الاتحاد الإلهي – الإنساني والكنيسة:
انتصر المسيح على العالم، ونصره هو في خلق الكنيسة، لأنه وضع في فراغ التاريخ البشري وفقره وضعفه ومعاناته أسس “الكائن الجديد”. الكنيسة هي عمل المسيح على الأرض وهي صورة حضوره ومقامه في العالم. فعندما انحدر الروح القدس في يوم الخمسين على الكنيسة التي مثَّلها آنذاك الاثنا عشر والمجتمعون معهم، دخل العالم كي يسكن بيننا وكي يكون عمله فعَّالاً فينا أكثر منه فيما مضى: “ما كان الروح أُعطي حتى الآن” (يوحنا 7: 39). لقد انحدر الروح مرَّة انحداراً دائماً. وهذا سرّ عظيم لا يُسبر غوره. وبما أن الروح يقيم دائماً في الكنيسة، فإننا نقتني فيها روح التبني (رو 8: 15)، ونصبح أخصَّاء الله عندما نبلغ الروح ونقبله. ففي الكنيسة يكتمل خلاصنا ويتقدَّس الجنس البشري ويتغيَّر وجهه ويحصل على التأله (Theosis).
“لا خلاص خارج الكنيسة” (Extra Ecclesiam salus). كل القوة القاطعة لهذا القول هو في الترداد الذي يوجد فيه. لا خلاص خارج الكنيسة، لأن الخلاص هو الكنيسة. فالخلاص إعلان عن الطريق القويم لكل من يؤمن باسم المسيح. وهذا الإعلان يوجد في الكنيسة فقط، ففيها، أي في جسد المسيح وفي الجسم (التعضّي organism) الإلهي – الإنساني، يتمّ باستمرار سرّ التجسد، سرّ اتحاد “الطبيعتين”. في تجسد الكلمة يتمّ ملء الإعلان الإلهي والإنساني على حد سواء. يقول القديس ايريناوس: “صار ابن الله ابناً للإنسان، لكي يصير الإنسان ابناً لله” (ضد الهراطقة 3، 10، 2)، لأنه لم يُعلن في المسيح، الإله-الإنسان، معنى الوجود الإنساني وحسب، بل إنه بلغ غايته. ففيه بلغت الطبيعة الإنسانية كمالها وتجدَّدت وأُعيد بناؤها وخلقها. والمصير الإنساني وصل إلى هدفه وصارت الحياة الإنسانية “مستترة مع المسيح في الله” (كولو 3: 3) على حد تعبير بولس الرسول. بهذا المعنى يكون المسيح ” آدم الأخير” (1كور 15: 45) والإنسان الحقيقي، الذي فيه مقياس الحياة الإنسانية وحدودها. فإنه قام من بين الأموات “بكراً للراقدين” (1كور 15: 20-22)، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب. فكان مجده مجداً للوجد البشري، لأنه دخل وهو إنسان المجد الأزلي ودعا الجميع لكي يقيموا معه وفيه. “ولكن الله بواسع رحمته وفائق محبته لنا أحيانا مع المسيح بعدما كنَّا أمواتاً بزلاتنا. فبنعمة الله نِلْتُم الخلاص، وفي المسيح يسوع أقامنا معها وأجلسنا في السماوات” (أفسس 2: 4-6). هنا يكمن سرّ الكنيسة بكونها جسد المسيح. الكنيسة هي الملء (to pleroma)، أي الإنجاز والاكتمال (أفسس 1: 23). بهذه الطريقة يفسر الذهبي الفم كلمات الرسول، فيقول: “تكون الكنيسة ملء المسيح مثلما يكون الجسد ملء الرأس والرأس ملء الجسد. أنظر أيَّ ترتيب يستخدم بولس… لأنه يقول الملء. فمثلما يكتمل الرأس بالجسد هكذا يتألف الجسد من كل الأعضاء ويحتاج إلى كلٍّ منها. أنظر كيف جعل المسيح نفسه محتاجاً إلى جميع الأعضاء، لأننا لو لم نكن أعضاء كثيرين، أي لو لم يكن بعضنا يداً وبعضنا رجلاً وبعضنا أعضاء أخرى لما اكتمل الجسد كلُّه. إذن، الجسد يكتمل بجميع أعضائه. ونحن عندما نكون متحدين بعضاً ببعض ومتلاصقين يكتمل الرأس ويصبح الجسد كاملاً” (9). يكرِّر الأسقف ثيوفانس شرح الذهبي الفم فيقول: “تكون الكنيسة ملء المسيح، مثلما تكون الشجرة ملء الحبَّة. فكل ما هو موجود في الحبَّة على نحو مكثَّف يكتمل نموه في الشجرة… الله تام في ذاته وكليّ الكمال، لكنه لم يجتذب إلى نفسه الجنس البشري اجتذاباً نهائياً. فالجنس البشري يتحد به تدريجياً، وبهذا يعطي كمالاً جديداً إلى عمله فيبلغ الإنجاز التام” (10).
الكنيسة هي في حدِّ ذاتها الملء، واستمرار للإتحاد الإلهي-الإنساني واكتماله. وهي الجنس البشري الذي يتجدَّد ويتغيَّر وجهه. ومعنى هذا التجدد أن الجنس البشري يصبح في الكنيسة واحداً، في “جسد واحد” (أفسس 2: 16). فحياة الكنيسة وحدة واتحاد، لأن جسدها يتماسك بالأوصال و”ينمو” (كولو 2: 19) بوحدة الروح وبوحدة المحبة. عالم الكنيسة هو عالم الوحدة الداخلية والعضوية، وحدة الجسم الحي ووحدة الكيان العضوي. الكنيسة هي اتحاد لا لأنها واحدة وفريدة، بل لأنها تعيد في كيانها اتحاد الجنس البشري المفكَّك. هذه الوحدة تؤلِّف جماعية (Sobornost) الكنيسة وجامعيتها (Catholicity). ففي الكنيسة ترتفع الإنسانية إلى مقام آخر، وتبدأ حياتها بنمط جديد وتصبح الحياة الجديدة الحقة والكاملة والجامعة ممكنه “في وحدة الروح برباط السلام” (أفسس 4: 3). فيبدأ وجود جديد ومبدأ جديد للحياة: “ليكونوا واحداً فينا، أيها الآب مثلما أنت فيَّ وأنا فيك… ليكونوا واحداً مثلما أنت وأنا واحد” (يوحنا 17: 21-23).
هذا هو سرّ إعادة الاتحاد النهائي الذي هو على صورة اتحاد الثالوث الأقدس والذي يتحقَّق في حياة الكنيسة وبنيتها. إنه سر الجماعيّة (Sobornost) وسر الجامعية.
الميزة الداخلية في الجامعية:
يغيب عن الجامعيَّة المفهوم الكمِّي أو الجغرافي، لأن الجامعيَّة لا تتوقَّف أبداً على مدى انتشار المؤمنين في العالم. فمسكونية الكنيسة نتيجة وإظهار لها، وليست سبباً أو أساساً لها. أي أن انتشار الكنيسة الواسع هو سمة خارجية وأمر غير ضروري بكل ما في هذه الكلمة من معنى. فالكنيسة كانت جامعة، حتى عندما كانت الجماعات المسيحية جزراً منعزلة في بحر الوثنية وعدم الإيمان. وستبقى جامعة حتى انتهاء الزمان، عندما يظهر سرّ “الارتداد” وعندما تتقلَّص الكنيسة لتصير مرة أخرى “قطيعاً صغيراً”: “أيجد ابن الإنسان إيماناً على الأرض يوم يجيء” (لوقا 18: 8). يقول المتروبوليت فيلاريت في هذا الصدد: “إذا ما ارتدَّت مدينة أو منطقة عن إيمانه الكنيسة العالمية، فإن الكنيسة ستبقى من غير ريب جسداً كاملاً غير منتقص ولا فانٍ” (16). فجامعية الكنيسة لا تُقاس بمدى انتشارها العالمي، لأن لفظة Katholiki التي تشتق من Kath olou تعني بالدرجة الأولى الاكتمال الداخلي لحياة الكنيسة. إننا نتحدَّث عنا عن الاكتمال وليس عن المشاركة، وفي أي حال إننا لا نتكلَّم على المشاركة الاختباريَّة. فلفظة Kath olou لا ترادف لفظة Kath pantos لأنها لا تنتمي إلى مستوى الحواس أو إلى مستوى الاختبار، بل إلى المستوى الكياني والمفهوم الذاتي، لأنها لا تصف الظواهر الخارجية، بل الجوهر نفسه. نجد هذه الألفاظ مستخدمة بهذا المعنى في العصور التي تسبق ابتداء من سقراط. فإذا دلَّت الجامعيَّة على المسكونيَّة أيضاً فإنها بكلّ تأكيد لا تدلّ على مسكونية اختبارية، بل على مسكونية مثالية. أي إنها تشير إلى المشاركة في الأفكار وليس إلى المشاركة في الوقائع. عندما استعمل المسيحيون الأوَّلون عبارة “الكنيسة الجامعة” (Ekklesia Katholiki) ما عنوا بها كنيسة ذات انتشار عالمي. والحق، أن هذه العبارة أظهرت أرثوذكسية الكنيسة وحقيقة “الكنيسة العظمى”، لأنها تغاير روح الانشقاق الطائفي وروح التخصصية، وتوضح فكرة الكمال والطهارة. هذه الكفرة عبّر عنها بقوة القديس إغناطيوس الإنطاكي عندما قال: “حيثما يكون الأسقف فهناك يجب أن تكون الجماعة، كما أنه حيث يسوع المسيح، فهناك الكنيسة الجامعة” (إغناطيوس الإنطاكي، الرسالة إلى أهل إزمير، 8: 2). هذه العبارات تعبِّر عن الفكرة نفسها التي ترد في إنجيل متى: “فأينما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت هناك بينهم” (متى 18: 19-20). فلفظة “الجامعيَّة” تعبِّر عن سرّ الاجتماع (Mystirion tis sinakseos). يفسِّر القديس كيرلّس الأورشليمي عبارة “الكنيسة الجامعة” الواردة في دستور الإيمان وفقاً لتقليد كنيسته فيقول إن عبارة “كنيسة” تعني “اجتماع الكل في شركة واحدة” ولذلك تسمَّى “اجتماع” (ekklesia)، وإنها تسمَّى “جامعة” لأنها منتشرة في العالم كلّه ولأنها تخضع الجنس البشري إلى البرّ والحق، ولأن كلّ العقائد تعلَّم فيها بصورة “شاملة، وكاملة، وجامعة” (katholikos kai anelipos)، ولأنها تعالج وتشفي “جميع أنواع الخطايا” (19). هنا تُفهم الجامعيَّ’ أيضاً كصفة داخلية. لكن لفظة Catholica استُعملت في الغرب لتشير إلى “الكونية” أثناء الصراع ضد الدوناتيين، حتى تقاوم الاتجاه المحلِّي والجغرافي عندهم (20). وفي الشرق أيضاً أصبحت فيما بعد مرادفة لكلمة “المسكونيَّة”. لكن هذا الترادف جعل معناها في آخر الأمر محدوداً وأقل فاعليَّة، لأنه يلفت النظر إلى الشكل الخارجي دون المضمون الداخلي. غير أن الكنيسة جامعة بسبب امتدادها الخارجي أو على كل حال ليس فقط لهذا السبب، بل لأنها كيان يجمع الجميع تحت كنفه. الكنيسة ليست جامعة لأنها تجمع كلّ أعضائها إلى اتحاد واحد وتجمع كلّ الكنائس المحليِّة فقط، بل لأنها جامعة في أكثر أقسامها صغراً وفي كل عمل أو حدث في حياتها. فطبيعتها جامعة ونسيج جسدها جامع. هي جامعة لأنها جسد المسيح الواجد، ولأنها الوحدة في المسيح والوحدة في الروح القدس، ووحدتها هذه هي الكمال الأسمى. ومقياس هذه الوحدة الجامعة هو “أن جماعة المؤمنين كانوا قلباً واحداً وروحاً واحدةً” (أعمال 4: 32). وحيثما يكن الأمر مخالفاً لهذا الشيء تصبح حياتها محدودة. لذلك يجب أن يحصل الائتلاف الكياني للأشخاص في جسد المسيح حتى يزول الانغلاق والتمييز بين “ما لي” و”ما لك”.
فنموّ الكنيسة يتحقَّق في نموّ الميزة الداخلية الجامعيَّة للكنيسة وفي “اكتمال الجميع”: “لتكون وحدتهم كاملة” (يو 17: 23).
