إذا كنا اخترنا هذا العنوان، بصيغته القائمة، فليس كي نقول أن المرأة الشماسة هي التي ستصيح كاهنة فيما بعد. فالكلام عن شموسية المرأة لا ينسحب على كهنوتها، وعلى إمكانيته على الأقل، لأن الأمرين، مختلفان اختلافاً جذري، كما سنرى تباعاً.
وعليه، يستحيل بيسر وسهولة، تشخيص الشموسية عبر تاريخ الكنيسة الطويل، وذلك لأن المراجع التي تتناول الموضوع بالقدر المرجو من الشمول، تبنّت، في الواقع، أكثر من ممارسة، وقامت على غير معيار واعتبار. فضلاً عن ذلك، فإن الشموسية كانت معروفة في الشرق، أما في الغرب، فلم تكن لتحظى بالقدر اللائق من الاهتمام (*1)
ونلاحظ لدى مطالعة التاريخ الكنسي، أن نظام الشموسية قديم، فهو يرقى إلى زمان العهد الجديد. ولنا خير مثال على ذلك، ما أورده القديس بولس عن فيبي شماسة كنخري، والذي سنتوقف عنده بشيء من التفصيل والتدقيق.
وكلام بولس عن شماسة في كنيسة كنخريا (رو16: 1-2)، هو أمر استوقف العلماء، وفيه كتب الكثيرون، وعلى نحو تباينت معه الآراء والتوجهات. فثمة فئة رأت شموسية المرأة على أساس (رو16: 1-2) أمراً واجب، وذلك استناداً إلى العهد الجديد على أساس فيبي بالذات، بينما راحت فئة أخرى ترفض شموسية النساء بحجة أم فيبي لم تكن شماسة بالمعنى الليتورجي الأسراري المعروف. وفئة أخرى رأت في الشماسات مجرد معاونات للكهنة، لا صلة لهن بالعبادة وإقامة الأسرار. بينما فئة أخرى، خطت لنفسها خطاً مبايناً استناداً إلى اللفظة بحد ذاتها، ترى هل عرفت الكنيسة امرأة شماسة في تاريخها الطويل؟
يذكر العلامة أوريجنس في معرض تفسيره لرسالة رومية (16: 1-2)، أن الرسول الالهي بولس يعلمنا من خلال السلطان الرسولي المعطى له، أنه يمكن للمرأة أن تكون شماسة في الكنيسة. وأردف أوريجنس نفسه يقول: “أنا نفسي مستعد أن أقرن بين فيبي ولوط الذي كان يضيف الغرباء، وقد استضاف بعمله هذا الملائكة أنفسهم”.
غير أن عقدة كأداء ترتسم أمامنا في الواقع اذا أخذنا بموقف اوريجنس، فنحن إذا قبلنا أنه بإمكان المرأة أن تكون شماسة بكل ما في اللفظة من معنى، عندها يبرز التساؤل العفوي: وما الذي يعيق ارتقاء المرأة الشماسة إلى السدة الكهنوتية؟ بكلام آخر، ألا يكون نموذج فيبي حافزاً إلى القول أن في الكتاب المقدس ما يدعو إلى كهنوت المرأة؟، إذا كان من مهام المرأة أن تعطي الحياة، وتدير شؤون المنزل بما يستتبع ذلك من الاضطلاع بالشأن التربوي العام، فما الذي يعيق دورها الجليل هذا من أن ينسحب على نطاق الرعاية أيضاً؟ إذ ما الفرق بين رعاية الأسرة من جهة، ورعاية عامة الناس من جهة ثانية؟ وإذا كان بإمكان المرأة أن تكون كاهنة، فهذا يستتبع منطقياً امكانية ان تُرقّى إلى السدّة الأسقفية وهذا يجعل الطرح شائكاً ومعقداً.
ما نعرفه في الواقع، ومن خلال مقاربة التاريخ المسيحي أن هناك شكلاً واحداً فقط اقترنت به خدمة النساء في الكنيسة، أعني به الشموسية. طبعاً في الوقت نفسه، لا نعرف المرأة من الوجهة الأرثوذكسية إلا أمّ وراهبة. أي أنها إما تكون في العائلة، أو في الدير. ترى ماذا كُتب بصدد فيبي شماسة كنخريا التي يدور حولها لغط كثير؟
يختلف الرأي في أوساط اللاهوتيين حول هوية ودور الشماسة فيبي، لا سيما وأن فئة من اللاهوتيين ترى هذه الشماسة في مصاف العلمانيات، ومنهم من رآها معادلة للشماس في الخدمة والكرامة. وهذا يعني إذا قبلنا بشرعية المرأة الشماسة، أن شموسية المرأة أمر شرعي، أعني بذلك، هذه الشموسية هي شرطونية من جهة، إلا أنها في الوقت نفسه مباينة لشموسية الرجل، التي ترقى في العادة إلى الكهنوت.
وعليه، يتفق اللاهوتيون الأرثوذكس أن الفارق كبير بين الشموسية الأنثوية والكهنوت، كذلك فإن الجميع متفقون أن الشماس والشماسة لا يقيمان الذبيحة، ولا يباركان الناس، وبرهان ذلك ترتيب جناز الشماس هو ما يجري على كافة العلمانيين. من هذه الزاوية فإن وجود الشماسة ليس حافزاً على التفكير بإمكانية ارتقائها إلى السدة الكهنوتية.
قلنا أن الالهي بولس يذكر في رسالته إلى أهل رومية الشماسة العظيمة فيبي، ويسميها صراحة “الشماسة” (رومية16: 1). بيد أن العهد الجديد لا يقدم خارج هذه الآية أية معلومة تفصيلية عن وظائف الشماسات. لذا ينبغي أن نحتكم على تاريخ الكنيسة، ومقررات المجامع المسكونية والمحلية، بآن، كي تُستكمل الصورة، فنصل إلى الجواب.
بمقررات المجامع المسكونية والمحلية، لا سيما قانون 11 من مجمع اللاذقية، ثمة تلميحات وعلامات، علّها تُفيدنا، فلنتوقف عندها: “لا مجال كي يكون هناك شيخات ورئيسات في الكنيسة”.
هذا القانون لا يقدم لنا خلفية واضحة عن مسألة شموسية المرأة، وبالتالي فهو نص مربك ومحير، لا بل هو أكثر لغزية وإبهاماً من مجمع اللاذقية نفسه الذي لا نعرف كثيراً عن تاريخ انعقاده وعضوية المشاركين فيه. جلّ ما في الأمر، أن معلوماتنا تفترض أن هذا المجمع انعقد في النصف الثاني من القرن الرابع. لكن هذا لا يكفي كي تستنفد الصعوبات والتحديات التي تبرز أمامنا كل حين، لا سيما اليوم. والسبب أنه ليس هناك نص كامل لقوانين هذا المجمع، لذا علينا بجهد توفيقي من خلاله نبلور لذواتنا الجواب الأخير، وعلى قدر ما تسمح به المعطيات المتوفرة حول هذا المجمع. تُرى إلى ما يشير القانون 11 من المجمع المذكور؟ وما هي الرسالة التي ينبغي أن نضطلع بها من جرّاء تعرفنا على مناخ المجمع ومقرراته؟ وبالتالي من هنّ الشيخات والرئيسات اللواتي اشار إليهن المجمع؟
في الحقيقة لم يتفق اللاهوتيون والقانونيون على جواب واحد بهذا الصدد، وذلك أن المصادر المعتمدة لإثبات وجود شيخات presbytides على نحو ما يذكر القانون 11، غير متوفرة إلا في هذا القانون. جلّ ما نعرفه أن هناك شيخات أُنيطات بهن مهمة ورسالة.
هن وعلى هذا الصعيد، وفي هذا السياق، يقول القانوني الشهير زوناراس، وفي هذا الصدد بالذات: “إن عند القدماء عدداً من العادات، ربما هي قابلة للتغيير على مرّ الأيام”. وتفسير كلام زوناراس هو أن مثل هذه العادات، تسقط مع التداول والاستعمال على مرّ الأيام، أي أنها تصبح طيّ النسيان بفعل قوانين أكثر حداثة تحل محلها. وإحدى هذه العادات –في نظره- تعيين شيخات ورئيسات كاهنات كانت مهمتهن مراقبة النسوة اللواتي كن يدخلن الكنيسة، فكن يرشدهن إلى مكان الجلوس والوقوف. ومع ذلك، فالقانون 11 من مجمع اللاذقية لا يتناول النسوة بمهمة كهنوتية محددة”.
وما نعرفه، من الناحية الثانية، وعن كهنوت المرأة في الكنيسة الأولى، من شأنه أن يساعدنا كي نخرج من عمق الزجاجة إلى فرضية جديدة: ألا يعقل مثلاً أن الأرامل في الكنيسة الأولى، هن اللواتي أشار إليهن القانون المذكور؟ وكي ندعم هذه الفرضية يمكننا أن نحتكم إلى ما كتبه الأسقف أبيفانيوس القبرصي في كتابه Panarion، حيث يقول: “و الأكبر بين الأرامل كن يدعون شيخات وكاهنات presbytides”.
والجديد بالذكر أن الأسقف القديس المذكور، وضع هذه الكلمات في سياق تعليقه على بدعة الكولليريديين (Collyridians)، وذلك كي يؤكد لأتباع هذه البدعة أن الكنيسة لم تشرطن يوماً كاهنات وشماسات (راجع كتابه المذكور 79: 4). في الحقيقة ليس عندنا معلومات متضاربة ومتناقضة تدعونا إلى الشك والطعن بكلمات الأسقف أبيفانيوس، رغم أن طابعها العام دفاعي polemis. ونحن أيضاً نردد أن الكنيسة عرفت شيخات، ومع ذلك لم تعرف يوماً امرأة كاهنة بالمعنى الليتورجي الأسراري للكلمة.
وفي وثيقة سريانية من القرن الخامس عنوانها “عهد ربنا يسوع المسيح” “I.E.Rahmani”، يأتي الكاتب على ذكر شيخات دون أن يحدد طبيعة المهمة التي أُوكلت لهن، ودون أن يذكر تفاصيل من شأنها أن تميط اللثام عن هذه الوظيفة الغامضة. المهم أن الكاتب لا يأتي على ذكر الشيخات عندما يستعرص خدام الهيكل، وعندما يتكلم عن المناولة، الأمر الذي يدعونا إلى التفكير أن الشيخات المذكورات هن في مصاف الأرامل ولم يكن يوماً في خدمة ليتورجية تقديسية. ما معنى هذا؟
هذا يعني أن لقب شيخة، كان في القديم يُعطى للأرملة التي يفترض أنها كانت تعيش في الفضيلة والورع بعد وفاة رجلها. ولهذا السبب بالذات يُكرم العظيم بولس النسوة اللواتي تجاوزن الستين(30) وهن ممسكات بالورع والفضيلة. ومع ذلك فإننا لا نجد في أي من المخطوطات ما يشير إلى رئيسة وكاهنة بالمعنى الليتورجي. باختصار، الكلام عن كهنوت نسائي في الألف الأولى للميلاد لا أساس له، فالأرامل والكاهنات حقيقتان لا تتطابقان. ودعماً لذلك، نلاحظ، ومن الدساتير الرسولية بالذات، إن عبارة شيخة تشير فقط إلى امرأة طاعنة في السن (تيطس2: 3-5).
إن مفتاح اللغز القابع وراء القانون 11 من مجمع اللاذقية المحلي المذكور، ليس موجوداً في المجمع ذاته، لذا علينا التفتيش في موضع أخر لفك رموزه وغوامضه. وعليه، إذا طالعنا وتوغلنا في تاريخ الليتورجيا نجد أن الاجتماع الأفخارستي كان على الشكل التالي: في الوسط كان هناك عرش الأسقف يحيط به عن اليسار واليمين الكهنة جلوس، والشمامسة وقوف، بينما يقف العلمانيون في موضع على حدة. في هذا التوزيع ليس من ذكر للكاهنات، الأمر الذي يدعو حقيقة إلى الاستغراب، فكتاب دساتير الرسل، والدساتير الرسولية ينبغي أن يأتي ولو باقتضاب على ذكر الكاهنات. والأمر الذي يسهم في بعض الايضاح، هو أن المرأة، غير المذكورة في الترتيب الليتورجي، هي حكماً مقصاة من الكهنوت، وعلى الأقل، هذه هي الصورة في العصر الرسولي.
ثم إننا عندما نطالع كتاب (هرماس الراعي) تعريب المثلث الرحمات البطريرك الياس الرابع، نلاحظ أن الكاتب ينتقد الأنبياء الذين كانوا يتخذون أولى المتكأت في الاجتماع الأفخارستي..
وهرماس نفسه أبى الجلوس في أول المتكأت، وبالتالي، فأن في كتاب هرماس ما يدعو إلى عدم اضطلاع المرأة بدور ليتورجي أسراري، الأمر الذي يميط اللثام والغموض ولو قليلاً عن القانون (11) من مجمع اللاذقية المذكور، وبالتالي لا يشير إلى كاهنات. ولو كانت المرأة قادرة وعُرف أنه بإمكانها أن ترقي إلى سدة الكهنوت، عندها لا بد أن نجد تلميحاً ولو ضئيلاً إلى ذلك في كتابات ذلك الزمان، تلميحاً ولو مقتضب، لاسيما في العلاقات بيت الكنائس المتجاورة والتي لا تقدم لنا شيئاً على هذا الصعيد(31).
وعندما نطالع أعمال مجمع خلقيدونية، لا سيما القانون (15)، نجده يقول ما يلي: “لا تنل امرأة وضع اليد كشماسة وهي دون الأربعين، وهذا يكون بعد اجراء فحص دقيق. أما إذا احتقرت نعمة الله بعد حصولها على وضع اليد عليها… فسلمت نفسها للزواج، فلتبسل هي والرجل الذي اتحد بها”. ترى كيف تكون شماسة بالمعنى الاكليريكي، إذا كان هناك شرط (سن الأربعين)، بينما المعلومات التي بين أيدينا تفيد أن المرشح للكهنوت هو في الثلاثين، أما المرشح للشموسية فهو انسان قد بلغ الخامسة والعشرين؟ كيف يرفع التناقض؟
نجد في القانونين (14) و(40) من المجمع الخامس-السادس (in trullo) شرط سن الاربعين، الذي كان قبلاً ستين فالقانون (40) من المجمع المذكور، يرى أن المسيحيين تقدموا أخلاقياً، فالأمر الذي أوجب التعديل من “60” إلى “40”. وإذا طالعنا القانون (12) من مجمع قرطاجة الرابع، فإننا نجد فيه ذكراً لوظائف الشماسة، فلنسمع: “إن الأرامل والنساء المكرسات اللواتي انتُقين للمساعدة في معمودية النساء، يجب تثقيفهن في عملهن كي يكنّ قادرات على تعليم النساء الغبيات والريفيات بكفاءة وصواب كيف يُجبن أثناء المعمودية، على الأسئلة المطروحة عليهن، وكيف يعشن بعد أن يكن قد اعتمدن”.
من الواضح أن المعطيات التي بين أيدينا لا تتوجه نحو كهانة المرأة، كما ولا تنظر إليها كخادمة للأسرار التقديسية، الأمر الذي يذكره القديس أبيفانيوس القبرصي في “الهرطقات71-الفصل3”.
فضلاً عن ذلك يقول كتاب “الدساتير الرسولية”: “وقّر الشماسة كأنها الروح القدس، ولا تدعها تفعل شيئاً بدون الشماس. كذلك لا تدع أية امرأة تتوجه إلى الشماس، وإلى الأسقف بدون الشماسة” (الفصل2: 26). ويذكر الكتاب نفسه في موضع آخر: “على الشماسات أن يوزّعن الاحسان على الأرامل…” (الفصل3: 63)، وأيضاً: “دع الشماسات يقفن على مداخل الكنائس وذلك لتنظيم جلوس النساء في الكنيسة” (الفصل2: 57)، و(الفصل3: 15).
ويذكر أيضاً: “لا يجوز للأرملة أن تقوم ببعض التعليم العالي لئلا تخطئ”(32) (الفصل3: 5). إلا أنه سرعان ما يمنعها عن ذلك من جديد في موضع آخر(الفصل3: 6-9) وكذلك ففي (الفصل3: 9)، نراه يمنع الشماسة من القيام بمهنة الكاهن، لأن مثل هذا العمل هو شأن الوثنيين. ويذكر في موضع آخر أن الشماس نفسه لا يحق له أن يعمِّد ويبارك، وأن عمل الشماسة يقتصر على حراسة الأبواب، ومساعدة الكهنة في تعميد النساء حفاظاً على الآداب العامة (الفصل8: 28).
وفي الرسالة إلى أهل رومية (16: 1-2) يمتدح العظيم بولس الشماسة فيبي. ترى هل نستطيع أن نستنتج بعد هذا الاسترسال أنه بمقدور فيبي أن ترقى إلى الدرجة الكهنوتية لكونها شماسة؟ ألا يتناقض (33) هذا الموقف من فيبي مع موقف القديس بولس العام من المرأة كما هو وارد في رسالته إلى أهل كورنثوس (1كو11: 1-12)؟ (راجع أيضاً “رومية 16: 23” و”كولوسي4: 15”).
في الحقيقة يبدو لغزاً ضعيفاً الكلام عن كهنوت المرأة في أدب العهد الجديد، فضلاً عن الأدب الكنسي العام. وإذا ما أراد العظيم بولس، من خلال كلامه عن العظيمة فيبي أن يجعلها في موقع اكليريكي، أي يجعلها كاهنة فلماذا نجده بوضوح يتكلم عن لزوم صمت المرأة في الكنيسة (اكور14: 34-40)؟ وإذا قلنا أنه ليس من دليل على كهنوت المرأة في القوانين الكنسية على الأقل حتى القرن الرابع الميلادي، فكيف سيلزمنا هذا الاستنتاج أن نفترض أن فيبي يمكن أن ترقى إلى الدرجة الكهنوتية؟ كذلك فإن افتراض امكانية كهانة المرأة، من شأنه أن يلزمنا بالقول أن يسوع أخطأ عندما أغفل وأهمل تشجيع المرأة على الدخول في السلك الكهنوتي، الأمر الذي يعني أنه من البديهي عندئذ أن تكون مريم العذراء نفسها في كرامة تسمح لها أن تكون كاهنة، وهذا ما لا نجده البتة في العهد الجديد. والسؤال الآن: كيف نقبل شموسية المرأة إذا كانت المرأة مقصاة من وظيفة الأسرار الكنسية؟ إن هذا الكلام يقودنا، كما كل حين، إلى القول بأن الكنيسة لا تقبل بوجود كاهنات (panarion4:79).
السؤال المتعلق بكهنوت المرأة ليس عقائدياً بطبيعته، والجواب عليه لا بد أن يكون كنسياً وحياتياً رغم أنه غير عقائدي، وبالتالي فالسؤال الذي نحن بصدده، يتصل من الوجهة الأرثوذكسية بمشاركة الإنسان في الحياة الالهية، راجع: يوحنا كرميريس (“مكانة وخدمة النساء في الكنيسة الأرثوذكسية” أثينا 1978)، وأيضاً: (توماس فيتز جيرالد: نظرة أرثوذكسية للسؤال المتعلق بالشرطونية).
وإذا طالعنا القديس يوحنا الذهبي الفم، وفي معرض تفسيره لرسالة رومية (عظة30) نراه يمتدح سيرة فيبي ويدعو الرجال والنساء أن يحذوا حذوها ويقتدوا بأخلاقها. ويقول في معرض تفسيره لـ (1تيمو3: 11): “ولتكن النساء كذلك من أهل الصلاح، غير نمّامات، متقشفات أمينات في كل شيء. وعلى الشمامسة أن لا يكونوا متزوجين غير مرة واحدة، وأن يحسنوا رعاية أبنائهم وبيعتهم، فأن الذين يحسنون الخدمة ينالون منزلة رفيعة وجرأة عظيمة في الإيمان بالمسيح يسوع”. على أن هذه تشير ليس إلى النساء وحسب، بل إلى الشماسات أيضاً، فيقول: “يقول البعض أن هذا النص قيل في النساء عموم، لكن هذا غير صحيح، إذاً لماذا يُدخل الرسول أي شيء عن النساء في موضوعه؟ إنه يتكلم عن اللواتي هن في رتبة الشماسات وذلك لأن هذه الرتبة ضرورية ونافعة ومكرمة” (العظة11، في تفسير الرسالة إلى تيموثاوس)
هذا ويرى التقليد Tradition في فيبي مثال الشماسات، لا بل أول شماسة في الكنيسة، كذلك فإن القطعة الثانية من صلوات الشماسات تقارن بين المرأة المزمع شرطنتها، وبين فيبي فتسأل الكنيسة، بلسان الأسقف، أن يمد الرب هذه الشماسة الجديدة بالمعونة والقوة التي من فوق للقيام بعملها المقدس تماماً كما فعل مع فيبي التي سبق أن دعاها إلى الخدمة.
كذلك فإن زوجة القديس غريغوريوس النيصصي تشمّست مباشرة بعد أن اعتلى زوجها السدة الأسقفية. أيضاً فإن الشماسة أوليمبيا المقربة جداَ من القديس يوحنا الذهبي الفم، وزّعت ثروتها بعد موت زوجها، وقامت بتشييد مستشفى ودير نسائي في القسطنطينية، كانت فيه الرئيسة والشماسة بآن. ولما نفي يوحنا، نفيت هي أيضاً، فكتب لها يوحنا (17رسالة) من المنفى هي من عيون الأدب المسيحي. كذلك فإن القديسة أبولونيا (9شباط) هي واحدة من الشماسات اللواتي يخلد ذكرهن في الرزنامة الرومانية. هذه الفاضلة عاشت في القرن الثالث في الاسكندرية. وحدث ذات يوم أن هاجمها عدد من اللصوص وكسروا أسنانها وسلخوا جلدها وأحرقوا جثتها. كذلك هناك القديسة كسيني (24ك2) الني كانت ابنة أحد الشيوخ في القرن الخامس. وحدث يوماً أن عُرض عليها زواج مشين، فهربت إلى قبرص مع اثنتين من خادماتها، فأرسلها القديس الاسقف ابيفانيوس القبرصي إلى الاسكندرية لتصبح شماسة هناك على يد البطريرك ثيوفيلوس. بعدها أسست هذه العظيمة ديراً على اسم استفانوس أول الشهداء، وأصبحت أمّاً روحية(34) لكثيرات من بنات القرية المجاورة(35) للدير.
للشماسة دور عظيم في كتاب “تعليم الرسل”، وكرامتها تفوق كرامة الأرامل الورعات. فهن أي الشماسات يساعدن الأساقفة لدى تعميد النساء(36). كذلك فإن دورهن يشمل نقل قبلة المحبة في القداس الإلهي، وإغلاق الأبواب للحيلولة دون دخول غير المعمّدين إلى القداس، وفي قانون (15) من مجمع خلقيدونية، ورد أن الشماسة يجب أن تكون في سن الأربعين. بينما نجد تشريعات يوستنيان أن الشماسة هي في مصاف الاكليروس(37).
على كل حال، ومهما قيل، فإن الشماسة لا تساعد في إقامة الذبيحة الالهية، أي أن المهمة المنوطة بها لم تكن يوماً افخارستية، كما هو حال الشماس. إلا أن يوحنا كرميرس يرى الشماسة في مصاف الشماس، أي أنها مندرجة في النظام الأسراري. كذلك يرى لها مهمة أخرى هي نشر الإيمان. وحجته في ذلك هي أن الكنيسة عرفت في تاريخها مجموعة من النساء كنّ معادلات للرسل. (isaposstles) كما هو مبين في الرزنامة والليتورجيا الأرثوذوكسيتين.
وعُرف أيضاً أن الشماسات عملهن في رعاية الأيتام، فضلاً عن تعليم الإيمان، وكان لهن اتصال اجتماعي ذي صلة بحياة الكنيسة مثل زيارة المستشفيات، ودور العجزة والسجون(*2)(38). ومع ذلك، لا نعرف في التاريخ المسيحي أن امرأة ارتقت إلى السدة الكهنوتية، رغم أن الكثيرات منهن لمعن وتألق حضورهن في احتفالات معمودية الأطفال.
إن وجود الشماسات كان أمراً حيوياً في ضمير الكنيسة الرسولية. فالمرأة في الكتاب المقدس خلقت لتكون معينة للرجل، لا بل طلب إليها أن تخضع لرجلها، كخضوع هذا الأخير للمسيح، وكخضوع المسيح للآب (1 كو 11: 3). وهذا لا يعني، وفي سياق الكلام، الاعتقاد والقرار بدونية المرأة بإزاء فوقية الرجل، لكن الذهبي الفم، في عظة له على انجيل متى (7، 8) يعلمنا بوضوح أن نقتدي بزوجاتنا إذا كن يعشن في التقوى، وإذا كن أكثر حكمة من رجالهن. (على كل، كم وكم من بيوت تستمر الحياة فيها بسبب الزوجة لا بسبب الزوج).
في الحقيقة يجب أن تقوم نساء عصريات للكتابة عن “كهنوت المرأة” بالإضافة إلى كل ما أسهم به الرجال في هذا الباب وعبر الفي سنة. فللمرأة رأي في ما يطلبه المجتمع منها ويقترح عليها، وذلك لأنها تعرف استعداداتها ومواهبها. كذلك خليق بنا أن نسأل، مستخرجين الآراء ومستخلصين المواقف، عن رأي المرأة التقية والصبية، التقية والمتعلمة، التقية المتزوجة والعازبة، عن رأيهن في أن يصبحن كاهنات. يجب أن تقول حواء رأيها في الكهنوت المقترح عليها.
نحن لا نستطيع أن ننظر إلى كهنوت المرأة في الفراغ، وعلى أساس نزعة ثورية مفادها الاصرار على مساواة جوفاء لا طائل تحتها بين الرجل والمرأة. ولا نستطيع أن ننادي بكهنوت المرأة لمجرد أن المجتمع الحاضر ينزع إلى الكلام عن الـ Unisex. للمرأة رأيها في الأمر، والمسألة ليست صرعة وموضة وحسب. إنها في النهاية سؤال لا يأتي الجواب عليه إلا على قاعدة الكنيسة مقروناً بالاستماع العميق إلى رأي المرأة في المسألة المطروحة عليها. كذلك فإن محاولة زج المرأة في الكهنوت، عبر الايحاء لها أن في ذلك مطلب وقضية، من شأنه أن يؤول إلى الغاء الكتاب المقدس وتفكيكه، وتكذيب الرب، وذلك لكونه لم يأت على تفعيل الكهنوت الانثوي.
وهكذا، من جديد، فإن كهنوت المرأة(39) اذا اقُترح، يستتبع رفضاً للتراث، وتعديلاً في ممارسة الكنيسة، وفي الوحي، وهذا محال، وغير وارد. وإذا كنا نطالب بكهنوت المرأة، فهذا ينطوي على المناداة بنقص الرجل وعدم تماميته وأهليته للكهنوت. وفي الواقع فإن معاناتنا كبيرة لحاجتنا إلى الاكليروس وبسبب نقص الاكليروس. كذلك فإن معاناة الاكليروس الموجود عظيمة وكبيرة مع رعاياهم، لا بل إن الناس يحبون الاكليروس الموجود، محبتهم للقبور كما يقول المثلث الرحمات الأب الكسندر شميمان في كتابه “الكنيسة، العالم، والبشارة”. الناس يرون في الكاهن صباحاً كل الشؤم وكل النحس. لا بل يتهيب الكثيرون منهم الكهنة، بسبب سواد لباسهم. وإذا كان هذا شأن الرجل، فماذا إذا تم تفعيل كهنوت المرأة؟ ماذا سنقول عنها؟ ومع ذلك فإن الكنيسة الارثوذكسية تٌصر على المساواة بين الرجل والمرأة أمام الله. ورغم ذلك، فالكنيسة منذ أن كانت، أعفت المرأة، لا بل أقصتها من الكهنوت، ولم تنتدبها في يوم من الأيام إلى أية درجة من الدرجات الاكليريكية الرسمية (الشماسية، الكهنوت، والأسقفية). هذا هو باختصار تعليم الكنيسة المرتكز إلى الكتاب المقدس والتقليد الشريف.
في الحقيقة ليس في الكتاب المقدس مكان يشير ولو مداورة إلى أن الرب ورسله وخلفاءهم، انتدبوا إلى الكهنوت، وإلى إحدى الدرجات الاكليريكية الرسمية نساء وفتيات(40). لقد أنيط الدور الاداري والتعليمي والتقديسي في الكنيسة بالرجال فقط (لوقا22: 14). وللرجال فقط قال يسوع “اصنعوا هذا لذكري” (راجع أيضاً متى28: 9-10)، (مرقس16: 9)، (يوحنا20: 14-18). كذلك لم يُقْدم أحد من الرسل على شرطونية امرأة، ولم يظهر بين خلفاء الرسل عبر ألفي سنة، من شرطن امرأة كاهنة واسقفاً.
المرأة دخلت ميدان العمل في الهيكل للخدمة فقط، لا من أجل إقامة سر الشكر (راجع1كورنثوس11: 3-15)، (1كورنثوس14: 34-40)، (1تيموثاوس2: 11-14). ولا يمكن أن ننسى ما سبق الرسول أن قاله في المرأة في كنيسة كورنثوس “على النساء أن تصمتن في الكنيسة”(1كو14: 34، 40). كذلك نستنتج من مطالعة (1كور11: 3-15) إن المسيح رأس الرجل، والرجل رأس المرأة. إن الرجل لا يغطي رأسه بل المرأة(راجع 1تيمو2: 11-14)، (1تيمو3: 2-5)، (1تيمو3: 5-17)، وما إليه. ويأتي هذا ليشدد على استحالة انخراط المرأة في الكهنوت.
وعليه، تحتل المرأة في الكنيسة الأرثوذكسية مركز الصدارة في العبادة، لا بل كانت عبر تاريخ الكنيسة الطويل عضواً ركيزياً، وعنصراً واجباً للعائلة والنهضة. وكثيرات منهن حظين ببركة ونعمة الاستشهاد كالرجال، وخدمن كالرجال في شتى الميادين الكنسية. لا بل برعت بعضهن بحيث فقن الرجال قوة وزخم وعطاء. ولنا على سبيل المثال لا الحصر، مريم والدة الإله، الأرحب من السماوات والكلية القداسة. فإذا كانت مريم الكلية الطهارة والمكرمة في كل الأجيال، قد أُقصيت من الكهنوت، فأين تبقى المطالبة بكهنوت المرأة؟ إن إقصاء المرأة من الكهنوت، ليس شكلاً من أشكال تخلفنا وتقهقرنا. وإذا كنا نوافق أن التراث والعبادة لا ترى غضاضة في إقصاء مريم الكلية القداسة من الخدمة الكهنوتية، فكم بالأحرى يكون طبيعياً إعفاء سائر نساء الأرض من الكهنوت.
(30) Three-scores
(31) من المهم أن نعرف أننا لا نجد ذكراً لكهنوت المرأة عند كافة الكنائس في الشرق، وهذا يعني ببساطة أن المسيحيين غربيون عن الكهنوت الأنثوي.
(32) بولس العظيم نفسه يطلب من المرأة أن تصمت في الكنيسة فكيف تكون شماسة بالمعنى الليتورجي إذا كان يطالبها بالصمت (اكور14: 34-35)؟ وكيف تكون فيبي شماسة مرشحة للكهنوت إذا كان بولس يلزم المرأة بالصمت؟ هذا تناقض.
(33) مثل هذا الموقف لا يفهم في سياق تاريخي من المنظار الأرثوذكسي، فالمرأة لم تكن يوماً كاهنة.
(34) See C.Behr –sigal,”the meaning of the participation of women in the life of the church”.
(35) الجدير بالذكر من خلال هذه الباقة من الأسماء أن المرأة ذات مكانة عظيمة جداَ في الكنيسة، ومع ذلك لم تكن واحدة منهن كاهنة.
(36) See, Evangelos Theodore, “The ordination of the diaconesses”. Athens 1954, Greek.
(37) تشير هذه العبارة إلى كرامة الشماسة في الكنيسة، لا إلى اندراجها في السلك الاكليريكي (المؤلف). أي أن خدمة الشماسة تتم على مقربة من خدمة الاكليريكيين.
(*1)(*2) See Evangelos Theodore (Ibid), p.57.
(38) أعتقد أنه من الغريب جد، لا بل من الصعب أيضاً أن تقوم امرأة اليوم برعاية المساجين، فهذا شأن يبدو لي صعباً الزمن المجنسن مهما كانت هذه المرأة على تميّز في التقوى والفضيلة والحزم (المؤلف).
(39) كيف نطالب بكهنوت المرأة اليوم طالما ان رؤساء الدول بالإجمال هم من الذكور؟ كأني بالحياة الانسانية العامة قد حددت الادوار للرجل والمرأة على السواء. وما المطالبة بكهنوت المرأة إلا خروج على قوانين الحياة الانسانية. وفي قناعتي، هذا الطرح جدير بالدراسة والمناقشة.
(40) See, Trempella, the dogmatic teachnig of the Orthodox church, Athens 1961, V.III p.292 (Greek).