Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

اليوم يجب أن ننهي مثل لعازر، قد تظنون إننا قد أكملناه كله، ولكنني لن اَستغل عدم معرفتكم وأضللكم، ولن أتوقف حتى قبل أن آتي على كل شيء يمكن أن أجده، عندما يحصد الفلاح الكرمة فإنه لا يكف عن العمل حتى يقطع كل العناقيد. لأنه كما تختفي العناقيد تحت الأوراق، فإنني وبعد كل ذلك مازلت أرى حتى الآن بعض المعاني المحجوبة بين السطور حاضرة الآن.

فدعونا نحصد هذه أيضًا وكل ما فيها من معاني، مستخدمين هذه العظة بدلاً من منجل الحصاد. طالما تم حصاد الكرمة فإنها تصبح خالية من الفاكهة، بينما تظل الأوراق فقط. ولكن الكرمة الروحية في الكتاب المقدس الإلهي مختلفة، فإننا حتى لو أخذنا كل شيء يمكن أن نجده، فإن الجزء الأكبر يظل كامنًا (مختفيًا). وفي الواقع أن كثيرون قبلنا قد تكلموا في هذا الموضوع، وربما كثيرون بعدنا سوف يتكلمون فيه أيضًا، ولكن لن يكون هناك من يستطيع أن يفرغ كل ما يحتويه من غنى، وطبيعة هذه الغزارة أنك كلما تتعمق أكثر، كلما يتدفق أكثر وأكثر إذ أنه ينبوع لا ينضب.

كان من المفروض أن نفيكم بهذا الجزء في اللقاء السابق، ولكننا رأينا أنه ليس من اللائق أن نتغاضى عن الأعمال الصالحة للبار بابيلاس والشهيدان التقيان اللذان كانا معه(1). لذا أرجئنا هذا الجزء لنفيكم به اليوم. إننا قد قمنا بعمل التمجيد الواجب لهم على قدر استطاعتنا، وليس بقدر استحقاقهم الفعلي.

تعالوا إذن لنقدم لكم ما يتناسب مع هذا الموضوع، ولن نأخذ راحة حتى نصل إلى النهاية، سوف نستأنف العظة من حيث توقفنا مؤخرًا. أين توقفنا؟ عند الهوة العظيمة التي تفصل بين الأبرار والخطاة. عندما قال الغني “أرسل لعازر” ورد عليه إبراهيم “بيننا وبينكم هوّة عظيمة قد أُثْبِتَتْ حتى أن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون، ولا الذين من هناك يجتازون إلينا”(2). وقد أوضحنا بالتفصيل أن وفقًا لمحبة الله ورحمته، يجب أن يكون لنا الرجاء في الخلاص بواسطة أفعالنا الصالحة، بدون الاعتماد على آبائنا وأجدادنا أو أصدقائنا وأهلنا وجيراننا، إذ أن “الأخ لن يفدي الإنسان فداءً ولا يعطي الله كفارةً عنهُ”(3). مهما كانت التوسلات والتضرعات التي يقدمها هؤلاء الذين رحلوا عن هذه الحياة وهم خطاة، فمن ذلك الوقت كل ما يسألونه بغير طائل وغير مجدي.

إن العذارى الجاهلات طلبن إلى العذارى الحكيمات زيتًا، ولم يستطعن أن يحصلن عليه. إن الإنسان الذي طمر وزناته في الأرض بالرغم من تعلُّله بأعذار كثيرة، إلا أنه قد أدين، وأيضًا هؤلاء الذين لم يطعموه وهو جائع ولم يسقوه وهو عطشان، وقد ظنوا أنه يمكن أن يعفي عنهم، على أساس عدم معرفتهم، لكن لا عفو ولا تسامح سوف يمنح لهؤلاء(4). وآخرون لن يكون لديهم ما يقولونه، مثل هذا الرجل الذي كان يلبس ثوب العرس، عندما استدعى للسؤال ظلَّ صامتًا(5). ليس هذا الرجل فقط ولكن أيضًا الآخر الذي تذكر دين زميله العبد وطالبه برد المائة دينار، عندئذ أدانه سيده بشدة، وعندما سأل لم يكن لديه ما يقوله(6).

من كل هذه الأمثلة يتضح أنه لن يفيدنا شيء في الآخرة إلا أعمالنا الصالحة، سواء توسلنا أو تضرعنا أو ظللنا صامتين، فبالرغم من ذلك فإن حكم العقوبة والجزاء سوف يُطبق علينا.

فلنستمع – لذلك فإن هذا الرجل الغني قد التمس شيئان ولكنه عجز عن الحصول على أي منهما، أولاً: فإنه توسل من أجل نفسه عندما قال: “أرسل لعازر”، ثم بعد ذلك توسل ليس من أجل نفسه، ولكن من أجل إخوته، ولكنه لم ينال أي طلب منهما. إن الطلب الأول كان غير ممكنًا، ولكن الطلب الثاني وهو من أجل منفعة إخوته لم يكن له ضرورة. على أي حال إذا سمحتم فلننصت بانتباه لمعنى الكلمات – عندما يأتي الحاكم برجل مُدان في منتصف الساحة وجمع الناس حوله، واِبتدأ في استجواب الرجل المذنب، فإن الجميع يتسارعون متلهفين لسماع ماذا يسأل القاضي، وبماذا يرد المتهم، فإن الكثير سوف يسمع في هذه الحالة. ماذا يطلب هذا المتهم (أقصد الرجل الغني) وماذا يجيب عدالة القاضي من خلال إبراهيم، أنه ليس أبو الآباء هو الذي يحاكم برغم أنه هو الذي ينطق بالكلمات.

في الساحة الخارجية للمحكمة في عالمنا هذا عندما يحاكم البعض مثل اللصوص والقتلة، فإن القانون يحتم أن يكونوا بمنأى عن نظر القاضي، ولا يُسمَح لهم أن يسمعوا صوته (يجعلوهم بذلك في خزي وعدم احترام مثل الآخرين)، ولكن هناك رسول يحمل أسئلة القاضي وإجابات المتهم.

وهذا ما يحدث أيضًا فإن الإنسان المذنب لا يسمع الله يكلمه، ولكن إبراهيم هو الرسول الذي ينقل كلام القاضي إلى المتهم (المُدان)، ولا يقول ما يقوله من واقع سلطته هو، ولكن يقرأ القوانين الإلهية بالنسبة للإنسان، ويتكلم بما جاء إليه من فوق منكرًا نفسه، لهذا لم يستطع الرجل أن يجيب.

دعونا نستمع جيدًا وباهتمام لما قيل. إنني سوف أتريث في هذا المثل قاصدًا ذلك، ولن أتركه بالرغم من أن هذا هو اليوم الرابع، إذ أنني أرى فائدة عظيمة تتحقق من هذا الموضوع لكل من الغني والفقير، وأيضًا لهؤلاء الذين يزعجهم نجاح الأشرار وفقر ومتاعب للأبرار، فلا شيء يعثر ويصدم الكثير من الناس أكثر من واقع أن الناس الأغنياء الذي يعيشون في الخطيئة، هم الذين يتمتعون بالكثير من وفرة الحظ، بينما الناس الأبرار الذين يحيون بالتقوى يُعانون الفقر المدقع، ويتحملون الكثير من المتاعب، ربما أسوأ من الفقر ذاته. ولكن هذا المثل كاف لتزويدنا بالعلاج الشافي للغني لكي يضبط نفسه، وللفقير فيواسيه.

إنه يعلِّم الأول ألا يغترّ بينما يعين الفقير على تحمل وضعه الحالي، إنه يحذر الغني أن يتفاخر فإنه لم يوفي شيء جزاء شروره في هذه الحياة، لأن عقاب أليم ينتظره في الآخرة، ويدعو الفقير ألا يضطرب من نجاح الأشرار، فلا تعتقد أن شئون البشر بدون عدل إلهي، عندما يصير الإنسان التقي في أحوال سيئه في هذه الحياة، والإنسان الشرير والسيء يتمتع بنجاح دائم، الاثنان سوف يتلقيان ما يستحقان من جزاء في الآخرة، أحدهما سوف ينال إكليل على صبره ومثابرته، والآخر سوف يجد عقاب وعذاب على شروره.

أيها الأغنياء والفقراء انقشوا هذا المثل، أنتم أيها الأغنياء انقشوه على جدران منازلكم، وأنتم أيها الفقراء انقشوه على قلوبكم، فإن محاه النسيان انقشوه مرة أخرى في ذاكرتكم، وبالأحرى يا أيها الأغنياء انقشوه على قلوبكم، فإن محاه النسيان انقشوه مرة أخرى في ذاكرتكم، فتحملونه معكم دائمًا فيكون بمثابة مدرسة لكم، وأهم درس من كل دروس الفلسفات. فإذا كنا نحفر هذا في قلوبنا فإنه لا مباهج هذه الحياة تستطيع أن تغرينا، ولا أحزانها تثبِّط من عزيمتنا وتطرحنا لليأس، ولكن نتصرف حيال كليهما طبقًا لما هو منقوش على جدران قلوبنا. وهكذا عندما نرى الغني والفقير فإننا لا نحسد الأول، وأيضًا لا نحتقر الفقير لأن ما نراه إنما هو خيال وليس الحقيقة الواقعة، فلو علمنا طبيعة حقيقة الغنى والفقر – المجد والخزي، كل ما هو براق وكل ما هو مظلم – فإننا سوف نتخلص من كل ما يحدثه كل منهما من قلق لنا، فكل هذه الأشياء ما هي إلا خيالات خادعة. إن الشخص النبيل ذو الروح الشامخة لن يغتر بأي من هذه الأشياء البراقة المزدهرة، ولن ييأس بسبب الظروف المتواضعة والحقيرة.

الآن حان وقت لنستمع لبقية كلمات الرجل الغني “أسألك إذًا يا أَبَتِ” أنه يقول ما يعني – أتوسل – اَلتمس – أتضرع – “أن ترسلهُ إلى بيت أبي. لأن لي خمسة إخوة. حتى يشهد لهم لكيلا يأْتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هذا”(7). ولأنه قد أخفق في أن يحصل على طلبه من أجل نفسه، فقد قام بالتوسل من أجل مصلحة الآخرين. انظروا كم هو أصبح محب وعطوف نتيجة لما لاقاه من عذاب الرجل الذي ازدرى لعازر وهو موجود أمامه، أصبح الآن يهتم بالآخرين وهم غير موجودون، الرجل الذي أهمل من كان يراه راقدًا أمام عينيه، الآن أصبح يتذكر هؤلاء الذين لإبراهيم، ويتوسل بكثير من الحماس والاحترام لكي ما يكون لديهم شيء من التبصر ويتجنبوا العواقب الوخيمة التي سوف تقع عليهم.

