جمال داخلي!
11. حقًا “أَدْخَلني الملك إلى حِجاله” (نش 1: 4 LXX).
طوبى للنفس التي تدخل إلى الحِجال، إذ تسمو فوق الجسد لتصير بعيدة (سامية) عن الكل؛ تبحث وتطلب في داخلها عن طريق ما به تتبع الإلهيات. وإذ تبلغها تتجاوز المُدرَكات العقلانية، فتتقوى بالإلهيات وتقتات عليها.
هكذا كان بولس، الذي أدرك أنه أُخْتُطِف إلى الفردوس لكنه لم يكن يعرف إن كان في الجسد أم خارج الجسد (2 كو 12: 3-4). فقد نهضت نفسه من الجسد، وانسحبت عن ضرورياته ورباطاته وسمت إلى فوق. صار غريبًا عن نفسه بنفسه، وصان في أعماق نفسه الكلمات السرية التي سمعها ولم يقدر على إعلانها، لأنه، كما صرح هو، لم يكن مسوغًا لإنسان أن ينطق بمثل تلك الأفكار (2 كو 12: 4).
لهذا تحتقر النفس الصالحة الأمور المادية المتقدة، ولا تعود تتعلّق بها أو تتوانى أو تتوقف عن الاستخفاف بها؛ بل بالحري تنهض إلى الأبديات غير المادية والعجيبة، لأنها تقوم بفكر طاهر وبذهن نقي. وإذ تعزم على الكمال تجاهد لأجل الخير فقط، الخير الإلهي، وتحسب ما عداه ليس ضروريًا، إذ تملك ما هو أسمى. مثل هذا الإنسان تحمل نفسه جمالاً أكثر مما تحتاج إليه، حتى لو كان متروكًا وحده، إذ يجد الشبع في داخله، ومن ثَمَّ لا يُحسب هذا الإنسان معزولاً وحده لأن الرب معه شفيعًا له.
فرح داخلي!
12. حقًا، حينما يُؤْتى بها إلى اللاهوت الخفي (السري)، تقول النفس: “فلنفرح ولنبتهج بك، لتكن لنا ثدياك أكثر من الخمر” (نش 1: 4 LXX). فإن البار لا يبتهج بالغِنَى وكنوز الذهب والفضة ولا بالتمتع بممتلكاته، ولا بالقوة ولا بالولائم إنما بالله وحده.
صراعها مع الظلمة
13. وأيضًا إذ أدركت هذه النفس أنها قد أُظْلمت باتحادها (بشهوات) الجسد تقول للأنفس الأخرى أو لقوات السماء المسئولة عن الخدمة المقدسة: “لا تنظرن إليَّ لكون بشرتي سوداء، لأن الشمس لم تنظر إليَّ، وبنو أمي غضبوا عليَّ” (نش 1: 6(LXX ، أي هاجمتني شهوات الجسد، وأضْفت مفاتنه على لوني، لهذا لم يشرق شمس البر عليَّ (ملا 3: 20). إنني محرومة من هذه الحماية، لم أستطع الحفاظ على تكريسي وطاعتي الكاملة. هذا هو معنى: “كرمي لم أحفظه” (نش 1: 6). لأنني أنتجت شوكًا لا عنبًا، أي أنتجت خطايا عوض الثمار الروحية (مت 7: 16-20).
حاجتها إلى راحة الظهيرة
14. وحينما نتحدث عن الكلمة وضيائه الذي يشرق عليها، فتلتفت إليه قائلة: “أين ترعى قطيعك؟ أين تستريح عند الظهيرة؟” (نش 1: 7)، كان الوقت “ظهيرة” عندما احتلَّ يوسف مكانه وسط إخوته في المأدبة، وكشف لهم عن أسرار الأزمنة المقبلة (تك 43: 15)، ويقول داود أيضًا: “سلِّمْ للرب طريقك واتكل عليه وهو يُجري، ويخرج مثل النور برّك، وحقك مثل الظهيرة” (مز 37: 5-6). كما أعلن بولس ذاته أن النور أبرق حوله كالظهيرة عندما اهتدى من مضطهد للكنيسة إلى النعمة (أع 9: 3).
لذلك تشكو النفس لأنها هُجرت، لأنها تُركت، وقد صارت فقيرة، هذه التي كانت غنية، لأنها كانت تفيض بعطايا النعمة وقد صارت في عوز، حينما حُرمت من ملء الحضور الإلهي؛ ها هي تطلب أن تُعالَج كأنها كانت قبلاً أجيرة، هذه التي سبق فتمتعت بغنى الاتحاد.
حاجتها إلى تقديرها لنفسها بالتوبة
15. يجيبها كلمة الله: “إن كنتِ لا تعرفين نفسك أيتها الجميلة بين النساء” (نش 1: 8)، لأنكِ تشتكين بأنك قد هُجرت، “إن كنتِ لا تعرفين نفسك”، أي إن لم تتوبي، إن لم تُظهري تقوى يقظة، إن لم يزد إيمانك ويَنْمُ اتكالك، لن تُجْدِي شكواك.
إن كنتِ لا تعرفين نفسك أنكِ جميلة، وإن لم تحفظي جمال طبيعتك، ولا تسود عليكِ إغراءات الجسد، ولا تعوقك موانعه، لن يُعينك شرف خليقتك مطلقًا.
تمتعي بجمال الحرية!
16. لهذا اعرفي نفسك وجمال طبيعتك، وانطلقي كأن قدميك قد تحررتا من القيود، وقد ظهرتا مَرْئية في خطواتهما المكشوفة، فلا تشعرين بأغطية جسدانية، ولا تعوق روابط الجسد خُطى ذهنك؛ فتظهر قدماك جميلتين. لأنه هكذا هو حال من اختارهم الرب للشهادة عن ملكوت السماوات، إذ قيل عنهم: “ما أجمل أقدام المبشرين بإنجيل السلام” (رو 10: 15؛ إش 52: 7).
هكذا كان حال موسى الذي قيل له: “اخلع الحذاء من رجليك” (خر 3: 5)، فإنه إذ كان مزمعًا أن يدعو الشعب إلى ملكوت الله، وجب عليه أن يخلع ثياب الجسد ويمشي بروحه وخطى ذهنه عارية. لهذا يقول الرب: “اُخرجي على آثار الغنم واِرعي جداءك عند خيام الرعاة” (نش 1: 8). نفهم أن الغنم هو الملكوت، لأن ممارسة رعاية الغنم تتطلب قوة. أيضًا يختبر كل إنسان رعاية نفسه بنوعٍ ما بقوة ملوكية وذلك إذا ما كبح إفراط الجسد في داخله، وقمَع جسده واستعبده، لذا قيل: “ملكوت الله داخلكم” (لو 17: 21). في هذا الصدد قال الرب للنفس: “اُخرجي”، أي “اُخرجي من العبودية”، اُخرجي من سيطرة الجسد وسلطانه. اُخرجي، لا في الجسد، بل في الروح. اُخرجي إلى سلطان القوة. لذا يُضيف: “وارعي جداءك (الصغيرة)”، أي اضبطي الأمور التي على يسارك، فإنها إذا لم تُضْبَط سرعان ما تسقط (مت 25: 33). اكبحي شهواتك. شهوة جسدك، والانغماس في الشهوات الحيوانية. اضبطي أهواءك المتقلبة، لا ترعيها عند خيام الجسد بل في خيام الرعاة الذين تعلموا كيف يقودون القطيع.
لأنه “ما أحسن خيامك يا يعقوب، مساكنك يا إسرائيل… كجنات على نهر” (عد 24: 5-6). فيها ترقد النفس كأنها مستعدة للحرب، تؤدي خدمة طيبة، تبحث عن غزوات الخصم، وتطلب النصرة بجهاد الفضيلة. فتُقارَن بجواد سليمان المطهَّم، السريع في العَدْو، والخصيب في الإنجاب، فإن خصوبة النفس مرغوبة ومطلوبة.
جاهدي كفرس في حرب
17. إنها جواد ثمين، هي مركبات فرعون السريعة (نش 1: 9).
يعتبر البعض هذا النص (نش 1: 9). إشارة إلى الكنيسة والشعب، لكنني سبق أن تحدثت عن هذا السر مرارًا خاصة في تفسير مزمور 118 (119)، بأن الحديث هنا هو عن النفس. فالنفس تُقاد مثل الفرس، أعني أن لها فضيلة نبوية أو رسولية، لأنها تُحسب ضمن الذين ملأوا كل أقاصي الأرض بخصوبة كرازتهم؛ وهم لا يزالون بعد في الجسد لا يشعرون بفقدانهم سعيهم الروحي. من أجل هذا تنال هذه النفس مديحًا، إذ صارت جميلة وبهية بإرشاد الوصية السماوية واستنارتها. تعكس على وجهها جمال العفة، وحينما تتحلى بقلادتها حول عنقها تظهر علامات الصبر والتواضع.
لقد أحب إسحق الحقيقي جمال مثل هذه النفس وتواضعها وصبرها، وترقب باشتياق ذريتها.
ذرية النفس الجميلة
18. الآن حبلت رفقة (تك 25: 21)، وبصبرها حلت عقدة العقم. لنتأمل ما أنجبته نفسها النبوية الرسولية، وكيف مضت تستشير الرب (تك 25: 22)، لأن الطفلين تزاحما في بطنها، فتلقت الإجابة: “في بطنك أُمتان” (تك 25: 23). لأنها لم تعطِ نفسها حق الحكم في الأمر بل سلمته لله كمدافع علوي فائق يهبها المشورة، وإذ امتلأت سلامًا وتقوى جمعت أُمتين معًا بإيمانها خلال النبوة، وأغلقت عليهما في بطنها، إن جاز التعبير.
تُحسب أختًا للجميع
19. ليس بدون سبب دُعيت أختًا أكثر منها زوجة (لواحد). فإن نفسها الرقيقة المسالمة قد اشتهرت بحبها الشديد للجميع أكثر من الاتحاد بفرد واحد؛ فقد حسبت نفسها مرتبطة بالكل (في أخوَّة) ولا تقف عند اتحادها بالواحد.
تفتح آبار الإيمان والتكريس
20. الآن، أعاد إسحق نبش عدة آبار سبق أبوه أن حفرها لكن الغرباء طمسوها بعد موت أبيه إبراهيم. بجوار تلك الآبار حفر أيضًا واحدة في وادي جرار حيث وجد هناك بئر مياه حية، وتنازع رعاة جرار مع رعاة إسحق زاعمين ملكيتهم لماء تلك البئر، فدعا اسمها ظلمًا (عسق) (تك 26: 20). ثم حفر بئرًا آخرى ثار عليها نزاع أيضًا فدعاها عداوة (سطنة) (تك 26: 21). ثم حفر بئرًا ثالثة، ولم يحدث عليها خصام بين الرعاة، فدعاها رحوبوت أي متسعة للكل (تك 26: 22). وحفر أيضًا بئرًا لم يجد فيها ماءً فدعاها بئر القَسَم (تك 26: 25).
21. هل عندما يقرأ أحدكم (عن هذه الآبار) يحسبها أعمالاً أرضية لا روحية؟ فقد حفر إبراهيم آبارًا، وهكذا فعل إسحق أيضًا، ويعقوب، البطاركة العظماء… كأنهم كانوا ينابيع الجنس البشري، خاصة كآبار للإيمان والتكريس. لأنه ما هو بئر الماء الحيّ إلاَّ عمق الإرشاد! لهذا رأت هاجر ملاكًا بجوار بئر (تك 21: 14)، ووجد يعقوب زوجته راحيل بجوار بئر (تك 29: 2، 9-10)، ونال موسى أولى مكافآته لزواجه المستقبل بجوار بئر (خر 2: 15-22).
المعاني الرمزية للآبار (أخلاقية ثم طبيعية ثم سرية)
22. لهذا أخذ إسحق على عاتقه أن يحفر آبارًا برؤيا عميقة وبتدبير حسن، وذلك لكي تغسل بئره وتُقوِّي قدرة النفس العاقلة وبصيرتها فتصير الرؤيا أوضح.
لقد حفر آبارًا أخرى عديدة، وكُتب بهذا الخصوص: “اشرب مياهًا من آنيتك ومن نبع آبارك” (أم 5: 15 LXX). كلما كثرت الآبار ازداد غِنَى فيض النعم.
نبش بئرًا سبق فحفره أبوه إبراهيم، وقد تنازع عليه رعاة جرار؛ هذا يشير إلى جدران الفصل، إذ حدث انقسام بين المتنازعين وصار ظلم، وقد دُعِيَ البئر “ظلمً”، ثم حفر بئرًا أخرى وحينما قام النزاع دعاها عداوة. يبدو في هذا تعليم أخلاقي، لأنه ما أن تُزال جدران الفصل تُنزَع العداوة طبيعيًا. التي في جسد الإنسان ويصير العنصران (الجسد والنفس) واحدًا؛ هذا ما تحقق رمزيًا في إسحق وبالحقيقة بالمسيح. لهذا وُجِد بعد ذلك ماء نقي في البئر (الثالثة)، صالحة للشرب… وقد دعيت “رحبوت”، لأن الإنسان الذي يتجاوز الأمور العالمية المادية يكون هادئًا رابط الجأش يجاهد دون منازعة… ويقول: “الآن قد أَرْحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض” (تك 26: 22)؛ لأنه قد سُمِّي على الأمور الأرضية. أما البئر الأخيرة فهي بئر القَسَم (العهد)، حيث ظهر له الله، قائلاً: “لا تخف لأني معك” (تك 26: 24)، وباركه هذا تعليم سرِّي.
23. لديكم تعليمًا مماثلاً في سليمان. سفر الأمثال الذي هو أخلاقي، وفي سفر الجامعة يستهين بأباطيل هذا العالم كأمر طبيعي. أما نشيد الأناشيد فسِرِّي.
لديكم أيضًا في النبي: “ازرعوا لأنفسكم بالبرّ، احصدوا ثمرة الحياة، اَضيئوا لأنفسكم نور المعرفة” (10: 12 LXX). هذا هو نور المعرفة أن يكون لكم كمال الحب. فقد قيل: “لا تخافوا، لأن المحبة تطرد الخوف خارجً” (1 يو 4: 18).
لنعرف أن سليمان فسَّر تلك الآبار، ونسب إليها معانٍ أخلاقية وطبيعية وسرية بالترتيب.
أ. الآبار في المفهوم الأخلاقي
24. لأنه في الأمثال إذ تحدث عن رفضه جمال الفتن العالمية حيث قال: “اشرب مياهًا من آنيتك، ومن نبع آبارك، ولتُفِضْ مياه ينبوعك لك” (أم 5: 15-16 LXX)، وأيضًا: “ليكن ينبوع مياهك لك وحدك وافرح بزوجتك” (أم 5: 18 LXX)، لأن الحكمة الحقيقية هي علاجنا ضد تجارب العالم والتعليم الأخلاقي أيضًا. فإنه بسَرَيان مياهها الفائض من نبعها تُغسَل صورة الإنسان وتتطهر هذه التي تلطخت بمساحيق مباهج العالم التي تستخدمها الزانية، إن جاز التعبير.
ب. الآبار في المفهوم الطبيعي
25. بالإشارة إلى المفهوم الطبيعي، تجدونه في سفر الجامعة: “عملت لنفسي بِرَك مياهٍ لتسقي بها المغرس المنبتة الشجر” (جا 2: 6). لا تهتموا أنه قال “بِرَك” بدلاً من “الآبار”.
ج. الآبار في المفهوم السرِّي
26. تبقى لنا البئر في المفهوم السرِّي، نجدها في نشيد الأناشيد، حيث يقول الكتاب المقدس: “ينبوع جنات بئر مياه حية وسيول من لبنان” (نش 4: 15). حقًا إن أردتم سبر؟؟ عمق الأسرار تُظهِر البئر لكم حكمة سرية مؤسسة في الأعماق. لكن إن أردتم شرب وفرة الحب الأعظم والأغنى من الإيمان والرجاء فلكم نبعكم، لأن المحبة تفيض بِغنى لكي تقدروا أن تشربوها وتكون بين أيديكم، تروي جنتكم بغزارة، فتأتي بثمار روحية.
لأن الحبيب (المحب) هناك وراء بئر رحبوت، يقول الكتاب المقدس حيث يوجد الحب هناك مَجْرَى قوي يتدفق عبر لبنان.
لنَسْمَح للإنجيل أن يعلمنا (عن البئر بالمفهوم السِرِّي)، إذ كتب أن “يسوع أتي إلى مدينة من السامرة يُقال لها سوخار بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه، وكانت هناك بئر يعقوب. فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر” (يو 4: 5-6). بهذا نعرف أيضًا أن هذه البئر تُفْهَم سرّيًا. فالمرأة السامرية، حارسة، أعني حارسة للوصايا السماوية، تقترب من هذه البئر، لأنها تعلمت الأسرار الإلهية، تعلمت أن الله روح وأنه لا يُعْبَد في مكان بل في (بـ)الروح، وأن المسيح هو المسيّا الذي انتظره اليهود وقد جاء فعلاً (يو 4: 21-26). إذ سمعت هذه الأمور تعلمت هذه المرأة التي تُعلِن عن جمال الكنيسة، وآمنت بأسرار الناموس.
الحكمة الثلاثية الأبعاد
[يضرب القديس أمبروسيوس أمثلة متعددة للتفاسير الثلاثية للكتاب المقدس: التفسير الأخلاقي، التفسير الطبيعي، التفسير السرِّي (الرمزي)، ويدعو هذه التفاسير “الحكمة الثلاثية الأبعاد”. أخذ القديس أمبروسيوس هذا الفكر عن مدرسة الإسكندرية، خاصة العلامة أوريجينوس الذي يرى أن الكتاب المقدس يُفسَّر بثلاث طرق:
- أ. التفسير الحرفي أو التاريخي، يُقدَّم للبسطاء.
- ب. التفسير السلوكي أو الأخلاقي.
- ج. التفسير الرمزي أو السِرِّي، خاص بالنفس التي تتمتع بالشركة مع السيد المسيح، كعروس له، تنعم بأسراره وهي في حجاله.
اكتفي هنا بتقديم بعض أمثلة مما ورد في مقال القديس أمبروسيوس.
27. في سفر نشيد الأناشيد أيضًا، يصور سليمان بوضوح تلك الحكمة الثلاثية الأبعاد، وإن كان في سفر الأمثال أوصى أن الإنسان الذي يريد أن يسمع حكمته ينبغي أن يكتبها لنفسه ثلاث مرات (أم 22: 20LXX ).
تقول العروس في نشيد الأناشيد عن العريس: “ها أنتَ جميل يا حبيبي وحلو حقًا! وسريرنا مُظلَّل، وعوارض بيتنا أَرْز، وروافدنا سِرْو” (نش 1: 16-17). يمكن تفسير ذلك أخلاقيًا؛ لأنه أين يسكن المسيح وكنيسته إلاَّ في أعمال شعبه (سلوكهم)؟ فإنه حيث توجد النجاسة والكبرياء أو الإثم “ليس لابن الإنسان أين يسند رأسه” (مت 8: 20) كقول الرب يسوع.
28. وماذا عن المفهوم الطبيعي؛ “تحت ظله ابتهجتُ للغاية وجلستُ وثمرته حلوة لحلقي” (نش 2: 3 LXX). الإنسان الذي يسمو فوق الأرضيات ويموت عن العالميات، الذي صُلب العالم له وهو للعالم، يحتقر وينبذ كل ما هو تحت الشمس.
29. بخصوص المفهوم السرِّي يقول: “أدخلني إلى بيت الخمر، ومُر لي بما أحب” (نش 2: 4 LXX). كما أن الكرمة تضم التعريشة هكذا الرب يسوع ككرمة أبدية (يو 15: 1) يحتضن شعبه كما بين ذراعيّ المحبة.
30. تأملوا كل جزء بالمفهوم الأخلاقي… “أنا زهرة الحقل، سوسنة الأودية” (نش 2: 1)، بالمفهوم الأخلاقي هو زهرة.
وبالمفهوم الطبيعي هو شمس البرّ (ملا 3: 20) الذي يُعطي نورًا عند إشراقه وقيامته ثانية… لاحظوا أنه لا يغرب عنكم، كما هو مكتوب: “لا تغرب الشمس عن غيظكم” (أف 4: 26).
وبالمفهوم السِرِّي، هو المحبة؛ لأن المسيح هو تكميل الناموس (رو 13: 10). هكذا الكنيسة التي تحب المسيح، مجروحة حبًا (نش 2: 5LXX ).
المسيح الظافر على الجبال
31. إنه يوقظها، يوقظها من جديد، لكي تسمع صوته.
إنها تدعوه ليحضر، فإذا ما دُعِي لا يأتي فقط، إنما يَأتي قافزًا! “طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال” (نش 2: 8). إنه يطفر فوق النفوس التي لها نعمة أعظم، ويقفز على تلك التي لها نعمة أقل! وربما يعني النص: كيف جاء طافرًا؟ جاء إلى هذا العالم في شكل طفرة. كان مع الآب، وجاء إلى عذراء، ومن العذراء قفز إلى مزود. كان في المزود وهو يضيء في السماء. نزل إلى الأردن وصعد إلى الصليب. هبط إلى القبر وصعد قائمًا من القبر وجلس عن يمين الآب.
كالإيل الذي يشتاق إلى مجاري المياه (مز 42: 2)، هكذا نزل إلى بولس فأضاء حوله (أع 9: 3)، وقفز فوق كنيسته التي هي بيت إيل، أي بيت الله (مي 5: 1)، لأن دعوة بولس هي قوة الكنيسة.
المسيح يتطلع من الكُوى خلف الحائط
32. جاء إذن، وكان أولاً خلف الحائط، وذلك لكي يحطم العداوة التي بين النفس والجسد، بإزالة الحائط الذي بدا كأنه يعوق الانسجام (نش 2: 9؛ أف 2: 14). ثم يتطلع من الكُوى (نش 2: 9). اسمعوا ما يقوله النبي عن الكُوى: “ميازيب من العلاء انفتحت” (إش 24: 18). إنه يعني الأنبياء الذين من خلالهم نظر الرب إلى جنس البشر قبل أن يأتي بنفسه على الأرض.
33. اليوم أيضًا، إن كانت نفس ما تطلبه كثيرًا، فإنها تستحق رحمة عظيمة، لأن من يطلب كثيرًا ينال أكثر. إن كانت نفس ما تسعى إليه بغيرة شديدة، فإنها تسمع صوته آتيًا من بعيد… إنها تراه قافزًا إليها، أي مسرعًا وراكضًا وطافرًا فوق كل الذين لا يقدرون أن يقبلوا قوته لضعف قلوبهم. وبقراءة الأنبياء وتذكُّر كلماتهم، تراه متطلعًا إليها من خلال أحجبتهم، ناظرًا كما لو كان من كُوَّة، كما لو كان حاضرًا!
تراه واقفًا فوق الشباك (نش 2: 9LXX ). فما معنى هذا، ما لم تكن الشباك ليست شباكه بل شباكنا نحن؟ لأن النفس التي لا تزال وسط الأمور الزمنية المادية، هذه التي بصفة عامة تأسر فكر الإنسان وتطويه. لهذا يُظهِر نفسه خلال الشباك لمن يسعى إليه وهو وسط الأمور الزائلة. (المعنى ف الإنجيل شُبَّاك؟؟ الشبابيك)
يجتذب النفس الساعية إليه
34. يقول لمثل هذه النفس (الساعية إليه): “قومي، اِنهضِي يا حبيبتي” (نش 2: 10)، أي انهضي من ملذات العالم، قومي من الأمور الأرضية وتعالي إليَّ، يا من مازلتِ تعملين وأنتِ مثقلة (مت 11: 28). لأنك منشغلة بالأمور الزمنية، تعالي عَبْرَ العالم، تعالي إليَّ فإني قد غلبت العالم. اقتربي فإنكِ جميلة، مُزيّنة بالحياة الأبدية، أنتِ الآن حمامة (نش 2: 10)، لأنك وديعة ولطيفة. الآن أنتِ مملوءة بالكامل بالنعمة الروحية، فيليق بكِ ألاَّ تخشي الشباك. هذا حق للغاية، فإن مَنْ لا تسبيه تجارب العالم وشباكه (سيراخ 9: 13) تسمو نفسه. فإننا نحن البشر نسير وسط فخاخ، مُعرَّضون للشباك باشتياقنا للقوت، أما هو فإذ سكن في الجسد لم يخش الشباك بل وقف فوقها، أي فوق تجارب العالم وأهواء الجسد، وبالأكثر جعل آخرين يقفون فوق الشباك.
يهب للنفس ثمرً
35. ومِن ثَمَّ، فإنه إذ يرغب في تثبيت تلك النفس يقول: “قومي، يا حبيبتي، لا تخشي الفخاخ لأن الشتاء قد مضى” (نش 2: 11)؛ أي قد جاء الفصح (عيد القيامة في الربيع)، جاء الفصح وغفران الخطايا، وبطلت التجربة، وانقضى المطر (نش 2: 11)، ومضت العاصفة والضيقة. قبل مجيء المسيح كان شتاء، وبعد مجيئه كانت الزهور. في هذا الصدد يقول: “الزهور ظهرت في الأرض” (نش 2: 11)، قبلاً كانت أشواكًا والآن توجد زهور. “بلغ أوان القضب” (نش 2: 11). قبلاً كانت قفرًا والآن حصاد. “وصوت الحمامة سُمِع في أرضن” (نش 2: 11). أحْسَنَ النبي بإضافته “أرضن”، إذ يتعجب أنه إذ وُجد قبلاً نجاسة صارت الآن طهارة.
36. “التينة أخرجت فجَّه” (نش 2: 13). سبق فأمر بقطعها لأنها لم تُعطِ ثمرًا (لو 13: 7)، لكنها بدأت الآن تُخرج ثمرًا.
لماذا تتردَّدون عندما قال “فجَّه”؟ لقد عَصَف بالذين جاءوا قبلاً لكي يأتي بالأفضل فيما بعد، وذلك كما رفض ثمر المجمع اليهودي أما ثمر الكنيسة فيتجدد.
يحمي النفس في صليبه
37. بالرغم مِنْ تَوفُّر الهدوء الكامل وبلوغ خطة الخلاص منتهاها، يقول: “قومي آمنة في محاجئ الصخر” (نش 2: 13-14 LXX)، أي آمنة في حماية آلامي وخلف حصن الإيمان، لأنهم “رضعوا عسلاً من حجر، وزيتًا من صوان الصخر” (تث 32: 13 LXX). إذ تتسربل نفس البار بستر الإيمان هذا، لا تتعرَّى الآن بل تكون لها كحصن، لهذا يقول لمثل هذه النفس: “تعالي أيضًا يا حمامتي في ستر الصخرة بقرب الجدار (الحصن)، أريني وجهك، أَسْمعِيني صوتك” (نش 2: 14 LXX). إنه يحثها على الاتكال عليه فلا تخزى من صليب المسيح وخيمته (2 تي 1: 8؛ نش 8: 6). إنه يحثها على الاعتراف؛ يريد لكل الحيل أن تتنَحَّى جانبًا حتى تنتشر رائحة الإيمان الذكية (2 كو 2: 15-16)، حتى يُشرِق النهار ببهاء، ولا يؤذي ظل الليل البهائم. فإن من يقترب من المسيح يقول: “قد تناهى الليل وتقارب النهار” (رو 13: 12). يمضي ظل الأمور العالمية، ويُشرِق نور الأمور السماوية – المسيح – على قديسيه. مثل هذه النفس تنال تأكيدات الحب الذكي.