Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

(إن الانشقاق بين رومية والكنيسة المسكونية هو بلا ريب أكبر وبال تعرّضت له الإنسانية. وأعظم بركة يمكن أن تأمل الإنسانية في الوصول إليها هي اتحاد الشرق والغرب، وإعادة الوحدة المسيحية الكبرى)…. الجنرال الكسندر كيرييف (1832- 1910)

كنيسة واحدة، مقدسة، جامعة، رسولية

تؤمن الأرثوذكسية بكل تواضع أنها (الكنيسة الواحدة، المقدسة، الجامعة، الرسولية) التي يتكلم عنها دستور الإيمان. هذا هو اليقين الأساسي الذي ترتكز عليه علاقات الأرثوذكسيين مع سائر المسيحيين. وقد توجد انشقاقات بين المسيحيين، لكن الكنيسة بحد ذاتها غير قابلة للتجزئة.

قد يقول المسيحيون المنتمون للتيار البروتستانتي أن هذا التأكيد غير مقبول. وقد يبدو لهم أن هذا الاتجاه الحصري لدى الأرثوذكسيين يحول دون قيام أي (حوار مسكوني) حقيقي وأي نشاط بنّاء من أجل الاتحاد. لكنّ استنتاجاتهم مخطئة رغم ذلك، لأنه منذ أكثر من نصف قرن، جرى الكثير من الاتصالات المشجعة والمنتجة بين المسيحيين الأرثوذكسيين والآخرين. ومع أنه تبقى هناك عوائق كبيرة، لكنه حصل أيضاً تقدم هام باتجاه المصالحة.

ولكن إذا كان الأرثوذكسيون يقولون بانتمائهم للكنيسة الحقة، فما هي بالنسبة إليهم حال المسيحيين من الطوائف الأخرى ؟ لن يجيب جميع الأرثوذكسيين بنفس الطريقة عن هذا السؤال، لأنه إذا كان جميع الأرثوذكسيين المستقيمي الرأي متفقين على تعليم كنيستهم حول ماهية الكنيسة، فإنهم ليسوا جميعاً كذلك بالنسبة لنتائج هذا التعليم العملية. هناك فئة أولى ميّالة للاعتدال، وتضم غالبية الأرثوذكسيين الذين هم على اتصال شخصي مع الطوائف الأخرى. ويرى هؤلاء، على الرغم من اعتقادهم بأن الأرثوذكسية هي الكنيسة الحقة، أن من الخطأ الاستنتاج بأن أولئك الذين ليسوا أرثوذكسيين، لا ينتمون للكنيسة أبداً، إذ إن كثيرين منهم هم أعضاء في الكنيسة، وإن لم يبدُ كذلك ظاهرياً، وأنه هناك علاقات غير منظورة بينهم وبين الكنيسة على الرغم من الخلافات الخارجية: فروح الله يهبّ حيث يشاء، وكما قال ايريناوس (حيثما يكون الروح تكون الكنيسة). ونحن نعلم أين هي الكنيسة، ولكن ليس باستطاعتنا التأكد أين هي غير موجودة. ولذلك لا يسوغ لنا إطلاق حكم على المسيحيين غير الأرثوذكسيين. وكما قال خومياكوف ببلاغة: (حيث أن الكنيسة الأرضية والمنظورة ليست ملء وكلّية الكنيسة الجامعة التي أعدّها الله كي تتجلّى بملء كمالها في اليوم الأخير، فهي لا تتصرف إلاّ بموجب ما تعرف ضمن حدودها الخاصة… وهي لا تدين سائر البشرية، ولا تعتبر خارج شركتها إلاّ أولئك الذين يريدون لأنفسهم ذلك وأما الباقون ممن هم غرباء عنها أو منتمون إليها من خلال صلات لم يشأ الله أن يعلنها لها، فهم بالنسبة إليها محفوظين في تدبير الله الخاص الذي سيعلن جلياً في اليوم الأخير) {(الكنيسة واحدة) القسم الثاني}.

ليس هناك سوى كنيسة واحدة، لكنّ أشكال الارتباط بها كثيرة، وكذلك أشكال الانفصال عنها. وكثيرون من غير الأرثوذكسيين نجدهم شديدي القرب من الأرثوذكسية بينما نجد آخرين أقل قرباً. والبعض نجده متعاطفاً معها كل التعاطف، والبعض الآخر لا مبالٍ أو معادٍ. والكنيسة الأرثوذكسية هي التي، بفضل نعمة الله، تملك كل الحقيقة، ولكن يوجد أيضاً عند بعض الطوائف المسيحية الأخرى قدر ما من الحقيقة. ويجب أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار، لا يمكن القول بكل بساطة أن كل غير الأرثوذكسيين هم خارج الكنيسة. ولا يمكن أن نجزم بالقول أن سائر المسيحيين هم بمرتبة واحدة مع غير المؤمنين.

