Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎
القديس ثيوذوسيوس مؤسس دير الكهوف في كيف

القديس ثيوذوسيوس مؤسس دير الكهوف في كيفوفاته

كلن البار ثيوذوسيوس ينظّم حياته على الدوام وفقاً لمشيئة الله. وقد أشرف الآن على النهاية. وقد استشفَّ يوم رحيله وأحسَّ به إحساساً مسبقاً.

لهذا اجتمعت الأخوية عنده بكاملها بناءً على أمره. فحضر الأخوة الذين كانوا موجودين في الدبر، وأولئك الذين كانوا في الضواحي، والإخوة الذين كانوا مرسلين لأداء خدمة. وقد بدا عليه التأثّر وشرع في إسداء نصائحه للجميع. فشدّد على ضرورة اجتهادهم بكل انتباه وخوف من الله في أداء كل واحد للخدمة التي أوكلت إليه.

وتدحرجت من مقلتيه الدموع وهو يكلّمهم عن الخلاص والحياة التي ترضي الله، وعن الصوم. وأوصاهم أن يعتنوا، بنوع أخصّ، بالكنيسة وأن يظهروا فيها مزيداً من الورع والخوف من الله. وأن تكون المحبة رائدهم وأن يظهروا الطاعة ليس للأكبر منهم وحسب بل للمساوين لهم أيضاً. ولما انتهى من كلامه منحهم بركته وصرفهم وهو في غاية التأثر.

ويومها زاره الأمير اسفياتوسلاف أيضاً. فتفوّه فمه المفعم بالنعم بنصائحه الأخيرة للأمير. فلفت انتباهه إلى ضرورة إنمائه في التقوى والى واجب حمايته للأرثوذكسية، واهتمامه بالكنائس المقدّسة. وقال له:

– إني أتضرع إلى ربنا وإلهنا يسوع المسيح والى أمه البريئة من كل عيب أن يمنحاك “مملكة يعمُّها الأمن والهدوء ويسودها السلام” واني أُكلف تقواك ان تحمي هذا الدير المقدّس بيت والدة الإله ذات القداسة الفائقة “الذي جاء تشييده بفضل رضاها”.

بعد ذلك استولت على البار رعشة وارتفاع في الحرارة، وأحسّ بانحطاط في قواه فاضطّر إلى الإستلقاء على السرير، ولم يكن قد استلقى عليه من قبل، وقال:

– فلتكن مشيئة الله وليفعل الرب ما سبق أن حدّده لي. لكني أتوسّل إليك يا سيدي يسوع المسيح أن تُظهر تحنُّنك وترأف بنفسي. ولا تجعلْها عرضة لتهديد الشياطين، بل اجعل ملائكتك يستقبلونها وأن ينقلها هؤلاء من ممرات الظلام ويرشدوها إلى نور رحمتك.

بعد هذه الأقوال توقف. وسقط في حال الصمت. ولم يعد يقوى على اللفظ ولا أن يفتح عينيه.

وكان الإخوة يراقبونه وتولاّهم ألم في النفس عميق. وقد ظلّ على هذه الحال مدة ثلاث أيام، ولَوْ يروا خفقان صدره لظنوا انه مات.

وبعد الأيام الثلاثة زال المرض، ونهض البار من سريره. فتجمّع الإخوة حوله من جديد. فقال لهم:

– “أيها الإخوة والآباء. ها ان زمن حياتي الأرضية على وشك الإنتهاء. وقد كشف لي الرب لي في الماضي في أيام الصوم الكبير بينما كنت أصلّي في الكهف. “ان ما أطلبه منكم هو أن تجتمعوا وتنتخبوا ايغومانوساً (رئيساً للدير) أجلسه في مكاني.

عندما سمع الإخوة هذا الكلام شعروا بألم عميق وانخرطوا في البكاء.وانصرفوا والحزن يقطر في قلوبهم ليعيّنوا لهم رئيساً. وقد انتخبوا بالإجماع استفانوس القائم بخدمة الكنيسة. ودعا البار الإخوة في اليوم التالي إلى مقابلته. وقال لهم:

– ماذا قررتم يا أبنائي ؟ ومن وجدتم جديراً بأن يكون لكم الإيغومانوس (رئيس الدير) ؟

فأجابوا بصوت واحد: – ان استفانوس مستحق.

فدعا البار استفانوس ليقترب منه، وباركه بيده المقدسة واقامه خلفاً له شرعياً، وقال:

“إني الآن يا بني احمَّلك المسؤولية عن الدير. فحافظ بمزيد من الإنتباه على قوانين كل الوظائف فيه. وتمسّك جيداً بالتقاليد المرسومة. ولا تغيّرنَّ التبيكون (النظام الداخلي للدير). وعليك ان تعمل دائماً وفقاً للترتيب الديري القانوني.

ثم وجّه كلامه إلى الإخوة فنصحهم بإظهار الطاعة لرئيسهم الجديد. وقد ألحَّ كثيراً على ذلك. وأخيراً أنبأهم عن موعد رحيله من هذا العالم فقال:

– يوم السبت، عند غروب الشمس، تغادر نفسي الجسد.

وأخذ البار يحسّ تدريجاً بالمرض يهدّ قواه. وظل استفانوس الإيغومانوس الجديد إلى جانبه لا يفارقه لحظة. وكان يخدمه بتواضع كبير ويسمع مشوراته فيما يتعلّق بواجبات رعاية الرعية المقدسة.

وعند انبلاج فجر السبت دعا البار الإخوة مرة أخرى، وقد صافح كلاَّ منهم على انفراد مصافحة الوداع، وسط سيل من الدموع والنحيب. وقال لهم:

– يا أولادي الأحباء لقد أعطيتكم قبلة المحبة لأن انطلاقي الى سيّدي يسوع المسيح قد دنا. وها هو رئيسكم الذي اخترتموه، فاجعلوه لكم أباً روحياً وعاملوه بعميق الإحترام وامتثلوا لأوامره. والله الحكيم مبدع الكلّ، سيبارككم ويحفظكم سالمين من أذى العدوّ ذي الحيل الكثيرة. وسيثبِّتكم بإيمان وطيد غير متزعزع وبوئام ومحبة متحدين فيما بينكم حتى النهاية. ألا ليت الله يجعلكم جديرين بأن تخدموه بلا أهواء، متَّحدين جسداً واحداً ونفساً واحدة، بتواضع، وطاعة لكي تصيروا كاملين “كما أن أبوكم السماوي كامل” (متى28:5) وليكن الرب معكم.

وتابع البار كلامه وشدّد عليهم ان يتقيّدوا برغبته في أن لا يخصّوه بأيّ شيء من التكريم في جنازته.

– والآن أتوسل إليكم وفي الوقت عينه أستحلفكم أن تدفنوني في الكهف الذي كنت أقضي فيه أيام الصوم. كما أطلب أيضاً أن لا تغسلوا جسدي الحقير، ولا تبدلوا ثيابي التي ارتديها الآن. ولا تتركوا أحداً سواكم يحضر جنازتي.

تقبَّل الإخوة هذه الكلمات وأعينهم تفيض بالعبرات مع الكثير من التنهدات. أمّا هو فلكي يعزّيهم أضاف قائلاً:

– إني أعدكم أيها الإخوة والآباء بأني ولو فارقتكم بالجسد سأظلُّ بروحي دائماً معكم.

وفي هذه المرة صرف الإخوة جميعاً، وقد أراد أن يختلي وحده. لكن أحد الإخوة الذي كان يخدمه دائماً كان يراقبه من خرم الباب وكان قد فتحه، فاستطاع أن يُتابع ما يجري له في اللحظات الأخيرة.

فقد قام من فراشه وأخذ يصلّي بدموع حارّة متوسّلاً إلى الله لكي يخلّص نفسه، وصلّى إلى جميع القديسين والى والدة الإله بنوع أخصّ التي وضع الدير ورعيته في حمايتها.

ثم عاد إلى سريره ليستريح قليلاً. ونهض من جديد ورفع عيينيه إلى السماء وقد سطع وجهه بالفرح. ثم هتف بصوت عظيم:

– تبارك الله. ان بان الأمر هكذا، فلست لأخاف أبداً، لا بل إني أمتلئ فرحاً لمغادرتي هذا العالم.

وكيفما كان أمره فلا بد أنه كان يرى رؤية. ثم استلقى بانتباه ووضع يديه على صدره بشكل صليب وأسلم نفسه المقدسة في يد الله، لكي يُحصى هو أيضاً مع الآباء القديسين.

وقد تم ذلك عند غروب الشمس كما سبق فقال، يوم السبت الواقع في الثالث من أيار سنة ألف وأربع وسبعين للميلاد.

وما كاد يذاع نبأ وفاته حتى أقام الإخوة مناحة عظيمة عليه ونقلوا جثمانه الى الكنيسة، وهم ينوحون، ولكي يقيموا صلاة الجنازة.

وتجمّع عدد غفير من المسيحيين عند باب الدير وأخذوا يبكون منتظرين نقل الجثمان وقد حضروا بدون أن يدعوهم أحد. فكأن قوة إلهية قد دفعتهم. إلاّ ان الإخوة أقفلوا باب الدير عملاً بوصيّة البار.

وقد حضر في ذلك الوقت عدد كبير من العظماء ظلّوا هم أيضا واقفين خارج الدير. ولم يستطع الإخوة أن يتحركوا لحمل الجثمان إلى المقبرة طالما بقي هؤلاء الناس واقفين في الخارج. ولم يفرّقهم سوى انهمار المطر. فقد تلبّدت السماء بالغيوم بإرادة الله وهطل المطر بغزارة وأبعد الجمع المنتظر. فلما تفرَّق الناس ونأوا عن الدير صفا الجوّ وسطعت الشمس من جديد. وقام الإخوة بتشييع الجثمان ونقله، فحملوا نعش البار إلى الكهف المعيّن حيث دفنوه بإكرام. وبعد أن أقفلوه جيداً عادوا إلى ديرهم والألم يعصرهم. ولم يذوقوا الطعام في ذلك اليوم.

كان الأمير اسفياتوسلاف ساعة رقاد البار في مكان بعيد. وبينما كان يجيل بصره صوب دير بتسير سكايا رأى عاموداً ناريّاً يرتفع من الدير إلى السماء. فأدرك الأمير من هذا المشهد أن البار قد فارق الحياة. لأنه كان قد تركه قبل ذلك بيوم واحد وهو في أشدّ حالات المرض. فقال لمرافقيه:

– يبدو لي أن البار ثيوذوسيوس قد انتقل اليوم الى السماوات.

وانطلق إلى الدير حيث أُبلغ نبأ وفاته. فبكاه طويلاً.

وفي هذه السنة فاضت بركات كثيرة بفضل أدعية أبينا البار ثيوذوسيوس. فقد زادت محصولات الدير، وتباركت الحقول والحدائق وزاد عدد البهائم. ولم يحدث مثل هذا من قبل. فتذكّر الإخوة وعود البار. ومجّدوا الله لأن معلّمهم ورئيسهم نال هذه النعمة.

وإننا لنرى أن الله بشفاعات البار لم يترك الدير لا في ذلك الوقت ولا في يومنا هذا فتحقق بذلك قول الكتاب المقدس: “الصدِّيقون يحيون إلى الأبد، وأجرهم في الرب واهتمامهم لدى العلي”.

فإن كان البار قد انفصل عنّا بالجسد، إلاّ أن روحه تنتقّل دائماً بيننا. وهذا أمر يمكن التأكد منه في كثرة المعجزات التي قام بها من بعد موته.

عجائبه بعد موته

كان أحد الفوغيار موضع استياء الأمير فقيل له: “ان الأمير سيلقيك في السجن” فعبس وجهه وعمّ فؤاده الحزن. ولجأ حينذاك إلى الصلاة. وطلب معونة البار ثيوذوسيوس قائلاً: “إني أعلم أيها الأب أنك قديس. فأسألك الآن اذ اقتربت ساعة الخطر ان تتحنن عليّ وتتوسل لدى سيد السماء لكي ينقذني”. وبينما كان يستريح في وقت القيلولة ظهر البار ثيوذوسيوس في غرفة نومه وقال له:

– لِمَ تتضايق إلى هذا الحد ؟ أفتظّن أني قد ذهبت من وسطكم ؟ لقد ذهبت بالجسد لا بالروح. إن الأمير سيدعوك غداً ولن يكون غاضباً منك، وسيعيد إليك وظيفتك من جديد.

وظن الفوغيار في بادئ الأمر أنه كان يرى حلماً. غير أنه ما كاد يفتح عينيه حتى رأى البار يخرج من الغرفة. وفي اليوم التالي تمّ ما قاله البار له.

ومن ذلك اليوم أخذ ذلك الفوغيار يظهر مزيداً من الودّ والإكرام لدير البار ثيوذوسيوس.

كان أحد المسيحيين على أهبة السفر فمرَّ من دير بتسيرسكايا.وسلّم صديقه الراهب كونن علبة ملأى بالنقود المعدنية ليحفظها له أمانة عنده. عرف الراهب نيقولاوس بما حدث فغلبه شيطان الطمع فقام وسلب المال خلسة وخبأه في مكان خفي. ولما إكتشف الراهب كونن أن العلبة قد إختفت إستولى عليه الضيق والحزن الثقيل. وأخذ يتضرّع إلى البار ثيوذوسيوس ذارفاً الدمع والتمس منه أن يساعده لكي لا يخجل أمام صديقه.

ونام قليلاً فرأى في نومه البار يقول له:

– إن العلبة التي تحزن بسببها قد اختلسها نيقولاوس بمشورة الشيطان وقد أخفاها في الكهف. ودلّه على المكان الذي وضعها فيه قائلاً:

– إذهب الآن وخذ العلبة ولا تخبر أحداً عن السرقة.

استيقظ كونن فرحاً وأشعل شمعة واتجه إلى الكهف. فوجد العلبة. ولم يدرِ كيف يشكر الله وعبده الأمين العجيب ثيوذوسيوس.

كان أحد رجال الإكليروس في كاتدرائية آجيا صوفيا في كياف يتألم كثيراً من حمى الملاريا. ولما إستفاق قليلا من وطأة الحمة أخذ يتضرّع إلى الله ويتوسل إلى البار ثيوذوسيوس طالباّ الشفاء. ثم نام قليلاً فرأى في نومه البار ثيوذوسيوس حاملاً عصاه وقال له:

– خذ عصاي وسر قليلاّ متكئاً عليها.

وعندما استيقظ أحسّ أن الحمى قد فارقته. وأخبره ذويه بزيارة البار له. وقام وذهب إلى الدير، فلما سمعوه مجدّوا اسم الله من أجل النعمة التي نالها أبوهم الروحي.

وحدث بعد مرور سنوات على وفاة البار ثيوذوسيوس الحادث الذي نذكره في ما يلي:

اضطّر الايغومانس استفانوس (رئيس الدير) بسبب تخيّلات شيطانية إلى الإبتعاد عن الدير. فتولّى مهام الايغومانس من بعده نيكون الكبير الذي كان قد عاد إلى الدير من جزيرة إتموتو وكانسك من بعد وفاة البار.

وقرب يوم الجمعة للأسبوع الأول من الصوم الكبير. وكان البار قد سبق له أن حدد لمثل هذا اليوم أن يُقدَّم على المائدة للرهبان خبز من القمح الممتاز وعسل وسمسم لأن الرهبان كانوا يتعبون كثيراً في فترة الصيام في تلك الأيام.

وأمر نيكون المغبوط خازن المؤونة أن يحافظ على ما أوصى به البار من قبل.. لكن هذا توانى بدافع الكسل ولم يطع الأمر وادّعى أن الدقيق قد نفذ. لكن الله لم يشأ أن يصرف نظره عن أتعاب عبيده وصلواتهم، ولا أن تُحتَقر وصيّة البار ثيوذوسيوس. فبعد القداس الإلهي ذهب الإخوة إلى غرفة المائدة لكي يتناولوا طعامهم. فأدهشتهم المفاجأة حين رأوا انه قد وصل إلى الدير حمل من الخبز كالخبز الذي أمر به نظام الدير. وتعجّبوا لما دبّرته لهم العناية الإلهية لأن أباهم ومعلّمهم البار ثيوذوسيوس كان يصلّي دائماً من أجل سد حاجاتهم.

وبعد يومين أمر الخازن الخبّازين أن يعجنوا ويخبزوا من ذلك الدقيق الممتاز، وفقاً للقانون المتّبع، وهو الذي قال عنه قبل يوم انه نفذ. وماذا حدث ؟ حدث أنه عند إلقاء الماء المغلي على الدقيق سقطت ضفدعة كانت قد سلقت في الماء. وكانت النتيجة أن العمل الذي قاموا به لم يعد ذا فائدة، لأنه كان ثمرة عدم الطاعة. والله، بفضل صلوات البار لم يسمح ان يتنجس الإخوة بخبز المروق، “حصة العدو”، بعد أن جاهدوا طوال الأسبوع. وهكذا تعلّموا أن يكونوا في المستقبل أشد انتباهاً.

ها نحن بعد أن ذكرنا الكثير أشرفنا على نهاية قصتنا. فلنختم الكلام مع المؤرخ المغبوط نسطور. ولنشكر الله فرحين لأنه منحنا في أزمنتنا ثيوذوريوس المتّشح بالله صاحب الحياة المتلألئة بالفضائل.

وقد حزن المغبوط نسطور حزناً عظيماً كما إعترف هو لنا بنفسه لأنه لم يقم أحد بتدوين سيرة البار. وقد حفزه حبه العميق لأبيه الروحي فتجشَّمَ مشقات كبيرة لينسج بقلمه قصة ما رأى وما سمع، وهو قليل من كثير، لمجد وإكرام سيّدنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح مع الآب والروح القدس، الآن وكل آن والى دهر الداهرين…

نقل رفاته

مرّت ثماني عشرة سنة على ذلك اليوم الذي فيه قيدت روح أبينا البار ثيوذوسيوس إلى السماء ؛ حتى إذا وافى اليوم الرابع عشر من شهر آب قيد جسده أيضاً برضى الله إلى سماء أخرى هي الكنيسة المقدسة العظيمة الرائعة، كنيسة الدير. أمّا تفاصيل هذا الحادث فنذكرها في ما يلي:

قرر الإخوة رهبان دير اللافرا الكبير في بتسيرسك ومعهم رئيسهم الايغومانوس يوحنا في اجتماع عام لهم، نقل رفاة البار. فقد صار ثيوذوسيوس المتوشّح بالله موضع الإعجاب بفضائله ومعجزاته فأمسى من اللائق أن يُنقل رفاته الشريفة إلى الكنيسة الكبرى.

وقالوا: “لا نستطيع أن نفعل شيئاً غير هذا. فنحن لا نرضى بأن نحرم من أبينا ومعلّمنا. كما أنه لا يجوز أن يترك الراعي رعيّته وحدها، لأن الذئب يتحيّن الفرص لافتراسها.

“فمن العدل أن ننقل رفاته الشريفة إلى مقربة منّا بحيث نراها ونسجد لها على الدوام، كما يليق”.

 “ومن غير المسلَّم به أن يبقى بعيداً عن الدير، ذاك الذي أنشأه. وعن الكنيسة ذاك الذي وضع أسسها. وعن الأخوية ذاك الذي جمعها”.

“فلننطلق إذاً لننقل رفات أبينا الحبيب الغالي إلى هنا، امتثالاً بقول الرب: “لا يوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة، فيضيء لجميع الذين في البيت” (مت15:5)”.

وقد أعدّوا بلا إبطاء المكان المناسب للرفاة وقبراً جميلاً مشيداً بالحجارة حيث وضعوها فيه.

وشُرع بأمر الإيغومانوس بنبش المغارة قبل عيد نياح السيدة والدة الإله بثلاثة أيام. وكان المغبوط نسطور في مقدمة القائمين بهذا العمل فاستحق أن يشاهد رفات البار الشريفة قبل سائر الإخوة. وهو سيروي لنا ما حدث:

 “إن ما سأرويه لم أعلمه من أحد وإنما عشته أنا نفسي عن كثب.

طلب إليّ رئيس الدير أن أذهب معه إلى الكهف لزيارة البار ثيوذوسيوس. وصلنا دون أن يحس بنا أحد، وعيَّنا المكان الذي سنجري فيه الحفر، وبعد أن عدنا الى الدير كلفني الإيغومانوس بالقيام بعملية نبش الرفات. وقال لي:

– خذ معك من شئت من الإخوة واذهب واحرص على أن لا يعلم الإخوة شيئاً عن هذا الأمر حتى تتم استخراج الرفات الشريفة.

فأعددت العدة في اليوم عينه، وهو يوم الثلاثاء. وفي المساء انتظرت إلى أن اشتد الظلام ثم انطلقت إلى هناك. وقد رافقني اثنان من الإخوة عرفاً بالفضيلة. أمّا الرهبان الآخرون فلم يعرفوا بما يجري. وما أن وصلنا إلى الكهف حتى باشرنا العمل مقروناً بالمطانيات (السجدات) والترانيم من المزامير.

أقبلت على العمل بغيرة. فلما شعرت بالتعب، قام أخ فتابع الحفر الى أن أرخى الظلام سدوله وحلَّ منتصف الليل، ولم نعثر على شيء. فاستولى علينا ضيق ثقيل، وحزن عميق، وانهارت العبرات من مآقينا. وأخذنا نتساءل: هل كان البار غير راضٍ أن تكشف رفاته ؟ أم كان علينا أن نحفر في جانب آخر من الكهف ؟ وقد أقلقتنا هذه الأفكار.

برغم هذا قبضت على أدوات التنقيب واستأنفت الحفر بانتباه كُلّي.

وناداني أخ كان يقف خارج الكهف قائلاً: لقد دق ناقوس الدير إيذاناً بموعد صلاة السحر. فأجبت:

– إني موشك الآن على الإنتهاء وحفرت فوق الرُّفات الشريفة بالضبط دون أن أدري. وما أن أدركت ذلك بعد قليل حتى دبَّ إليّ ذعر شديد وأخذت أقول:

– إرحمني يا رب بشفاعة البار ثيوذوسيوس.

وأرسلت الأخوين فوراً إلى الدير لِينبِئَا الايغومانوس لكي يأتي. وعاد الثلاثة بعد قليل بينما كنت قد مضيت قدماً في العمل.

وما كدت أنحني لكي أحسن الرؤية حتى لاحت لي رفات البار وقد جلّلتها مسحة من القداسة وظلّت سليمة، صحيحة بكاملها، غير فاسدة، ولم تمسها يد البلى. امّا الوجه فكان منيراً، والعينان مقفلتين وشعر رأسه ثابتاً في مكانه. وضعنا الرُّفات على سرير بمساعدة الإخوة، ونقلناها إلى مكان أمام المغارة”.

ما رواه لنا القديس نسطور يثير إعجابنا بعظائم الله.

وتروى أمور عجيبة أخرى. منها أن كثيرين من رهبان دير بتسيرسكايا وهم في طريقهم إلى الكنيسة في موعد صلاة السحر نظروا إلى جهة الكهف فشاهدوا فوقه نوراً عظيماً. كما رآه أيضاً أتقياء عديدون من مدينة كياف.

إن إستيفانوس المتمّيز بكل فضل – خليفة ثيوذوسيوس في رئاسة الدير الذي أنشأ ديراً في كلوف، واستحق أن يصير أسقفاً في فلاديمير – كان تلك الليلة في ديره في كلوف، وبينما كان ينظر صوب بتسيرسك رأى هو أيضاً وسط الحلكة نوراً عجيباً فوق كهف البار. ففكر أنه سيجري الاحتفال بنقل رفات البار ثيوذوسيوس. وأسف كثيراً لأنه كان غائباً ساعة إبلاغه أن الإحتفال في اليوم التالي.

وامتطى حصانه فوراً ومعه اكليمس الذي صار فيما بعد خليفته في رئاسة دير كلوف وانطلقا بسرعة قاصدين الكهف.

وبينما هو في الطريق شاهد من بعيد ذلك النور مرة أخرى. وما أن إقترب أكثر من منطقة الكهف حتى رأى عدداً كبيراً من الشموع مضاءة فوق الكهف. لكنه عند وصوله لم ير شيئاً منها، فأدرك أن كل ذلك كان علامات تتحدث عن الموهبة الفائقة للطبيعة التي كانت تخيفيها رفات القديس الشريفة.

وغداة يوم العثور على الرفاة اجتمع حشد كبير في منطقة الكهف وفي مقدمتهم الأساقفة المحبوبون من الله أفرام أسقف بيريغيا سلاف، واستفانوس أسقف فلاديمير، ويوحنا أسقف تسير نيغوف، ومارينوس أسقف جيورجييف، وأنطونيوس أسقف بوروز، ورؤساء الأديرة كلها، وعدد كبير من الرهبان وجمع من المسيحيين الأتقياء قدموا من مختلف الأنحاء.

وقد حملوا باحتفال رسمي مهيب وبالشموع المشعشعة والبخور المتصاعد، رفات البار ونقلوها إلى الكنيسة المقدسة التي بناها الله. وقد غمرتها البهجة والحبور عند استقبالها كوكبها.

كان المشهد داخل الكنيسة من الروعة والجلال ما يعجز عن وصفه. فإن الشموع الموقدة كانت تنشر أنوارها الباهرة وقد فاقت نور النهار سطوعاً . وبينما كان الأساقفة يقبّلون الرفات المقدسة، والكهنة راكعين، كان الرهبان يتزاحمون حول الرفات ليصافحوها بشوق من صميم الروح. وقد تعالت ألحان الترنيم والتسبيح حمداً وشكراً لله وإكراماً لبارّه.

في هذا الجوّ العابق بالروحانية دفنت رفات البار الشريفة إلى الجانب الأيمن من كنيسة السيّدة والدة الإله الفائقة القداسة.

حدث ذلك في الساعة الأولى لليوم الرابع عشر من شهر آب وقد احتفل بهذا اليوم احتفالاً باهراً.

إعلان البار قدّيس

رأى الرب أن يزيد في إكرام عبده، فسرَّ أن يصير إسمه مجيداً مكرَّماً في الكنيسة الأرثوذكسية كلها. وذلك بعد نقل الرفات الشريفة بثمانية عشر عاماً. يومئذ، يوم نقل الرفات، خرج من ظلمة الكهف. أمّا اليوم فقد خرج من ظلمة النسيان. وغدا نوراً يسطع في العالم لينير الجميع بحياته الفاضلة. وقد حدث ما يلي:

إن الرب عارف مكنونات القلوب ألهم قلب الأمير ثيوكتيست ليعمل من أجل تسجيل إسم البار رسمياً في مصاف قديسي الكنيسة الأرثوذكسية. وتحدث ثيوكتيست بهذا الشأن مع الأمير التقي ميخائيل اسفياتوبولك بن اسفياتو سلاف، ورجا منه أن يطلب إلى صاحب النيافة المتروبوايت نيكيفورس ليعقد مجمعاً يتولى البحث في هذه المسألة.

وكان الأمير العظيم اسفياتوبولك محباً لله. وسبق له أن علم بحياة ثيوذوسيوس المقدسة فأظهر اهتمامه. وعقد المجمع واشترك فيه الأساقفة ورؤساء الأديرة وكل الإكليروس. وأعلن الميتروبوليت الموضوع أمامهم. وقام اسفياتوبولك، وهو في أشد حالات الحماسة، فروى لهم سيرة حياة البار. وهكذا اتفق الجميع بصوت واحد على اعتباره قديساً.

وأصدر الميتروبوليت أمراً إلى الأساقفة ليسجّلوا في كل الكناتس إسم ثيوذوسيوس في ذبتيخا القديسين.

وتلقّى الأساقفة هذا الأمر ببالغ الفرح. ومن ذلك الحين أخذوا يذكرون البار في كل الكنائس ويوجّهون الصلاة إليه ويحتفلون بعيده السنوي الباهر في الثالث من أيار كل عام بورع وإكرام تمجيداً لله الذي شرَّفه وتكريماً له لاستحقاقه هذه النعمة.

تم طبع هذا الكتاب في شهر شباط 1983
في مطبعة النور – ولحساب منشورات النور
بيروت – لبنان

تمهيد الترجمة اليونانية

مقدمة البار نسطور

عقبات في طريق الله

في الجبال والمغاور

وجع الأم

الايغومانوس مؤسس دير بتسير سكاي

المرشد المنير

سمو في التواضع والمحبة

حماية من العلي

لا إعواز عند خائفيه

الصراع مع الشياطين

موبّخ المروق

الكنيسة الكبرى

وفاته

عجائبه بعد موته

نقل رفاته

إعلان البار قدّيس

9

17

21

33

39

47

57

68

81

89

101

111

119

125

135

141

149

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى