Facebook
Twitter
Телеграма
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

ترجع أهمية القديس إيريناوس اللاهوتية لسببين:

السبب الأول: أنه رفع القناع الذي كانت البدعة الغنوسية تغطي به تعليمها، مدّعية أن تعاليمها هو الإيمان المسيحي الصحيح، وبرفع هذا القناع استطاعت الكنيسة في عصره أن تستبعد هذه الهرطقة من الكنيسة.

والسبب الثاني: أنه نجح نجاحاً عظيماً في تحديد وتعريف عناصر إيمان الكنيسة الجامعة، الذي كان الغنوسيون ينكرونه أو يسيئون تفسيره، مما يجعله جديراً بأن يُلقب بـ”مؤسس علم اللاهوت المسيحي”.

كان إيرينيوس لا يميل إلى التفكير النظري المجرد ولم يجتهد لكي يُبدع اكتشافات لاهوتية لم تكن مُسلّمة من الرسل، وبالعكس قد كان دائماً يتشكك بسهولة في أي نوع من المعرفة أو العِلم النظري المجرد. ولذلك نجده يقول في كتاب “ضد الهرطقات”: [من الأفضل للإنسان ألاّ يحصل على عِلم أو معرفة عن السبب الذي لأجله خُلق أي مخلوق من المخلوقات، بل بالحري ينبغي أن تؤمن بالله وتستمر في محبته أفضل من أن تنتفخ بمعرفة من هذا النوع وهذا يؤدى بك إلى السقوط من محبة الله، التي هي حياة الإنسان. ولا ينبغي للإنسان أن يسعى وراء أي معرفة أخرى سوى معرفة يسوع المسيح ابن الله الذي صُلِب من أجلنا، فمن يسعى وراء معرفة أخرى مستخدماً أسئلة خبيثة وتعبيرات ماكرة ومُعقدة فإنه سيسقط في الكفر وعدم التقوى] (AH2:26:1).

وبالرغم من موقفه الحذر والمتشكك تجاه التعاليم اللاهوتية النظرية المجردة، كما يقول عالِم الآباء المشهور جوهانسن كواستن (1)، فإن إيريناوس جدير بمكانة عظيمة وفضل لا يبارى على الإيمان المسيحي، لأنه أول من قام بصياغة المصطلحات العقائدية لكل تعاليم الإيمان المسيحي.

1- تعليم القديس إيرينيوس عن الثالوث:

يتميز تعليم القديس إيريناوس عن الثالوث بالتأكيد على أن الإله الواحد الحقيقي هو نفسه خالق العالم، وهو نفسه إله العهد القديم، وهو نفسه أبو الكلمة. ورغم أن إيرينيوس لا يبحث في العلاقات بين الأقانيم الثلاثة أحدها بالآخر، إلاّ أنه مقتنع أن وجود الآب والابن والروح القدس ثابت بوضوح في تاريخ الجنس البشري. فالآب والابن والروح القدس موجودون قبل خلقة العالم لأنه كما يقول، فإن الكلمات: ” نصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا” (تك26:1س) هي مُوجهة من الآب إلى الابن والروح القدس، هذين الأقنومين اللذين يدعوهما القديس إيريناوس بلقب: “يديّ الله” (انظر AH5:19:3، 5:28:1، 5:5:1). ويشرح القديس إيرينيوس بتكرار أن الروح القدس مع الكلمة يملأ الأنبياء بمسحة الوحي وكيف أن الآب هو الذي دبر كل هذه الأمور. ولذلك فإن كل تدبير الخلاص في العهد القديم هو عند إيريناوس درس ممتاز رائع عن الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد.

2- تعليم القديس إيرينيوس عن المسيح:

– بخصوص علاقة الابن بالآب:

يقول القديس إيريناوس إنه لا يستطيع أحد أن يدرك كيفية ولادة الابن من الآب ولا يستطيع أحد أن يفهم طبيعة هذه الولادة الإلهية، وما هو الاسم الذي يطلقه عليها لأنها أمر يعلو على كل وصف أو شرح. ولا يوجد مَنْ يعرف هذه العلاقة سوى الآب الذي يلد الابن، والابن الذي وُلِدَ من الآب. ولذلك يقول القديس إيرينيوس: ” حيث إن هذه الولادة لا يمكن التعبير عنها بالكلام وتفوق الإدراك، لذلك فإن أولئك الذي يحاولون أن يضعوا ويرتبوا ولادات(2) وتوّلدات لا يمكن أن يكونوا عقلاء لأنهم يحاولون أن يصفوا أموراً من المستحيل وصفها” (AH2:28:6).

ويقدم لنا القديس إيريناوس أول محاولة لإدراك العلاقة بين الآب والابن فيقول: ” الله قد أُعلِن من خلال الابن الذي هو في الآب والذي له الآب في ذاته” (AH3:6:2). كما يؤكد القديس إيرينيوس أن الآب هو نفسه خالق العالم وذلك رداً على الغنوسيين. وهو أيضاً يعلّم أنه يوجد مسيح واحد حتى إن كنا نعطيه أسماء عديدة. لذلك فالمسيح هو ابن الله، وهو الكلمة، وهو يسوع الإله المتجسد، وهو مخلصنا وربنا.

ب – جمّع الكل في المسيح:

إن قلب تعليم إيريناوس عن المسيح بل ومحور وقلب كل تعليمه اللاهوتي هو رؤيته الخاصة بـ “جمّع الكل في المسيح”. واضح أن القديس إيرينيوس استعار هذا التعبير من بولس الرسول في رسالته إلى أفسس (10:1) ” لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح”. ثم امتد بهذه الفكرة امتداداً كبيراً حتى صارت فكرة ” جمع كل شيء في المسيح” تحوى كل تعليمه عن التجسد والفداء وحلول الروح القدس وتأسيس الكنيسة، وكون المسيح رأس الجسد أي “الكنيسة”. فيقول إيريناوس إن “جمع كل شيء في المسيح” يشمل أخذ كل الأشياء منذ البداية وجعلها في المسيح. فالله أعاد الخطة الإلهية الأولى الخاصة بخلاص الجنس البشري التي انقطعت بسقوط آدم، وهو يجمع كل ما عمله منذ البداية لكي يجدّد، ولكي يرد، ولكي يعيد تنسيق كل شيء في ابنه المتجسد، الذي يصير بهذه الطريقة هو آدم ثانٍ لأجلنا. وحيث إنه بسقوط الإنسان ضاع كل الجنس البشري، فكان يلزم أن يصير ابن الله إنساناً لكي يتمّم إعادة خلق جنس البشر: [المخلوقات التي هلكت كان لها جسد ودم لأن الرب صنع الإنسان من تراب الأرض، ولأجله حدثت كل تدبيرات مجيء الرب. لذلك أخذ لنفسه جسداً ودماً جامعاً في نفسه ليس إنساناً آخر معيناً بل ذلك الإنسان الأول الذي خلقه الآب، إذ انه كان يطلب ذلك الذي كان قد هلك] (AH5:14:2).

وبهذا “الجمع” للإنسان الأصلي في المسيح قد تم تجدّيد ورد ليس آدم الأول شخصياً فقط بل وكل الجنس البشري، إذ يقول: [حينما تجسد وصار إنساناً، جمّع في نفسه كل تاريخ الإنسان الممتد جامعاً إيانا ومعطياً لنا الخلاص لكي ننال مرةً أخرى في المسيح يسوع ما قد فقدناه في آدم، أي صورة الله ومثاله] (AH3:18:1).

وفي نفس الوقت فإن النتائج الشريرة لعصيان آدم الأول قد أُبيدت، إذ يقول: [الله جمّع في نفسه صورة الإنسان القديمة، لكي يقتل الخطية ويجرد الموت من سلطانه ويحيى الإنسان] (AH3:18:7). وبهذه الطريقة فإن آدم الثاني قد جدَّد الصراع القديم ضد إبليس وهزمه، إذ يقول القديس إيرينيوس: [ لو أن الرب كان قد أتى من أب آخر غير الله الآب لما كان قد جمّع في نفسه تلك العداوة الأولى ضد الحية، ولكن لأنه هو هو نفسه الذي هو واحد، وهو نفسه الذي صنعنا في البداية ثم أرسل إلينا ابنه في النهاية، فإن الرب تمّم هذا الأمر، مولوداً من امرأة، إذ أباد عدونا كما أنه أكمّل الإنسان على صورة الله ومثاله] (AH5:21:2).

ولهذا جدَّد المسيح كل شيء بجمعه كل شيء في نفسه. فيقول القديس إيريناوس: [إذن فما الذي أحضره المخلّص عند مجيئه، اعلم أنه أتى بكل الجدة، بأن حضر بنفسه، وهو نفسه الذي سبق التنبؤ عنه. لأن هذا قد أُعلِن جهاراً، أن هناك جدة سوف تأتي، لتجدّد الإنسان وتعطيه الحياة] (AH4:34:1).

3- تعليم القديس إيرينيوس عن الكنيسة:

– تعليم القديس إيريناوس عن الكنيسة أو ما يسميه العلماء بـ”الإكليسولوجى” مرتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرته عن “جمع الكل في المسيح”. فالله يجمع في المسيح ليس الماضي فقط بل والمستقبل أيضاً. لذلك فقد جعله الآب رأس الكنيسة كلها لكي يواصل بواسطتها عمل التجدّيد إلى نهاية العالم. فيقول: [ لذلك إذ يوجد إله واحد هو الآب كما سبق أن أوضحنا، ومسيح واحد هو المسيح يسوع ربنا، الذي جاء بتدبير جامع وشامل لكي يجمع كل الأشياء في نفسه، ومن ضمن كل هذه الأشياء (المخلوقة) الإنسان الذي هو خليقة الله؛ لذلك فهو يجمع الإنسان أيضاً في نفسه. فغير المنظور صار منظوراً وغير المُدرك صار مُدركاً وغير المتألم صار متألماً؛ والكلمة صار إنساناً جامعاً كل الأشياء في نفسه من جديد. وهكذا، فكما أنه هو الأول بين الكائنات السماوية والروحية غير المنظورة، هكذا أيضاً هو الأول بين الأشياء المنظورة والجسمانية، فهو يأخذ الرئاسة لنفسه وإذ جعل نفسه رأس الكنيسة، فهو سوف يجذب كل الأشياء إلى نفسه في الوقت المحدد] (AH3:16:6).

ب – القديس إيرينيوس كان متيقناً بثبات تام أن تعليم الرسل مستمر بغير تغيير في الكنيسة. هذا التعليم أي التقليد هو مصدر الإيمان وقاعدته، فهو قانون الحق، وقانون الحق هذا عند إيريناوس هو قانون إيمان المعمودية، لأنه يقول إننا نستلمه في المعمودية (AH1:9:4). ويعطى القديس إيرينيوس وصفاً لإيمان الكنيسة بحسب قانون إيمان الرسل بالضبط، إذ يقول: [ رغم أن الكنيسة منتشرة في كل العالم، منتشرة في كل المسكونة من أقاصيها إلى أقاصيها، فقد استلمت من الرسل وتلاميذهم الإيمان بإله واحد، الآب ضابط الكل، خالق السماء والأرض والبحار وكل ما فيها؛ والإيمان بالمسيح يسوع الواحد، الذي هو ابن الله، الذي تجسد لأجل خلاصنا؛ والإيمان بالروح القدس الذي أعلن التدبير بواسطة الأنبياء، أي بمجيء المسيح وميلاده العذراوي وآلامه وقيامته من بين الأموات، وصعود ربنا المحبوب المسيح يسوع إلى السماء جسدياً، وظهوره ثانيةً من السماء في مجد الآب لكي يجمع كل الأشياء في نفسه ولكي يقيم أجساد كل البشر إلى الحياة، لكي تجثو للمسيح يسوع ربنا وإلهنا ومخلصنا وملكنا كل ركبة، بحسب مشيئة الآب غير المنظور، ولكي يعترف كل لسان له، ولكي يجري دينونة عادلة للجميع ولكي يطرد أرواح الشر والملائكة الذين تعدوا وصاروا مضادين وكذلك الأثمة والأشرار ومخالفي الناموس والدنسين، يطرح الجميع في النار الأبدية؛ ولكن في نعمته سوف يهب الحياة ومكافأة عدم الفساد والمجد الأبدي لأولئك الذين حفظوا وصاياه وثبتوا في محبته سواء منذ بداية حياتهم أو منذ وقت توبتهم. هذه الكرازة وهذا الإيمان تحفظه الكنيسة باجتهاد رغم أنها مُشتتة في كل العالم، تحفظه بكل اجتهاد كما لو كانت كلها تسكن في بيت واحد، وهي تؤمن بهذا وكأن لها عقل واحد وتكرز وتعلّم وكأن لها فم واحد، ورغم أن هناك لغات كثيرة في العالم، إلاّ أن معنى التقليد واحد، وهو هو نفسه. لأن نفس الإيمان تتمسك به وتسلّمه الكنائس المؤسسة في ألمانيا، وأسبانيا، وقبائل قوط، وفي الشرق، وفي ليبيا، وفي مصر، وفي المناطق الوسطى من العالم. ولكن كما أن الشمس وهي مخلوقة من الله، هي واحدة، وهي هي نفسها في كل المسكونة، هكذا أيضاً نور كرازة الحق، الذي يضيء على كل الذين يرغبون أن يحصلوا على معرفة الحق] (AH1:10:1-2).

ج – وعلّم القديس إيريناوس أن الكنائس المُؤسسة من الرسل فقط هي التي يمكن أن يُعتمد عليها في معرفة التعليم الصحيح للإيمان ومعرفة الحق، لأن تسلسل الأساقفة غير المنقطع في هذه الكنائس هو الذي يضمن أن تعليمها هو الحق: [ أي شخص يريد أن يميز الحق، فإنه يمكن أن يرى التقليد الرسولي واضحاً وظاهراً في كل كنيسة في العالم كله. ويمكننا أن نحصى أولئك الذين أُقيموا كأساقفة من الرسل في الكنائس وكذلك خلفائهم حتى إلى يومنا الحاضر والذين لم يعرفوا أبداً ولم يُعلّموا بتاتاً أي شيء يشبه التعليم الأحمق لهؤلاء (أي الغنوسيين). فلو كان الرسل قد عرفوا مثل هذه الأسرار الخفية التي يعلّمونها على انفراد وسراً للكاملين لكانوا بالتأكيد قد استودعوا هذا التعليم للرجال الذين أقاموهم كمسئولين عن الكنائس، لأن الرسل كانوا يريدون أن هؤلاء الرجال الذين استلموا منهم السلطان أن يكونوا بلا لوم أو عيب] (AH3:3:1).

4 – تعليم القديس إيرينيوس عن الخلاص:

محور تعليم القديس إيريناوس عن الفداء هو حقيقة أن كل إنسان محتاج إلى الفداء ومُؤهل للفداء. وهذا نتج عن سقوط الأبوين الأولين الذي جعل كل نسلهم تحت الخطية والموت، وقد فقدوا صورة الله. فالفداء الذي صنعه ابن الله قد حرّر البشر من عبودية الشيطان وعبودية الخطية، وعبودية الموت. إضافة إلى ذلك، إن هذا الفداء استجمع كل البشرية في المسيح، وقد أدى إلى إعادة الاتحاد بالله، وإلى التبني لله، وإلى مشابهة الله. ولكن القديس إيرينيوس يتحاشى لفظة التأليه في هذا المجال ولكنه يستخدم تعبيرات “الالتصاق بالله”، و”التعلق بالله” و”الاشتراك في مجد الله”، ولكنه يتحاشى إلغاء الحدود الفاصلة بين الله والإنسان كما كان معتاداً في الديانات الوثنية والهرطقات الغنوسية.

والقديس إيريناوس يميز بين صورة الله ومثال الله، فالإنسان عنده هو في طبيعته – بروحه غير المادية – هو صورة لله. أما “مثال الله” فهو مشابهة لله من نوع فوق الطبيعة الذي كان آدم حاصلاً عليه بمبادرة من صلاح الله ونعمته. هذه المُماثلة لله تتحقق بفعل روح الله.

فداء الشخص المفرد يتم بواسطة الكنيسة وأسرارها باسم المسيح، فالسر بالنسبة للطبيعة هو يقابل آدم الجديد بالنسبة للقديم. فالمخلوق ينال الكمال بالأسرار. فالسر هو ذروة جمع كل الخليقة في المسيح. بالمعمودية يُولد الإنسان ثانية من الله. وعندما يتحدث عن المعمودية فإن إيرينيوس يشهد لأول مرة في الكتابات المسيحية القديمة لمعمودية الأطفال: [ لقد جاء ابن الله ليخلّص الجميع بواسطة نفسه – أقول الجميع الذين يُولدون ثانية بواسطة الله – الرُضع، والأطفال – والصبيان، والشباب، والشيوخ] (AH2:22:4).

5- تعليم القديس إيريناوس عن الإفخارستيا:

القديس إيرينيوس كان عنده اقتناع تام بالحضور الحقيقي للمسيح بجسده ودمه في الإفخارستيا لدرجة أنه يستنتج حقيقة قيامة الجسد الإنساني من حقيقة كون هذا الجسد قد اغتذى بجسد المسيح ودمه:

[ لذلك، حينما يحصل الكأس الممزوج والخبز المصنوع، على “كلمة الله”، وتصير الإفخارستيا جسد المسيح ودمه، هذه التي تنمى جسدنا وتسنده، فكيف يمكنهم أن يؤكدوا أن الجسد غير مهيأ لنوال موهبة الله، التي هي الحياة الأبدية؛ جسدنا هذا الذي يتغذى من جسد الرب ودمه، والذي هو عضو له؛ ذلك الجسد الذي يغتذي بالكأس التي هي دمه، وينال ازدياداً من الخبز الذي هو جسده. وكما أن الفرع المأخوذ من الكرمة عندما يُغرس في أوانه، أو كما أن حبة الحنطة التي تسقط في الأرض وتموت وتتحلل؛ تقوم بازدياد بأنواع كثيرة بقوة روح الله، وتصير هي الإفخارستيا التي هي جسد المسيح ودمه، هكذا أجسادنا أيضاً، إذ تتغذى منها، فإنها عندما توضع في الأرض، وتتحلل وتموت، فإنها سوف تقوم في وقتها المعين لها] (AH5:2:3). وفي موضع آخر يقول:

[ وكيف يقولون إن الجسد يصير إلى فساد ولا يشترك في الحياة، وهو الذي يتغذى على جسد الرب ودمه. فإما أن يغيروا رأيهم، أو فليكفوا أن يقدموا التقدمات التي ذكرتها. أما نحن فإن تعليمنا متفق مع الإفخارستيا، والإفخارستيا بدورها تثبت صحة تعليمنا. ونحن نقدم له التقدمات التي هي له، وبالتالي نكون مظهرين شركتنا واتحادنا، ومعترفين بقيامة الجسد والروح. لأنه كما أن الخبز الذي من الأرض، إذ ينال عطية الله، لا يبقى بعد خبزاً عادياً بل إفخارستيا مكونة من عنصرين، واحد أرضي والآخر سماوي، هكذا أيضاً أجسادنا، إذ تنال من الإفخارستيا، لا تعود فيما بعد قابلة للفساد، بل يصير لها رجاء القيامة الأبدية] (AH4:18:5).

ومن هذه الكلمات يتضح أن القديس إيريناوس يؤمن بأن الخبز والخمر يتقدسان بصلاة استدعاء الروح. وكذلك يؤمن بأن الإفخارستيا ذبيحة، لأنه يرى فيها الذبيحة الجديدة التي تنبأ عنها ملاخي:

[وإذ أعطى (الرب) توجيهات لتلاميذه أن يقدموا باكورات من كل الأشياء المخلوقة التي له – ليس كمن هو في احتياج إليها، بل لكي لا يكونوا هم أنفسهم غير مثمرين، ولا غير شاكرين – لذلك أخذ ذلك الشيء المخلوق، أي الخبز، وشكر، وقال: ” هذا هو جسدي” وكذلك الكأس بالمثل، التي هي جزء من تلك الخليقة التي ننتمي نحن إليها، هذه الخمر اعترف بأنها دمه، وعلّم عن القربان الجديد الذي للعهد الجديد، والذي تقدمه الكنيسة لله في كل العالم كما استلمته من الرسل، وهي تقدمة لذاك الذي يعطينا باكورة عطاياه للعهد الجديد كوسيلة للبقاء والوجود، تلك التقدمة التي تنبأ عنها ملاخي أحد الأنبياء الاثني عشر قائلاً: ” ليست لي مسرة بكم قال رب القوات (الرب القدير)، ولا أقبل تقدمة من يدكم. لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يُقرّب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة لأن اسمي عظيم بين الأمم قال رب القوات (الرب القدير)” مبيناً بأوضح طريقة بهذه الكلمات، أن الشعب القديم (اليهود) سيكف عن أن يقدم تقدمات لله، ولكن سوف تُقدم له (لله) تقدمات في كل مكان، تقدمات طاهرة، وأن اسمه سوف يتعظم بين الأمم] (AH41:17:5).

6 – تعليمه عن الإنسان:

يتبنى القديس إيرينيوس فكرة تكوين الإنسان من جسد ونفس تنال الروح: فيقول: [ الجميع يعترفون أننا مكونون من جسد مأخوذ من الأرض، ونفس تلك التي تنال الروح من الله] (AH3:22:1).

لذلك فالجسد البشري الذي تحييه نفس طبيعية (أو حيوانية) فقط ليس إنساناً كاملاً. ويبدو أن القديس إيريناوس، مثل الرسول بولس، دائماً يعتبر “الروح” الذي يكمل ويتوج الطبيعة البشرية، هو روح الله شخصياً. فالمسيح وعد بهذا الروح كعطية لرسله ومؤمنيه، والرسول بولس يقول للمسيحيين مرة بعد مرة إنهم يحملون هذا الروح في داخلهم كما في هيكل. ويتضح تعليم إيرينيوس عن الإنسان من الفقرة التي يصف فيها الإنسان الكامل المخلوق على صورة الله:

[ أنه بيدي الآب، أعنى بالابن والروح خُلِق الإنسان – وليس مجرد جزء من الإنسان – خُلِق على مثال الله. فالنفس والروح هما بالتأكيد جزء من الإنسان وبالتأكيد أيضاً ليس هما الإنسان؛ لأن الإنسان الكامل يتكوّن من مزيج واتحاد النفس بنوالها روح الآب، وخليط تلك الطبيعة اللحمية التي جُبلت أيضاً على حسب صورة الله.. لأنه إذا استبعد أحد الجسد من صناعة يدي الله، واعتبر الروح فقط صنعته، فإن هذا لا يكون إنساناً روحياً بل يكون روح إنسان أو روح الله. ولكن حينما تتحد الروح المندمجة مع النفس بالجسد، يصير الإنسان روحانياً وكاملاً بسبب انسكاب الروح عليه، وهذا هو “الإنسان” الذي صُنِع على صورة الله ومثاله. ولكن إن كانت النفس بلا روح، فالذي يكون هكذا هو في الحقيقة من طبيعة حيوانية وإذ يبقى لحمياً، فسيكون كائناً ناقصاً حتى إن كان يملك صورة الله في تكوينه، ولكنه غير حاصل على المماثلة بواسطة الروح؛ ولهذا يكون غير كامل. ولذلك أيضاً، إذا استبعد أحدٌ الصورة ووضع الجسد جانباً فإنه لا يستطيع عندئذٍ أن يفهم أن هذا الكائن هو إنسان – كما قلت سابقً – أو كشيء ما آخر غير الإنسان. لأن ذلك الجسد الذي قد جُبِل ليس هو إنساناً كاملاً بذاته، ولكنه جسد إنسان وجزء من إنسان، وكذلك النفس ذاتها إذا اعتُبرت بذاتها فقط (أي بدون الجسد)، فهي ليس إنساناً بل هي نفس الإنسان وجزء من الإنسان. وكذلك أيضاً فإن الروح ليست إنساناً، لأنها تُدعى الروح، ولا تُدعى الإنسان؛ ولكن امتزاج الثلاثة معاً واتحادهم يكوّن إنساناً كاملاً] (AH5:6:1).

وفي موضع آخر من نفس الكتاب يقول: [ إذن، يوجد ثلاثة عناصر – كما سبق أن أوضحت – يتكوّن منها الإنسان “الكامل” وهى: الجسد، والنفس، والروح (3). أحد هذه الثلاثة هو الذي يُحفظ ويشكِّل، وهذا هو الروح. أما بالنسبة للعنصر الآخر فهو المتحد والمُشَكّل فذلك هو الجسد؛ والعنصر الثالث هو بين هذين الاثنين ذلك هو النفس التي في بعض الأحيان حينما تسير وراء الروح تسمو بواسطة الروح، ولكن في أحيانٍ أخرى إن مالت ناحية الجسد فإنها تسقط في الشهوات الجسدية. إذن فأولئك الناس الذين ليس عندهم ما يخلِّص ويشكِّل للحياة الأبدية وليس فيهم الوحدة فإنهم يكونوا “لحماً ودماً”(4)، وبذلك سيُدعون هكذا “لحماً ودماً”. لأن هؤلاء هم الذين ليس لهم روح الله في أنفسهم ومثل هؤلاء تكلم عنهم الرب بأنهم أموات حين قال ” دع الموتى يدفنون موتاهم” (لو60:10)، لأنه ليس عندهم الروح الذي يحيى الإنسان” (AH5:9:1).

ويُفهم من تعليم القديس إيريناوس عن الإنسان أن قبول العنصر الثالث وحفظه – أي الروح – والذي يتوقف عليه كمال الإنسان الجوهري هو مشروط بإرادة الإنسان وسلوكه الروحي والأخلاقي. فحتى الوجود الأبدي للنفس يعتمد على سلوكها هنا على الأرض، لأن النفس ليست خالدة بطبيعتها. فإن خلودها أمر متصل بالنمو الروحي والأخلاقي. فالنفس يمكنها أن تصير خالدة إن كانت شاكرة لخالقها؛ وفي هذا يقول القديس إيرينيوس:

[ لأنه كما أن السماء التي هي فوقنا، أي الجلد والشمس والقمر وبقية الكواكب، وكل عظمتها، ورغم أنها ليس لها وجود سابق، قد دُعيت إلى الوجود، وتستمر موجودة لفترة طويلة من الزمن بحسب إرادة الله، هكذا أيضاً فكل إنسان يفكر هكذا من جهة النفوس والأرواح وفي الواقع من جهة كل المخلوقات لن يضل في تفكيره بأي حال. إذ أن كل الأشياء التي قد خُلقت لها بداية وذلك حينما صُنعت وتستمر موجودةً مادام الله يريد أن يكون لها وجود واستمرار … لأن الحياة لا تُنشأ منا ولا من طبيعتنا الخاصة، بل تُمنح لنا حسب نعمة الله. ولذلك فالإنسان الذي يحافظ على الحياة الممنوحة له ويشكر خالقه الذي وَهَبه إياها سوف ينال طول أيام إلى الأبد وإلى أبد الآبدين. أما ذلك الذي يرفض العطية (الحياة) ويبرهن على أنه غير شاكر لخالقه – إذ أن هذا الإنسان مخلوق – ولم يُقدِّر ذلك الذي منحه الحياة ولم يعرفه، فهذا الإنسان يحرم نفسه من امتياز الدوام إلى الأبد وأبد الآبدين] (AH2:34:3).

ومن الجدير بالملاحظة كما يقول Massuet (5) إن عبارة القديس إيريناوس “لذلك فهذا الإنسان يحرم نفسه من امتياز الدوام إلى الأبد”، ينبغي أن تُفهم بما يتفق مع تأكيدات القديس إيرينيوس المتكررة أن الأشرار سيكونون في تعاسة إلى الأبد. فهذه العبارة إذن لا تشير إلى ملاشاة الأشرار كليةً بل الحرمان من السعادة.

 

 


(1) Quasten, Patrology Vol. I, 294.

(2) يقصد الغنوسيين الذين كانوا يؤمنون بوجود عدة ولادات للدهور والأزمنة.

(3) يشدد القديس إيريناوس على أن الإنسان الكامل يتكون من الجسد والنفس والروح، والروح عنده تناله النفس من الله.

(4)  1كو5:15، وهنا يرد القديس إيرينيوس على الغنوسيين الذين نادوا بأن الجسد لا يخلص لأنه شرير في ذاته بتفسيرهم الخاطئ لهذه الآية ” فإن لحماً ودماً لا يرث ملكوت السموات”.

(5) ملاحظة Massuet هذه أوردها ناشر المجلد رقم 1 من مجموعة A.N.F الذي يحوي كتاب “ضد الهرطقات” للقديس إيريناوس وجاءت الملاحظة في هامش صفحة 412 من المجلد رقم 1 تعليقاً على العبارة المقتبسة أعلاه من الكتاب الثاني من ضد الهرطقات (AH2:34:3).

Facebook
Twitter
Телеграма
WhatsApp
PDF

Информация за страницата

Заглавия на страници

Съдържание на раздела

Тагове

bg_BGBulgarian
Превъртете до върха