يتساءل القديس كيرلس الإسكندري (+444)، في تفسيره الشهير لإنجيل يوحنا، حول الآية القائلة: “فلم يكن هناك بعد من روح، لأن يسوع لم يكن قد مُجّد” (7: 39). والسؤال الذي طرحه قديسنا هو: “كيف يقال إن الروح لم يكن موجودا قبل المسيح، مع العلم أن الروح قد تكلم بالانبياء بأقوال كثيرة؟” (ولا ننسى اننا نقول اليوم في دستور الإيمان إن الروح القدس ينطق بالأنبياء). ثم يورد كيرلس الآية الكتابية القائلة: “ووصلوا الى جمع، فاذا المجموعة من الانبياء قد استقبلوه، فانقض عليه روح الله فتنبأ في وسطهم” (1صموئيل 10: 10)؛ والآية الانجيلية الواردة على لسان السيد المسيح: “وداود نفسه قال بوحي من الروح القدس…” (مرقس 12: 36). بعد ذلك يجيب كيرلس نفسه على سؤاله بالقول إن الله خلق الانسان عادم الفساد، اذ “نفخ في أنفه نسمة حياة” (تكوين 2: 7)، الا أن الانسان وجد نفسه بعد السقوط محروما من الروح وقابلا الفساد. اما الانبياء فقد نالوا عطايا متفرقة لكي يتنبأوا عن مجيء المسيح، ولكي يوبخوا شعبهم لأجل ابتعاده عن الله. ويختم الاسقف الاسكندري بالقول إن الفارق اليوم هو أن المسيحيين جميعا قد أتيح لهم أن يصبحوا بمعموديتهم مساكن للروح القدس وهياكل له.
كان روح الله يحل على القضاة لوقت، ثم يغادرهم بعد أن يتمّوا الرسالة الموكلة اليهم. هكذا نرى “روح الله يحلّ على جدعون” (قضاة 6: 34)، او “ينقض” على شمشون وعلى شاول (قضاة 15: 14، و1صموئيل 11: 6). فبدون اي تمهيد مسبق او اي انتظار كان روح الله يتدخل ويسكن هؤلاء القضاة لفترة لكي يوحدوا الشعب ويقودوهم. بعد القضاة تأتي حقبة الملوك الذين كانت مسؤوليتهم دائمة، بعكس القضاة الذين كانت رسالتهم محددة بأمر واحد. من هنا تأتي مسحة الزيت كتعبير عن استمرارية المهمة الموكلة اليهم، فصموئيل قال لشاول عندما صبّ الزيت على رأسه: “فينقضّ عليك روح الرب، وتتنبأ انت معهم وتصير رجلا آخر” (1صموئيل 10: 6). اما داود فيقول عنه الكتاب: “فأخذ صموئيل قرن الزيت، ومسحه في وسط إخوته، فانقضّ روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدا” (1صموئيل 16: 13). غير أن هذه المسحة لم تكفِ لكي تجعل من نسل داود ملوكا على حسب قلب الله، حتى يأتي المسيح المتحدّر من هذا النسل فيقيم العدل والسلام الى الابد: “ويحلّ عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة” (اشعيا 11: 2).
ألسنة الروح الحقيقية في العهد القديم هي الانبياء. الأقدمون فيهم: عاموس، هوشع، اشعيا، وارميا كانوا يشعرون بقوة الروح المسيطر عليهم، لذلك أسموه “يد الرب” عوض روحه، فاشعيا يقول: “فإنه هكذا كلَّمني الرب عندما قبض عليّ بيده” (8: 11)، اما ارميا فيقول: “ثم مدّ الرب يده ولمس فمي وقال لي الرب: ها أنذا قد جعلتُ كلامي في فمك” (1: 9). كانوا اذاً في قبضة الله لا يعلنون الا مشيئته ولا يتفوهون الا بكلامه. الروح ينقل اليهم كلمة الله وهم يعلنونها بقوة على الشعب. ولكن النبي الذي سوف يهب الخلاص للعالم فليس سوى ذاك المسيح (اي الممسوح بالروح القدس) الذي يستريح عليه روح الرب الي الابد: “روح السيد الرب عليّ لأن الرب مَسَحَني وأَرسَلَني لأُبشّر الفقراء وأجبر منكسري القلوب” (اشعيا 16: 1) .
لقد أعلن انبياء العهد القديم بإلهام الروح أن هذا الروح نفسه سيُعطى الى العالم، وهذا ما تم في العنصرة. فها اشعيا يقول: “فإني أفيض المياه على العطشان والسيول على اليبس. أفيض روحي على ذريتك وبركتي على سلالتك” (44: 3)، اما يوئيل النبي فيقول في كتابه: “وسيكون بعد هذه أني أفيض روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويحلم شيوخكم احلاما، ويرى شبانكم رؤى. وعلى العبيد والإماء ايضا أفيض روحي في تلك الايام” (3: 1-2). والجدير بالذكر أن بطرس الرسول في عظته الاولى بعد حلول الروح القدس على التلاميذ يستشهد بهذه النبوءة اليوئيلية (اعمال الرسل 2: 17-21). ويرينا حزقيال النبي أن الروح قادر على إحياء العظام وإعادة خلقها، وذلك حين يدخل فيها فيعود اللحم والجلد ويكسوان العظام فيقوم الموتى الى الحياة مجددا. وينهي النبي نبوءته هذه بالقول على لسان السيد الرب: “وأجعل روحي فيكم فتحيون” (حزقيال 37: 14).
لا يبرز الروح القدس في العهد القديم ككائن منفصل عن الله، بل هو “روحه القدوس” (اشعيا 63: 10) لأنه يأتي منه. هو الروح القدس الذي أعلنه يسوع المسيح الى العالم، كما أعلن عن الآب. نحن نعلم عن الله بقدر ما يكشفه الله عن نفسه. تجسُّدُ كلمة الله في يسوع المسيح قد كشف لنا أن الله هو آب وابن وروح قدس. قبل التجسد كان الابن والروح يعملان من دون أن يكشفا عن اسميهما وقدرتهما، حتى اسم الآب لم يكن مكشوفا للعالم. تجسُّدُ الابن -اي صيرورته انسانا- قد أتاح للبشر أن يشاركوا الله في مجده، اذ إن هذا التجسد قد أنار طريقهم الى معرفة الحق وجها لوجه.
Цитата: Мой приходской вестник
الأحد 17 أيار 1998
العدد 20