التسليم في العهد الجديد

نشأت كنيسة العهد الجديد وانتشرت، كما هو واضح من شهادة أسفار العهد الجديد، بفعل الكرازة الشفهية في جهات عديدة، وقبل أن تكتب هذه الأسفار: “وقال لهم اذهبوا في الأرض كلها، وأعلنوا البشارة للخليقة كلها… فذهب أولئك يبشرون في كل مكان والرب يعينهم…” (مرقس 16: 15- 19). هذا يعني، أنه كما حدث في العهد القديم، فإن التسليم الشفهي في العهد الجديد، وهو البشارة ذاتها المنقولة شفاها، وجد قبل الكتاب المقدس، لا بل قبل الكنيسة نفسها، إن جاز التعبير، حيث كان هو الواسطة المباشرة لتأسيسها وامتدادها.

الرب يسوع المسيح لم كتب شيئاً، بل كان كانت شخصيته غير المنفصلة عن كلامه وأعماله الإعلان الأعظم عن الله، ولذلك كان الإيمان قائماً بالدرجة الأولى على رؤيته وسماعه، “تعال وأنظر” (يو 1: 46) ثم فيما بعد بقبول شهادة الذين رأوه وسمعوه: “الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به” (1 يو 1: 3).

التقليد نشأ قبل الكتاب، لأن الله أراد بحكته أن يجعل حقائق الإعلان الإلهي تعطى شفاها لكي يسهل قبولها وتمثلها، لأنه لو أعطيت حقائق الإيمان منذ البداية كتابة لما انتشرت بهذه السهولة والقوة: “الإيمان بالسّماع بينما السماع بكلمة الله” (رو 10: 17).

المخلص نفسه أمر رسله أن يكرزوا شفاها: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به”(متى 28: 19- 20) ولكن بمعنونة الروح القدس الذي سيلبسهم قوة من الأعالي (لوقا 24: 49) وهو روح الحق الذي يمكث معهم ويكون فيهم (يو 14: 17) ويعلمهم كل شيء ويذكرهم بكل ما قاله يسوع لهم (يو 14: 26).

هكذا لم تكن كتابات الرسل وحدها بالهام الروح القدس بل أيضاً كلامهم المنطوق: “وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة” (1كو 2: 4) “… ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس” (1كو 2: 12-13).

وهذه الفكرة يؤكدها كون كل الكنائس الأولى قد تأسست بناء على تبشير الرسل لها بفم ولســان.

ثم بعد ذلك حين كان الرسل يتركونها ليبشروا في مكان آخر كانوا يرسلون إليها رسائل مكتوبة إذا اقتضت الحاجة. الرسائل نفسها تظهر بوضوح أن الرسل لم يكتبوا سوى قسم ضئيل مما يريدون إعلام الكنائس به، مثلاً يوحنا الإنجيلي يعلن :”إذ كان لي كثير لأكتب إليكم لم أرد أن يكون بورق وحبر لأني أرجوا أن آتي إليكم وأتكلم فماً لفم لكي يكون فرحنا كاملاً” (3 يو 1: 12) و(3 يو 1: 13) أما بولس فيظهران اموراً كثيرة لا ترتب إلا بحضوره الشخصي: “وأما الأمور الباقية فعندما أجيء ارتبها” (1كو 11: 34). هذه القضية صريحة أيضاً في الأناجيل. يوحنا الحبيب يقول في إنجيله: “وآيات أخرى صنع يسوع لم تكتب في هذا الكتاب”(يو 20: 30) وهو ينهيه بهذه الكلمات: “وأشياء أخرى صنعها يسوع أن كتبت واحدة فواحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة” (يو 21: 25).

إن هذا التقليد المأخوذ عن الرسل مباشرة يسمى التقليد الرسولي الذي منه انبثق ما يسمى بالتقليد الكنسي. لقد عاصر هذا الأمر القديس أيريناوس أسقف ليون تلميذ بوليكاريوس تلميذ يوحنا الحبيب (القرن الثاني) ومن أجل ذلك كتب: “الرسل القديسون استلموا تقليدهم من المخلص، بنما الكنيسة استلمته من الرسل” بمعنى أن الرسل سلموا الوديعة للأساقفة الأول، وهؤلاء بدرهم للذين بعدهم وهكذا بالتسلسل، إلى هذا اليوم. المغبوط أغسطينوس الذي عاش في القرن الرابع يثبت هذا أيضاً : “كل التقليدات المحفوظة في كل الأرض أما هي متسلمة من الرسل ومن المجامع المسكونية”. التقليد الكنسي إذن هو في علاقة جداً وثيقة مع التقليد الرسولي ويكمل أحدهما الآخر. ولذا فعلامة التقليد الحق هي التواصل (عدم الانقطاع).
بناء على هذا الأساس يمكن القول بأن التقليد هو البشارة المكروز بها من الرسل إلى يومنا هذا، ولأجل ذلك كما قال العلامة العظيم اوريجانوس (180-255): “ويجب الاعتقاد فقط بذلك الحق الإيماني الذي لا يبتعد بشيء عن التقليد الرسولي والكنسي”.

arArabic
انتقل إلى أعلى