إنه اِلتمس أن يرسل لعازر إلى بيت أبيه حيث المكان والساحة التي مارس فيها لعازر الفضائل، فكأنه يقول “اِجعلهم يرونه وهو مكلل بالنصرة”. الذين رأوه وهو يجاهد، شهود فقره وجوعه ومتاعبه العديدة، دعهم يصبحون هم شهود تكريمه وتحوُّله لكل هذا المجد، وهكذا بما أنهم قد تعلموا وأدركوا من كلاً من هاتين الحالتين أن أحوالنا لا تقف عند حد هذه الحياة، فربما يعدون أنفسهم لكي ما يستطيعوا أن ينجوا من عقاب وعذاب الآخرة. وهكذا ماذا كان رد إبراهيم؟ قال: “عندهم موسى والأنبياءُ. ليسمعوا منهم”(8). فإنك لا تهتم بإخوتك بقدر ما يهتم بهم الله، فلقد أقام عديد من المعلمين (الأنبياء) ليعلموهم وينصحوهم ويذكرونهم. فماذا كان رد الرجل الغني؟ قال: “لا يا أبي إبراهيم. بل إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون”(9). إن هذا ما يقوله معظم الناس. الآن أين هم الذين يقولون “من يأتي من العالم الآخر؟” “من يبعث من الموت”، من يخبرنا عما يحدث في الجحيم؟”

كم من مِثل هذه الأسئلة كثير ما تسائلها الرجل الغنى في نفسه عندما كان يعيش متنعمًا؟ أنه ببساطة لن يتساءل حتى عمن بعث من الموت؟ فإنه عندما كان يسمع أقوال الكتاب المقدس كان يتعامل معها بازدراء ويسخر منها ويعتبرها مجرد قصص، لهذا فإنه من واقع خبرته الشخصية مع نفسه قد كوّن رأي عن إخوته، فقال: “إنهم أيضًا” يظنون نفس الظنون (يفكرون بنفس الطريقة)، ولكن إن ذهب إليهم أحد الأموات فإنهم لن يُكذبوه ولن يسخروا منه ولكنهم سوف يعيرون لكلامه الانتباه. ولكن بماذا رد إبراهيم؟ “إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياءِ ولا إن قام واحد من الأموات يصدّقون”(10). ولقد أثبت اليهود صحة هذا، فإن من لا يستمع للكتاب المقدس لن يستمع حتى للذين يُبعثون من الموت. وإذ أنهم لم يستمعوا لموسى والأنبياء، فإنهم لم يصدقوا أيضًا عندما رأوا بعض الموتى قد قاموا. وعلاوة على ذلك، فإنهم في وقت ما حاولوا قتل لعازر “فتشاور رؤساء الكهنة ليقتلوا لعازر أيضًا”(11).

وفي وقت آخر اعتدوا على الرسل، مع أن كثيرون من الموتى قد قاموا ساعة تسليم الروح على الصليب، “والقبور تفتَّحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين”(12). ولكي ما نتعلم سبب آخر كيف أن التعلم من الأنبياء هو أكثر أهمية وأكثر مصداقية من كل ما قد يخبر به هؤلاء الذين يبعثون من الموت. ولنأخذ في عين الاعتبار أن كل شخص ميت ما هو إلا خادم، ولكن كل ما يقوله الكتاب المقدس إنما هو قول الرب، لهذا حتى وإن قام أحد الأموات، أو حتى نزل ملاك من السماء، فإن الكتاب المقدس هو الأجدر بالتصديق أكثر من أي منهما، إذ أن رب الملائكة، وإله الأموات والأحياء، هو بذاته الذي أعطى للكتاب المقدس مصداقيته وسلطانه.

 بجانب ذلك وإضافة لما ذكرناه، إننا نستطيع أن نثبت بالمقارنة لما يحدث من أحكام (قوانين) المحاكم في هذا العالم، إن هؤلاء الذين يطلبون أن يأتي الأموات من العالم الآخر فإنما هم يطلبون شيء لا لزوم له. إن الجحيم لا يتضح لعديمي الإيمان، ولكنه واضح وجليّ للمؤمنين، ولا يزال غير واضح لغير المؤمنين. إن أحكام المحاكم واضحة، ونحن نسمع كل يوم عن أن هناك من عُوقب، وآخر صودرت أملاكه، وآخرون حُكم عليهم بالعمل في المناجم، وآخرون قد أُحرقوا حتى الموت، وآخرون أُهلكوا بأنواع أخرى من العقوبات والعذابات. ومع ذلك وبالرغم من أن الأشرار والأثمة والمشعوَذين قد سمعوا عن هذه العقوبات فإنهم لم يرتدعوا.

ما أريد قوله هو أن هؤلاء الذين لم يختبروا فعلاً هذه العقوبات لم يعودوا إلى طريق الصواب. وفي الواقع وعجبًا فإن كثيرون من الذين قبض عليهم وأَفلتوا، والذين استطاعوا أن يهربوا من السجن قد عادوا ثانية لنفس أسلوب حياتهم، وربما ارتكبوا جرائم أكثر من قبل. لهذا دعونا لا نطلب أن نسمع من الأموات، لأن ما يعلمنا إيّاه الكتاب المقدس ينيرنا كل يوم أكثر وأكثر. لأن لو علم الله أن من يقومون من الأموات يستطيعون أن يساعدوا الأحياء، وهو الذي قد صنع كل شيء من أجل منفعتنا، ما كان ليغفل أو يهمل مثل هذه الفائدة لنا. علاوة على ذلك، لو أن الأموات أصبحوا يُبعثون من الموت باستمرار ويخبرونا عن كل شيء في العالم الآخر، فسيأتي وقت نصبح فيه لا نلقي بالاً حتى لهذا.

بالإضافة إلى ذلك فإن إبليس سوف يُدخل تعاليمه الشريرة بكل سهولة، وقد يظهر أشباح (شياطين)، وقد يستطيع حتى أن يُعد أشباح تتظاهر بالموت والدفن، ثم يظهرها مرة أخرى وقد قامت من الموت، وعن طريقها يجعل كل ما يريده موثوق به ويمكن تصديقه في عقول هؤلاء الذين انخدعوا.

ومع أي شيء من هذا لم يحدث، فإن الأحلام التي يظهر فيها بشبه الذين رحلوا عادة ما تضلل وتخدع كثير من الناس، وسيضلهم هذا أكثر لو أن هذا حدث واقتنعت به عقول الناس. فلو عاد الكثير من الراحلون ثانية، فإن الشياطين الشريرة سوف تحيك العديد من الخدع لكي ما تدخل الأكاذيب في حياتنا، لهذا السبب إن الله قد أغلق الأبواب ولم يسمح لأي أحد من الراحلين أن يعود ويخبر بما يحدث في الآخرة، خشيه أن يتخذ الشيطان هذا كنقطة بداية لإدخال تعاليمه. فعندما كان يوجد الأنبياء أقام هو أنبياء كذبة، وعندما وجد الرسل أقام هو رسل كذبة، وعندما ظهر المسيح أقام هو مسيح كاذب. وعندما نوديَ بالتعاليم الصحيحة أدخل هو التعاليم الفاسدة، وبذر الزوان في كل مكان(13). لذلك فلو أن هذا قد حدث فإنه كان سيحاول أن يحاكيه أيضًا بواسطة حيله، وليس بإقامة الموتى حقيقة، ولكن بخداع النظر للناظرين بأنواع من خدعه السحرية والصور المضللة للبصر، أو كما ذكرنا من قبل يرتب بطريقة ما لبعض الناس أن يدعوا الموت، وبهذا يقلب كل شيء رأسًا على عقب مسببًا تشويه كُلّي.

لكن الله وهو يعلم كل هذه الأشياء بسابق علمه قد منع هذه الهجمة، ولكي يجنبنا هذا فإنه لم يسمح لأي أحد أن يأتي من العالم الآخر ويتحدث بما هناك للأحياء. وبهذه الطريقة يعلمنا أن نعتبر أن الكتاب المقدس هو الأجدر بالثقة من كل هذا. إذ أنه أرانا الأعمال التي هي أكثر إقناعًا بكثير من بعث الموتى. فقد هدى العالم كله مبغضًا الشر مدخلاً الحق، وقد فعل كل هذا بصيادي سمك بسطاء، ومنحنا في كل مكان أدلة كافية على عنايته الإلهية. لذلك ليتنا لا نعتقد أن شئوننا تنتهي مع هذه الحياة الحالية، ولكننا نثق أنه سيكون هناك يوم للحساب والمجازاة عن كل ما يحدث هنا بيننا. وهذا واضح وجليّ لكل الناس حتى لليهود والوثنيون والهراطقة وكل نفس بشريه تقر بذلك. ولو أنه في الواقع ليس الجميع مُدْركين موضوع بعث الموتى بطريقة صحيحة، ولكن الكل متفق على موضوع الحساب والثواب والعقاب، وعلى المحاكمة في العالم الآخر، وأن هناك مجازاة في الآخرة لما فُعِل هنا.

ولو كان الأمر ليس كذلك فلماذا أقام السموات العظيمة، وبسط الأرض تحتها، ومدَّ البحار، وجعل الهواء يتدفق، مبرهنًا على العناية الإلهية عازمًا على حمايتنا حتى النهاية؟ ألا ترى الكثيرون ممن رحلوا بعد حياة حافلة بالتقوى وتحمل الضيقات دون أن ينالوا أي من الأشياء الجيدة التي يستحقونها. ومن ناحية أخرى آخرون يرحلون بعدما يرتكبون الشرور ويسرقون أشياء الآخرين ويسلبون ويظلمون الأرامل والأيتام ويستمتعون بالثراء والرفاهية وأشياء عديدة جيدة بدون أن يعانوا حتى من المتاعب العادية. لذلك فمتى كان الناس من النوع الأول سوف يتلقون جزاء تقواهم، والناس من النوع الآخر سوف يعاقبون على شرورهم. لو أن شئوننا تقتصر فقط على حياتنا الحالية، كل شخص سوف يقول: لو أن الله موجود (وهو بالحقيقة موجود) فإنه عادل، ونقر جميعًا على أنه عادل، لذا فإنه سيجازي الجميع كل حسب ما يستحقه، سيجازي الأبرار والأشرار حسب استحقاقهم، ولكن في هذه الحياة الحالية لن يتلقى أي منهما ما يستحقه، فلا عقوبة لهؤلاء الأشرار على شرورهم، ولا مكافأة للأبرار على برهم. ومن هنا يتضح أن هناك وقت آخر فيه سوف ينال كل منهم الجزاء المناسب.

لماذا يرتبط الله في أذهاننا بشيء دائم اليقظة والتعقل، أعني به الضمير؟ وليس هناك قاضي البتة يحكم بين الناس أكثر يقظة كضميرنا. فإن القضاة الخارجيون يمكن أن يفسدهم المال، أو أن يتأثروا بالتملق، أو بدافع الخوف يصدرون أحكام خاطئة ومزورة، وعوامل أخرى كثيرة تفسد قراراتهم الصحيحة. ولكن محكمة الضمير لا تخضع لأي من هذه المؤثرات سواء رشوة أو تملق أو تهديد، فهذه المحكمة تصدر حكمًا عادلاً على نوازعك الآثمة.

فالذي يقترف خطيئة سيدين نفسه بنفسه حتى ولو لم يتهمه أحد ولا يفعل ذلك مرة أو مرتين ولكن دائمًا وباستمرار طوال حياته كلها. وحتى لو مر وقت طويل فإن الضمير لا ينسى أبدًا ما حدث، ولكن حتى أثناء ارتكاب الخطأ وقبل وبعد ارتكابه فإن الضمير يقف أمامنا يتهمنا بقوة، كمدعي قوي عنيف وخاصة بعد ارتكاب الخطأ، إذ أنه أثناء ارتكاب الخطيئة نكون في غير كامل إدراكنا لأننا نكون مخمورين بنشوة المتعة، ولكن بعد فعلها ونهايتها وخاصة بعد أن تخمد وتنطفئ المتعة، عندئذ يأتي الوخز ومرارة الندم، وهذا تمامًا عكس المرأة وهي في المخاض فقبل الولادة تعب كثير غير محتمل وآلام مبرحة تعذبها ومعاناة، ولكن بعد الولادة تأتي الراحة عندما يولد الطفل بعد هذا العناء، ولكن في حاله الخطيئة فالأمر مختلف، فبينما نحمل ونتمخض بالرغبات الفاسدة فإننا ننهل من المتعة والاستمتاع، ولكن إذا ما ولدنا طفل الخطية – خطيتنا – فإننا نعاني من رؤية هذا النتاج المخجل (ذريتنا المخجلة). عندئذ نتعذب ونتوجع أكثر من عذاب المرأة في المخاض.

لهذا السبب فإنني أتوسل إليكم ألا نتقبل الرغبات الفاسدة من لحظات بدايتها، ولو تقبلناها يجب أن نقمع بذورها داخلنا، ولكن إن كنا نتراخى إلى الحد الذي تنطلق فيه الرغبات الخاطئة إلى الفعل، فإننا يجب أن نقتلها بالاعتراف والدموع وتبكيت نفوسنا، فلا شيء يُميت الخطية مثل اتهامنا وإدانتنا لأنفسنا بالتوبة والدموع.

هل تدين نفسك؟ أنك بذلك تطرح عنك حمل ثقيل، الذي يقول ذلك هو الله بذاته الذي يحاكمنا: “ذَكِّرني فنتحاكم معًا. حدِّث لكي تتبرَّر”(14). قل لي لماذا تخجل أو تستحي من الاعتراف بخطاياك؟ أنك لا تتحدث إلى شخص بشري، لأنك لو تحدثت إلى شخص بشري أليس من الجائز أن يؤنبك؟ وإن اعترفت لتابعك أليس من الممكن أن يفضحك بكشف شرك؟ لا، ولكن الأصح أن تعترف للسيد الرب فهو يحميك ويساندك، فهو الطبيب المتخصص تُريه جراحك وهو ليس بغافل، أو غير مبالي، أليس هو عالم بكل شيء قبل أن يحدث حتى ولو لم تعترف به؟ لذلك لماذا لا تعترف؟ إن الخطية لن تصبح أكثر ثقلاً مما هي بإدانتك لنفسك، أهل إدانتك لنفسك ستجعل الخطيئة أكثر ثقلاً؟ على العكس فإنها ستصبح أسهل وأخف.

لهذا السبب هو يريدك أن تعترف ليس من أجل أن يعاقبك ولكن لكي يسامحك ويغفر لك، وليس من أجل أن يعرف خطاياك – كيف هذا وهو العالم بكل شيء فعلاً – ولكن لكي تعلم مدى كبر حجم الدين الذي يسامحك فيه، فإنك لو لم تعترف بكبر حجم ديونك لن تكتشف مدى كثرة فيض نعمته عليك. وهو يقول لنا أنا لا أرغمك أن تأتي إلى وسط ساحة مسرح أو مكان به شهود كثيرون يحيطون بك، ولكن حدثني بخطاياك في السر، وبهذا أستطيع أن أداوي جراحك وأريحك من آلامك، ولهذا السبب فإنه وضع فينا ضميرًا محبًا أكثر من حب الأب لأبنائه. إذ أن الأب قد يُعنِّف ابنه مرة أو اثنين أو ثلاثة أو حتى عشرات المرات، ولكنه عندما يرى ابنه مازال مستمرًا في الخطأ فإنه ييأس منه ويحرمه من الميراث، ويطرده من منزل الأسرة ويبعده عن العائلة. ولكن الضمير لا يفعل ذلك، فهو يبكتك مرة واثنين وثلاثة ومرات لا تحصى ولا تعد، وأنت لا تعيره انتباهًا، وهو لن يكف عن تبكيتك ثانية، ولن يتوقف حتى النفس الأخير، في المنزل، في الشارع، على المائدة، في الأسواق، في الطريق، حتى في أحلامنا العادية يواجهنا بصور ومناظر خطايانا.

تأمل حكمة الله كيف أنه لم يجعل تبكيت ضمائرنا مستمر – فما كنا سنتحمل ثقل عبء التأنيب المستمر – ولا جعله ضعيفًا بحيث يستسلم ويكف بعد مرة أو مرتين من النصح والتحذير. فلو أنه يظل ينخسنا كل يوم وكل ساعة كانت عزيمتنا ستثبط، ولو أنه يكف عن تأنيبنا بعد مرة أو مرتين من التأنيب ما كنا نجني أي فائدة. لهذا السبب جعل هذا التأنيب على فترات ولكنه ليس مستمر، بل على فترات بحيث لا نسقط في عدم المبالاة ولكي نظل دائمًا متمسكين بالرزانة واليقظة حتى النهاية. وليس باستمرار أو على فترات متقاربة بحيث نفشل، ولكن يتيح لنا أن نسترد أنفاسنا في فترات من الراحة والتعزية. وكما أنه من المهلك لنا ألا نعاني أي ألم بسبب خطايانا، ويتسبب ذلك في تبلد الإحساس إلى حد كبير، فإنه أيضًا من الضار أن نعاني هذا باستمرار وبلا حدود. إن تثبيط العزيمة الزائد عادة يكون له تأثير قوي في أن يخمد أحاسيسنا الفطرية ويطفئ أرواحنا ويجعلنا عديمي الجدوى لأي هدف صالح. لهذا السبب جعل تأنيب الضمير يهاجمنا على فترات، فهو شديد جدًا ووخزه أكثر إيلامًا من وخز المهماز، ليس فقط عندما نخطئ نحن، ولكن حتى عندما يرتكب الآخرون خطايا كخطايانا فإنه يستيقظ بقوه ويصرخ محتجًا علينا بشدة.

إن الفاسق أو الزاني أو اللص ليس فقط عندما يُتَهم هو، ولكن حتى عندما يسمع عن آخرين متهمين بنفس الجرائم، يتخيل نفسه في نفس القصاص عن خطاياه، فيأخذ عبرة من عقاب الآخرين، وآخر قد أدين، ولكن هذا الذي لم يدن يضطرب لأنه تجرأ وفعل نفس خطاياه، وهذا أيضًا في حالة الأعمال الصالحة عندما ينال البعض الثناء والتكريم، فإن هؤلاء الذين فعلوا نفس الأعمال الصالحة يبتهجون ويفرحون متصورين أنفسهم في نفس هذا التكريم. هل تعتقد أن هناك من هو أكثر بؤسًا من هذا الخاطئ الذي عندما يرى آخرين اتهموا يتسلل هاربًا ليختبئ؟ وعلى الجانب الآخر هل هناك من هو أكثر سعادة من الشخص البار عندما يرى أبرارًا آخرين يُكرَّمون؟ فإنه يبتهج ويفرح متذكرًا أفعاله الصالحة في وسط الفرح والتهليل بالآخرين.

هذه هي أعمال حكمة الله، وهذه هي دلائل عنايته العظيمة بنا. إذ أن العقاب هو نوع من اليقظة المقدسة لضمائرنا. الضمير الذي لا يدعنا نخوض إلى عمق الخطية، ليس فقط في وقت الخطية الفعلي، ولكن حتى بعد فوات سنوات عديدة. فإنه غالبًا ما يجد طريقة ليذكرنا بخطايانا القديمة. وسوف أعطيكم أدلة واضحة من الكتاب المقدس، إخوة يوسف عندما باعوه مع أنهم لم يستطيعوا أن يلوموه على شيء سوى أنه رأي أحلامًا تتنبأ بالمجد الذي سيكون عليه. فقد قال: “فها نحن حازمون حًزَمًا في الحقل. وإذا حزمتي قامت وانتصبت فأحاطت حزَمكم وسجدت لحزمتي(15). وفي الحقيقة كان الأجدر بهم أن يحرسوه ويحموه لهذا السبب، إذ أنه كان سيصبح تاج هذه العائلة وفخر كل جنسهم، لكن هذا هو الحسد فإنه يحارب حتى الخير الذي يمكن أن يصيبه هو. إن الشخص الحسود يُفضل أن يعاني متاعب لا حدود لها عن أن يرى جاره في مكانة مرموقة، حتى لو كانت هذه المكانة المرموقة ستعد عليه بالنفع، من هو أكثر سوءًا من هذا الشخص؟ وهذا هو ما أحس به إخوة يوسف عندما رأوه آتيًا من بعيد حاملاً الأكل لهم، قال بعضهم لبعض: “هلمَّ نقتلهُ ونطرحه في أحد الآبار ونقول أن وحش رديء أكلهُ. فنرى ماذا تكون أحلامهُ”(16). إنهم لم يراعوا علاقة الإخوَّة ولا علاقة القرابة، فكانوا على الأقل قدّروا إحضاره الطعام لهم بنفسه، وشخصيته الباذلة والخادمة لهم. ولكن اُنظر كيف أنهم نطقوا بدون وعي “هلمَّ نقتلهُ… فنرى ماذا تكون أحلامهُ”.

ولو أنهم لم يدبروا له هذه المكيدة ويحبكوا له هذه المؤامرة وينفذوا هدفهم المخجل ما كانوا عرفوا قوه أحلامه هذه، وهو نفسه ما كان جديرًا بأن يعتلي عرش مصر بدون هذه المتاعب والمعاناة، حتى يصل إلى هذه المكانة الرفيعة من خلال العديد من العقبات والعوائق، ولو أنهم لم يدبروا هذه المكيدة ضده ما كانوا باعوه لمصر. ولو لم يبيعوه لمصر ما كانت زوجة سيده وقعت في حبه، وما كان أُلقي في السجن، وما كان فسّر أحلام فرعون، وما كان حصل على هذا السلطان الملكي، ولو لم ينال هذا السلطان الملكي ما كان إخوته انحنوا له عندما جاءوا ليشتروا القمح، ولأنهم قد حاولوا قتله فقد أدركوا مدى قوة أحلامه لهذا السبب نفسه.

وماذا بعد ذلك؟ ألم يصبحوا هم أنفسهم العوامل التي أدت إلى كل الأشياء العظيمة والمكانة الرفيعة التي نالها؟

وعلى قدر ما خططوا له من شر ليسلموه للموت، للبيع، للعبودية ولأسوأ مصير، لكن الله المحب، البارع في تدابير الخير استعمل المتآمرين وخططهم الشريرة لبيعه من أجل خيره. هل كان أحد يعتقد أن هذه الأشياء تحدث من خلال بعض المصادفات والظروف المعاكسة(17). وبنفس هؤلاء الرجال الذين حاولوا منعها وإعاقتها أتم الله الأمور التي حاولوا منعها مستخدمًا أعداء يوسف كخدام عاملين لمصلحته.

من هذا نتعلم أن ما دبره الله لا يستطيع أحد أن يبطله “فإن رب القدير قد قضى، فمن يبطل قضاؤه؟ ويدهُ قد امتدت فمن يردُّها؟”(18). لذلك إن تآمر الناس عليك لا تيأس ولا تنزعج، لكن تذكر أن المؤامرات والمكائد تؤدي إلى الخير في النهاية، هذا إذا تحملت كل ما يحدث لك بشكر.

وهكذا ترى أنه حتى في هذا العالم، الحسد يؤدي إلى كرسي الملك، والحقد يقود إلى التاج ويمنح العرش. ونفس الرجال الذين تآمروا ضد يوسف قد دفعوه لأعلى مكانة في المملكة. الضحية يحكم كملك، والمتآمرون يخدمون كعبيد، وها هم يقدمون له كل تبجيل واحترام.

فإذا جاءت عليك المتاعب متوالية بعضها تلو الأخرى فلا تنزعج ولا تقلق، ولكن انتظر للنهاية، فبلا شك النتيجة تستحق الانتظار، وبحسب وفرة غنى الله، وفي الوقت المناسب، هذا إذا تحملت ما حدث لك بشكر. فبالرغم من أن يوسف قد خاض مصاعب كثيرة بعد هذه الأحلام فقد بيع من قبل إخوته، وتهجمت عليه زوجة سيده، وأُلقي به في السجن، ومع ذلك لم يقل لنفسه ما هذا العالم؟ وهذه الأحلام لم تكن إلا أوهام فقد أُبعدت بها عن موطني، وحُرمت من الحرية، ومن أجل الرب لم اَستسلم لزوجة سيدي عندما ألحت عليَّ في فعل الخطية، فهل لأجل أنني سيطرت على نفسي ولأجل صلاحي أعاقب؟ والله لم يحميني ولم يمد يدّ العون لي، وسمح بتسليمي لهذه القيود الثقيلة، وهذه البلايا المتلاحقة. فبعد رميي في الحفرة تأتي العبودية، وبعد العبودية المكائد، وبعد المكائد الاتهام الظالم، وبعد الاتهام الظالم السجن.

لكن لا شيء من كل هذا أقلقه ولكنه استمر بإصرار وصلابة وأمل، عالمًا أن كلمات الله ووعوده لا تسقط أبدًا. وقد كان الله قادرًا أن يفي بكلماته في نفس اليوم، لكن لكي يرينا مقدرته وإيمان أولاده، سمح بمرور وقت طويل من العوائق وحدوث العديد من العقبات، وبهذا تعلم مدى قدرة الله على أن يفي بإعلاناته ووعوده عندما ييأس الناس من تحقيقها. وأنك ترى مدى صبر وإيمان أولاده الذين لا يفقدون آمالهم الطيبة عندما لا يحدث لهم ما يأملون في الوقت المحدد. ومن ناحية ثانية وكما قلت أن إخوة يوسف قد تداعى بهم الحال وساقهم الجوع كما تساق الجنود بغير توان وجعلهم يقفون أمام يوسف عندما أرادوا شراء القمح، ولكن ماذا قال لهم “جواسيس أنتم”(19)، فقالوا لأنفسهم ما هذا؟ أهل خاطرنا بحياتنا عندما جئنا نشتري الطعام؟ حقًا، فعندما أحضر لكم الطعام خاطر بحياته، وقد قاسى هذا فعلاً بينما ما تعانوه أنتم هو فقط في الظاهر، إذ أن يوسف ليس عدوكم ولكنه تظاهر بدور العدو حتى يستطيع معرفة كل شيء بالضبط عن عائلته، لأنهم كانوا قد أصبحوا أشرار وقساة القلب تجاهه، وعندما لم يرى بنيامين معهم خاف أن يكون الطفل قد قاسى مثلما قاسى هو، لذلك أمرهم أن يبقى أحدهم رهينة بينما يأخذ بقيتهم القمح ويرحلون. وهددهم بالموت إن لم يعودوا بأخيهم(20). لذلك عندما حدث ذلك وقال لهم “إن كنتم أُمَناءَ فليُحبَس أخ واحد منكم في بيت حبسكم وانطلقوا أنتم وخذوا قمحًا لمجاعة بيوتكم. وأَحضروا أخاكم الصغير إليَّ. فيتحقَّق كلامكم ولا تموتوا.” فماذا قالوا بعضهم لبعض “حقَّا إننا مذنبون إلى أخينا الذي رأَينا ضيقة نفسهِ لمَّا استرحَمنا ولم نسمع”(21). أهل رأيتم، بعد كل هذا الوقت تذكروا خطيتهم؟ وقالوا لأبيهم “وحش رديء أكلهُ. افتُرِس يوسف افتراسًا”(22)، وقد كان يوسف حاضرًا يتصنَّت عليهم واستمع لتأنيبهم لأنفسهم على إثمهم.

هل هناك ما هو غير متوقع أكثر من هذا؟ اللقاء في السجن بغير محاكمة، دفاع بدون اتهام، أدلة بغير شهود، ونفس هؤلاء الرجال الذين فعلوا فعلتهم يَستجوبون أنفسهم ويكشفوا عما فعلوه في السرّ، من الذي دفعهم، من الذي أجبرهم ليعلنوا عن أفعالهم التي فعلوها منذ زمن بعيد؟ أليس من الواضح أنه الضمير؟ القاضي الذي لا يمكن خداعه، وباستمرار يهز مشاعرهم ويزعج نفوسهم؟ الضحية يجلس في سكون يحاكمهم، وهم أنفسهم يقرُّون بما فعلوا ويدينون أنفسهم بدون التذرع بأي مبرر لما فعلوه مقرين به. ولكن هناك من يدافع عن نفسه عندما قال: “ألم أكلمكم قائلاً لا تأثموا بالولد وأنتم لم تسمعوا. فهوذا دمهُ يُطلَب”(23) وفي الحقيقة فقد كان هو الذي قال لهم ألاّ يسفكوا دمه أو يقتلوه.

وعندما جلس يوسف لم يسألهم شيء عن فعلتهم، ولكن سأل عن سلامة أخوه الآخر. واِنتهز ضميرهم الفرصة واِستيقظ وجعلهم يعترفون بأفعالهم الطائشة وبدون أي إكراه. وفي أحيان كثيرة نمر بنفس هذه التجربة عندما تكون أخطائنا أصبحت في الماضي، فإذا ما ابتلينا وجُرِّبنا بظروف صعبة نتذكر خطايانا السابقة. لذلك وبعد معرفتنا بكل ذلك فإننا إذا ما اقترفنا بعض الآثام ليتنا لا ننتظر حتى تأتي أي متاعب أو مصاعب أو أخطار أو قيود، ولكن في كل ساعة وكل يوم نُقيم هذه المحكمة داخلنا ونرجح فيها صوت الاتهام، وأن نحاول بكل طريقة أن يكون لدينا ما ندافع به أمام الله.

ليتنا لا نجادل ونشك في موضوع قيامة الأموات ومحاسبتهم، ولا أن نقبل سماع الآخرين يتكلمون بهذا، وإنما نسكتهم بكل طريقة بهذه الحقائق، فإننا إن كنا لن نخضع للعقاب على خطايانا في الآخرة، ما كان الله قد أقام هذه المحكمة بداخلنا هنا، ولكن هذا أيضًا دليل على حبه لجنس البشر. ولأنه سيطلب منّا في الآخرة حساب عن خطايانا فقد أقام في داخلنا هذا القاضي المنزه ومحاكمتنا هنا عن آثامنا ستقودنا للأفضل. وهذا القاضي من الجائز أن ينقذنا من الحساب الآتي، وهذا ما قاله بولس أيضًا “فلو كنا حكمنا على نفوسنا لَمَا حُكِم علينا”(24). وحتى لا نجازى ونخضع للعقاب في الآخرة، فليدخل كل فرد فينا إلى داخل ضميره، ويبسط أمامه قصة حياته، ويفحص بدقه كل خطاياه، مدينًا نفسه التي ارتكبت هذه الأعمال، فيضبط نوازعه، ويقوِّم ويشدد أفكاره، ويجازي كل واحد نفسه عن خطاياه بضميره هو، بالتوبة الكاملة والدموع والاعتراف، بالصوم والصدقات بالإرادة وضبط النفس والمحبة. فبهذا وبكل وسيلة نستطيعها نطرح كل خطايانا في هذا العالم، وننتقل إلى العالم الآخر مملوئين بالإيمان. اجعلنا مستحقين بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له مع الآب والروح القدس المجد إلى أبد الآبدين آمين.


(1) بابيلاس: أسقف أنطاكية، استشهد في عهد ديسيوس، يُعيد له في 24 يناير –القديس جوفينوس ومكسيمندس استشهدا في عهد جوليان.

(2) لو26:16

(3) مز7:49

(4) مت25

(5) مت12:22

(6) مت23:18-34

(7) لو27:16، 28

(8) لو29:16

(9) لو30:16

(10) لو31:16

(11) يو10:12

(12) مت52:27

(13) غلا8:1

(14) إش26:43

(15) تك7:37

(16) تك20:37

(17) كما في التراجيديات الإغريقية الكلاسيكية.

(18) إش27:14

(19) تك9:42

(20) تك19:42، 20

(21) تك21:42

(22) تك32:37

(23) تك22:42

(24) 1كو31:11

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى