور وتظهر مقهوريته ليس فقط في اختلال الأمن ولكن في الفقر. ان هذا التردي الاقتصادي سوف يدفعنا الى الإيمان بالمشاركة الكبيرة بالأموال بين المؤمنين.
قد تأخذنا “موضة” العولمة وترجمتها على كل صعيد في الفن، في التربية. ولا بد أن تبني الكنائس بعض وسائل الإعلام الحديث وقد دخلت ذلك الحقل منذ الآن.
نحن لا نخشى اي تطور في الحضارة. لقد خشي المسيحيون ظهور العلم الحديث وظنوا انه يناقض الكتاب. تصالحوا الآن مع العلوم. نحن لسنا أعداء التكنولوجيا. نتبنّاها حيث ليست ضد الأخلاق. ولكن لنا موقف من استبداد الشعوب بالشعوب. ونحن ننصر الضعيف. هل يمكن أن تهتدي الدول العظمى الى انها لن تثبت اذا بقيت مستبدة بالصغار؟ هذا ما نرجوه.
لا يجوز أن يظل الصغير مصلوبًا ويموت جوعًا كما هو حاصل في عدة بلدان؟ هناك ملايين من الناس ليس عندهم ماء الشفة نظيفًا. هذا اذا لم نتكلم على أمراض تفتك خصوصًا بشعوب الدول النامية. غير ان مواجهة كل ذلك غير ممكنة الا باستنفار كل قوانا الروحية وتمكننا من تلك المحبة للضعاف وهي التي تدفعنا الى كفاح ثقافي وسياسي في سبيل بشرية واحدة تضيق فيها المسافة بين الغني والفقير، بين أهل هذا الدين وأهل ذاك، هذا اللون او ذاك. يسوع هو مخلّص الانسان والحضارة.
نقلاً عن: نشرة رعيتي
مطرانية جبيل والبترون
الأحد 15 أيلول 2002
Problema 37
[/important]