تغيير وجه الشخصية:
إن لجامعيَّة الكنيسة وجهين: وجهاً موضوعياً ووجهاً ذاتياً. موضوعياً، تدل جامعيَّة الكنيسة على وحدة الروح: “نحن كلّنا قبلنا المعمودية بروح واحدة لنكون جسداً واحداً” (1كور12: 13). فالروح القدس الذي هو روح محبة وسلام لا يجعل الأفراد المنعزلين واحداً فقط، بل يكون في نفس كلّ واحد مصدر سلام داخلي وكمال. ذاتياً، تدلّ على أن الكنيسة وحدة حياة، وأخوَّة أو شركة، ووحدة حب، و”حياة مشتركة”. وما صورة الجسد الواحد سوى وصيَّة محبة: “فبولس يطلب منّا محبة كهذه، محبة تشدّ الواحد إلى الآخر إلى حدٍّ يجب فيه ألا ينفصل الواحد عن الثاني فيما بعد … أي يطلب أن يكون اتحاداً كاملاً، مثل اتحاد أعضاء الجسد الواحد” (24). الجديد في وصيَّة المحبة المسيحية هو أن نحب قريبنا مثلما نحب أنفسنا. وهذا أمر أسمى من أن نضع قريبنا على مستوى مساوٍ لنا وأن نعتبره كائناً مماثلاً لنا، أي أن نرى أنفسنا في الآخر، في المحبوب، وليس في أنفسنا… هنا تقع حدود المحبة، لأن المحبوب هو “أنا آخر”، أنا عزيزة على القلب أكثر من الذات. في المحبة نندمج لنكون شخصاً واحداً: “في هذه المحبة لا يبقى المحب والمحبوب شخصين، بل يصيران شخصاً واحداً” (25). إن المحبة المسيحية الحقيقية ترى في كل واحد من إخوتنا “المسيح نفسه”. وهذا يتطلَّب إنكاراً للذات واحتفاظاً بالشخصية. وهذا لا يتحقق إلاَّ في تغيير النفس وانفتاحها “الجامع”. تُعطى وصيَّة “الجامعية” لكل إنسان مسيحي، فيكون مقياس الجامعيَّة مقياساً لقامته الروحيَّة. فالكنيسة جامعة في كل فرد من أفرادها، لأن الجامعيّة الكلية لا تُبنى إلا على جامعيَّة الأعضاء، ولأن مجموعة كبيرة من الأفراد لا تكون أخوَّة واحدة، إذا انغلق كلّ فرد على ذاته. الوحدة لن تكن ممكنة إلاَّ عن طريق المحبة الأخوية المتبادلة عند جميع الأخوة. فالرؤية التي ظهرت فيها الكنيسة برجاً قيد الإنشاء تعبِّر بقوة عن هذه الفكرة (راجع الراعي هرماس). هذا البرج يُبنى بحجارة مختلفة ترمز إلى المؤمنين الذين هم “الحجارة الحيّة” (1بطر 2: 5). عندما شُيِّد البرج انتظمت الحجارة كلّها، لأنها كانت ملساء ومنسجمة ومتناسقة، حتى أصبحت أطرافها غير مرئية. ولذلك ظهر البرج وكأنه قد شُيِّد من حجر واحد. وهذا رمز الوحدة والاكتمال. إننا نلاحظ أن الحجارة المربَّعة الملساء وحدها تصلح لهذا البناء، أمَّا الحجارة الأخرى النيِّرة لكن المستديرة فلم يفد منها البناء، لأنها كانت لا تنتظم بعضها مع بعض. ولذلك وضعت على مقربة من الحائط لأنها غير مناسبة (mi armazintes) (هرمس الراعي، الرؤية الثالثة 2، 6، 8). “فالاستدارة” في الرمزية القديمة كانت إشارة إلى الانعزال وإلى الاكتفاء والرضا بالذات (teres atque rotundus). فروح الرضا بالذات يعيقنا عن دخول الكنيسة. أولاً، يجب أن يكون الحجر أَملس حتى يكون ملائماً لحائط الكنيسة، أي يجب أن ننكر أنفسنا حتى نتمكَّن من أن نلتحق بجامعيَّة الكنيسة. ويجب أن نسيطر على أنانيتنا ونكتسب فكراً جامعاً حتى نستطيع الدخول إلى الكنيسة. ففي اشتراكما الكامل فيها يتحقق التغيير “الجامع” لوجه الشخصية الإنسانية.
لكنَّ نكران الذات لا يعني القضاء على الشخصية وذوبانها في الجماعة، لأن الجامعيَّة لا تقوم على مبدأ جسداني أو جماعي. فنكران الذات يوسِّع مدى شخصيتنا، حتى نضمّ الجماعة إلى ذاتنا ونضعها في أنانتنا، وهكذا تشابه وحدتنا وحدة الثالوث المقدس. إن الكنيسة بكونها جامعة تصبح صورة مخلوقة عن الكمال الإلهي. ولقد تحدَّث آباء الكنيسة بعمق كبير عن هذا الموضوع. في الشرق تحدَّث القديس كيرلّس الإسكندري وفي الغرب القديس إيلاريون (28). أمَّا في اللاهوت الروسي المعاصر فتحدَّث المتروبوليت أنطوني على نحو ملائم فقال: “إن وجود الكنيسة لا يقارَن بأي شيء آخر على الأرض، لأننا لا نجد على الأرض اتحاداً، بل نجد انفصاماً. في السماء وحدها هناك ما يشبهها، لأن الكنيسة وجود كامل وفريد (unicm) على الأرض. لذلك لا نقدر أن نحدِّد هذا الوجود بفكرة نستقيها من حياة هذا العالم. هي صورة عن الثالوث الأقدس، صورة يكون فيها الكثيرون. لماذا يكون هذا الوجود جديداً وغير مفهوم عند الإنسان القديم مثلما يكون وجود الثالوث الأقدس؟ لأن الوجود الشخصي في وعيه الجسماني سجين ذاته ومختلف كلياً عن أية شخصية أخرى”(29). “يجب على المسيحي أن يحرِّر نفسه وفقاً لحجم التطور الروحي الذي بلغه، وأن يميِّز بين الأنا واللاأنا، وأن يبدِّل بصورة جذرية الخصائص الأساسية للوعي الذاتي الإنساني” (30). في هذا التغيير يكون التجديد “الجامع” للفكر.
إن للوعي الذاتي وجهين، وجهاً فردياً منعزلاً ووجهاً جامعيّاً فالجامعيّة لا تنكر الوجود الشخصي، والوعي الجامع لا علاقة له بعرق أو بقومية، وليس وعياً مشتركاً ولا وعياً جماعياً أو عاماً أو االـ “Bewusstsein uebergaupt” التي تكلَّم عليها الفلاسفة الألمان. الجامعيَّة لا تتحقَّق بالقضاء على الشخصية الحيَّة أو بالانتقال إلى عالم الكلمة المجرَّد. فهي اتحاد واقعي في الفكر والشعور، وأسلوب أو وضع من الوعي الذاتي الذي يرتفع إلى “مستوى الجامعيّة”. وهي “نهاية” (telos) الوعي الذاتي الذي يتحقَّق بالنموّ الخلاَّق، لا بمحق للشخصية. في التحوّل الجامع تكتسب الشخصية قوة للتعبير عن وعي الجميع وعن حياتهم. وهذا لا يتمّ بطريقة غير شخصية، بل بفعل بطولي خلاَّق. يجب ألا نقول: “إن كلّ فرد في الكنيسة يبلغ مستوى الجامعيَّة”، بل: “إنه قادر على بلوغه ومن واجبه أن يبلغه، وإنه مدعو إلى ذلك”. ولكن لا يبلغ كلّ إنسان هذا المستوى. أمَّا الذين بلغوه فنسمِّيهم آباء ومعلِّمين. فمنهم لا نسمع المجاهرة الشخصية بالإيمان فقط، بل نسمع شهادة الكنيسة، لأنهم يكلِّمونا من كمالها الجامع ومن كمال الحياة الممتلئة بالنعمة.
المقدَّس والتاريخي:
الكنيسة هي وحدة الحياة المواهبية، أمَّا مصدر هذه الوحدة فمحتجب في سرّ العشاء الربّاني وفي سرّ يوم الخمسيين الذي هو النزول الفريد لروح الحق إلى العالم. فالكنيسة إذن رسولية، لأنها خُلقت وخُتمت بالروح القدس في الاثني عشر. والتعاقب الرسولي هو خيط روحي سرِّي يصل الملء التاريخي لحياة الكنيسة باكتمال جامع. هنا نرى أيضاً وجهين: الوجه الموضوعي الذي هو التعاقب السرّي غير المنقطع والاستمرار الهيرارخي. فالروح القدس لا ينحدر على الأرض مرة تلو المرة، بل يقيم في الكنيسة التاريخية “المنظورة” وينفخ فيها ويرسل أشعته إليها. هذا هو ملء اليوم الخمسيني وجامعيَّته.
أمَّا الوجه الذاتي فهو الوفاء للتقليد الرسولي، أي العيش وفق هذا التقليد الذي هو عالم حيّ وحامل الحقيقة. هذا هو مطلب أساسي ومبدأ للفكر الأرثوذكسي، لأنه يفترض إنكار الانفصالية الفردية ويلحّ بقوة على الجامعيَّة. إن الطبيعة الجامعة للكنيسة تُرى بكل حيويَّة في كون خبرة الكنيسة تنتمي إلى كل العصور. ففي حياة الكنيسة ووجودها يتمّ تخطي الزمن والسيطرة عليه بشكل سرِّي، أو، إذا جاز التعبير، يبقى الزمن في توقف تام. وهذا لا يعود إلى قوة الذاكرة التاريخية أو إلى تخيُّل يقدر أن “يتجاوز حاجزي المكان والزمان”، بل إلى قوة النعمة التي تجمع في وحدة الحياة الجامعة ما فصلته الجدران التاريخية. فالوحدة في الروح تجمع بطريقة سرِّية قاهرة للزمن جميع المؤمنين في كل العصور. وهي تظهر وتتجلَّى في خبرة الكنيسة وخاصة في خبرتها في سرّ الشكر، لأن الكنيسة هي الصورة الحيَّة للأبدية في الزمن. فالزمن لا يقدر أن يوقف خبرة الكنيسة وحياتها. والسبب ليس في استمرارية تدفُّق النعمة الذي يفوق الشخص فقط، بل في الدمج الكامل والجامع لكلّ ما كان موجوداً في الملء السرِّي للزمن الحاضر. لذلك لا يقدِّم تاريخ الكنيسة تغييراً متعاقباً فقط، بل وحدة وتماثلاً. بهذا المعنى الاشتراك مع القديسين هو “شركة القديسين” (communio sanctorum). والكنيسة تعرف أنها وحدة العصور كلِّها وأنها تبني حياتها على هذه الشركة. فهي لا تفكر في الماضي وكأنه قد عبر وولَّى، بل على أنه أُنجز وتمَّ وهو موجود في الملء الجامع لجسد المسيح الواحد. والتقليد الكنسي يعكس هذا الانتصار على الزمن. إن التعليم من التقليد أو بالأحرى التعليم “في التقليد”، تعليم من ملء خبرة الكنيسة التي تقهر الزمن، والتي يقدر أن يتعرَّف إليها كلّ عضو في الكنيسة وأن يملكها وفقاً لقياس رجولته الروحية، ولنموِّه الجامع، أي أننا نتعلَّم من التاريخ مثلما نتعلَم من الإعلان. فولاؤنا للتقليد ليس ولاء لأزمنة ماضية ولسلطان خارجي، بل ارتباط حيّ بملء خبرة الكنيسة. إذن، العودة إلى التقليد لا تكون بحثاً تاريخياً، لأن التقليد لا يحصره علم آثار الكنيسة، ولأنه ليس شهادة خارجية يمكن أن يقبلها كل إنسان لا ينتمي إلى الكنيسة. الكنيسة وحدها هي الشاهد الحيّ للتقليد. ونحن نقبله ونحسّ به كحقيقة لا تقبل الشك من داخل الكنيسة فقط، فهو شهادة للروح ولإعلانه غير المنقطع وبشارته. ما التقليد سلطة خارجية تاريخية لأعضاء الكنيسة الأحياء، بل هو صوت الله الأبدي المستمر، أي إنه صوت الأزلية لا صوت الماضي فقط. فالإيمان لا يجد أساسه في أمثولات الماضي ووصاياه فقط، بل في نعمة الروح القدس الذي يحمل الشهادة الآن وإلى أبد الآبدين.
يقول خومياكوف: “لا الأفراد ولا مجموعاتهم ضمن الكنيسة حفظوا التقليد أو كتبوا أسفار الكتاب المقدَّس، بل روح الله الذي يحيا في جسد الكنيسة كلَّه” (31). “موافقة الماضي” نتيجة لولائنا لهذا “الكل” وتعبير عن ثبات الخبرة الجامعة وسط أزمنة متغيِّرة. يجب أن نعيش في الكنيسة، وأن نعي حضور الرب الواهب نعمته فيها، وأن نحسّ بتنفس الروح القدس فيها حتى نقبل التقليد ونفهمه، لأن جسد الكنيسة جسده الذي لا ينفصل عنه. ولذلك لا يكون الولاء للتقليد موافقة للماضي فقط، بل بمعنى من المعاني تحرُّر منه مثلما نتحرر من قياس خارجي شكلي. التقليد هو أولاً مبدأ تجدّد ونموّ، وليس فقط مبدأ للمحافظة على القديم والدفاع عنه، ولا مبدأ للنضال من أجل إعادة الماضي، بحيث يكون الماضي مقياساً للحاضر. هذا المفهوم يرفضه التاريخ نفسه ووعي الكنيسة أيضاً. التقليد سلطان للتعليم (potestas magisterii) وسلطان للشهادة للحق. فالكنيسة لا تشهد للحق بالتذكّر أو بكلام الآخرين، بل بخبرتها الحيَّة المستمرَّ’ وبملئها الجامع… هذا هو “تقليد الحقيقة” (traditio veritatis) الذي تحدَّث عنه القديس ايريناوس (ضد الهراطقة 1، 10، 2). التقليد عنده يرتبط “بموهبة الحق الأصلية” (charisma veritatis certum) (ضد الهراطقة 4، 26، 2)، “وتعليم الرسل” ما كان مجرَّد مثل ثابت يجب أن نعيده ونقلِّده وكأنه ينبوع للحياة ووحي يبقى إلى الأبد من دون أن ينفد. فالتقليد سكنى الروح المستديمة لا تذكّر للكلام فقط. فهو مبدأ قائم على المواهب وليس مبدأ تاريخياً.
الخطأ هو أن نقيِّد “مصادر التعليم” بالكتاب والتقليد وأن نفصل الكتاب عن التقليد وكأن التقليد مجرَّد شهادة شفويّة أو تعليم الرسل. فكلاهما أُعطيا في الكنيسة وقُبلا بملء قيمتهما المقدَّسة ومعناهما، لأنهما يحويان حقيقة الإعلان الإلهي التي تعيش في الكنيسة. لكنَّ الكتاب والتقليد لا يستنفدان خبرة الكنيسة هذه، بل إنهما تنعكس فيهما فقط. ففي الكنيسة وحدها يحيا إذاً الكتاب ويُعلن من دون أن يجزَّأ ويصير نصوصاً متفرقة ووصايا وأمثالاً، أي إن الكتاب أُعطي في التقليد، لكنه لا يُفهم وفق أحكام التقليد فقط، وكأنه تدوين للتقليد التاريخي أو للتعليم الشهي، لأنه يحتاج إلى تفسير. فهو مُعلن في اللاهوت. وهذا يصبح ممكناً من خلال خبرة الكنيسة الحيّة فقط. لا نقدر أن نقول إن الكتاب المقدس يتمتع باكتفاء ذاتي، لا لأنه ناقص أو غير تام أو غير دقيق، بل لأنه في جوهره لا يدَّعي أنه هكذا. لكن نقدر أن نقول إن الكتاب نظام أوحى به الله أو أيقونة الحق وليس الحق نفسه. والغريب أننا غالباً ما نضع حدّاً لحرية الكنيسة ككل من أجل توسيع حرية المسيحيين، أي إننا ننكر ونحدّ الحرية المسكونية والجامعة للكنيسة باسم الحرية الفردية، فتقيِّد حرية الكنيسة بمقياس كتابي ابتغاء تحرير الوعي الفردي من المتطلبات الروحية التي تفرضها خبرة الكنيسة. هذا رفض للجامعيَّة وتهديم للوعي الجامع. وهذا هو خطأ الإصلاح البروتستانتي. يقول دين اينج بدقة عن المصلحين البروتستانت: “وُصفت عقيدتهم بأنها رجوع إلى الإنجيل بروح القرآن” (34). عندما نعلن أن الكتاب مكتف بذاته نجعله عرضة لتفاسير غير موضوعية وكيفيَّة ونفصله عن مصدره المقدس. فقد أُعطيِنَاه في التقليد، وهو مركزه الحيوي والمتبلور. إن الكنيسة التي هي جسد المسيح تتقدَّم الكتاب سرّياً، لأنها أكمل منه. وهذا الأمر لا يقلِّل من شأن الكتاب ولا يجعل صورته قاتمة، لكن المسيح لم يعلن الحقيقة في التاريخ فقط، لأنه ظهر وما زال يكشف عن نفسه لنا بثبات في الكنيسة التي هي جسده وليس في الكتاب فقط. في أيام المسيحيين الأوائل لم تكن الأناجيل المصدر الأوحد للمعرفة، لأنها كانت غير مدوَّنة بعد. لكنَّ الكنيسة عاشت وفق روح الإنجيل، بل إن الإنجيل نفسه برز إلى الوجود في الكنيسة عن طريق سرّ الشكر. فمن مسيح سرّ الشكر تعرَّف المسيحيون إلى مسيح الأناجيل. وهكذا صارت صورته حيَّة عندهم.
هذا لا يعني أننا نجعل الكتاب مصنَّفاً يناقض الخبرة، بل يعني أننا نجعلهما واحداً مثلما كانا منذ البدء. يجب ألا نفكر في أن كل ما قلناه ينكر التاريخ، لأننا نعترف بالتاريخ بكل واقعيته المقدَّسة. فنحن لا نقدِّم خبرة دينية ذاتية تناقض الشاهد التاريخي الخارجي، ولا وعياً سرياً فردياً، ولا خبرة لمؤمنين منعزلين، بل خبرة حيَّة كاملة للكنيسة الجامعة وللخبرة الجامعة وللحياة الكنسية. هذه الخبرة تشمل الذاكرة التاريخية أيضاً، فهي ممتلئة من التاريخ. وما هذه الخبرة تذكراً لأحداث قديمة فقط، بل رؤية لما تمَّ واكتمل ورؤية للانتصار السرِّي على الزمن ورؤية للجامعيَّة في كل زمان. الكنيسة تعرف عدميَّة النسيان. لذلك تصل خبرتها التي تهب النعمة إلى كمالها في ملئها الجامع.
هذه الخبرة لا يستنفدها الكتاب أو التقليد الشفوي أو التحديدات (الإيمانية)، ويجب ألاّ يستنفدها، ولا يمكن أن تستنفد، لأن الكلمات والصور يجب أن تتجدَّد في خبرتها، لا في “نفسانيات” (psychologisms) الشعور الذاتي، بل في خبرة الحياة الروحية. هذه الخبرة مصدر لتعليم الكنيسة. لكن لا تبدأ كلّ الأشياء في الكنيسة من أيام الرسل. وهذا لا يدلّ على أنه أُعلنت أمور “مجهولة” عند الرسل وأن كلّ ما هو متأخر يقل شأناً وإقناعاً. فكل شيء أعطاه الله وأعلنه منذ البدء. ففي يوم الخمسين اكتمل الإعلان ولذلك لن يقبل أي اكتمال آخر يوم الدينونة ويوم تحقيقه الأخير. إن الإعلان الإلهي لم يتَّسع والمعرفة لم تزد. فالكنيسة اليوم لا تعرف المسيح أكثر مما كانت تعرفه في أيام الرسل. لكنها تشهد لأمور أكثر. وفي تحديداتها (الإيمانية) تصف الأمر نفسه من دون تغيير، لكن تبرز دائماً في الصورة التي لا تتغيَّر ملامح جديدة. لكن الكنيسة لا تعرف الحقيقة بصورة أقل أو بطريقة مختلفة عن معرفتها لها في الأيام القديمة. فوحدة الخبرة هي الولاء للتقليد. أمَّا الولاء للتقليد فلم يمنع آباء الكنيسة عن “خلق أسماء جديدة” (كما قال القديس غريغوريوس النزينزي) عندما كان ذلك ضرورياً للحفاظ على الإيمان الذي لا يتبدَّل. فكلّ ما قيل بعد ذلك كان من الملء الجامع، وهو مساوٍ في قيمته وقوته لكلّ ما نُطق به في البدء. وإلى يومنا هذا بقيت خبرة الكنيسة محفوظة ومثبَّتة في العقيدة دون أن تُستنفد. فهناك أمور كثيرة لا تثبِّتها الكنيسة في العقيدة، بل في الليتورجيا ورمزية الأسرار وفي التعابير الصورية التي تستعمل في الصلوات والاحتفالات والأعياد السنوية. إن الشهادة الليتورجية شرعية كالشهادة العقيدية. وأحياناً تكون ملموسية الرموز أكثر وضوحاً وحيوية من أي مفهوم منطقي، كما توحي صورة الحمل الرافع خطيئة العالم.
تخطئ النظرة اللاهوتية التي تدعو إلى الاكتفاء بالحد الأدنى من الأشياء (minimalism) والتي تريد انتقاء التعاليم والخبرات الكنسية “الأكثر أهمية ووثوقاً وارتباطاً”. فهذا طريق خاطئ وطرح غير سليم للمسألة. طبعاً، لم تكن كلّ الأنظمة التاريخية في الكنيسة لها أهمية متساوية، ولم تكن كلّ أمورها التجريبية مقدّسة. فهناك أمور كثيرة تاريخية فقط. لكننا لا نملك مقياساً خارجياً لتمييزها، لأن مناهج النقد التاريخي الخارجي لا تكفي. فمن داخل الكنيسة فقط نقد أن نميِّز التاريخي وأن نميِّز المقدَّس. من داخلها نرى ما هو “جامع” وصالح لكلّ الأجيال وما هو مجرَّد “رأي لاهوتي” أو حتى حدث تاريخي عَرَضي. فالأهم في حيا الكنيسة هو كمالها وملء جامعيَّتها. وفي هذا الملء هناك حرية أكبر ممَّا في التحديدات الشكلية التي تقدِّمها النظرة التي تريد الاكتفاء بالحد الأدنى. ففي هذه النظرة نفقد أهمّ الأشياء أي الاستقامة والكمال والجامعيَّة.
أعطى مؤرخ كنسي روسي تحديداً ناجحاً جداً للصفة الفريدة التي تتحلّى بها خبرة الكنيسة فقال إن الكنيسة لا تعطينا منهجاً، بل مفتاحاً، لا تعطينا خارطة لمدينة الله، بل طريقة لدخولها. وقد يضلّ المرء بطريقه، لأنه لا يملك خارطة، لكنه يرى كلّ الأمور مباشرة وبواقعية وبلا وسيط. أمَّا مَنْ درس الخارطة فقط فجازف بالبقاء خارجاً من دون أن يجد شيئاً (35).
نقائص القانون الفكندياني:
تبقى الصيغة الشهيرة التي قدَّمها فكنديوس الليرنسي (Vincent of Lerins) في وصفه طبيعة الجامعة لحياة الكنيسة غير دقيقة. فالصيغة تقول: “ما آمن به الجميع في كلّ مكان وزمان” (Quod ubique, quod semper, quod ab omnibus creditum est). أولاً، إننا لا نعرف بوضوح إذا كان هذا المقياس تجريبياً أم لا. فإذا كان تجريبياً ثبت أنه خاطئ، لأنه عن أي “جميع” (omnes) يتحدَّث؟ وهل يجب أن نسال جميع المؤمنين عن إيمانهم، وحتى الذين لا يحسبون أنفسهم سوى مجرَّد مؤمنين؟ في جميع الأحوال يجب أن نقضي ضعفاء الإيمان والمشككين والثائرين على الإيمان. لكن هذا القانون لا يعطينا أي مقياس للتمييز والاختيار. فالكثير من الخلافات تُثَار حول الإيمان، وأكثر منها حول العقيدة. فكيف نفهم عبارة “الجميع” (omnes)؟ ألا نكون متهوِّرين إذا ما عالجنا كلَّ الأمور المشكوك فيها وفق الصيغة التي نسبت خطأ إلى أوغسطين، أي إذا تركنا القرار “للحرية في الأمور المشكوك فيها” (in dubiis libertas). في الواقع، نحن لا نحتاج إلى أن نسأل جميع المؤمنين، لأن مقياس الحق تشهد له في أكثر الأحيان الأقلية. والكنيسة الجامعة قد تجد نفسها في يوم من الأيام “قطيعاً صغيراً” ولعلَّ اللاأرثوذكسيي الفكر سيكونون أكثر عدداً من الأرثوذكسيين. وقد ينتشر الهراطقة “في كل مكان” (ubique) وتنكفئ الكنيسة إلى خلفية التاريخ وتنسحب إلى الصحراء. وهذا ما حدث أكثر من مرة في التاريخ، ومازالت إمكانية حدوثه قائمة. ونقول بدقة إن في القانون الفكندياني نوعاً من الحشو والتكرار. فلفظة “الجميع” (omnes) يجب أن نفهمها وكأنها تشير إلى الأرثوذكسيين. في هذه الحالة يفقد هذا المقياس أهميته، إذ نكون قد عرَّفنا “الذات” (idem) “عن طريق الذات” (per idem). وعن أية ديمومة وعن أي حضور كلِّي يتحدَّث هذا القانون؟ وبِمَ ترتبط لفظتا “المكان” (ubique)، و”الزمان” (semper)؟ هل ترتبطان بخبرة الإيمان أم بالتحديدات الإيمانية التي تشير إليها؟ في الحالة الأخيرة تكون هذه الصيغة خطيرة، لأنها تخفِّض الإيمان إلى حدّه الأدنى ولأن التحديدات العقيدية لا تفي بمقتضيات “المكان” (ubique)، و”الزمان” (semper) بدقة.
فهل يكون التقيُّد بحرف الكتابات الرسولية ضرورياً؟ يبدو أن هذا القانون فرضية للتبسيط التاريخي ولبدائية ضارّة، أي إنه يجب أن لا نبحث عن مقاييس خارجية وشكلية للجامعيَّة ولا نفسِّرها بموجب شمولية تجريبية. إن التقليد القائم على المواهب شامل لأنه يضمّ كل أنواع “المكان” و”الزمان” ويوحِّد “الجميع”، لكن قد لا يقبله الجميع عملياً. في جميع الأحوال يجب أن لا نبرهن حقيقة المسيحية عن طريق “قبول الجميع” (أو الإجماع) (per consensum omnium)، لأن “الإجماع” لا يُثبت عادةً الحقيقة. فتكون هذه العملية بمثابة حالة نفسية حادة تحتل مكاناً في الفلسفة أكثر من اللاهوت.
بل إن الحق نفسه هو المقياس الذي نقوِّم به أهمية “الرأي العام”. يقدر عدد قليل من الناس، ربما بعض المعترفين بالإيمان فقط، أن يعبِّروا عن الخبرة الجامعة، وهذا يكفي. ونقول بالتحديد إننا لا نحتاج إلى اجتماع عام ومسكوني، ولا إلى اقتراح أو تصويت، ولا حتى إلى “مجمع مسكوني” لكي نعبِّر عن الحقيقة الجامعة ونعترف بها. فالكرامة المقدّسة للمجمع لا تكون في عدد الأعضاء الذين يمثِّلون كنائسهم فيه. فقد يظهر مجمع “عام” كبير نفسه أنه مجمع لصوصي أو مجمعٌ مرتدّ عن الإيمان. وفي أكثر الأحيان يبطله “شتات الكنيسة” (ecclesia sparsa) بمعارضته الصامتة. فعدد الأساقفة (numerus episcoporum) لا يحلّ المشكلة. إن الوسائل التاريخية والعلميَّة للاعتراف بتقليد مقدس وجامع قد تكون عديدة، ومنها دعوة المجامع المسكونية، إلى الانعقاد، ولكنَّها ليست الوسيلة الفريدة. هذا القول لا يشير إلى عدم ضرورة عقدة المجامع والمؤتمرات، فلعلّ الأقلية تحمل في كثير من الأحيان لواء الحق أثناء انعقاد المجمع، والأهم هو أن الحقّ يُعْلن في الكنيسة حتى من دون أن يلتئم أي مجمع. وكثيراً ما تحمل آراء آباء الكنيسة ومعلِّمي المسكونة قيمة روحية أكبر من تحديدات بعض المجامع. فهذه الآراء لا تحتاج إلى إثبات أو إلى “إجماع” بل إنها المقياس وأداة البرهان. ولذلك تشهد الكنيسة لها بقبولها (receptio) الصامت. وأهميتها الكبرى هي في الجامعيَّة الداخليَّة، لا في شمولية تجريبية. نحن لا نقبل آراء الآباء كخضوع شكلي لسلطان خارجي، بل لأنها الدليل الداخلي على حقيقتها الجامعة. بل لأنها الدليل الداخلي على حقيقتها الجامعة. إن جسد الكنيسة كلّه له حقّ إثبات الأمور، بل له واجب الشهادة لصحتها. بهذا الروح كتب البطاركة الشرقيون منشور عام 1848 وقالوا إن “الشعب نفسه” (o laos)، أي جسد الكنيسة، هو “المدافع عن الدين” (hyperaspistis tis thriskias). وقبل صدور هذا المنشور قال المتروبوليت فيلارت في كتابه عن التعليم المسيح، عندما أجاب عن هذا السؤال: “هل في التقليد المقدَّس كنز حقيقي؟” فقال: “إن الله يبني كلّ المؤمنين المتحدين جميعاً عبر الأجيال بواسطة تقليد الإيمان المقدس ليكونوا كنيسة واحدة. وهذه الكنيسة هي الكنز الحقيقي للتقليد المقدس أو عمود الحقيقة وقاعدته كما قال بولس الرسول” (1تيمو 3: 15).
إن قناعة الكنيسة الأرثوذكسية بأن الشعب بمجمله، أي جسد المسيح، هو “المدافع” عن التقليد والدين لا تقلِّل أبداً من قوة التعليم المعطاة للإكليروس. فهذه القوة المعطاة لهم هي وظيفة من وظائف الملء الجامع في الكنيسة. فهي قوّة تثبّت الإيمان وتوطّد التعبير عنه والنطق به وتقوّي خبرة الكنيسة التي حُفظت في الجسد كلّه. فالتعليم الذي يبشّر به الإكليروس هو فم الكنيسة: “إننا نركن إلى كلام المؤمنين، لأن روح الله ينفخ في كلّ واحد منهم” (37). لقد أُعطي لهم وحدهم أن يعلِّموا “بسلطان”، لأنهم لم ينالوا هذه القوة من جمهور المؤمنين، بل من رئيس الكهنة يسوع المسيح عندما وُضعت عليهم الأيدي. لكنَّ هذا التعليم تُعْرَف حدوده في تعبير الكنيسة كلّها. فالكنيسة مدعوة لأن تشهد لهذه الخبرة التي لا تُستنفد، لأنها رؤية روحية. يجب على الأسقف في الكنيسة (episcopus in ecclesia) أن يكون معلِّماً، لأنه تسلَّم سلطان التكلُّم باسم القطيع. والقطيع تسلَّم حق التكلّم من خلال الأسقف. وعلى الأسقف أن يحتضن كنيسته وأن يظهر خبرتها وإيمانها، حتى يحقِّق هذا الأمر. وعليه أن لا يتكلَّم من عنده، بل باسم الكنيسة “وعبر إجماعها” (ex consensu ecclesiae). وهذا القول يناقض الصيغة الفاتيكانيَّة التي تقول: “من ذاته لا من إجماع الكنيسة” (exsese, non autem ex consensu ecclesiae).
إن الأسقف لا يتلَّقى قوة التعليم من رعيته، بل من المسيح عبر التعاقب الرسولي. لكن أُعطيت له قوة الشهادة للخبرة الجامعة التي لجسد الكنيسة. فهو يلتزمها، ولذلك يحتكم المؤمنون إلى تعليمه فيما يخص مسائل الإيمان. أمَّا واجب الطاعة فيزول عندما ينحرف الأسقف عن القاعدة الجامعة، فللشعب حقّ اتّهامه، وحتى حقّ خلعه (38).
حرية وسلطة:
في الكنيسة الجامعة تزول الثنائية المؤلمة وينتفي التوتُّر القائم بين الحرية والسلطة، لأن السلطة الخارجية غير موجودة في الكنيسة. فالسلطة لا تقدر أن تكون مصدراً للحياة الروحية، لذلك تلجأ السلطة المسيحية إلى الحرية والإقناع عوضاً عن الإكراه، لأن الإكراه يبطل الوحدة الحقيقية في الفكر والقلب. لكنَّ هذا لا يدلُّ على أن كل ّ شخص قد تلقَّى حرية غير محدودة في التعبير عن رأيه الشخصي. “فالآراء الشخصية” يجب ألاَّ تكون موجودة في الكنيسة ولا يمكنها أن توجد فيها. وكلّ عضو في الكنيسة يواجه مشكلة مزدوجة. أولاً، يجب أن يسود ذاته وأن يحرِّرها من حدوده النفسية وأن يرفع مستوى ووعيه إلى ملء القياس “الجامع”. ثانياً، يجب أن يفهم ويتحسَّس روحياً الاكتمال التاريخي لخبرة الكنيسة. إن المسيح لا يُعلن عن نفسه لأفراد منعزلٍ بعضهم عن بعض، ولا يقتصر عمله على توجيه مصيرهم الشخصي. فهو لم يأت إلى الخراف المبعثرة، بل إلى الجنس البشري بأجمعه. وهكذا يتمّ عمله في ملء التاريخ، أي في الكنيسة.
كلّ التاريخ مقدّس في معنى من معانيه، لكن تاريخ الكنيسة مأساوي أيضاً. فالجامعيَّة أُعطيت للكنيسة ولذلك كانت مهمتها الأولى أن تحقِّقها. الحقيقة لا تُدرك من دون ألم وجهاد، لأن تجاوز الذات والأخصّاء ليس أمراً سهلاً. والشرط الأول في البطولة المسيحية هو الانسحاق أمام الله وقبول إعلانه. وقد أعلن الله عن نفسه في الكنيسة. هذا هو الإعلان النهائي الذي لا يزول. فالمسيح لا يُعلن نفسه لنا في عزلتنا، بل في علاقتنا الجامعة وفي اتحادنا. وهو يكشف عن نفسه ويُعلن أنه آدم الجديد ورأس الكنيسة ورأس الجسد. لذلك يجب أن ندخل حياة الكنيسة بتواضع وثقة وأن نحاول أن نكتشف أنفسنا فيها. ويجب أن نؤمن بأن ملء المسيح هو فيها وأن كل واحد منَّا أن يواجه صعوباته وشكوكه. لكننا نرجو ونؤمن بأن هذه الصعوبات ستنحلّ بجهد جامع موحَّد وبطولي وبعمل جريء. وكلّ عمل من أعمال الإلفة والوئام ممرّ نحو تحقيق الملء الجامع للكنيسة. وهذا يكون مرضياً في عيني الرب: “فأينما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت هناك بينهم” (متى 18: 20).
(9) العظة 3، 2 في تفسير الرسالة إلى أهل أفسس (مجموعة الآباء اليونانية، مين 62، 26)
(10) تفسير الرسالة إلى أهل أفسس، الجزء الثاني ص 93-94. أنظر أيضاً:
J. A. Robinson, St. Paul’s Epistle to the Ephesians, P. 44-45, I, 403
(16) “آراء وتصريحات فيلاريت متروبوليت موسكو فيما يخص بالكنيسة الأرثوذكسية في الشرق”، بيترسبرغ، 1886، ص 53
(19) التعليم الديني (الكاتيشيزم) 18: 23 (مجموعة الآباء اليونانية، مين 33، 1044).
(20) راجع
Pierre Batiffol, Le Catholicisme de St. Augustin, I, Paris 1920, p212.
“نذكر أن لفظة “جامعة” استعملت لنصف الكنيسة العظيمة ضد الهراطقة… وهذه اللفظة أوجدها غالباً الشعب وظهرت في الشرق في القرن الثاني. فسعى مجادلو (tractatores) القرن الرابع إلى أن يجدوا لها معنى اشتقاقياً علمياً وأرادوا أن تكون تعبيراً عن الكمال المطلق لإيمان الكنيسة إمَّا لكونها لا تحابي وجوه الناس ولا المراكز ولا الثقافة أو أخيراً وخاصة لأنها منتشرة في العالم بأسره من أطرافه إلى أطرافه. وأغوسطين لا يعترف إلا بهذا المعنى الأخير”. راجع:
Bishop Lightfoot, St. Ignatius, II, London 1889, p. 319.
إنا تاريخ الاستعمال المسيحي والقبول المسيحي للفظتي – ekklesia catholiki وcatholicos في عدة مواضع يستحق دراسة دقيقة، لأننا لا نجد أبحاثاً خاصة في هذا الموضوع. وفي المقالات الروسية نقدر أن نرجع إلى المقالة القيِّمة للأستاذ موريتوف M.D. Muretov في ملحق كتابه “الصلوات اليهودية القديمة المنسوبة إلى القديس بطرس” رغم أنها لا تستنفد الموضوع ورغم أنها غير معصومة من الخطأ. أنظر أيضاً:
Bishop Lightfoot, St. Ignatius, II, London 1889, p. 310
(24) القديس يوحنا الذهبي الفم، العظة 11، 1 في تفسير الرسالة إلى أهل أفسس (مجموعة الآباء اليونانية مين 62، 79).
(25) العظة 33، 3 في تفسير رسالة كورنثوس الأولى (مجموعة الآباء اليونانية، مين 61، 280).
(28) للاطلاع على الاقتباسات الآبائة المنظّمة والمفسرة أنظر:
E. Mersch, S. J., Le Corps Mystique du Christ, Etudes de Theologie Historique, T. 1-2. Louvain 1933.
(29) المطران أنطونيوس كرابوفيسكي، “الفكرة المناقبية في عقيدة الكنيسة”، مجموعة أعماله، الجزء الثاني، بيترسبرغ 1911، ص 17-18.
(30) المرجع نفسه “الفكرة المناقبية في عقيدة الثالوث الأقدس”، ص 65.
(31) روسيا والكنيسة الإنجليزية، ص 198.
(34) راجع:
Very Rev. W. R. Inge, The Platonic Tradition in English Religious Thought (1926), p. 27.
(35) ب. مليورنسكي، “محاضرات في تاريخ الكنائس المسيحية القديمة”، “مجلة السائح الروسي”، 1910، عدد 6، ص 931 (بالروسية)
(37) القديس بولينوس أسقف نول، الرسائل، 23، 25 (مجموعة الآباء اللاتين، مين 61، 281)
(38) للحصول على تفسير أكثر أنظر مقالتي “عمل الروح القدس في الإعلان” في مجلة “الشرق المسيحي” 5، 13، عدد 2 (1932) و”سر العنصرة” في ومجلة “أخوية القديس ألبان والقديس سرجيوس” رقم 23 (1934).