إلى جانب وجهة النظر هذه، هناك فئة أكثر تشدّداً تقول: بما أن الأرثوذكسية هي الكنيسة فجميع من ليسوا أرثوذكسيين لا يمكنهم أن يكونوا أعضاء في الكنيسة. هكذا كتب المتروبوليت انطوان (خرابوفسكي) الذي رأس (الكنيسة الروسية خارج الحدود)، في كتاب له للتعليم الديني:

(سؤال): هل يجوز القول بأن انشقاقاً ما يمكن أن يحصل في الكنيسة أو بين الكنائس؟

جواب: كلاّ. هنالك هراطقة ومنشّقون انفصلوا عن الكنيسة الواحدة والغير قابلة للتجزئة، وبعملهم هذا فقدوا عضويتهم في الكنيسة. ولكنّ الكنيسة نفسها لا يمكنها أبداً أن تفقد وحدتها).

ويضيف هذا الفريق المتشدّد أن نعمة الله لابد وأن تعمل بين غير الأرثوذكسيين، وإذا كان هؤلاء محبّين للرب بإخلاص، فمن الأكيد أنه سيرحمهم. ولكن لا يمكن أن نعتبرهم مع ذلك، وفي وضعهم الحاضر، أعضاء في الكنيسة.

ونظراً لاعتقادهم بأن كنيستهم هي الكنيسة الحقيقية، فليس لدى الأرثوذكسيين سوى رغبة واحدة: دعوة جميع المسيحيين لاعتناق الأرثوذكسية. ولكن لا ينبغي الاعتقاد هنا بأنهم راغبون في إخضاعهم لكرسي أرثوذكسي ما {(الأرثوذكسية لا تريد أن تخضع أحداً، بل تريد أن تقنع كل الناس)، سرجيوس بولغاكوف، (الأرثوذكسية)، ص264}. فالكنيسة الأرثوذكسية عائلة من الكنائس الشقيقة، غير المركزية، الأمر الذي يسمح للجماعات المنشقة بالانضمام للأرثوذكسية دون أن يؤثر ذلك على استقلالها الذاتي. والأرثوذكسية لا ترغب في امتصاص هذه الجماعات بل تريد أن تتصالح معها. في جميع المناقشات (المسكونية)، كان رائد الأرثوذكسيين – أو أنه كان يجب أن يكون رائدهم على الأقل – الدعوة لمبدأ الوحدة في التعدد. فهم لم يسعوا لتحويل المسيحيين الغربيين إلى بيزنطيين أو مسيحيين شرقيين، ولا يرغبون أن يفرضوا عليهم الانقياد الأعمى، ذاك أن في الأرثوذكسية مكاناً لتعدد الثقافات، وتنوع أشكال العبادة، وحتى اختلاف الأنظمة الخارجية.

فقط في مجال الإيمان ترفض الأرثوذكسية السماح بأي اختلاف. فقبل أن يحصل أي اتحاد بين المسيحيين، ينبغي أن يكون بينهم اتفاق حول الإيمان. ذلك هو المبدأ الأساسي الذي يأخذ به الأرثوذكسيون في جميع علاقاتهم المسكونية. فوحدة الإيمان هي التي تهم وليس وحدة التنظيم، وإن الوصول إلى وحدة التنظيم على حساب وحدة العقيدة يعني رمي اللب والتمسك بالقشرة. والأرثوذكسيون لا يوافقون على وحدة الحد الأدنى التي تحقق الاتفاق حول بعض النقاط فقط وتترك الباقي للآراء الشخصية. إن الأرثوذكسية تنظر للعقيدة ككل، وملء الإيمان وحده بالنسبة لها يصلح أساساً للاتحاد.

وكتب أحد الانكليكان يقول: (قيل إن الإيمان أقرب لتكوين شبكة من أن يكون تجمعاً لعدد من العقائد، فإذا قطعت خيطاً واحداً، لا بد للكل أن يفقد معناه) {ت. إم. باركير، (تكريم والدة الإله)، في (والدة الإله)، منشورات ماسكال، ص74}. فالأرثوذكسيون يطالبون سائر الطوائف المسيحية إذاً بتقبل التقليد بكليته. ولكن ينبغي التفريق بين التقليد الشريف والتقاليد (العادات). فكثير من الأمور التي يؤمن بها الأرثوذكسيون لا تشكل جزءاً من التقليد الشريف، بل هي مجرد آراء لاهوتية (Theologoumena) ولا يجوز أن تُفرض على الآخرين. فمن الممكن أن يكون الناس على وحدة كاملة في الإيمان، وفي نفس الوقت تختلف آراؤهم اللاهوتية في بعض الميادين.

وينتج عن المبدأ الأساسي القائل بأنه ما من لقاء بدون وحدة في الإيمان – إنه لا يمكن أن يكون ثمة مشاركة بالأسرار بين المسيحيين المنتمين إلى طوائف مختلفة، إلى أن تصبح وحدة الإيمان شيئاً محققاً.

والمشاركة في مائدة الرب لا يمكن استخدامها كوسيلة لتحقيق وحدة الإيمان، بل ينبغي أن تأتي كنتيجة وتتويج للوحدة التي تم تحقيقها. والأرثوذكسيون يرفضون مفهوم المشاركة في القدسات (Intercommunion) بين الطوائف المسيحية المختلفة، ولا يوافقون على أي شكل من أشكال المشاركة بالأسرار خارج إطار الشركة الإيمانية الكاملة. والكنائس إمّا أن تكون في شركة مع بعضها البعض وإمّا أن لا تكون، فليس ثمة من أنصاف حلول. (ولكن يجب أن نضيف بأنه إذا وُجد واحد من غير الأرثوذكسيين بعيداً عن رعاية كنيسته الخاصة، فإن بإمكانه، بإذن خاص، أن يتناول على يد كاهن أرثوذكسي، ولكنّ العكس ليس مأخوذاً به، إذ من المحظَّر على الأرثوذكسي أن يتناول من كاهن غير أرثوذكسي).

علاقات الأرثوذكسية مع سائر الكنائس

الكنيسة الشرقية القديمة:

حينما يكون الأمر متعلقاً بالاتحاد، فالأرثوذكسيون لا يفكرون بالغرب وحده، بل يتّجهون بتفكيرهم أيضاً نحو أخوتهم الشرقيين من نساطرة غير خلقيدونين. والأرثوذكسيون هم، في كثير من النواحي، أقرب إلى تلك الكنائس الشرقية منها إلى الطوائف الغربية.

وهناك اليوم عدد قليل من النساطرة، نحو 50.000، وليس بينهم لاهوتيون، الأمر الذي يجعل الحوار الرسمي معهم شديد الصعوبة. على أنه نشأ اتحاد جزئي بين الأرثوذكسيين والمسيحيين النساطرة. ففي سنة 1898 انضم أشوري نسطوري يدعى مار ايفانيوس، أسقف اوروميا في بلاد فارس، انضم وشعبه للكنيسة الروسية. جاءت هذه العملية بمبادرة من النساطرة أنفسهم دون أن يخضعوا إلى أية ضغوط سياسية كانت أم غير سياسية. وفي سنة 1905 كانت هذه الأبرشية النسطورية سابقاً تضم 80 رعية و 70.000 مؤمن. ولكن بين سنة 1915 و 1918 أقدم الأتراك على ذبح الأشوريين الأرثوذكسيين دون أن يُحرّك هؤلاء ساكناً. ولم ينجُ من المذبحة سوى عدة آلاف. وعلى الرغم من هذه النهاية الأليمة، فإن المصالحة مع تلك الجماعة المسيحية القديمة تشكل سابقة مشجعة. فلماذا لا تستطيع الكنسية الأرثوذكسية اليوم الوصول إلى تفاهم مماثل مع باقي الطائفة النسطورية ؟

وموقف غير الخلقيدونيين مختلف جداً عن موقف النساطرة، لأن عددهم بالمقارنة كبير – أكثر من عشرة ملايين – وبينهم لاهوتيون أكفاء قادرون على عرض وتفسير موقفهم العقائدي التقليدي. ويعتقد الآن بعض اللاهوتيين، من أرثوذكسيين وغربيين، بأن تعاليم من كانوا يسمّون (بالقائلين بالطبيعة الواحدة) قد أُسيء فهمها بالماضي، وأن الفارق بين الخلقيدونيين وغير الخلقيدونيين إنما هو في مجمله فارق لفظي ليس إلا. وهذا ما عبّر عنه المثلث الرحمات اثيناغوارس، البطريرك القسطنطيني عندما زار الكنيسة القبطية في مصر السنة الـ1959. قال: (في الحقيقة، نحن جميعاً واحد، نحن جميعاً مسيحيون أرثوذكسيون. لدينا نفس الأسرار المقدسة، ونفس التاريخ، ونفس التقاليد. وما خلافاتنا إلاّ خلافات كلامية) {خطابه في مؤسسة الأبحاث القبطية العليا، بالقاهرة، في 10 كانون الأول 1959}. ومن خلال جميع الاتصالات المسكونية للكنيسة الأرثوذكسية يبدو أن مشاعر الصداقة تجاه غير الخلقيدونيين هي التي توّلد الأمل في الحصول على نتائج ملموسة في المستقبل القريب. وقضية الإتحاد معهم كانت ماثلة في ذهن كل واحد خلال المؤتمرات الأرثوذكسية التي عُقدت في رودس، وستكون من أبرز القضايا على جدول أعمال الاجتماعات الأرثوذكسية العامة المقبلة. وفي شهر آب السنة الـ1964 انعقد اجتماع غير رسمي في الدانمرك وضمّ لاهوتيين أرثوذكسيين من خلقيدونين وغير خلقيدونين. وقد أصدروا في آخر اجتماعاتهم بياناً مشتركاً قالوا فيه: (كلٌ منّا تعلّم من الآخر… وقد ابتدأ سوء التفاهم الذي ورثناه من الماضي في الزوال. وقد وجد كلٌ منّا في الآخر الإيمان الأرثوذكسي الواحد. ولم تبعدنا القرون الخمسة عشر من الغربة عن إيمان آبائنا الواحد). ولحق هذا الاجتماع الأول اجتماعات أخرى في برستول (1967)، وجينيفا (1970)، وأديس أبابا (1971).

الكنيسة الكاثوليكية:

من بين المسيحيين الغربيين، العلاقات الأرثوذكسية الانكليكانية هي الأوثق، بالرغم من قربى الأرثوذكسية إلى الكاثوليك لوجود قواسم مشتركة بينهما. وهناك بالطبع صعوبات كبرى يقتضي حلّها بين رومية والأرثوذكسية، ولا سيّما الحواجز النفسية منها. وعند الأرثوذكسيين، كما عند الكاثوليك يوجد العديد من المواقف المسبقة والموروثة لا يسهل التخلص منها. إذ ليس بوسع الأرثوذكسيين أن ينسوا تلك الفترات الحالكة التي عاشوها في الماضي، مثل الحروب الصليبية، و (اتحاد برست – ليتوفسك)، والانشقاق الأنطاكي في القرن الثامن عشر {راجع (ألسنا كلنا منشقّين)، للمطران الياس زغبي، منشورات النور (الناشر)}، أو الاضطهاد الذي تعرّضت له الكنيسة الأرثوذكسية في بولونيا من قبل الحكومة الكاثوليكية في فترة ما بين الحربين. والكاثوليك لا يعون ما فيه الكفاية ما تثيره كنيسة رومية لدى العديد من الأرثوذكسيين – على اختلاف مستوياتهم الثقافية – من أنواع العتب والمخاوف. وأهم من ذلك هي المسائل العقائدية التي تأتي في طليعتها قضية انبثاق الروح القدس والمزاعم البابوية. هنا أيضاً لا يأخذ الكاثوليك بعين الاعتبار بما فيه الكفاية خطورة هذه الاختلافات اللاهوتية ومدى الأهمية التي يعلّقها الأرثوذكسيون عليها. ولكن، على الرغم من الفوارق العقائدية والروحانية، والنظرة المختلفة إلى العديد من الأمور الأخرى، فإن أشياء كثيرة تجمع بين الطرفين وتجعلهم شديدي الوفاق فيما بينهما.

وطالما أن بينهما نواح عديدة مشتركة، أفليس ثمة أمل في المصالحة ؟ يمكننا للوهلة الأولى أن نيأس، خاصة إذا نظرنا لمسألة المزاعم البابوية. فالأرثوذكسيون لا يسعهم الموافقة على التحديدات التي أتى بها مجمع الفاتيكان الأول السنة الـ1870، والمتعلقة بالسلطة البابوية الشاملة وبعصمة البابا. والكاثوليك يعترفون بأن مجمع الفاتيكان هذا مجمع مسكوني، وينظرون بالتالي لتحديداته على أنها لا تقبل النقض. على أن المأزق ليس بالمأزق المستحيل، إذ يمكن التساؤل إلى أي حدّ فهم الأرثوذكسيون المعنى الحقيقي لقرارات الفاتيكان ؟ ولعلّ المعنى المألوف الذي أعطاه اللاهوتيون الغربيون لهذه التحديدات خلال السنوات التسعين الماضية ليس التفسير الوحيد الممكن. كذلك فإن الكاثوليك يميلون أكثر فأكثر للموافقة على اعتبار مراسيم مجمع الفاتيكان الأول منقوصة ومتميزة، إذ هي تبحث فقط في صلاحيات البابا دون أن تأتي على ذكر الأساقفة. ولكن الآن، وبعد أن أصدر مجمع الفاتيكان الثاني توضيحاً عقائدياً يتعلق بسلطة الأساقفة، بدأت العقيدة الكاثوليكية المتعلقة بالمزاعم البابوية بالظهور للعالم الأرثوذكسي من منظار آخر.

وإذا كانت رومية قد أولت وضع الأساقفة في الكنيسة أهمية ضئيلة في الماضي، فإن على الأرثوذكسيين أن يدرسوا مسألة (الأوّلية) بمزيد من الانتباه. هم يقرّون بأن البابا هو الأول بين الأساقفة، ولكن هل طرحوا على أنفسهم سؤالاً جدّياً وبموضوعية حول كل ما يمكن أن يعنيه هذا الإقرار ؟ وإذا أعيد كرسي رومية إلى المكانة الأولى في شركة الكنائس الأرثوذكسية فما تراه سيكون وضعه عملياً ؟ الأرثوذكسيون ليسوا على استعداد للإقرار للبابا سلطة مباشرة وشاملة على كل العالم المسيحي، ولكن أليس بإمكانهم أن يمنحوه – باعتباره رئيساً لمجمع الأساقفة والأول بينهم – مسؤولية شاملة، يُعبِّر عنها باهتمام رعائي يشمل الكنيسة بأسرها ؟ حركة الشبيبة الأرثوذكسية التابعة للكرسي الأنطاكي قدّمت منذ فترة صيغتين توفيقيتين: (في غياب الآب، يُعتبر البابا الشقيق الأكبر للأساقفة)، و (البابا هو فم الكنيسة والأساقفة). هاتان الصيغتان بعيدتان بالطبع عن التحديدات التي وضعها (فاتيكان الأول) حول سلطة البابا وعصمته، لكنهما تصلحان على الأقل أساساً لنقاش بنّاء. حتى الآن اكتفى اللاهوتيون الأرثوذكسيون معظم الأحيان – في حدّة الأخذ والرد – بمهاجمة العقيدة الرومانية حول البابوية (كما يفهمونها هم)، بدون أن يحاولوا النظر إلى أبعد من ذلك ويحددوا، بشكل إيجابي، وجهة النظر الأرثوذكسية حول حقيقة طبيعية أوّلية البابا. وقد تبدو الاختلافات أقل اتساعاً، إذا اتخذ الأرثوذكسيون موقفاً أكثر إيجابية، مع تجنب التحدث بعبارات سلبية وجدلية.

وبعد انقطاع طويل عادت الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية إلى الاجتماع في 1979، وقد باشرت مؤخراً حواراً لاهوتياً رسمياً. لكن الكثير بُذل أيضاً بطريقة غير رسمية، بواسطة الاتصالات الشخصية. وقد قام (دير الوحدة) الكاثوليكي في شفيتونيه في بلجيكا (تأسس السنة الـ1926 في آماي سور – موز) بعمل جبّار في هذا المضمار. وهو دير يعتمد طقساً مزدوجاً يستطيع فيه الرهبان أن يتابعوا الخدم حسب الطقس الروماني أو البيزنطي. ومجلة شيفتونيه الدورية وهي بعنوان إيرينيكون، تقدم عرضاً دقيقاً وودياً للغاية حول الشؤون الجارية المتعلقة بالكنيسة الأرثوذكسية، كما تنشر مقالات عديدة على جانب كبير من العمق يكتب الكثير منها كتّاب أرثوذكسيون.

والاتحاد بين رومية الأرثوذكسية يبقى مع هذا كله مهمة صعبة، ولا يمكن إنجازه، هذا إذا أنجز، إلا ببذل جهود جبّارة. ولكنّ مؤشرات التقارب تزداد سنة بعد سنة، وقد اجتمع البابا بولس السادس والبطريرك اثيناغوراس ثلاث مرات: في القدس (1964)، وفي القسطنطينية ورومية (1967). وفي 7 كانون الأول عام 1965 رُفع الحرم المتبادل بين الكنيستين في السنة الـ1054. ولكن يجب ألاّ ننسى أن هذه الأعمال على أهميتها، ليست سوى أفعال رمزية ولا تقدّم حلولاً للصعوبات اللاهوتية.

الكاثوليك القدامى:

كان من الطبيعي أن يدخل الكاثوليك القدامى، الذين انفصلوا عن رومية إثر مجمع الفاتيكان السنة الـ1870، بمفاوضات مع الأرثوذكسيين. فهمّهم كان العودة إلى إيمان الكنيسة الأولى قبل الانشقاق، وذلك بالاستناد إلى كتابات الآباء والمجامع المسكونية السبعة، وكان الأرثوذكسيون يعلنون أن هذا الإيمان ليس من شؤون الماضي فقط لكي يُعثر عليه نتيجة الأبحاث الأثرية، بل هو حقيقة معاشة، ما زالوا بنعمة الله، يمتلكونه. لذلك عُقدت مؤتمرات عديدة بين الكاثوليك القدامى والأرثوذكسيين، لا سيّما في بون (1874 و1875)، وفي روتردام (1894)، وفي بون أيضاً (1931)، وفي الاتفاقات حول المسائل العقائدية ولكن بدون أن تصل لنتائج ملموسة أخرى. ومع أن العلاقات بين الأرثوذكسيين والكاثوليك القدامى لا تزال علاقات صداقة، لم يُعلن أي اتحاد بينهما. ولقد تابعت الكنيستان السنة الـ1975 الحوار اللاهوتي على صعيد واسع وعقدت اجتماعات عديدة لهذه الغاية صدر عنها مجموعة من البيانات اللاهوتية المهمة التي تدل مرة أخرى على مدى الوفاق بينهما.

الكنيسة الانجليكانية:

اليوم أيضاً كما في الأمس، لا يزال الكثير من الانجليكان يعتبرون حركة الإصلاح التي قامت في انكلترا في القرن السادس عشر بمثابة وضع موقت، ويدعون، شأن الكاثوليك القدامى، إلى إتباع تعاليم المجامع المسكونية، وآباء الكنيسة وتقليد الكنيسة الواحدة كما كان قبل الانشقاق. هذه العودة إلى العصور القديمة حملت الكثيرين من الانجليكان إلى النظر إلى الكنيسة الأرثوذكسية بكثير من العطف والاهتمام، كما حملت العديد من الأرثوذكسيين للنظر إلى الكنيسة الانجليكانية بنفس النظرة من الود والاهتمام. وقد تطوَّرت العلاقات الانجليكانية – الأرثوذكسية تطوراً إيجابياً جداً خلال الأعوام المئة الماضية.

عُقدت حتى الآن عدة مؤتمرات رسمية بين اللاهوتيين الانجليكان والأرثوذكسيين. وفي السنة الـ1930، أُرسل إلى انكلترا وفد أرثوذكسي يمثل عشر كنائس مستقلة (القسطنطينية، الإسكندرية، أنطاكية، أورشليم، اليونان، قبرص، صربيا، بلغاريا، رومانيا، بولونيا)، وذلك في الفترة التي عُقد فيها مؤتمر لامبث، وتناقش أعضاء الوفد مع لجنة انجليكانية. وفي العام التالي اجتمعت لجنة انجليكانية – أرثوذكسية مشتركة في لندن ضمّت ممثلي الكنائس السابقة ما عدا كنيسة بلغاريا. وأُثيرت خلال 1930 و1931 جميع الخلافات العقائدية في جو من حسن النية. وعُقد مؤتمر مماثل في بوخارست السنة الـ1935 ضمّ مندوبين انجليكان ورومانيين. وأهم مؤتمر لاهوتي بين الانجليكان والأرثوذكسيين عُقد منذ الحرب هو مؤتمر موسكو السنة الـ1956. وبدا فيه كل من الجانبين أكثر حذراً مما كان عليه في السابق، أي خلال الثلاثينات. وقد تابعت الكنيستان الحوار اللاهوتي الرسمي في السنة الـ1973، غير أن هذا الحوار تعثَّر في السنتين 1977/1978 عندما وافقت الكنائس الانجليكانية على مبدأ رسامة النساء كاهنات. وما زال الحوار مستمراً وإن بدون تقدم ملموس.

إلى جانب المفاوضات الرسمية بين الكنيستين الأرثوذكسية والانجليكانية، تمّت لقاءات كثيرة بينهما على صعيد شخصي. وفي انكلترا منظمتان مكرّستان كلياّ من أجل التقارب الانجليكاني الأرثوذكسي:

  • 1) جمعية الكنائس الانجليكانية والشرقية، وقد تأسست منظمتها الأم (جمعية الكنيسة الشرقية) السنة الـ1863.
  • 2) أخوية القديس ألبان والقديس سرجيوس التي تأسست السنة الـ1928 والتي تنظم مؤتمراً سنوياً وتصدر نشرة دورية ممتازة تطبع مرتين في السنة (سوبور نوست).

إن العائق الرئيسي الذي يحول دون اتحاد الانجليكان والأرثوذكسيين يكمن في شمولية الانجليكانية وعدم الوضوح في تحديد عقائدها، ووجود تنوع كبير في التفسيرات المتعلقة بها. وكما ظهر في كرّاسين مهمين (الأرثوذكسية وارتداد انكلترا) بقلم درواس شيتي، و (الانجليكانية والأرثوذكسية) بقلم هـ. ا. هودجز، بعض الانجليكان قريب جداً إلى الأرثوذكسية. ويخلص الأستاذ هودجز إلى القول: (تنطوي المسألة المسكونية على إعادة الغرب إلى روحانية صحيحة وحياة صحيحة، وذلك يعني إعادته إلى الأرثوذكسية…. الإيمان الأرثوذكسي، الذي شهد له آباء الكنيسة، والذي تُعتبر الكنيسة الأرثوذكسية حارسة أمينة له، هو الإيمان المسيحي في صيغته الجوهرية والحقة) {(الانجليكانية والأرثوذكسية)، ص46 و47}. على أن كثيراً من الانجليكان يخالفون تماماً هذا الرأي، وينظرون إلى العديد من العقائدية الأرثوذكسية على أنها فاسدة ومهرطقة. ومهما كانت رغبة الاتحاد عميقة لدى الكنيسة الأرثوذكسية، فإنها لا تستطيع إقامة علاقات أوثق مع الكنائس الانجليكانية، قبل أن يبلغ الانجليكان مستوى أعلى من الدقة بشأن عقائدهم الخاصة. إن كلمات الجنرال كيرييف لا تزال تحافظ على معناها بعد سبعين سنة: (نحن الشرقيين، نرغب بإخلاص في الوصول إلى تفاهم مع الكنيسة الانجليكانية، ولكن لا يمكن بلوغ هذه النتيجة المرجوة… ما لم تصبح الكنيسة الانجليكانية أكثر تجانساً، وتتوافق المفاهيم العقائدية لدى مختلف فئاتها) {(الجنرال الكسندر كيرييف والكاثوليك القدامى)، منشورات أولغا نوفيكوف. ص224}.

الطوائف البروتستانتية الأخرى:

الكنيسة الأرثوذكسية على اتصال وثيق بعدد من الطوائف البروتستانتية في أوروبا وبصورة خاصة في ألمانيا وفي أسوج. وأعيد في القرن العشرين الحوار الذي كان قد بدأ في توبينجان في القرن السادس عشر، وأدى ذلك إلى نتائج أكثر إيجابية من ذي قبل.

مجلس الكنائس العالمي:

في الكنيسة الأرثوذكسية موقفان بشأن مجلس الكنائس العالمي و (الحركة المسكونية). يجد البعض أن على الأرثوذكسيين عدم المشاركة في نشاطات المجلي العالمي، وإن كان لا بد من الحضور، فليقتصر ذلك على مراقبين فقط، لأن المشاركة الكاملة في الحركة المسكونية، تسيء إلى تأكيد الأرثوذكسية بأنها وحدها كنيسة المسيح الحقة. وتوحي بأن جميع (الكنائس) على مستوى واحد. ويلخّص أحد بيانات سينودس (الكنيسة الروسية خارج الحدود)، الصادر السنة الـ1938، وجهة النظر هذه بشكل واضح:

(ينظر المسيحيون الأرثوذكسيون للكنيسة المقدسة الأرثوذكسية الجامعة على أنها كنيسة المسيح الحقة الواحدة والوحيدة. لهذا السبب، منعت الكنيسة الروسية خارج الحدود أبناءها من المشاركة في الحركة المسكونية، تلك الحركة التي ترتكز على مبدأ المساواة بين جميع الأديان والطوائف المسيحية).

ولكن هناك في الكنيسة الأرثوذكسية، من يفكر بأن هذا الموقف يتجاهل الطبيعة الحقيقية لمجلس الكنائس العالمي، إذ أن انضمام الأرثوذكسيين لا يفترض الإيمان بالمساواة بين جميع الطوائف المسيحية ولا يسيء لتأكيدهم بأنهم ينتمون إلى الكنيسة الحقة. وكما أعلن إعلان تورنتو الذي صدر السنة الـ1950 عن اللجنة المركزية لمجلس الكنائس العالمي: (إن صفة العضوية في مجلس الكنائس العالمي لا تفترض الموافقة على عقيدة خاصة تتعلق بطبيعة وحدة الكنيسة… ولا تفترض هذه العضوية أن تنظر كل كنيسة لسائر الكنائس على أنها (كنائس) بكل معنى الكلمة وصراحة العبارة). استناداً إلى هذا الإعلان يرى الأرثوذكسيون من غالبية الكنائس أن بإمكانهم المشاركة في الحركة المسكونية، دون الإساءة لأرثوذكسيتهم. وإذا استطاع الأرثوذكسيون المشاركة، فعليهم أن يفعلوا لأن إيمانهم بصحة العقيدة الأرثوذكسية يُحتِّم عليهم الشهادة لهذا الإيمان على أوسع نطاق ممكن.

إن وجهات النظر المتناقضة هذه مسؤولة عن الغموض والترجرج اللذين تميّزت بهما سياسة الكنيسة الأرثوذكسية بشأن الحركة المسكونية في الماضي. بعض الكنائس أرسلت موفديها بصورة منتظمة إلى معظم مؤتمرات الحركة المسكونية، وبعضها الآخر شارك في بعض الاجتماعات أو لم يحضر إطلاقاً.

وإليكم عرضاً بيانياً حول التمثيل الأرثوذكسي في الفترة بين 1927 و1968:

  • لوزان (1927) اجتماع لجنة (إيمان ونظام): القسطنطينية، الإسكندرية، أورشليم، اليونان، قبرص، صربيا، بلغاريا، رومانيا، بولونيا.
  • أدنبره (1937) لجنة إيمان ونظام: القسطنطينية، الإسكندرية، أنطاكية، أورشليم، اليونان، قبرص، بلغاريا، بولونيا، ألبانيا.
  • أمستردام (1948) الجمعية العمومية الأولى لمجلس الكنائس العالمي: القسطنطينية، اليونان، كنيسة رومانيا في أميركا.
  • لوند (1952) لجنة إيمان ونظام: القسطنطينية، أنطاكية، قبرص، صربيا، إدارة الروس في أميركا الشمالية.
  • ايفانستون (1954) الجمعية العمومية لمجلس الكنائس العالمي: القسطنطينية، أنطاكية، اليونان، قبرص، إدارة الروس في أميركا الشمالية، كنيسة رومانيا في أميركا.
  • نيودلهي (1961) الجمعية العمومية لمجلس الكنائس العالمي: القسطنطينية، الإسكندرية، أنطاكية، أورشليم، اليونان، قبرص، روسيا، بلغاريا، رومانيا، بولونيا، إدارة الروس في أميركا الشمالية، الكنيسة الرومانية في أميركا.
  • اوبسالا (1968) الجمعية العمومية لمجلس الكنائس العالمي: القسطنطينية، الإسكندرية، أنطاكية، أورشليم، قبرص، روسيا، بلغاريا، رومانيا، صربيا، جورجيا، بولونيا، إدارة الروس في أميركا الشمالية، الكنيسة الرومانية في أميركا.

هكذا بوسعنا أن نرى أن بطريركية القسطنطينية كانت دائماً ممثلة في المؤتمرات، كما قامت منذ البداية بدعم سياسة المشاركة في الحركة المسكونية بدون تحفظ. وفي كانون الثاني 1920، أصدرت هذه البطريركية رسالة هامة موجهة (لجميع كنائس المسيح حيث ما وجدت)، وفيها دعت بإلحاح جميع المسيحيين على التعاون الوثيق، واقترحت عقد تحالف بين الكنائس، شبيه بعصبة الأمم التي كانت قد تأسست وقتذاك.

نجد في هذه الرسالة كثيراً من الأفكار التي جرى تحقيقها فيما بعد داخل الحركة المسكونية. ولكن إذا كانت القسطنطينية قد انضمت بثبات للمبادئ التي عرضتها السنة الـ1920، فإن كنائس أخرى كانت أكثر تحفظاً تجاه العمل المسكوني. وقد تحسنت الأوضاع في السنة الـ1961 حيث طلبت بطريركية موسكو قبولها في مجلس الكنائس، الأمر الذي فتح الطريق أمام كنائس أرثوذكسية أخرى في البلدان الشيوعية.

إن مساهمة الأرثوذكسيين تشكل عاملاً عظيم الأهمية بالنسبة للحركة المسكونية، ذاك أن اشتراكهم يحول دون ظهور الحركة وكأنها نوع من التحالف بين البروتستانت. من جهة أخرى من شأن الحركة المسكونية أن تعود بالفائدة على الأرثوذكسية، فقد أتاحت لعدة كنائس أرثوذكسية، فرصة الخروج من عزلتها النسبية وحملتها على اللقاء فيما بينها وإجراء الاتصال الحي مع مسيحيين غير أرثوذكسيين.

أن نتعلّم من بعضنا البعض

وقد استعمل خومياكوف في إحدى رسائله مثلاً ليصف الموقف الأرثوذكسي تجاه سائر المسيحيين. قال إن أحد المعلمين سافر تاركاً تعاليمه لتلاميذه الثلاثة. الأكبر كرّر بأمانة ما لقّنه إياه معلّمه ولم يغيّر شيئاً. أحد الاثنين الباقيين أضاف على هذا التعليم، والآخر حذف منه جزءاً. بعودة المعلّم، لم يشعر بالغضب تجاه أي منهم، ولكنه توجّه بالقول للتلميذين الصغيرين: (اشكرا شقيقكما الأكبر، فبدونه لما استطعتما المحافظة على الحقيقة التي سلّمتها إليكم. ثم قال للكبير: اشكر أخويك الأصغرين، فبدونهما لما كانت فهمت الحقيقة التي اسلمتها إليك).

يرى الأرثوذكسيون بكل تواضع أنهم في موقف مشابه لموقف الأخ الكبير، حيث أنهم بفضل نعمة الله، تمكنوا من الحفاظ على الحقيقة دون أيّ تغيير و (بلا زيادة أو نقصان). وهم يؤكدون أنهم في صلة حياتية مع الكنيسة الأولى، ومع تقليد الرسل والآباء، ويعتقدون أن من واجبهم، في ظل عالم مسيحي مجزأ وتائه، الشهادة لهذا التقليد الأصلي الذي لم يتغيّر. وكثيرون هم الغربيون، من كاثوليك وبروتستانت، الذين يسعون اليوم لتحرير أنفسهم من (تحجر وتشنج القرن السادس عشر)، ويرغبون في العودة إلى عهد (ما قبل الإصلاح والعصر الوسيط). في هذا المضمار بالضبط يستطيع الأرثوذكسيون مساعدتهم. فالأرثوذكسية تقع خارج دائرة التفكير التي عاش فيها مسيحيو الغرب طيلة القرون الثمانية الأخيرة، وهي لم تعرف الثورة الكلامية، كما لم تعرف حركة الإصلاح أو الإصلاح المضاد، إلاّ أنها لم تنقطع قط عن العيش في تقليد الآباء الذي يسعى الغرب للعودة إليه. الدور المسكوني للأرثوذكسية يكمن إذاً في طرح تساؤلات حول الصيغ المقبولة من جانب الغرب اللاتيني في العصر الوسيط وعهد الإصلاح.

من أجل القيام بمثل هذا الدور على أحسن وجه، على الأرثوذكسيين أن يتفهموا تقليدهم الخاص أكثر مما فهموه في السابق، وبهذا يستطيع الغرب أن يساعدهم. وعليهم أن يشعروا بعرفان الجميل تجاه (إخوانهم الصغار) في الغرب – من كاثوليك وانجليكان ولوثرين وكلوينيين وكويكر – لأنهم من خلال اتصالهم بهم اكتسبوا رؤيا جديدة للأرثوذكسية.

لقد بدأ الشرق والغرب باكتشاف بعضهما البعض، وبمقدور واحدهما أن يأخذ الكثير من الآخر. لقد كان الانشقاق بالنسبة لهذا الطرف وذاك مأساة كبيرة وسبباً من أسباب الفقر، أما اليوم فإن التقارب الحاصل بينهما أصبح مصدراً لإغناء الطرفين ومن واجب الغرب، بفضل تعمقه في دراسة الكتاب المقدس وتراث الآباء، أن يحمل الأرثوذكسية على فهم جديد للعمق التاريخي للكتاب المقدس، وعلى قراءة نقدية لتراث الآباء. وبمستطاع الأرثوذكسيين من جانبهم أن يدفعوا المسيحيين الغربيين إلى وعي المعنى العميق للتقليد، من طريق إظهار الآباء على حقيقتهم الحية. تبيّن الطبعة الرومانية للفيلوكاليا كم تساعد المقاييس النقدية الغربية على فهم أفضل للتقليد الروحاني الأرثوذكسي. ويُعتبر أيضاً مثال المسيحيين الغربيين، بمثابة تشجيع للأرثوذكسيين الساعين للعودة إلى المناولة المتواصلة. كذلك كثير من المسيحيين الغربيين – بفضل الأيقونات الأرثوذكسية وبفضل صلاة يسوع والليتورجيا البيزنطية – تعمّقوا في فهم صلواتهم الخاصة وطقوسهم. وحينما تتمكن الكنيسة الأرثوذكسية في البلدان الشيوعية من الحصول على المزيد من الحرية، فإن تجارب الغرب ستساعدها فيما يختص بالشهادة المسيحية في المجتمع العلماني الصناعي. أما الآن فإن هذه الكنيسة الأرثوذكسية المضطهدة، تُذكِّر الغرب بأهمية الشهادة بالدم، كما أنها تجسّد المثال الحي لقيمة الألم في الحياة المسيحية.

كتاب: الكنيسة الأرثوذكسية: إيمان وعقيدة
الفصل السابع: الكنيسة الأرثوذكسية واتحاد المسيحيين
تأليف: الأسقف كاليستوس (تيموثي) وير

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى