Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

لقد استعمل المسيحيون الأولون العبارة اليونانية ecclesia للدلالة على هذه الحقيقة الجديدة المجيدة التي كانوا يشعرون كل الشعور بأنهم ينتمون إليها. وهذه العبارة تُوحي وتفرض مفهوماً جد واضح لما كانت الكنيسة بالنسبة لهم، وكانت تدل على مظهرين رئيسيين تحت التأثير الجلي للاستعمال الذي قامت به الترجمة السبعينية لهذه العبارة. وهذان المظهران هما: استمرار العهدين العضوي والصفة الاجتماعية للوجود المسيحي.

فقد أدرك هذا الوجود منذ البداية في المنظار المقدس للتهيئة الماسيانية وإنجازها، وهكذا أُدخل لاهوت محدد واضح للتاريخ: “الله بعد ما كلّم أباءنا في الأنبياء قديماً بأنواع مختلفة وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً صنع العالمين” (عبر 1: 1-2). هذا هو الإعلان الأخير والإنجاز الماسياني ومجيء الوعد. إن أيام الانتظار انتهت وبزغ يوم الرب. إن الوجود المسيحي كان له منذ البداية معنى وصفة أخرويين (اسكاتولوجيين). ومع ذلك فإن العهد الجديد الذي دشنه يسوع المائت والقائم في المجد والذي ختمه الروح القدس في سر العنصرة العظيم، هذا العهد لم يكن سوى العهد السابق نفسه معاداً ومكملاً، موجزاً ومجدداً. إن الكنيسة المولودة تنطبق تمام الانطباق على إسرائيل الله الحقيقي. وقد كان المسيحيون الإسرائيليين الحقيقيين بالروح وورثة الوعود الماسيانية جمعاء، أو بالأحرى كانوا “البقية الأمينة” المفرزة عن الشعب القديم المتمرد الذي انتُخب قديماً وطُرح الآن لخيانته. إن التسمية “القطيع الصغير” التي أطلقها المسيح على الرعية الماسيانية التي جمعها حوله يظهر أنها تدل تماماً على هذه “البقية” من إسرائيل: (لو 12: 23)، أي هؤلاء الذين عرفوا ماسيا وقبلوا بشارة الملكوت في قلوبهم. ومن المحتمل أن تكون هذه التسمية “الكنيسة” قد أُطلقت أولاً على الطائفة الماسيانية اليهودية الأولى في أورشليم لأنها كانت تمثل تماماً هذه البقية. وبعد ذلك فقد وجب أن يدرج اليونانيون والأمم والبرابرة في هذه البقية بنداء من الله. وأخيراً أُقيم العنصران المنفصلان أي اليهود والوثنيون في عنصر جديد بكليته، في عنصر روحي. وهذا كان أحد المواضيع الرئيسية في بشارة بولس الرسول (أنظر الرسالة إلى العبرانيين، ورسائله إلى أهل رومية وأهل غلاطية وأهل أفسس).

أما في العهد القديم فإن كلمة “اكليسيا” (الكنيسة) المترجمة عن العبرية (كهل) تتضمن تشديداً خاصاً على الوحدة العضوية للشعب المختار مدركة كأنها كل مقدس. وقد كانت الكنيسة شعباً، شعب الله، الشعب المقدس “جنس مختار وأمة مقدسة وشعب مقتنى” (بطرس 2: 9). وكذلك وُجدت المسيحية منذ البداءة كطائفة أو كحقيقة مجسمة. إذاً فالوجود المسيحي كان يقوم بالمعنى الصحيح على الانتماء إلى هذه الطائفة ولم يكن باستطاعة أحد أن يكون مسيحياً بذاته ما دام فرداً منعزلاً ولكن مع “الأخوة” فقط، برباط متين معهم وبانتمائه إليهم. إن العقيدة الشخصية وكذلك السلوك الخاص في الحياة لا يجعلان من إنسان مسيحياً. وذلك لأن الوجود المسيحي يتضمن بل يفرض انضماماً واشتراكاً بالجماعة أي الجماعة الرسولية.

إن الجماعة المسيحية أو بالأحرى الماسيانية (يجب ألا يغرب عن الذهن أن كلمة “المسيح” ومعناه الممسوح لأن الله مسحه كاهناً ونبياً وملكاً تعني أيضاً “ماسيّا”) أقامها المسيح نفسه “في أيام بشرته” وأعطاها على الأقل نظاماً وقتياً بانتخابه الاثني عشر وإقامتهم في الخدمة، هؤلاء الذين أعطاهم إسم “مرسلين” أو “سفراء”، الذين سمّاهم أيضاً “رسلاً” (لو 6: 13). لأن “إرسال” الاثني عشر لم يكن فقط تبشيرياً عابراً، وإنما كان رسالة جد علينة دعوا إليها عندما أخذوا “قوة” أو “سلطة” (مر 3: 15، متى 10: 1، لو 9: 1). وعلى أي حال فإنّ الاثني عشر بصفتهم شهوداً أقامهم الرب (لو 24: 48، أعمال 1: 8) كانوا مكلفين وحدهم أن يثبتوا بنفس الوقت الكرازة والحياة المشتركة. ولهذا فإأن الشركة “مع الرسل” (بما فيهم الاثني عشر، أعمال 2: 42) كان الطابع الأساسي “لكنيسة الله” الأولى في أورشليم. وبشارة يسوع أيضاً لم تكن موجّهة إلى أفراد منفصلين ولكن إلى الشعب، إلى إسرائيل مختار الله، وهو نفسه جمع هذه الطائفة الماسيانية التي لم تكن الكنيسة المسيحية إلا تتمة لها.

إن الاثني عشر هم الرباط الذي يصل المراحل المتتابعة لحياة هذه الطائفة الجديدة والقديمة بوقت واحد، لأن إسرائيل هو الشعب المختار دائماً، هذا الشعب الذي أقامه ثانية ودُعي لكمال جديد. ويمكننا أن نقول “الاثني عشر” يثبتون أيضاً هذا الاستمرار للعهدين، الوحدة الحية لإسرائيل مستمر. فإن إرادة الله وقوته أدخلت المؤمنين في صميم هذه الوحدة. ووحدتهم هذه تأتي من فوق وهي روحية محضة منحهم إياها الله بالرب يسوع المسيح. وهم واحد بالمسيح وبالروح القدس فقط كونهم ولدوا فيه ولادة جديدة “متأصلين ومبنيين فيه” (كولو 2: 7)، و”اعتمدوا بروح واحد ليؤلفوا جسداً واحداً” (1 كو 12: 13). وفي النهاية فإن الله هو الذي أسس الكنيسة.

… ورب سائل يقول وبالنتيجة على أي شيء تأسست وغُرست هذه الوحدة، هذه الصلة بين كثيرين والتي يجب فوق ذلك أن تكون خالصة وعضوية كاتحاد أعضاء الجسد الواحد؟ وما هي القوة التي تجمعهم وتصل البعض بالبعض الآخر؟ هل هي غريزة اجتماعية أم دافع محبة متبادلة أم جاذب طبيعي آخر؟ هل هذه الوحدة مؤسسة فقط على اتفاق في الرأي ووحدة في وجهة نظر أم معتقد أم اتفاق على مثل أعلى؟ وباختصار هل الكنيسة أو الجماعة المسيحية هي فقط جماعة بشرية وشركة اختيارية يقوم بها الناس؟

