علاقات اللاتين مع اليعاقبة والأرمن والموارنة

الحروب الصليبية
1098-1204

أثناسيوس الثاني: (1165-1170) وظلت أنطاكية وجهة آمال الروح وحديث أحلامهم وظلوا يرقبون تطور الظروف ويترصدون سوانح الفرص للظفر بها. وتوفي بوهيموند الأول في إيطالية السنة 1111. وقتل تنكريد الصقلي في الميدان في السنة 1112. وخرَّ بوهيموند الثاني صريعاً في قيليقية سنة 1130 وتولى الوصاية على ابنته قسطندية روجه الساليرني. فارتأى الفسيلفس يوحنا الثاني أن يُزوج ابنه عمانوئيل من قسطندية. ووافقت والدتها. ولكن فولك دانجو ملك أورشليم أزوج قسطندية من ريمون قومس بواتييه. فغضب يوحنا الثاني الفسيلفس لكرامته وانتهز فرصة الحرب القائمة بين عماد الدين الزنكي والافرنج فظهر أمام أسوار أنطاكية فسقطت في يده في آب السنة 1137 فأقسم ريمون أميرها ولاء الطاعة للفسيلفس. ثم اضطر الفسيلفس أن يحاصر أنطاكية في السنة 1142.

وأصيب بسهم مسموم في أثناء الصيد في قيليقية فولى ابنه عمانوئيل وقام إلى القسطنطينية وتوفي فيها سنة 1143. واتسعت آفاق عمانوئيل (1142-1180) وطمع في إيطالية وصقلية وفي إمارات الشرق اللاتينية. وتعدى ريمون أمير أنطاكية وأغار على قيليقية فأنفذ عمانوئيل حملة وأكره ريمون على الذهاب إلى القسطنطينية في السنة 1145 ليطلب العغو. وقتل ريمون في حرب ضد المسلمين في السنة 1149 فشمل عمانوئيل أرملته قسطندية بعطفه وحمايته. وعلى الرغم من عدم انصياعها له في أمر زواجها من رينو دي شاتيون فأنه ظل يعتبر نفسه سيد أنطاكية وتوابعها وفي السنة 1152 ثار طوروس ابن لاوون الأرمني على عمانوئيل واعتصم بتلال قيليقية ثم قلب ظهر المجن وانضم إلى طوروس وتعاون معه في إغارة كبيرة على قبرص سنة 1156. فاستشاط الفسيلفس غيظاً وقام بنفسه إلى قيليقية. فأمّ رينو مصيصة مقر عمانوئيل أعزل عاري القدمين حاسر الرأس ممسكاً بسيفه من طرف نصلته وارتمى عند قدمي الفسيلفس. وما فتئ حتى أمره عمانوئيل بالنهوض فاعترف بسيادة الفسيلفس ورضي بتسليم قلعة أنطاكية وبإقامة بطريرك ارثوذكسي في المدينة. وفي السنة 1162 بلغ بوهيموند الثالث أشده فانتهت وصاية رينو. وفي السنة 1164 وقع بوهيموند الثالث أسيراً في يد نور الدين ثم أطلق سراحه لقاء مبلغ كبير من المال. وكان عمانوئيل قد تزوج من مريم أخت بوهيموند فقام هذا إلى القسطنطينية يرجو صهره الفسيلفس إمداده بالمال اللازم. فصدّقه الفسيلفس السعي ولبّى مبتغاه. فعاد بوهيموند إلى أنطاكية يرافقه بطريرك أرثوذكسي يوناني هو أثناسيوس الثاني.

