Facebook
Twitter
Телеграма
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

القسم الثاني، الحياة الروحية

تتنوّع الممارسة الدينيّة بمقدار تنوّع نظرات الناس إلى الله وإلى أنفسهم. فالدين فطرة، وقد يبدو حاجة نفسيّة! لكن المسيحيّة هي أبعد من الدين المحصور بهذه المعاني.

“تأدية الواجبات الدينيّة”، للبعض، تشكّل جوهر الدين. وتحدّد العلاقة مع الله وشكل التواصل والتعاطي معه. لذلك يعني الدين لهؤلاء الالتزام ببعض الطقوس وحضور الصلوات، ثم ممارسة بعض الفرائض الدينيّة كالأصوام ودون أن ينسوا أيضاً الإحسان. وبتأدية هذه الواجبات يحصل “المتديّن” على شعوره بالكمال والتبرير ويحيا في ضمانات دينيّة إلهيّة يبدو أنه يستحقّها أو حقّقها. لذلك في مثل هذه الحالة يكثر التشريع وتُكتب وتُحدّد العديد من الأنظمة الدينيّة، بحيث يتمّ تفسير حقوق الله منّا بالمنطق، ونسمّي ذلك نحن شريعةً إلهيّة. عندها تشكّل هذه الشريعة صورةً لله تحلّ مكانه، فلا يعود الله يتبدل معنا إذا ما ثبتنا نحن في حفظ الشرائع التي فسّرناه فيها. فيدخل الله تحت نظامنا العقلاني، وتصل المبالغات التفصيلية إلى تحديد أدقّ الأمور في العلاقة والواجبات مع الله، بحيث بالفعل نصير نحن نفكّر عن الله، أو أيضاً نفرض على الله تفكيرنا.

هكذا فقد اليهود دينهم (ممارستهم) الحقيقيّة حين، كما وبَّخهم السيد، أبطلوا شريعة الله بشرائعهم، وقدّسوا السبت وقتلوا الإنسان، بينما السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت. هكذا صارت الشرائع التي وضعها الناس لتفسير إرادة الله أقدس من إرادة الله ذاتها. وصار ذهب المذبح أقدس من المذبح، والمذبح هو من يقدّس الذهب الذي عليه. وقتلت الأداة غايتها.

“الروحانيّة الداخليّة”، لآخرين، هي دينهم العمليّ والحقيقيّ. فالمهمّ والحقيقيّ للإنسان هو اقتناء علاقة مع ذاته حارّة. يمكن ألاّ تكون هذه العلاقة ممارسة واجبات دينيّة نحو “الله” الذي في سماه، وإنّما نحو الذّات. وعلى ذلك فإنّ الفلسفة والشعر والفنون وكل “الروحانيّات” هي العبادة الحقيقيّة والدين الواقعيّ. فهي دين دون إله. وتكثر أشكال “الرياضات” الروحيّة التي يمكن ممارستها لذلك، من حيث طريقتها أو أنواعها. ولطالما اشتهر الهنود والشرق الأقصى بهذا “التديّن” الروحانيّ.

التديّن الأوّل “تأدية الواجبات” يعتمد على مركزيّة الله في الحياة، ولكن يرفع الله إلى سماء غير موجودة ويضع مكانه تفسيرات الإنسان عنه. هكذا يقتل هذا النظام الدينيّ الإلهيّ اللهَ ذاته وينصِّبُ الإنسانَ مكانه “بالوكالة”! وهذه الوكالة هي الشريعة! ولذلك لا يتأخر الإنسان أن يأخذ بعدها دور الإفتاء في الحالات التي لم يصلها الشرع في تفاصيل الحياة. هكذا كانت التيّارات اليهودية التي رفضت ربّ الشريعة حين جاء “هو” ليأخذ مكان تفاسيرنا عنه. وعن هذه التيّارات أخذ الإسلام فيما بعد.

“الروحانيّة الداخليّة” هي الشكل الثاني للتديّن ويعتمد على مركزيّة الإنسان في الحياة، فلا حاجة حقيقيّة لله، وإنّما يصير التديّن بالاعتماد على غنى القوى النفسيّة والباطنيّة لدى الإنسان، لذلك هو دين يقتل الله برفضه وبعبادته لقوى الإنسان عوضاً عنه.

يعطي الشكل الأوّل من التديّن شيئاً من الاستقرار والتبرير. ويعطي الشكل الثاني شيئاً من الحرارة والغبطة النفسيّة. على أنّهما بالعمق شكلان مختلفان لدين واحد لا إله فيه. فالأوّل يطرد الله ويوّكل الإنسان، والثاني يرفض الله ويبرز الذّات. تتأرجح أغلب الأديان بين هذين الشكلين من الصنميّة، حيث الله إمّا غائب أو جامد! هناك تحلُّ مكان الله شريعتُه الثابتة، وهنا تأخذ القوى النفسيّة مكانه العملي.

المسيحيّة، إذا جاز أن نسمّيها ديناً بحكم الضرورة الدراسيّة، تجمع الأسلوبين إلى بعضهما البعض في زيجة مقدّسة! فالله هو الحاضر والمدبّر ولا تطرده شرائعنا -باسم وصاياه- ولا تغيّب الحياة الداخليّة حيث هي مسكنه فينا. بهذا المعنى صرخ بولس الرسول “لستُ أنا أحيا بل المسيح يحيا فيَّ”. وهكذا نفهم كلمات يسوع “ملكوت الله في داخلكم”، وليس هو خارجنا في سماء الله! في المسيحيّة يشاركنا الله حياتنا ونشاركه نحن حياتَه! تشكّل هذه الكلمات لكلتا الطريقتَين الأخرَيين إمّا غرابةً أو تجديفاً. إن روح الله يخاطب روحنا. فلا حياة داخليّة روحانيّة، بل هناك حياة لروح الله في حياتنا.

الحياة الروحيّة المسيحيّة ليست إلهيّة المركز ولا إنسانيّة البنية، إنّما هي شراكة إلهيّة إنسانيّة. أي أنّها الحياة التي يصير فيها مركز الله في داخلنا. ويصير الله على تساميه قريباً منّا أكثر من ذواتنا إلى أنفسنا.

في الطريقَين الأسبقَين يغيب الله ويخاطب الإنسان ذاته. في الطريق الأوّل يخاطب الإنسان ذاته فريسيّاً عوضاً عن الله، وفي الأسلوب الثاني يعارك الإنسان قواه. إنّهما طريقان ينتهيان في دائرة بشريّة –بشريّة، وذلك بغضّ النظر عن المنطلق لكلّ منهما، عند الأوّل هو سموّ الله- سماه، وعند الثاني غنى الذّات -قوى النفس. وهكذا يحقّ لنا هنا أن نستنتج أنّ الحصيلة في هذين الطريقين من “التديّن” هي أن يخلق الإنسانُ اللهَ على صورته. في الأسلوب الأوّل صورةُ الله هي شريعته التي هي من صنع بشريّ. وفي الثاني صورة الله هي طاقات الإنسان النفسيّة الداخليّة. ويبقى هنا الحوار في حلقة مغلقة بالنهاية بين الإنسان وذاته (فريسيّاً) أو بين الإنسان وقواه النفسيّة (روحانيّاً).

الدين في المسيحيّة هو حوار حيّ بين الله والإنسان تصير فيه المخاطبة خارج حلقة: من الذّات إلى الذّات! إنه خطاب ليس بين أنا ونفسي بل بين “أنا” و”أنت”، ويأخذ الله موقع الشخص المقابل والحاضر في الداخل. فالحياة الداخليّة في المسيحيّة هي، كما نسمّيها في الترانيم، “خدْر” لقاء وارتباط للنفس بالله في عرس إلهي روحانيّ سامي. “جعلت الربّ أمامي كلّ حين”، كما يقول سفر المزامير، يعني “حيٌّ هو الربّ إلهي”، حسب إيليا النبي، ويعني “أنا فيكم وأنتم فيًّ” حسب كلمات يسوع في إنجيل يوحنا.

هكذا عندما يحضر الله كـ”أنت” يعني أنّه يأتي كما هو وليس كما أنا. فهو يبدأ بعلاقته معنا فيصورنا نحن على صورته هو وعلى مثاله. وهذا ما نسميه “تألّه”. الله يغيّرنا إذن! الله ليس ليطلب حقوقاً أو واجبات، أو ليدفئ أنفسنا! الله حركة ومحرّك، ليس الله فكرة ولا هو بالأحرى شعور!

لقد عرفنا الله في المسيحيّة بصورة لم ينتظرها عقل بشريّ. إنّه “الحمل الذبيح منذ إنشاء العالم”! إذا كان الله للأديان هو القويّ والعادل، فإنه جاءنا حملاً ذبيحاً لأجلنا، لا يرمي الله على الإنسان واجبات يصفّي بها العلاقة ويحدّد الحقوق. لقد جاء ليحمل ضعفاتنا ويعطينا حياتنا. لهذا، إنّ الحياة الدينيّة في كلا الأسلوبين الآخرين هي محاولة شخصيّة لحفظ الوصايا أو للغور في الطاقات النفسيّة. أمّا الحياة الروحيّة المسيحيّة فهي ليست منّا، بل من فوق من إلهنا هديّة أُعطيت إلينا. إنّ الله يُظهر حياته ونحن نتقبّلها. فالحياة دون الله غير ممكنة. والمسألة ليست محاولةً بل هي شكر. لذلك يقع التديّن الأوّل في التشريع والتأريخ، وينسج بالنهاية عن الله ما هو ليس فيه بل من الإنسان. ويقع التديّن الثاني في أسطورة الذّات، وهكذا نفصل في الدين بين مبدئه وإلهه، هناك بشرائعنا وهنا بذاتنا. ونكون في الواقعين خارج الواقع الدينيّ الحقيقيّ.

تجسّد الكلمة الإله هو صورة الطريق الدينيّة المثلى حيث يحيا الله في الإنسان ويحيا الإنسان في الله. في الربّ يسوع تمّ شخصيّاً وأقنوميّاً ما يجب أن يتمّ معنا أخلاقيّاً.

ليس الله مبدأ ولا طاقة. الله هو شخص حيّ نحيا بحضرته وحضرته، تحيينا. لذلك ليست غاية المسيحيّة المحافظة على الإنسان بحالة فضيلة معيّنة، بل هي أن يسعى إلى الكمال الذي لا حدَّ له ولا نهاية، أي أن يذهب من مجد إلى مجد، ساعياً إلى شبه الله. ليست المسيحيّة إنطوائيّة فرديّة داخليّة لإشباع الحاجات النفسيّة بمذاهب إنسانيّة أو فكريّة. ما يميّز المسيحيّة هي “التبديل” و”التغيير” في الحياة. لا مسيحيّة دون “توبة”! والتوبة بمعناها الحقيقيّ العميق، أي أنه لست أنا من يحيا كإنسان عتيق، بل الله يأتي ليحيا فيّ.

لذلك لم تَقُم الكنيسة على مبادئ أخلاقيّة ووصايا إلهيّة وحسب، ولا على دغدغة الأشواق الروحانيّة. بل على المحبّة، التي وضعت لها الكنيسة قالبها وعربَتَها وهي الأسرار، بدءاً من المعموديّة إلى الاعتراف والمناولة. هذه هي المسالك التي تجري فيها ممارستنا الدينيّة بشكل “محبّة” لله والقريب.

المسيحيّة هي استقبال لله المتّجه نحونا. إنّه يتحرّك باتجاهنا ليبدّلنا، لكن محبّته لن تمسَّ يوماً حريّتنا، حتّى ولو كانت رافضة. وجوابنا على تقدّم الله إلينا هو “توبتنا” أي التفاتنا إليه، أي أن يكون لنا تجاهه دوماً “نعم” وتعال أيّها الربّ يسوع، تعال سريعاً. هذه هي المسيحيّة كحياة داخليّة، الله في داخلنا وليس في سماه، يأتي الله إلينا ليأخذنا إليه. لقد صار الإله إنساناً ليصير الإنسانُ إلهاً! هذا هو الدين المسيحيّ، أو بالأحرى المسيحيّة، إنّها مسحنة الإنسان وحياة الله فيه ولا حياة بدونه، فإنّنا “به نوجد ونحيا ونتحرّك”.

Facebook
Twitter
Телеграма
WhatsApp
PDF

Информация за страницата

Заглавия на страници

Съдържание на раздела

Тагове

bg_BGBulgarian
Превъртете до върха