أقرباء يسوع

هم عديدون، يذكرهم العهد الجديد في بدء خدمة يسوع كأعداء للبشارة ويرصفهم مع الكتبة والفريسيين، فيُظهرهم تارةً أنهم يشوّهون سِمعَة يسوع (“المختل”، كما ينعتونه، مرقس 3: 21)، وطورا يلاحقونه وبغيتهم أن يوقفوه عن إعلان “مشيئة الله”. يسمي مرقس البشير في إنجيله بعضا من هؤلاء الأقرباء، فينقل عن لسان اهل الناصرة قولهم: “اليس هذا هو النجار ابن مريم واخا يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان، أَوَ ليست أَخَواته ههنا عندنا؟” (6: 3؛ راجع 3: 31 وقارن مع متى 12: 46، 13: 55و56 ولوقا 8: 19).

يصرّ بعض الناس، وبخاصة الذين تأثروا بمعتقدات غريبة عن التراث الحيّ، على تفسير عبارة “إخوة يسوع” على انها تعني إخوة له من مريم، وذلك أنهم قرأوا الكلمات المستعملة في الآيات المذكورة آنفا انطلاقا من مفاهيم آنيّة، وأهملوا الإطار التاريخي والحضاري الذي نشأت فيه. ويحيكون قصصا وهمية عارية عن الصحة ينقضها ببساطة مَن وعى أن الأناجيل بشارات موضوعها حصراً خلاص العالم الذي أتمَّه ابن الله المتجسد بموته على الصليب، وليست هي بحوثا في تاريخ عائلة يسوع وعلاقة أمه بيوسف، الأمر الذي تذكره الأناجيل بِما يخدم حقيقة التجسد الخلاصية وقبول الأوّلين لها.

وواقع الحال أن كلمة “أخ” (او أخت) لا تدل، في حضارة الكتاب المقدس، كما في بلادنا، على اولاد الأم الواحدة وحسب، وإنما ايضا على بعض الاقرباء مثل اولاد العم والخال او ابناء العشيرة الواحدة. ففي كتاب التكوين يقول ابراهيم للوط ابن أخيه: “لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك، لأننا نحن أَخَوان” (13 :8)، وفي 14: 14 نقرأ: “لما سمع ابرام (ابراهيم) أن أخاه (اي: ابن أخيه) سُبِيَ، جرَّ غلمانه المتمرّنين…”. فإبراهيم، كما لاحظنا، هو عم لوط وهو يدعوه، في اكثر من موضع، أخاه ويدافع عنه كأخ (راجع ايضا 14: 16). وفي الكتاب ذاته نقرأ أن يعقوب أخبر راحيل “انه اخو ابيها”، وهو ابن اخته (29: 15؛ راجع ايضا: لاويين 10: 4، أخبار الايام الأوّل 23: 22). واذا عدنا الى انجيل مرقس (الاصحاح 6) نجد أن يوسي ويعقوب اللذين ذكرهما الانجيلي على انهما أََخوان ليسوع، يورد، هو نفسه، في آخر انجيله، انهما من أُمّين غير مريم ام يسوع: “مريم ام يوسي” (15: 47)، “ومريم ام يعقوب” (16 :1). والامر نفسه نجده في انجيل متى، حيث نقرأ في 13: 55 أن يعقوب ويوسي هما من إخوة يسوع، ونعرف في 72:65 انهم من ام اخرى، وهي مريم زوجة كلاوُبّا، كما يوضح انجيلي آخر (يوحنا 19: 25). وهكذا نتبيّن أن هؤلاء “الإخوة” هم، بالحقيقة، أقرباء ليسوع وليس إخوته من مريم، ولعلهم كانوا (او بعضهم) اولادا ليوسف من زواج سابق، كما قَبِلَ آباء كثيرون، منهم: كليمنضس الاسكندري، وأُوريجانس، وإفسافيوس القيصري، وإبيفانيوس أسقف سلاميس، وأَمبروسيوس أسقف ميلانو وغيرهم.

والجدير ذكره أن الأناجيل المقدسة ذكرت مرارا ان مريم هي ام يسوع وان يسوع هو ابن مريم، ولكنها لم تذكر قطّ أن احد المدعوين اخوة يسوع هو ابن مريم والدة الإله او انها هي ام احدهم، مما يدل على أن يسوع هو ابن مريم الوحيد (راجع: يوحنا 2 :1؛ اعمال الرسل 1: 14).

يعرّف يوحنا كَرافيذوبولس في تفسيره انجيل مرقس (عرّبه الارشمندريت أفرام، ونشرته منشورات النور) عن يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان الذين هم “اشخاص يحملون أسماء آبائية”، بقوله:”يعقوب “العمود” المعروف في كنيسة اورشليم، يوسي الاسم اليوناني ليوسف، يهوذا الذي عاش احفاده في زمن دومتيانوس”، ويؤكد انهم كانوا “معروفين كأقرباء للرب (انظر التاريخ الكنسي لإفسافيوس 3 :9)”، ويتابع: “وسمعان خليفة يعقوب في اورشليم (الكتاب ذاته 3: 11)” (ص 112). وهذا، من جهة، يدلنا على أن هؤلاء الاشخاص المدعوين إخوة يسوع هم بالحقيقة اقرباء له (وليس اخوته من مريم)، ويفيدنا، من جهة ثانية، أن الذين كانوا في البدء أعداءه، آمنوا برسالته بعد قيامته وصعوده الى السماء، وباتت لهم تاليا مكانة عظمى في الكنيسة الاولى.

لا شك أن يسوع بموته على الصليب اصبح “بِكْراً لإخوة كثيرين” (رومية 8: 29)، وهو نفسه يدعو تلاميذه، بعد قيامته، إخوته (يوحنا 20 :17؛ متى 28: 10). وقد أرسى قاعدة البنوة لله في قبوله والإيمان به ربّاً ومخلِّصاً، نقرأ في الرسالة الى العبرانيين أن الذين تقدسوا بالمعمودية “لا يستحي (يسوع) أن يدعوهم إخوة” (2: 11). هذه هي أمنية الأنبياء والأبرار الذين تشوّقوا قديما الى أُخوّة شاملة، وقد أصبحت حقيقة في يسوع الإله المتجسد الذي به تبنّانا الله الآب وأعطانا شركة ميراث الحياة الأبدية.

هذه هي القرابة الحقيقة ليسوع التي أعدها الله للذين يسمعون كلمة الله ويُتمّونها بالطاعة (مرقس 3: 35).

عن نشرة رعيتي 1998

arArabic
انتقل إلى أعلى