واعتبر بوهيموند البطريرك اليوناني الأرثوذكسي مساوياً لبطريرك اللاتين بالحقوق والكرامة. فامتعض ايماري بطريرك اللاتين واحتج ثم لعن المدينة وخرج منها وأقام في برج القصير (قلعة الضو) بين كنوزه وأمواله. وكانت السلطات الأرثوذكسية العليا لا تزال تسعى لردّ اليعاقبة والأرمن عن القول بالطبيعة الواحدة والعودة بهم إلى حضن الكنيسة الجامعة. فلما أطلت السنة 1166 وانتخب اليعاقبة ميخائيل السرياني بطريركاً عليهم انتهز اثناسيوس الثاني فرصة قدوم البطريرك الجديد إلى أنطاكية وبحث معه أمر توحيد الكلمة وجمع الصفوف. ودخل اللاهوتي اليوناني ثوريانوس الأرثوذكسي في جدل لاهوتي مع ميخائيل. وأطلع البطريرك اثناسيوس الفسيلفس على ما جرى فاستدعى عاهل الروم البطريرك السرياني إلى القسطنطينية للنظر في صلب الموضوع. ولكن ايماري بطريرك اللاتين كان قد أظهر استعداده للتعاون مع السريان دون قيد أو شرط فامتنع ميخائيل عن الذهاب إلى القسطنطينية ولم تسفر محاولات أثناسيوس عن أية نتيجة إيجابية. وظل ايماري ممتنعاً في برج القصير وواظب كهنته على مقاطعة الروم الأرثوذكس وعلى التردد إلى اليعاقبة والأرمن. وعاد الطرفي السرياني والأرثوذكسي إلى البحث في السنة 1178 واجتمعا في روم قلعة. وترأس الوفد السرياني الأسقف باروهبون وتزعم الوفد الأرثوذكسي كل من الفيلسوف ثيوريانوس وزميله خريستوفوروس ولكن دون جدوى. وانتفخ باروهبون واستكبر من جراء هذه المحادثات فخرج على رئيسه البطريرك ميخائيل وشطر الكنيسة شطريرن ببطريركين متخاصمين متراشقين.

وفي التاسع والعشرين من حزيران سنة 1170 زُلزت الأرض واشتد الصاب فتهدمت الدور والمباني في حلب وحماه وحمص واللاذقية وطرابلس وجبيل وغيرها. ولم تنجُ أنطاكية من هذه الكارثة فأرجفت الكاتدرائية ووتناثرت حجارتها فأصابت اثناسيوس الثاني وحاشيته في أثناء قيامهم بالخدمة الإلهية. فادعى ايماري وجماعته أن الغضب حلَّ على المدينة لخروج ايماري منها ودخول اثناسيوس إليها. فأمر بوهيموند بإخراج البطريرك الأرثوذكسي من المدينة فأخرج وهو في حضرة الوفاة.

بلسامون ثيوذوروس: (1185-1199) وأشهر بطاركة كنيسة مدينة الله في هذه الحقبة بلسامون القانوني الكبير. وهو ثيودوروس الرابع بموجب اللوائح الكنسية. أبصر النور في القسطنطينية ونذر نفسه صغيراً. وألحق بكنيسة الحكمة الإلهية والبطريركية المسكونية فكان مثال الورع والتقوى والنشاط والغيرة. وتدرج في المراتب فشغل وظيفة نوموفيلاكس فخرتوفيلاكس فبروتوسنكلوس وانتخب بطريركاً على أنطاكية في السنة 1185. ولكنه لم يوفق إلى الإقامة فيها فبقي في القسطنطينية حتى أدركته الوفاة في السنة 1199. وليس هناك أي دليل يؤيد اودوان في قوله أن بلسامون انتقل إلى رحمة ربه في السنة 1215.

وأحبت أسرة كومنينوس الكنيسة فنفذت كلمة الأحبار واتسعت صلاحياتهم القضائية. فعكف بلسامون خارتوفيلاكس كنيسة القسطنطينية على درس القوانين المدنية والكنيسة فهاله تكاثرها وتناقضها. فاتخذا أساساً لتدقيقة مجموعة عرفت بالسينتاغمه Syntagma ونسبت إلى فوطيوس العظيم ثم جمع كل ما عثر عليه من القوانين المدنية والكنسية منذ عهد باسيليقة لاوون السادس (886-912) فنسقها وفرق بين مهملاتها وما كان لا يزال ساري المفعول منها. ثم محص هذه تمحيصاً محاولاً التوفيق بين قوانين الكنيسة وقوانين الدولة. فأخرج كتاباً اسمه الدليل إلى القانون Exegesis Canonum لا يزال حتى يومنا هذا منهلاً عذباً يرده أحبارنا المتحبرون.

ولبلسامون مصنفات أخرى أهمها تأملاته وأجوبته عن المسائل الأربع والستين التي طرحها مرقس بطريرك الإسكندرية ومؤانساته الإحدى عشرة.

جمهور المؤمنين: واعتبرت السلطات الصليبية الروحية والمدنية جمهور المؤمنين الأرثوذكسيين أبناء كنيسة واحدة جامعة ففرضوا عليهم العشر وأوجبوا خضوعهم لأساقفة لاتينيين واحتلوا الكاتدرائيات والأديار والمباني الكنسية. ومن خضع رتع ومن امتنع امتقع. وسمحوا بعد هذا بممارسة الطقوس البيزنطية في الكنائس العادية كما أبقوا على بعض الرهبان في الأديار. وظل فسيلفس الروم بطالب أمراء أنطاكية الصليبيين بالطاعة والولاء واشتد الاحتكاك بين الطبقات الأرثوذكسية العالية في أنطاكية واللاذقية وبين الأسر الصليبية المماثلة فتيقظ الصليبيون وتحذروا فنشأ عن هذا كله نفور في قلوب الأرثوذكسيين الأنطاكيين زاد الشقاق الذي كان قد ابدأ سنة 1054 اتساعاً وعمقاً.

اللاتين والأرمن: وحاولت السلطات الروحية اللاتينية في بادئ الأمر فرض سلطتها على الاكليروس الأرمني فامتعضوا ونفروا وأيدهم في ذلك شعبهم وتعاونوا مع المسلمين. ثم استتب الأمر للصليبيين في الميدان الرئيسي ورأى هؤلاء أن لا بد من الاستعانة بالأرمن للصمود في وجه الروم والمسلمين فخفت غلواء الرؤساء اللاتينيين وواصلوا الاكليروس الأرمني وأحسنوا صلتهم فأطلقوا يديهم في الروحيات والأحوال الشخصية وتركوا لهم كنائسهم وأديارهم. فحفظ الأرمن العهد وبروا في القول. ثم تمكنت الألفة فاصطحب الطرفان على العلات. وجاءت السنة 1139 فأمّ أنطاكية الكردينال البريكوس فعقد مجمعاً محلياً للنظر في قضية رؤول بطريرك أنطاكية ودعا بطريرك الأرمن غريغورويوس الثالث وأخاه نرسيس لحضور المجمع ففعلا. وفي السنة 1140 قام الكردينال والبطريرك إلى أورشليم فاحتفلا بعيد الفصح فيها واشتركا في أعمال المجمع اللاتيني. ويرى علماء اللاتين أن ممثل الكنيسة الأرمنية اعترف بالطبيعتين في هذا المجمع ولكن علماء الأرمن يصرون على أنه قال قولاً غامضاً خلاصته أن الكنيستين لم تختلفا في الأمور الجوهرية.

وجاء بعد غريغوريوس الثالث نرسيس ارابع 1166-1173 المعروف بالشرنورهالي فحاول التوفيق بين مواقف الكنائس اللاتينية واليونانية والأرمنية. ولبى دعوة الفسيلفس عمانوئيل كومنينوس فجالس اللاهوتي الفيلسوف ثيوريانوس وبحث معه الاختلاف الناشئ عن مقررات المجمع الخلقيدوني. وجاء غريغوريوس الرابع 1173-1193 فدعا إلى مجمع في روم قلعة اشترك في أعماله ثلاثة وثلاثون حبراً من مختلف الطوائف فقال الأرمن فيه بالطبيعتين. ولكن إصرار الأرثوذكسيين اليونانيين على تطبيق الطقوس اليونانية اضطر الأرمن إلى الاتجاه نحو روما. فاتصل غريغوريوس الرابع البطريرك الأرمني بلوقيوس الثالث بابا روما فأرسل له هذا درعاً وختماً وعكازاً. وجاءت السنة 1188 فحض اقليمس الثالث بابا روما الأرمن على التعاون مع الصليبيين. واعترض غريغوريوس الخامس على هذا التفاهم (1193-1194) ولكن تدخل الأمير الأرمني لاوون الثاني أدى إلى انعقاد مجمع في طرسوس سنة 1196 برئاسة غريغوريوس السادس أجمع رؤساء الأرمن فيه على القول بالطبيعتين والتعاون مع روما. وفي السنة 1199 تقبل لاون الثاني تاج الملك من يد كونراد الموفد الرسولي الروماني.

اللاتين واليعاقبة: ولم يرضَ اليعاقبة عن هذا التآلف والتعاون بين السلطات اللاتينية المدنية والدينية وبين الأرمن فاضطربوا ومالوا أكثر من مرة إلى الأتراك السلاجقة. وبلغ أمراء الرها ذلك فحقدوا. وفي السنة 1148 تنمر جوسلان الثاني أمير الرها فكاشفهم العداوة ونهب دير ماربرصوم ووزع آنيته المقدسة على الأرمن. وشتت رهبانه وأحل محلهم جنوداً من الأرمن. وجرى مثل هذا في إمارة أنطاكية. فقد جاء لمخائيل السرياني أن جماعته مالوا نحو الأتراك بعد موقفه أبامية في تموز السنة 1149. وتمرد باسيليوس بارصابوني رئيس أساقفة الرها على رئيسه البطريرك أثناسيوس السادس فتدخل برناردوس بطريرك أنطاكية اللاتيني في النزاع فغضب اليعاقبة لكرامتهم ونقلوا مركز بطريركتهم إلى آمد خارج حدود اللاتين ثم تطورت الظروف السياسية فسعى الأمراء الصليبيون إلى استرضاء اليعاقبة وشجعت روما الملانية شرط الاعتراف بسلطتها. وجاءت السنة 1156 فاشترك الأمراء والأشراف اللاتينيون في تدشين كنيسة مار برصوم وعاد إلى أنطاكية في السنة 1166 أثناسيوس الثاني بطريركهخا السرياني الشرعي وغضب بطريرك اللاتين فوقف اليعاقبة إلى جانب اللاتين وزار بطريركهم ميخائيل بطريرك اللاتين موآسياً ثم امتنع عن تلبية دعوة الفسيلفس عمانوئيل لتوحيد الصفوف كما سبق واشرنا. وفي السنة 1180 غمط ابن وهبون إحسان بطريركه ميخائيل واستسلم إلى أربعة أساقفة مشاقين فساموه بطريركاً باسم يوحنا فاستعان ميخائيل بالسلطات اللاتينية المدنية لتأييده ففعلوا. ومن هنا أطراؤه بتسامح اللاتين.

اللاتين والموارنة: ورحَّب الموارنة بالصليبيين لدى وصولهم إلى أبرشيات أنطاكية ترحيب الأرمن واليعاقبة والروم أيضاً ورأوا في قدومهم وسيلة فعّالة للخلاص من مظالم السلاجقة وغيرهم. وكانوا في تلك الآونة أربعين ألفاً منتشرين في تلال طرابلس والبترون وجبيل والجبة. فلما “خيّم الافرنج فوق مدينة طرابلس هبط إليهم جماعة من المؤمنين السريان الذي يسكنون جبل لبنان فوق جبيل والبترون وطرابلس مما يلي الشرق لأجل تهنئتهم وعرض خدماتهم عليهم. فرحبوا بهم وتلقوهم بعواطف الحب الأخوي واتخذوا منهم هداة ليرشدوهم إلى أأمن الطرق وأيسرها في تلك الجبال الهائلة”. ولم ينفرد الموارنة بهذا الترحيب الأخوي الأولي. فالروح والأرمن واليعاقبة سبقوا الموارنة إلى هذا الترحيب وقدموا الخدمات في حينها وتحملوا الاضطهاد لأجل الصليبيين. وقد سبقت الإشارة إلى موقف البطريرك سمعان الأورشليمي من الصليبيين وإرساله الزاد والمؤونة من قبرص وإلى سجن البطريرك يوحنا في أنطاكية وحجزه في قفص من حديد وعرضه على أبراجها لأنه كان بطريركاً في الكنيسة الجامعة. وقد ذكرنا تعاون الأرمن واليعاقبة مع الصليبيين في فتوحاتهم الأولى في قيليقية وشمال سورية.

واختلفت ظروف الموارنة عن ظروف سائر الطوائف غير اللاتينية. فإنهم لم يتمتعوا بحماية الفسيلفس تمتُّع الأرثوذكسيين ليقرفوا بالخيانة. ولم يسكنوا كبريات المدن ليحتك أساقفتهم بأساقفة اللاتين وزعمائهم ويناوصوا الجرة ويسالموها. ولم يكونوا طائفة كبيرة غنية تناظر غيرها من الطوائف. وهكذا فإنه لم يقارب القرن الثاني عشر نهايته حتى توثقت العرى بين الموارنة والصليبيين فاجتمعوا على النعماء والبأساء فنضج الود “فرجعوا إلى رشدهم بإلهام إلهي وهبوا من خمولهم فجاؤوا إلى ايماري وهو الثالث من بطاركة اللاتين. وبعد أن رفضوا الضلالة التي استمروا عليها بكل خطر مدة طويلة رجعوا إلى وحدة الكنيسة الكاثوليكية قابلين الإيمان الأرثوذكسي مستعدين أن يتمسكوا بتقاليد الكنيسة الرومانية وأن يحفظوها بكل احترام”. هذا ما رواه غليلموس الصوري تحت أخبار السنة 1182 وتاريخ غليلموس هذا هو من أفضل المراجع اللاتينية لتاريخ الصليبيين بين السنة 1095 والسنة 1184. ولد مؤلفه في الشرق قبل السنة 1130 فتكلم بالعربية واليونانية بالإضافة إلى اللاتينية. ثم رحل إلى فرنسا في طلب العلم وعاد إلى فلسطين حوالي السنة 1160. وفي السنة 1174 تولى إدارة المحفوظات الملكية في أورشليم وتدبير سياسة المملكة الخارجية. ثم أصبح في السنة 1175 رئيس أساقفة صور. وفي السنة 1183 رشح نفسه لبطريركية أورشليم فلم يفلح فاعتزل الرئاسة الروحية وأقام في روما فتوفي فيها في السنة 1187. وبدأ غليلموس تدوين تاريخه في السنة 1169 فاعتمده غيره من المؤرخين لتاريخ الحملة الأولى. واستقى أخبار السنوات 1127 حتى عودته إلى الشرق من المحفوظات الملكية اللاتينية في أورشليم. أما ما تبقى من الحوادث أي ما جرى بين السنة 1160 والسنة 1184 وبينها رجوع الموارنة عن القول بالمشيئة الواحدة واتحادهم مع كنيسة الغرب فإنها من مرويات عصره عن حوادث جرت في الساحل نفسه الذي أقام فيه.

وتتوفر لهذه الرواية في شخص راويها غليلموس الصوري معظم شروط العدالة والضبط. فقد كان الراوي رئيس أساقفة صور عند وقوع ما يروى ودوِّن في وقت قريب من زمن وقوع الحادث الذي يروي وكان من أدرى الناس في موضوع روايته. وقد اشتهر باتزانه وعدم التطرف في الحكم والقول.

وروايته هذه ليست فريدة في بابها. فبولّة البابا انوشنتيوس الثالث التي صدرت في السنة 1215 وجهت إلى بطريرك المورانة وأساقفتهم وجمهور أكليرسهم تذكر الموارنة بوجوب التيقظ “وتدارك الخطأ” والقول “بدون تردد” بانبثاق الروح القدس من الآب والابن وبالاكتفاء بتسمية الثالوث مرة واحدة في المعمودية وبحصر سر التثبيت بالأساقفة. وبالامتناع عن إدخال أية مادة أخرى غير الزيت والطيب في إعداد الميرون وبوجوب الاعتراف بالخطايا والتناول ووجوب القول “بمشيئتين في المسيح مشيئة إلهية ومشيئة بشرية” والامتناع عن استعمال الأواني الزجاجية والخشبية والبرونزية في الذبيحة والاستعاضة عنها بالأواني الفضية أو الذهبية واستعمال الأجراس لإعلان المواقيت ودعوة الشعب إلى الكنيسة. وفي هذا القول الرسمي الصادر عن أسقف روما ما يكفي لتأييد غليلموس الصوري في روايته التي نبحث. ولا يجوز الانقاص من أهمية هذا النص واعتباره مجرد محاولة لليتنة الطقوس والقوانين المارونية. فانوشنتيوس أوجب التيقظ والقول بدون تردد بالانبثاق من الآب والابن وبالمشيئتين ويُلاحَظ هنا أن هذا البابا لم يوجب القول بالطبيعتين في هذه البولة لأن الموارنة كانوا قد قالوا بالطبيعتين منذ بداية عهدهم ولكنه اهتم بأمر المشيئتين.

ويرى علماء الموارنة أن غليلموس أسقف صور نقل رأيه في عقيدة الموارنة عن سعيد بن البطريق البطريرك الأسكندري وأن هذا لم يكن على بيّنة من أمره وأن ما ورد في بولة انوشنتيوس الثالث عن أمر المشيئتين والمشيئة الواحدة جاء مقتضباً جداً. فلو كان هذا البابا يعلم أن الموارنة كانوا في الواقع ممن لا يزال يقول بالمشيئة الواحدة لجاء كلامه في هذا الموضوع أشد وأقوى وأكثر تفصيلاً. ويرون أيضاً أن الظرف الذي ظهرت فيه هذه البولة كان ظرف المجمع اللاتراني الرابع ظرف إصلاح وتثبيت لا ظرف نبذ تعاليم معينة. ولو كان هنالك نبذ للقول بالمشيئة الواحدة لظهر أثره في أعمال هذا المجمع. ويضيفون أن ما تم في طرابلس في السنة 1182 إنما كان تأييد الموارنة لبابا شرعي ضد مناظر دخيل. والإشارة هنا إلى النزاع بين البابا الكسندروس الثالث والبابا فيكتوريوس الرابع الذي انتهى في السنة 1180. فيكون الاجتماع في طرابلس الذي يشير إليه غليلموس الصوري من نوع ما جرى في السنة 1131. ومما يقوله علماء الموارنة في هذا الصدد أن الموارنة ناصروا الصليبيين اللاتينيين منذ وصولهم إلى لبنان ومازجوهم في عز صولتهم وانتصاراتهم فهل ظلوا مخالفين حتى إذا غُلِبَ الصليبيون على أمرهم وضايقهم خصمهم صلاح الدين الأيوبي باتوا أشد استعداداً إلى الاتحاد بكنيسة الغرب.

والواقع الذي لا مفرّ من الاعتراف به هو أن مراجعنا الأولية قليلة وأن انوشنتيوس لا يقول بصراحة في البولة التي أصدرها أن الموارنة كانوا يقولون حتى يومه بالمشيئة الواحدة. والواقع أيضاً أن المراجع المارونية متأخرة ولا يجوز الأخذ بها لإثبات ما جرى في طرابلس السنة 1182 أو قبلها. فأقدم رواتهم ابن القلاعي وهو من أعيان القرن الخامس عشر. ولا يجوز كذلك اعتماد البولات البابوية كما أثبتها الأب العنيسي لأنه تلاعب في نصوصها. ولعل المستقبل يظهر المراجع ما يعين المؤرخ على البت في هذا الموضوع الدقيق.

arArabic
انتقل إلى أعلى