إن العهد الجديد واضح كل الوضوح في هذا الشأن فهو يضعنا ما وراء هذا التفكير البشري الحض. فليس المسيحيون متحدين فيما بينهم فقط ولكنهم، قبل كل شيء، واحد في المسيح. وهذا الاتحاد وحده أو الشركة مع المسيح يجعل الشركة الحقيقية ممكنة بين البشر، فيه.إن السيد هو محور الوحدة. ولذلك فالكنيسة هي “مجتمع إلهي” أكثر منها مجتمع إنساني، وهي أرضية وبشرية و”منظورة” وفي الزمان والتي يجب أن تكون “في هذا العالم”. وفي هذا المعنى تكون شبيهة ببقية الجماعات، ولكنها أيضاً جماعة مقدّسة ليست بحد ذاتها “من هذا العالم” ولا من هذا الدهر ولكنها تنتمي إلى “الدهر الآتي” الذي تعلنه وتسبقه. ولا يمكننا أن نقول إن المؤمنين يلتفون حول السيد مدفوعين بتوقانهم أو أمانتهم أو رغبتهم الشخصية أو لأن الرب هو الذي يجمعهم ويجذبهم إليه وهو وحده الذي يعطيهم هذا الاتحاد وبدونه لا يكون إتحاد حقيقي. إن الحب والإيمان الحقيقيين ليسا باحساسات وانفعالات بشرية ولكنهما عطية من الله وتيار المسيح الحيوي بالروح القدس. وإن الحب المسيحي الأخوي لم يؤسس إلا على هذا النسب المتبنى الذي أعطيناه في المسيح يسوع. وبالمعنى الحصري والأصيل فإننا لسنا إخوة فيما بيننا إلا بمقدار ما أصبح المسيح أخاً لكل منا وتبنى الكل بالآب السماوي بالنعمة. وكذلك آباء الكنيسة الأرثوذكسية الروحيين بلحون بصرامة نادرة على التفريق الحاسم بين التأثرات “النفسية” أو “الطبيعية” وبين الحقائق الروحانية أو بالأحرى حقائق الروح القدس. حتى في المستوى الأخلاقي الخالص ليست الوحدة أبداً هي خليقة الإنسان بل الله هو الذي يهبها دوماً. لأن منبع الوحدة هو الله نفسه والنموذج الوحيد للاتحاد الكامل هو الثالوث القدوس حيث الأقانيم الثلاثة يكوّنون كائناً واحداً وحيداً. ويجب على اتحاد المسيحيين أن يأخذ هذا المثل الأعلى نموذجاً له. إن وحدة البشر الأخوية نفسها تقوم على عمق كياني. وقد قلقت الخطيئة الجدية هذه الوحدة العميقة بصورة خطرة جداً ومزّقت هذه الوحدة البشرية ولم يصلحها سوى المسيح الذي أرجع الجنس البشري إليه وأعاد له الإمكانية المفقودة للاتحاد. ولذلك فإن الروح الجماعية الصحيحة لا يمكن أن تكون إلا بالشركة الصوفية مع إنسانية الكلمة المتجسدة.

فالكنيسة إذاً هي أرفع من أن تكون طائفة بشرية فقط لأن المسيح نفسه ينتمي إلى هذه الطائفة وهو رأسها وليس هو الرب والمعلم والرئيس فقط. ليس المسيح فوق الكنيسة أو خارجها، وليس المؤمنون هؤلاء الذين يتبعونه ويطيعون وصاياه فقط بل الذين يعيشون به وقد ضُموا إليه أو بالأحرى الذين يسكن فيهم سرّياً. ولذلك فمن الضروري جداً أن نلاحظ بأن الجماعة المسيحية، “الكنيسة”، هي جماعة مكرسة أو “أسرارية”، وأن وحدة الكنيسة تحقق في الأسرار: المعمودية والعشاء السري هذان “السّران الاجتماعيان” اللذان تظهر وتُحتم بها قوة الالتحام المسيحي الحقيقية. وبمعنى أقوى نقول أن الأسرار تكوِّن الكنيسة وبها تتخطى الجماعة المسحية المقاييس البشرية وتصبح بذلك الكنيسة. ولأجل ذلك فإن “توزيع الأسرار الصحيح” يدخل في جوهر الكنيسة. ولا بد أنه يجب أن تُقبل الأسرار بكل تقوى، وبالتالي لا يمكن أن تُفصل عن المجهود الروحي وعن حالة المؤمنين الداخلية. يجب أن يكون الإنسان مستعداً للمعمودية بالتوبة والإيمان. فإن الاتصال الشخصي يجب أن يوطد، في أول الأمر، بين المريد وربه بكرازة الكلمة ورسالة الخلاص التي يجب أن يتقبلها القلب التائب. ثم إن الالتزام بالأمانة نحو الله ومسيحه شرط أساسي لاقتبال المعمودية ولذلك فالموعوظون يُكتتبوا بقوة إيمانهم بين المؤمنين. وبالإضافة إلى ذلك فإن نعمة المعمودية تحفظ بالإيمان والأمانة، بالمواظبة على الإيمان والأمانة للالتزام. أما فاعلية المعمودية فلا تأتي إلا من الروح القدس الفاعل الأخير والوحيد للولادة الثانية، أي الولادة الروحية. إن الأسرار بالإجمال ليست فقط علامات الإيمان ولكنها بالأحرى سمات النعمة الفاعلية، سمات عطية الله المجانية، وهي ليست برموز التوقان البشري ولكنها بالمعنى الصحيح علامات خارجية للفعل الإلهي. بها يرتبط أو يرتفع وجودنا البشري نحو الحياة الإلهية بواسطة الروح القدس “الذي يهب الحياة”.

وأمّا بالمعنى بالمعنى الحصري للكلمة فإن الجماعة الماسيانية التي جمعها المسيح لم تمكن الكنيسة قبل آلامه وتمجيده وقبل أن ينزل عليها “الوعد الأبوي” و”تلبس قوة من فوق” و”تُعمّد بالروح القدس” (لو 24: 29، أعمال 1: 4-5)، مع أن سر الوحدة الأعلى، أي سر الشكر، كان قد رتب في عشية الآلام نفسها. وذلك لأنها كانت تحت ظل الناموس قبل أن يعلن انتصار الصليب في مجد القيامة. وقد كان ذلك ليلة الإنجاز. إن العنصرة حدثت لتشهد لانتصار المسيح وتختمه. والحق يُقال أن “الدهر الجديد” أُعلن وابتدأ في تلك البرهة. فحياة الكنيسة “الأسرارية” إذاً هي تتمة ليوم العنصرة أو بعبارة أولى أن حياة الكنيسة مؤسسة على سرين متكاملين” سر العشاء السري وسر العنصرة، وهذه الثنائية سنجدها في كيان الكنيسة.

إن حلول الروح القدس كان بالحقيقة الإعلان النهائي. فقد دخل الروح المعزي إلى العالم مرة واحدة وإلى الأبد في سر عظيم وفائق الوصف، إلى عالم لم يكن حاضراً فيه بالصورة التي ابتدأ فيها آنذاك. إن ينبوع الماء الحي الذي لا يفرغ فاض في ذلك اليوم على هذه الأرض وفي هذا العالم الذي اشتراه المسيح المصلوب والممجد وصالحه مع الآب. لقد أتى الملكوت لأن الروح القدس نفسه هو الملكوت كما يقول غريغوريوس النيصصي. إنّ مجيء الروح القدس يتعلق بصعود المسيح (يو 16: 7). “معزي آخر” يأتي ليشهد للابن ويعلن مجد الرب نفسه بالروح ليعود إلى خاصته فيسكن بينهم إلى الأبد (14: 18، 28). فالعنصرة كانت إذن التكريس الصوفي ومعمودية الكنيسة كلها (أعمال 1: 5). ومعمودية النار هذه منحها السيد: هذا هو الذي يعمِّد “بالروح القدس والنار” (متّى 3: 11، لوقا 3: 16). لقد أرسل الروح القدس من عند الآب كضمانة في قلوبنا. وهو روح التبني في المسيح يسوع، “قوة المسيح” (2 كور 12: 9). بهذا الروح نعرف ونعترف أن المسيح هو الرب (1 كور 12: 3) لأن عمل الروح في المؤمنين هو إدخالهم في المسيح ومعموديتهم في وحدة جسد المسيح (12: 13). وكما قال القديس اثناسيسو الكبير: “إننا نشرب المسيح ونحن مروون من الروح”، لأن الصخرة التابعة كانت المسيح.

وكما لا يخفى، إن المسيحيين متحدون بالروح القدس مع المسيح وفيه ومقامون بجسده. جسد المسيح! فيا له من تشبيه رائه يستعمله القديس بولس في عدّة نصوص عندما يصف سر الوجود المسيحي. وهو في الوقت نفسه أفضل شهادة يمكن أن نؤديها لخبرة الكنيسة الرسولية الداخلية. إن كنيسة المسيح واحدة في سر الشكر لأن هذا السر هو المسيح عينه، آدم الجديد ومخلص الجسد، الذي يسكن بطريقة سرية في الكنيسة، والكنيسة هي جسد هذا الرأي وهي مجموعة أعضاء المسيح حيث تنساب وتستمر حياته الممجدة. ومن المرجح أن يكون هذا التعبير “الجسم العضوي للمسيح” (Organisme du Christ) أفضل كلمة للتعبير بلغة عصرية عن “الجسد” (Soma) الذي استعمله القديس بولس. وكذلك أيضاً فإن المشابهات والصور الأخرى التي يستعملها بولس الرسول وغيره في العهد الجديد تبرز بنفس الطريقة الوحدة العضوية بين الرب والمؤمنين: عروس الرب والعرس السري بين المسيح والمؤمنين، البناء المشيّد بحجارة مختلفة حية الكرمة وأغصانها وآخر غيرها. كل هذه الصور تهدف إلى غاية واحدة رئيسية، ومن بينها تظهر صورة الجسد أقواها تعبيراً.

وفوق ذلك فإن الكنيسة هي جسد المسيح “وملؤه”. إن هذين التعبيرين “جسد وملء” يكمل الواحد منهما الآخر وهما متحدان في فكر بولس الرسول، الواحد مفسر الآخر: “التي هي جسده وملء الذي يملأ الكل في الكل” (أفسس 1: 23). وهي تكون جسده بمقدار ما تكون ملؤه. والقديس يوحنا الذهبي الفم يعطي ذات المعنى لفكرة بولس إذ يقول: “كما أن الرأس يتمم الجسد والجسد متمم بالرأس هكذا الكنيسة هي تمام المسيح”. المسيح ليس وحده، “لقد أعدّ الجنس البشري ليتبعه فليتّصق به ويلحق بموكبه”. والذهبي الفم يزيد فيقول: “انظروا كيف أن القديس بولس يمثله (الرأس) كأنه بحاجة إلى جميع الأعضاء. وهذا يعني أن الرأس لا يصبح في تتمة الامتلاء إلا عندما يصبح الجسد كاملاً عندما نصبح كلنا متحدين معاً ومرتبطين بعضنا ببعض”. وبتعبير آخر إن الكنيسة هي شمول و”ملء” التجسد أو بالأحرى حياة الابن المتجسد “مع كل ما أُجري لأجل خلاصنا: الصليب والقبر والقيامة في اليوم الثالث والصعود إلى السماء والجلوس عن يمين الآب” (قداس يوحنا الذهبي الفم، قبل الاستحالة، في الأنافورا). إذاً فالتجسد يستمر ويكتمل في الكنيسة، التي هي، بمعنى من المعاني، المسيح نفسه في ملئه الذي يشمل كل شيء (1كور 12: 12)… وبتعبير نيحرن: “إن جسد المسيح هو المسيح نفسه، والكنيسة هي المسيح ما دام حاضراً فيما بيننا بعد قيامته ومجتمعاً بنا على هذه الأرض”. وأخيراً بتعبير كارل أدام: “إن المسيح الرب هو أنا الكنيسة الحقيقي”.

إن المفهوم البولسي لجسد المسيح أمعن النظر فيه وشرحه آباء الكنيسة بطرق مختلفة في الشرق والغرب بوقت واحد ثم أُهمِل بل هُجِر. وقد حان الوقت الآن لنرجع إلى خبرة الكنيسة القديمة التي تستطيع أن تقدم لنا أساساً متيناً للاهوت المعاصر. وبالحقيقة فإن الكنيسة لم تنسَ هذا المفهوم وإن كان اللاهوتيون قد نسوه غالباً لأنه دائماً الأساس الوجودي للحياة “الأسرارية” والروحية بكاملها على مدى الأجيال.

ومهما يكن من أمر فمن الواجب عدم الانفراط في المشابهة مهما كانت. إن فكرة “الجسم العضوي” لها حدودها الذاتية عندما تستعمل للدلالة على الكنيسة لأن هذه تتألف من شخصيات إنسانية يجب ألا تؤخذ كعناصر أو كخلايا من كل لأن كل منها متصل بطريقة مباشرة صريحة بالمسيح وأبيه. كذلك يجب ألا يضحى بما هو شخصي وألا يذوب في ما هو جماعي، إذ لا يجوز أن يتحول “الارتباط” المسيحي إلى أي نوع من اللاشخصية حتى الموحاة منها. إن فكرة “الجسم العضوي” يجب أن تُكمَّل بفكرة “معزوفة من الأشخاص” لأنه كما أن المعزوفة تؤلف لحناً واحداً موقعاً وتتألف بنفس الوقت من أصوات متباينة لكل واحد استقلال تام عن الآخر، فكذلك الكنيسة. وهذه النظرة هي في قلب المفهوم الأرثوذكسي للجامعية. وهذا هو السبب الرئيسي الذي يدعونا لأن نؤثر مفهوماً مسيحياً (خريستولوجياً) للكنيسة (أو بالأحرى اتجاهاً خريستولوجياً دقيقاً في موضوع الكنيسة) على مفهوم روحاني. لأن الكنيسة بمجموعها، من جهة، لها مركزها الشخصي في المسيح لا غير، وهي ليست تجسداً للروح القدس ولكنها بالمعنى الصحيح جسد المسيح الرب المتجسد. إن المسيح الرب هو رأس الكنيسة الوحيد وسيدها ورئيسها وحده، “الذي فيه الكل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدّساً في الرب، الذي فيه أنتم مبنيون معاً مسكناً لله في الروح” (أفسس 2: 21-22).

ولا تزال الكنيسة في حالة صيرورة مع أنها أصبحت سابقاً في حالة كينونة. فهي تملك حياتين في وقت واحد في السموات وعلى الأرض. الكنيسة جماعة تاريخية منظورة وهي بنفس الوقت جسد المسيح. وهي حالياً كنيسة المفتدين والخطأة والبؤساء. وكما قال القديس أفرام السرياني: “الكنيسة كلها كنيسة التائبين وهي بأجمعها كنيسة الذين لا يهلكون”. الاثنين في آن. إن الهدف النهائي لم يدرك بعد في الحقل التاريخي، أما الحقيقة الأخيرة (To Eschaton) فقد ظهرت وأُعلنت أو بالأحرى أُعطيت. وهذه الحقيقة الأخيرة ممكنة المنال دوماً بالرغم من كل النقائص التاريخية، علماً أنها لا تكون كذلك إلا تحت أشكال مؤقتة لأن الكنيسة جماعة أسرارية. وكلمة “أسراري” بالمعنى الصحيح تعني أُخروي. والعبارة اليونيانية “To Eschaton” لا تعني أولاً نهائياً في المرتبة الزمنية للحوادث ولكنها تعني أخيراً، Eschaton أو فاصلاً. الفاصل هذا يمكن أن يكون، وبالواقع كان، حقيقة في سير الحوادث التاريخية لأن الذي “ليس من هذا العالم” هو الآن هنا “في هذا العالم”، وهو لا يبطل هذا العالم بل يعطيه معنى وقيمة جديدين. ولكن ليس هذا سو “استباق” للإنقضاء الأخير و”عربون” له، غير أنَّ الروح القدس يسكن منذ الآن في الكنيسة واقعياً وهذا هو السر الكنسي: إن الجسم العضوي للنعمة الإلهية يكمن في “جماعة أرضية منظورة”.

الأب جورج فلورفسكي

الأب جورج فلورفسكي (1893-1979) هو من كبار اللاهوتيين الأرثوذكسيين في القرن العشرين وقد نُشر مقاله عن الكنيسة في مجلة النور الأعداد 9، 10 و11 لسنة 1949 في ترجمة عربية أعدّها س.خ، وهو يشكل القسم الثاني من دراسته الشهيرة حول الكنيسة التي صدرت في كتاب “الكنيسة المقدسة المسكونية”، سنة 1949. وللأب فلورفسكي عدد من المؤلفات اللاهوتية الهامة التي حصلت منشورات النور على حق ترجمتها إلى اللغة العربية والتي سوف تصدر عنها في المستقبل.


راجع كتاب “الكنيسة والكتاب المقدس والتقليد – وجهة نظر أرثوذكسية” للأب جورج فلوروفسكي… (الشبكة)

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى