Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

مدخل

إن الخدمة الإلهية ونعني بها مجموعة الطقوس والصلوات والخدم الليتورجية تؤلف إطار الحياة الليتورجية. هدفها أن تحمل إلينا وإلى أقصى الخليقة وأقصى الإنسان القوة الحية السرية التي لليتورجيا. إنها تحتوي أولاً على الخدم الإيقاعية (الصلوات اليومية والأسبوعية والسنوية) المطابقة لإيقاع الزمن وتحتوي أيضاً على الخدم التقديسية (أسرار الكنيسة، أفاشين التبريك والتدشين والتقديس…) التي تقدس وجود الإنسان فهي إذاً بمثابة وسط أو مكان نمو الكنيسة والمؤمنين معاً. فوراء الرتابة الظاهرية التي للخدمة الإلهية نرى في سيرها ذلك الصعود الدائم في الله لكل شركة المؤمنين الذين تشملهم.

والخدمة الإلهية أيضاً بمثابة تحضير وإعداد لسر الشكر وبقية الأسرار الكنسية. والإعداد إعداد داخلي في التزام نسكي وروحي أعني في الجهاد. فهي إذاً واسطة للتربية الليتورجية ومدرسة روحية. لأن الإنسان (حيوان همنولوجي) على حد تعبير القديس أثناسيوس الكبير، حيوان خلق ليسبح. (والذي لا يصلي إلا عندما يصلي فهو لا يصلي أبداً) حسب قول الآباء.

سنميز الآن في الخدمة الإلهية أربعة أوجه نبحثها فيما يلي: أولاً إيقاع الخدمة. ثانياً الخدمة وشركة القديسين. ثالثاً الخدمة كصلاة وذكصولوجيا. رابعاً الخدمة كتأمل حي.

1- إيقاع الخدمة الإلهية

 إن الخدمة الإيقاعية المرافقة لسير الزمن، زمن الخليقة الأرضي، تمثل وتجمع بالحقيقة سري الخليقة والتجسد كما يليقان في المسيح. لقد كتب القديس مكسيموس المعترف (إن سر تجسد الكلمة يحتوي في ذاته المعنى الخفي لكل الخليقة المحسوسة والعقلية). ما معنى هذا القول؟ معناه أن الخلق في تدبير الله هو وقت متجه نحو التجسد وخاضع له. وكل الخليقة مدعوة لأن يتبناها ويملأها المسيح. ولكن التجسد الإلهي يعني قبل كل شيء دخول الله في الزمن. فالزمن هو العلامة الخاصة بالكائن المخلوق، هو ختمه. والخدمة الإلهية بمرافقتها لإيقاع الزمن المخلوق إنها تدخل الزمن لكي تحمل إليه المسيح الإله، لتعلن فيه على الدوام حقيقة سر التجسد الإلهي والخلاص الذي أتى به للعالم.

وبهذا يمكن القول منذ الآن أن إحدى قيم الخدمة الإلهية هي أنها تجعل سر التجسد حاضراً. بالخدمة نحيا يوماً بعد يوم، بل نحيا كل ساعة تدبير المسيح الخلاصي كحاضر في الكنيسة، كحاضر من حيث يجب أن ينتقل إلى نفوسنا، إلى طريقة نظرتنا ورؤيتنا للحقائق، لكي يصبح لنا (فهم) للسر. للخدمة الإلهية إذاً قيمة (شبه سر) كنسي (sacramental).

آ- الدور اليومي

إن اليوم – الـ 24 ساعة – يؤلف كلاً بحد ذاته. فيه تتم دورة كونية صغيرة: (وكان مساء وكان صباح…) يقول الكتاب عند روايته لأيام الخلق.

تدعى صلوات الدور اليومي (الخدمة اليومية) (l’office)، وهي مجموعة التسابيح دون القداس الإلهي. وهي مبنية على التسابيح السبع التقليدية:(سبع مرات في النهار سبحتك على أحكام عدلك)(مزمور164:118). وتتألف كما هو معروف من صلاة نصف الليل، والسحر باكراً جداً والساعة الأولى (أي 6 صباحاً) والساعة الثالثة (9 صباحاً) والساعة السادسة (12 ظهراً) والساعة التاسعة (3 بعد الظهر) والغروب (عند غروب الشمس) والنوم (قبل الانطلاق إلى النوم) (لا شك أنه يتعذر على العائشين في العالم أداء هذه الصلوات في أوقاتها أو بكاملها. وقد اقتصرت الكنيسة منذ القرن الرابع على إقامة صلوات للعموم مرتين فقط في النهار صباحاً ومساءً، وتركت الصلوات الأخرى فردية. وظل الرهبان يصلون كل الخدمة اليومية. هذا وقد جرت العادة في الأديرة أن تجمع صلاتان أو أكثر في وقت واحد تسهيلاً لأعمال النهار. إلا أن بعض الأديرة لا تزال تحافظ على إقامة كل صلاة في وقتها).

1- الساعة التاسعة (نبدأ بها لأنه قد عمت العادة أن تقال مع صلاة الغروب (قبلها مباشرة)، وبالغروب يبدأ اليوم الليتورجي (على نسق يوم العهد القديم:(بين الغروبين) كما يقول الكتاب) وربما هذا رمز لتاريخ الكون الذي بدأ في الظلام…): وهي ساعة موت الرب على الصليب، فنمجده فيها لإعادة خلقه للعالم وإعادة إبداعنا، لأن هذه هي الثمرة الكبرى لذبيحته على الصليب. في الساعة التاسعة طرد آدم من الفردوس وفي الساعة التاسعة دخل اللص الفردوس:(يا من أتيت بنا إلى هذه الساعة الحاضرة التي لما كنت فيها معلقاً على الخشبة المحيية مهدت للص الشكور مدخلاً إلى الفردوس وأبدت الموت بالموت…)، (العالم يفرح لحصوله على الخلاص)، (لقد رضيت يا رب عن أرضك ورددت سبي يعقوب)، (الرحمة والحق تلاقيا، العدل والسلام تلاثما). هذا ما تعبر عنه الأفاشين والمزامير النبوية المختارة لهذه الساعة.

ومن الناحية الشخصية (تجمع كل ساعة ثلاثة صعد معاً: صعيد الخلق (بدء الكون وسقوط آدم) – صعيد الفداء (تجسد المسيح لإنهاض آدم) – صعيد التقديس (سيرنا الشخصي في طريق خلاص المسيح)). الساعة التاسعة تمثل أواخر جهادنا الروحي على الأرض: عندما نتيقن من بؤسنا وعجزنا ونطلب إلى الرب أن يعتقنا من أهوائنا ونتوق إلى دياره:(يا من ذاق الموت بالجسد في الساعة التاسعة من أجلنا أمت أهواء أجسادنا أيها المسيح الإله وخلصنا)، (لسنا أهلاً لأن نرفع أعيننا وننظر إلى علو السماء)، (لا تخذلنا إلى الغاية)، (تشتاق نفسي وتتوق إلى ديار الرب)، (حتى إذا خلعنا الإنسان العتيق نلبس الجديد)..الخ.

هذا وفي كل من الساعات نذكر القديس الذي تعيد له الكنيسة، ويتغير من يوم إلى يوم. وفي كل ساعة نقول أربعين مرة (يا رب ارحم) لغفران الأخطاء والأفكار السيئة التي حصلت معنا بين الساعة والأخرى. وكذلك نطلب تقديس أفكارنا وتنقية نياتنا (صلاة يا من في كل وقت وفي كل ساعة)، ونسجد للرب ونمجده (قدوس الله… هلموا نسجد ونركع للمسيح).

2- صلاة الغروب: يبدأ بها اليوم الليتورجي، وهي تمثل باختصار كل تدبير الخلاص: خلق العالم والإنسان وسقوطه وافتداؤه. (تبارك الله إلهنا كل حين..): إن الإعلان الأول ليس فيه إشارة واضحة للثالوث. والمزمور103 :(باركي يا نفسي للرب ربي وإلهي لقد عظمت جداً).. هو تسبيح الخليقة في زمن لم تكن فيه مثقلة بعد بالخطيئة. ثم المزامير 129 و 140 و 141 تأتي بنا إلى زمن السقوط: الباب الملوكي يغلق والإنسان في وحدته وشقائه يتضرع إلى الرب لكي يلتفت إليه من جديد: (يا رب إليك صرخت فاستمع لي)..(من الأعماق إليك صرخت يا رب)..(أخرج من الحبس نفسي).. ثم تتعاقب أصوات العهدين القديم والجديد في حوار مأساتي بين صراخ البؤس واليأس من جهة والابتهاج بالمواعيد من جهة أخرى. فيعطف الله على البشر فينتهي الحوار بإعلان المرتلين سر التجسد في قطعة خاصة بالعذراء، وتسمى النشيد العقائدي للعذراء (إذ تتكلم عن (الآب الأزلي الكائن قبل الأزل) والابن المتجسد في طبيعتين ومشيئتين (بلا انفصال ولا تشويش)، وزوال (سياج العداوة المتوسط) الخ). فيخرج الكاهن في الدورة الصغيرة التي تمثل مجيء المسيح إلى العالم:(الحكمة فلنستقم). فيرتل المرتلون نشيد الثالوث: أيها النور البهي(هذا النشيد المؤثر ينسب للقديس الشهيد اثينوجانس (نحو عام 169)) :لقد ظهر الكلمة للعالم فرأينا نور مجد الآب..(الآن أطلق عبدك أيها السيد حسب قولك بسلام). لقد انتهى العهد القديم نهائياً وحل محله العهد الجديد.. وتنتهي صلاة الغروب بنشيد السلام للعذراء مريم الحاملة ابن الله بين ذراعيها (وذلك إعداداً للإفخارستيا التي ستتم في القداس الإلهي كما قلنا أعلاه).

وصلاة الغروب بالنسبة لنا تمثل نهاية النهار، فهي صلاة المساء، مساء الحياة أيضاً. (الآن أطلق عبدك). فنشكر الله من أجل النعم التي نلناها أثناء النهار، (أو العمر) المنطوي. إن الليل لا يعود يخيفنا بعد، لأن نور المسيح البهي يأتي إلينا. وتمثل أيضاً نهاية العالم: عند غروب نور الشمس المخلوق نرفع أيدينا في نور الثالوث الغير المخلوق.

3- صلاة النوم: هي ساعة نزول المسيح إلى الجحيم. ونحن نلتمس فيها غفران خطايا النهار وحمايتنا من تجارب الليل، ذاكرين الموت ومستسلمين لعناية الرب الذي أنهض الأموات من الجحيم. فالنوم – الذي هو أخ الموت الصغير- يجب أن لا يقطع يقظة قلبنا أمام الله:(وامنحنا يا الله عقلاً ساهراً.. وقلباً مستيقظاً). بل يجب أن لا يقطع تسبيحنا لله:(وهب لنا أقوال تماجيدك طول الليل..) (إن صلاة النوم رهبانية بنوع خاص. ففيها أولاً معنى نسكي: طلب اليقظة الدائمة ضد (سهام الشرير المحماة) التي تذكرنا بجهادات آباء البرية في الليالي. وفيها أيضاً معنى تسبيحي طول الليل: النوم بهذا المعنى حليف الراهب (أو المؤمن). ولكنه أيضاً مشكلة. لذلك نطلب نعمة تسبيح الله بنومنا وأثناء نومنا أيضاً).

4- صلاة نصف الليل: تشير إلى مجيء المسيح الثاني الذي يكون في نصف الليل على غفلة.

– ولها معنى نسكي: جهاد قطع النوم الصعب الذي يجب أن يرافقه انسحاق وتوبة:(بأحكام تعلم بها خلصني أنا عبدك غير المستحق)، (خير لي أنك أذللتني لأتعلم وصاياك). مع استعداد كلي للعمل بوصايا الرب:(أنا صغير وحقير لكني لم أنس وصاياك)، (حلفت وعقدت عزمي على حفظ أحكام عدلك)، (ناموس فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة) (ملذات العالم نراها في البدء حلوة ثم نملها شيئاً فشيئاً. أما وصايا الرب فبالعكس نراها في البدء صعبة ثم كلما مارسناها أحببناها. فالذي يقضي كل نهاره في حفظ وصايا الرب يقوم في الليالي وفي قلبه مع حسرة الانسحاق والتوبة شوق وحنين لأحكامه تعالى: هذا ما يعبر عنه المزمور 118 الذي يعد من أجمل المزامير إطلاقاً وتقوله الكنيسة كل يوم رغم كبره (176عدداً) ذلك لأن الطريقة الفضلى بل الوحيدة لانتظار الرب هي الأمانة لتعاليمه).

– ثم معنى سري: الصلاة من أجل جميع النائمين (صلاة نصف الليل (مزية صعبة): الناس يرقصون والرهبان يصلون من أجلهم (كما كان يقول أحد الآباء في رومانيا). (سيول مياه فاضت من عيني لأنهم لم يحفظوا ناموسك) يقول المزمور 118.) ومعهم المأسورين والمطروحين في الأمراض والمسافرين الخ… مع الثقة الكلية بعناية الرب:(الرب يحفظك من كل سوء. الرب يحفظ نفسك. الرب يحفظ دخولك وخروجك من الآن وإلى الأبد)- والصلاة من أجل الأموات:(سامحهم بكل ما خطئوا به إليك في هذا العمر)، (لأنهم عليك وضعوا رجاءهم)، (أنت القيامة والحياة والراحة لعبيدك الراقدين أيها المسيح الإله)- والتسبيح مع الملائكة الذين لا ينامون:(افتح أفواهنا واملأها من تسبحتك)، (تفيض شفتاي بالتسبيح لك)، (ألا باركوا الرب الآن يا جميع عبيد الرب الواقفين في بيت الرب في ساحات بيت إلهنا في الليالي ارفعوا أيديكم إلى الأقداس وباركوا الرب).

– ومعنى أخروي: إن وضع المؤمن في الأساس وضع انتظار مستمر وتأهب، كالعذارى الخمس، لأن الختن يأتي في وسط الظلمات وأشدها:( هاهو الختن يأتي في نصف الليل)، (اسهري يا نفسي وأضيئي مصباحك.. ابقي ساهرة لكي تستقبلي المسيح الإله)، (أنر عيني ذهننا وانهض عقلنا من ثقل نوم الكسل). إننا نقدم نهوضنا كقربان من أجل لقاء الرب السري متشوقين إلى نهاره البهي المشهور ومستعجلينه: (حنّت نفسي اشتياقاً إلى خلاصك)، (كلّت عيناي من انتظاري لإلهي).

5- صلاة السحر: وتقال باكراً جداً(تقال الصلاة السحرية بعد صلاة نصف الليل مباشرة. ففي بعض الأديرة ينهضون في نصف الليل لصلاة نصف الليل والسحرية ثم يعودون إلى فراشهم، وفي الصباح يتابعون بقية الصلوات أما في الأديرة الأخرى فينهضون صباحاً باكراً ويصلون كل صلوات الصباح ابتداءً من صلاة نصف الليل). هي في مجال الخلق ترمز لظهور النور. فيجب مبدئياً أن تنتهي مع بزوغ الفجر إذ نرتل حينذاك الذكسولوجيا:(المجد لك يا مظهر النور). وترمز في مجال تدبير الخلاص إلى ساعة القيامة:(سحراً جداً)(حين أتت حاملات الطيب القبر والظلام باق).

أما في مجال التقديس الشخصي فإننا نقف في تلك الساعة لنقدم لله قبل أي عمل آخر أولى حركات قلبنا ونفسنا كولادة جديدة يومية وقيامة.

إن تسبيحنا لله في السحر يشمل رمزياً كل تسابيح اليوم أيضاً (ولذا الأوديات التسع في قانون النهار، ولذا يتلى إنجيل قديس النهار في صلاة السحر. ولا يخفى أن قانون النهار هذا يختلف بين يوم ويوم (مع الكثير من القطع السحرية) ليشير إلى النية المخصص لها ذلك اليوم كما سنرى تفصيلاً عند شرح الدور الأسبوعي).

هذا وتبدأ صلاة السحر بتمجيد الثالوث القدوس (المتساوي الجوهر المحيي الغير المنقسم كل حين).. وبالتمجيد الملائكي الذي يبشر بولادة الرب على الأرض:(المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة)..

ثم تتلى المزامير السحرية الستة المعروفة (بكل ورع وخشوع وخوف الله) كما يقول كتاب السواعي، لأنها (مزامير الدينونة):(لا تدخل في المحاكمة مع عبدك)(ولذا عند قولنا (المجد للآب والابن… … وهلليلويا 3 مرات…) بين المزامير الثلاثة الأولى والثلاثة الأخيرة، لا نسجد ولا نرسم إشارة الصليب وكأننا مكتفون (بتشديد التاء) نحاكم أمام قضاء الله الرهيب). وبعدها نرتل لظهور مخلص الجميع:(الله الرب ظهر لنا مبارك الآتي باسم الرب)، وبعد استعراض مراحم الله علينا منذ القديم منتهين بالعذراء مريم (تعظم نفسي الرب وتنتهج روحي بالله مخلصي، يا من هي أكرم من الشاروبيم) تدعو الكنيسة كافة الخليقة لتقديم التسبيح والشكر لله:(سبحوه يا جميع ملائكته.. سبحيه أيتها الشمس والقمر.. كل نسمة فلتسبح الرب) كتمجيد لمظهر النور.

وفي الطلبات نسأل أن يكون نهارنا (مقدساً سلامياً) ثم فرحاً:(فرحنا في كل أيامنا) وميسراً في نور الرب:(ليكن بهاء الرب إلهنا علينا وسهل لنا أعمال أيدينا).

6- الساعة الأولى: وتقال مع السحرية دائماً وبعدها مباشرة. لقد لاح الصباح: إنه بدء النهار وسنذهب إلى عملنا بعد قليل. فصلاة الساعة الأولى هي صلاة قبل العمل:(في الصباح الباكر أقف قدامك وأتطلع. سدد خطواتنا إلى العمل بوصاياك)(نعم وأعمال أيدينا فسهل).

وترمز الساعة الأولى إلى الخلق: فتحمل كل معاني (البدء) مع ما يرجى به من طهر ونور: (من قبل أن كانت الجبال وأنشئت الأرض والمسكونة، من الأزل وإلى الأبد أنت كائن).. (في الصباح تستمع إلى صوتي: لأنك إله لا يساكنك شرير)، (ماذا ندعوكِ أيتها المنعم عليها أسماء لأنكِ أظهرت شمس العدل أم فردوساً لأنكِ أنبتِ لنا زهرة عدم البلى). وينعكس نور الخلق في البتولية الطاهرة والأمومة الإلهية:(أبتولاً لأنكِ لبثتِ بكراً بغير فساد أم أماً نقية لأنكِ حملتِ على ذراعيك المقدستين ابناً هو إله الكل) فيجعلنا نتوق إلى النور الحقيقي:(أيها المسيح النور الحقيقي الذي ينير ويقدس كل إنسان آت إلى العالم أرسم علينا نور وجهك يا رب لكي ننظر به النور الذي لا يدنى منه).

7- الساعة الثالثة: وتقال مبدئياً الساعة 9 صباحاً. لقد تقدم النهار واتضحت هجمات إبليس: هي ساعة تجربة الحية لآدم في الفردوس. أما في التدبير الإلهي فهي بالعكس ساعة انحدار الروح المعزي على التلاميذ يوم الخمسين. وبالنسبة لنا هي صلاة توبة وطلب تجديد الروح القدس فينا لنتغلب على إبليس.

(يا من أرسلت روحك الكلي قدسه على رسلك في الساعة الثالثة، لا تنزعه منا أيها الصالح بل جدده فينا نحن المتضرعين إليك).. (امنح عبيدك تعزية سريعة وثابتة في حال ضجر أرواحنا ولا تنفصل عن نفوسنا في الأحزان ولا تبتعد عن عقولنا في الشدائد بل تداركنا دائماً. اقترب إلينا. اقترب يا من حاضر في كل مكان).

إن حالة التوبة المنسحقة التي نلتمس فيها عون الروح الإلهي وانسكابه (ارحمني يا لله كعظيم رحمتك. (احفظ نفسي ونجني). وكل المزمور50 والمزمور24) تجعلنا ننفتح له بوداعة واطمئنان فنقوى بنعمته على المحارب:(هكذا اتحد بالمشتاقين إليك يا رؤوف)، (إله خلاصنا يسكب نعمته علينا إلهنا إله الخلاص) فنبتعد عن شجرة المعرفة ونذوق ثمرة شجرة الحياة:(يا والدة الإله أنتِ هي الكرمة الحقيقية التي أنبتت ثمرة الحياة)، كل ذلك (بأحكام يعلم بها).

8- الساعة السادسة: وتقال مبدئياً الساعة 12 ظهراً. لقد انتصف النهار واشتد ثقله وحره: إنها ساعة استسلام آدم للتجربة وسقوطه (سقطة مبيدة مظلمة). أما في زمان تدبير الخلاص فالمسيح بالعكس مسمر على الصليب يعاني آلامه. وبالنسبة لنا فنجتمع في ساعة (شيطان نصف النهار) لنطلب الحماية من فخاخه ولنجرح نفوسنا بشوق الله ومحبته في الساعة عينها التي قبل الصلب محبة بالبشر:

(رهبة الموت حلت علي، الخوف والرعدة اعترياني والظلام الدامس غطاني) (صغر النفس والإعصار) (قد ابتأسنا كثيراً) ولكن رغم ذلك كله نتكل على الرب اتكالاً كلياً ونفرح في أعماق الحزن:(لا تخش) (الق همك على الرب وهو يعولك)، (الساكن في عون العلي في ستر إله السماء يقيم..) وذلك (لأن الذي قبل أن يتألم من أجلنا رؤوف وقادر على خلاصنا) وقد (مزق صك خطايانا وقهر سلاطين الظلام) وهو (يطأ الأفعى والثعبان ويدوس الأسد والتنين) ولكن بشرط أن نسمر قلوبنا ونصلب عقلنا فيه:(حتى إذا كنا ناظرين إليك في كل حين ومهتدين بالنور الذي ينبعث منك ومحدقين فيك أيها النور الأزلي الذي لا يدنى منه نرفع إليك بغير فتور الشكر والحمد الخ)..

9- القداس الإلهي أو صلاة التيبيكا: حالاً بعد صلاة الساعة السادسة.

كما أن هناك نشيد إنشاد وقدس أقداس هناك أيضاً في تدبير النعمة الإلهية تسبيح التسابيح وهو القداس الإلهي. لقد ذكرنا سابقاً أن صلوات الدور اليومي تنتهي وتتوج بالقداس الإلهي. فهي كلها متجهة إليه تعدنا للاشتراك فيه وتأخذ معناها منه. لقد عبّرنا فيها عن توقنا إلى ديار الرب ونوره البهي، النور الحقيقي الذي نهتدي به ونحدق فيه، والتمسنا روحه القدوس كي يدربنا في الطريق والتمسنا وطلبنا ساعة بعد ساعة أن يضيء وجهه علينا ويعطينا الخيرات المنتظرة. فهذا التوق، توق العروس للختن، لا يجد مبتغاه إلا بالاتحاد به في سر الإفخارستيا في القداس الإلهي. فعندئذ فقط، وبعد المناولة، نستطيع أن نرتل:(قد نظرنا النور الحقيقي وأخذنا الروح السماوي)…

– هذا وعندما لا يقام قداس إلهي تقال صلاة التيبيكا وهي تتألف من مزامير وتراتيل قداس الموعوظين. الأمر الذي يلفت النظر فيها تلاوة قنداق عيد التجلي أي عيد النور الإلهي متحداً بالبشر..

ب- الدور الأسبوعي

عرضنا سابقاً أن لليتورجيا زمناً خاصاً سرياً يسير مع زماننا الأرضي وفيه ليقدسه بسر خلاص المسيح. ورأينا بالتفصيل كيف تقدس الليتورجيا كل ساعة من ساعات يومنا بنهاره وليله. وكما أن دورة ليتورجية كاملة تتم كل يوم قياساً على (يوم) الخلق كذلك فإن دورة ليتورجية كاملة تتم كل أسبوع قياساً على سبعة أيام الخلق.

ولكن الدور (الأسبوعي) هو في الحقيقة (ثماني) لأن سير الليتورجيا خلال الأيام السبعة يصل إلى (اليوم الثامن) إلى الأحد، الفصح الأسبوعي، الذي هو من غير هذا الزمن: إن هناك انقطاعاً بل مشادة بين زمن الخلق الأرضي وزمن التجسد الأبدي، فيتصلان في الليتورجيا (كل دور من الأدوار الليتورجية ينتهي بيوم ثامن، (بسبت) جديد غير سبت الخلق، كما جاء في الرسالة إلى العبرانيين (أنظر عبر 3:4-9). فالدور اليومي ينتهي بالقداس الإلهي الذي هو (الفصح اليومي) والدور الأسبوعي بأحد، الفصح الأسبوعي. أما الدور السنوي فمحوره عيد الفصح العظيم).

وكل يوم من أيام الأسبوع يدعونا لكي نعيش هذا (الاتصال المشادي) بين سر الخلق وسر التجسد تحت علامة أخرى، حاملاً لنا معناه الرمزي الخاص في (درب) تدبير الخلاص: فيوم الاثنين، اليوم الأول، موضوع تحت اسم مصاف الملائكة باكورة الخليقة. ويوم الثلاثاء تحت شفاعة يوحنا المعمدان الذي تنتهي إليه البشرية قبل تجسد المسيح فيمثل انتظار البشرية الإيجابي للمخلص. ويوم الأربعاء يرمز للصليب من ناحية رفض العالم القديم للمسيح على يد يهوذا الذي عزم يوم الأربعاء على تسليم الرب بالاتفاق مع الكتبة والفريسيين. ويوم الخميس مخصص للرسل باكورة البشرية الجديدة التي قبلت المسيح ولرؤساء الكهنة، خلفائهم، في شخص القديس نيقولاوس. ويوم الجمعة يوم صلب المسيح من أجل خلاص العالم. ويوم السبت مخصص لوالدة الإله والقديسين المنتقلين إلى المجد ونفوس جميع الراقدين على رجاء القيامة. ويوم الأحد يوم القيامة.

وفي كل يوم من هذه الأيام تتجه صلاة الكنيسة إلى الله من خلال ذلك اليوم فنتأمل ما يعكسه من سر الخلاص أو المرحلة التي يمثلها فيه (إلى جانب الصلوات والقطع الثابتة التابعة للدور الليتورجي اليومي، فإن الدور الأسبوعي والدور اليومي يتقاطعان إلزاماً، بل الدور الأسبوعي يسير في إطار الدور اليومي فيتداخلان ويتساندان في اختلاف منسجم بديع يعبر عن الحياة الروحية كما هي: كل يوم نحن سائرون (الدور الأسبوعي) وكل يوم نحن واصلون (الدور اليومي).

يوم الاثنين:

هو خاص بالعديمي الأجساد ويلاحظ فيه وجهان بارزان: الأول هو التأمل في مجد الملائكة الأطهار المتلألئين بنور الله والمحيطين به، والثاني هو التوبة مع الشعور القوي بحال السقوط والبعد عن الله والاستغفار الشديد (على مثال العشار والابن الشاطر. ويمكننا منذ الآن ملاحظة وجه الشبه مع دور عيد الفصح الذي يبدأ بأحدي الفريسي والعشار، والابن الشاطر). (إن وجه التوبة والاستغفار يستمر على كل حال حتى نهاية الأسبوع: إن حياتنا مع الله هي جمع بين الشعور بخطايانا والشعور بقداسته في آن واحد. ولذلك يقول بروكيمنون صلاة الغروب منذ يوم الاثنين: ها منذ الآن باركوا الرب يا جميع عبيد الرب).

أما التأمل في عالم الملائكة الإلهي فمعبر عنه بصورة رائعة. إنه يكلمنا عن صفوف الملائكة الذين (يرتلون لك بأصوات لا تصمت بلحن التعبيد الأبدي أيها الفائق الصلاح) وهم (بعشق غير منعطف ناظرون جمالات الباري) و (مستوعبون من البرق الإلهي) بل (صائرون بالوضع أنواراً ثانية للشعاع الأول). إنهم (أصحاب سر النور البسيط المثلث ضياؤه)..

تلاحظ الصبغة (اللاهوتية) لهذه التأملات: لا عاطفة ولا شروح عقلية بل معاينة صافية نقية كما يعرف أن يتأمل الآباء القديسون في اتحادهم بالله. ويود المرء لو يستطيع أن يورد كل التعابير الجميلة والبليغة التي يتضمنها كتاب المعزي في هذا الباب:(يا رؤساء الملائكة الذين نقلتم كل الشوق نحو الله.. إنكم لدى عرش الله ماثلون وبالإشراقات التي هنالك مستنيرون، وباندفاق الضياء لامعون أبدياً. قابلون الأشعة الكلية الغبطة، ومتوقدون بالأنوار المتدفقة الغير الهيولية. أنتم ناظرون الأمور التي لا يباح بوصفها، الفائقة العالم. بقرب ينبوع المأثورات الأول. متزينون بنعمة عدم البلى. منازل الحكمة الفائقة التأله. تمجدون برعدة اللاهوت الموقر الواحد المثلث..).

إن التأمل في بهاء الملائكة من شأنه أن يرفع النفس إلى عالمهم فتتوق إلى التشبه بهم لأنها من أجل ذلك خلقت وهذا قصد الليتورجيا نحونا:(بما أنكم واقفون حول السيد ومتمتعون بنقاوة بإشراقات عنصر النور يا أجناد الملائكة أضيئونا نحن المرتلين لكم بإيمان).. (إن الحسني العبادة غايروا سيرة اللامع ضياؤهم).. (إن الملائكة شهود على أفعالنا فلنؤثر أن نعيش بنقاوة). (ابتهلوا أن نحظى على الدعوة السيدية نحن المسبحين إياكم بالنشائد ونستحق الفرح الأزلي والبقاء الإلهي). (أظهر الآن الكنيسة مشابهة بالفضيلة لمصافات العديمي الأجساد). (اجعل محافل المؤمنين مشابهين إياهم بعقل مؤله) (إن دعوة المؤمنين إلى التشبه بالملائكة في آخر المطاف تظهر مثلاً في أمر بسيط وهو أن قطعة الاكسابستلاري ليوم الاثنين تدعو الله: منير الأرض بواسطة ملائكتك. أما قطعة الاكسابستلاري ليوم السبت في نهاية الأسبوع فتقول: منير الأرض بواسطة قديسيك.

هذا وإن مخاطبتنا لله وللعذراء مريم والقديسين يوم الاثنين كثيراً ما تستوحي عالم الملائكة ونورهم ومزاياهم ناظرة إلى كل شيء بالنسبة لهم:(يا مزين السماء بالكواكب ومنير الأرض بأسرها بواسطة ملائكتك). (بما أنك أيتها الفتاة فائقة على الأجناد الغير الهيولية ومتسامية علواً على مراتب السموات). (يا عذوبة الملائكة بشفاعاتك المنيرة يا والدة الإله تنيرين المرتلين لك بإيمان). (أيها الشهداء القديسون ماذا ندعوكم أشيروبيم لأن فيكم استراح المسيح مستقراً. أسيرافيم لأنكم مجدتموه بلا فتور. ملائكة لأنكم مقتم الجسد. أقوات لأن لكم فعل العجائب).

وكذلك من زاوية الملائكة ننظر إلى إبليس وإلى الفضائل وإلى كل شيء:(إن الشرير الذي كان بدءاً شارقاً معكم مثل كوكب الصبح.. لكنه من قبل خبثه دحض إلى الأرض وتوشح بالظلام). (بناموس المحبة أنتم تمنحون الإعلانات الإلهية). (من قبل الروح القدس تقدست محافل الملائكة). (لقد أوضحتهم صالحين بشركتك يا محب البشر).

هكذا تتأمل الكنيسة وتصلي إلى الله في بدء الأسبوع مغذية نفوس المؤمنين بجمالات العديمي الأجساد باكورة الخليقة الأولى، ومضرمة فيهم الشوق إلى ذلك الطهر الأول و(البهاء الطرب) وذلك القرب من الله والتمتع بنوره بتسبيح الظفر.

أما وجه التوبة والإحساس بسقوطنا وابتعادنا عن الله فيلازم ذلك الشوق كما ذكرنا وهو يدوي بقوة وصدق معبراً عن مأساة النفس المضبوطة في خطيئتها وعن جهاده الذي لا بد منه في طلب الله.

وإننا في تلك القطع النشيدية الرائعة نتبين أولاً وصفاً واقعياً متنوعاً لا يخلو من تحليل نفساني دقيق لحالة النفس في السقوط والخطيئة والهوى:

(إن العدو يحاربني في الليل والنهار.. ضباب الخطيئة يحيق بي.. صرت مسكناً للأفكار التي تحزني وتبعدني عنك أيها السيد.. أنا ضال في طرق الهلاك وساقط في وهاد الزلات.. لقد انحنيت تحت الآلام وأظلمت.. كأمواج البحر هاجت علي آثامي وكجفنة في لجة أنا وحدي ملجج من ذنوب كثيرة. إن نار الرذائل تفني نفسي كمادة فانية وتحرقها في اللهيب العتيد..).

وتشريح النفس لذاتها يؤدي بها إلى الشعور والتحسس بل إلى الهلع أحياناً:

(أنا لم أكفف عن الخطأ أصلاً ولذلك أعلم أني لا أستحق محبة بشرية.. يا نفس أنظري إلى أفعالك وعجبي كيف الأرض تحملك وكيف لا تحل عليك صاعقة وكيف الوحوش الوحشية لا تفترسك أم كيف الشمس التي لا تغيب لا تكف إشراقاتها عنك.. لا توضح خفاياي يا رب ولا تخزني أمام الملائكة.. في ظهورك الرهيب أيها المسيح لا تسمعنا الصوت القائل:(لا أعرفكم!..).

وتحث النفس ذاتها على التوبة، على النهوض والرجوع إلى الحالة الأصلية التي خلقت فيها: (أيتها النفس الشقية اعرفي مقام حسبك الإلهي ووطنك الغير البالي.. صنعتني حيواناً ناطقاً لأمجد اسمك القدوس وأما أنا فبالعكس أهينه بأعمالي القبيحة دائماً.. إلى متى أنتِ مصرة يا نفسي على الذنوب وحتى متى تؤخرين التوبة.. الرب قريب كما نؤمن فاهتمي يا نفس ولا تنامي مادام لك زمان للتوبة.. هب لنفسي الذليلة شوقاً للتخشع يا رب ولا تترك عادة الخطيئة تضبطني.. كل ما أخطأته إليك يا إلهي بالقول والفعل والأفكار جميعه أكشفه لديك وجميعه الآن أقوله لك إني أسجد لك فسامحني وخلصني).

وكتاب المعزي مملوء من الاستعارات الكتابية فإن أحداث الكتاب المقدس وأمثاله تروي قصة كل منا إلى لا نهاية:

(وأما أنا فأنطرح لديك كالعشار صارخاً يا الله سامحني وخلصني.. أفنيت عمري بالتفريط متعبداً على الدوام للأهواء البهيمية أنا الشاطر وامتلأت خزياً لا يحصى لكن بما أني واثق بمحبتك للبشر أصرخ يا الله سامحني وخلصني.. مثل الكنعانية ارحمني ومثل المنحنية قديماً قومني.. ألتجئ إليك أنا الخروف المحصى من رعيتك فاطلبني أنا الضال وارحمني.. إذا كان الصديق بالجهد يخلص فأين أظهر أنا الخاطئ. ثقل النهار وحره لم أحتمل لكن أحصني مع أهل الساعة الحادية عشرة وخلصني.. أعطني تخشعاً وتنهداً كما أعطيت الزانية بدءاً واغسلني بحميم دموعي.)…

وهكذا ترافق نغمات التوبة أنغام التسبيح الملائكي في اليوم الأول من الأسبوع الليتورجي في طريقها نحو كمال التناغم المنشود في السماء وعلى الأرض.

يوم الثلاثاء:

إن يوم الثلاثاء في صلوات الكنيسة يحمل طابع التوبة نفسه الذي رأيناه في يوم الاثنين أول الأسبوع المخصص للملائكة. ولكن الثلاثاء مخصص للقديس يوحنا المعمدان الواقف على عتبة مجيء المسيح يدلنا عليه. إن المعمدان في نهاية العهد القديم يمثل توبة البشرية جمعاء وانتظارها للمخلص الآتي، وهو لا يزال يمثلها إلى اليوم:(إن هامتك مازالت اليوم أيضاً تكرز بالتوبة). ولذلك نطلب منك أن لا تتصلب نفوسنا بل أن نمنح دموع التوبة المطهرة لنتعرف شخصياً على الرب:(لقد أوضح للكل السبل الموصلة إلى المداخل الإلهية).. (لا شفيع ولا ملاك خلصنا إلا الرب ذاته الذي مهدتَ طرقه وجعلتها مستقيمة).

ثم في تأملنا لسيرة المعمدان نتأمل سر العقر المخصب: (من عاقر عديمة الثمر أفرغت لنا.. وظهرت مثمراً بالفلاحة الإلهية، لذلك اجعل قلبي العقيم من كل عمل حسن التوليد بالصالحات). إنه سر أساسي في تاريخ الخلاص وفي حياتنا الروحية على السواء، سر مجانية عطاء الله.

ونتأمل أيضاً سر القفر: فالمعمدان هو (اليمامة المحبة القفر) و(خروف القفر) كما تسميه أناشيد المعزي وهناك، في عزلة القفر الذي توغل فيه منذ صباه، أبصر إله الخلاص مقبلاً إلى الناس. هذا أيضاً سر أساسي، في الكتاب المقدس وفي حياتنا الشخصية على السواء، سر تفتيشنا عن الله في نسك الصحراء وقحلها.

وتلفت نظرنا بعض الأقوال البليغة في التوبة: (إن تنهدت مثل العشار أتوهم أني أثقل السموات. إن دمعت مثل الزانية أنجس الأرض بعبراتي). (تهشمت عظام نفسي الشقية. في ليل الطغيان الاليل أنا ذائب من قحط اللذات). ولكن بدون يأس بل بالفرح والرجاء:(لقد أشرقت لكل الأقطار مثل سحر منيراً قلوب المسبحين إياك). (أنت واسطة للعتيقة والجديدة فتوسط إلى الرب أن يجددني بجملتي أنا المتعتق بالخطايا).

يوم الأربعاء:

في يوم الأربعاء عزم يهوذا على تسليم الرب إلى اليهود ولذلك فهو يرمز إلى الصليب، إلى رفض العالم للمسيح. وتتابع الكنيسة ذكر الصليب يوم الجمعة حيث تم الصلب الفعلي للرب. ثم تخصه بالذكر أيضاً يوم الأحد إلى جانب القيامة (أنظر قانون الصليب في صلاة السحر). وهكذا يظهر الصليب أساساً للخلاص. (إن الصليب قد انغرس على الأرض فتعالى ووصل إلى السماء لأنك به أملأت الكل فيا رب المجد لك).

إن وقفة الكنيسة أمام الصليب وقفة تأمل طويل أمام سر لا يدرك ولا يعبر عنه، وقفة دهشة وسجود وتسبيح.

وإذا حاولنا أن نحدد بعض النقاط في نظرة الكنيسة إلى الصليب رأيناه منتصباً مقابل عود الجنة ينبع لنا بدل الموت مجاري الخلاص والحياة. إنه يجمع الكل:(بصليبك أيها المسيح صارت رعية واحدة من الملائكة والبشر وكنيسة واحدة). إنه (عصا قوة) للمؤمنين المتسلحين به فلا يجزعون من حيل العدو. إننا به نصير (مساهمي المجد).

وعلى الصليب بصورة خاصة يظهر المسيح كملك حقيقي لا كملوك العالم:(إياك أيها المسمر على الصليب نسبح بغير فتور). (لقد لبست إكليل الشوك كملك حقيقي يا طويل الأناة).

أما نحن فنطلب الدخول في هذا السر: (أهلنا أن نشارك آلامك ومجدك حاملين في ذواتنا ميتوتتك) لأن الصليب وحده يقودنا إلى (مداخل المشيئة الإلهية).

ونلاحظ قطع (الصليبيات) الخاصة بالعذراء لأنها أول من تبنت صليب ابنها ودخلت في سره. وكذلك قطع (الشهوديات) الخاصة بالشهداء الذين (حملوا الصليب على أكتافهم) بالحقيقة.

يوم الخميس:

إن يوم الخميس مخصص للرسل القديسين أول من قبلوا المسيح وحملوا خبره إلى العالم. إن كرامة الرسل هي حقاً كرامة خاصة، والكنيسة إذ تعظمهم تتأمل البشرى العجيبة والمعجزة الفائقة التي تمت بواسطتهم. لقد (وجدوا الرب الذي هو وسيط بين الله والناس والتصقوا به). وجدوا الحكمة والحياة واستناروا بأشعة الإشراق الإلهي فأناروا الأنام بتعاليمهم وأغنوا العالم بحسن العبادة وعلمونا السجود للثالوث المتساوي الجوهر.. (بفقر الإنذار أظهروا الغنى السماوي للآفاق).

ولذلك تمدحهم الكنيسة وتدعوهم (مصابيح للروح الإلهي). إنهم أبرجة الكنيسة، (جبال) سموات تذيع مجد الله. إن الشمس العظيمة بسطتهم كأشعة على جميع المسكونة، وكمثل أنهار ينبوع النعمة الإلهية (طفحوا بمياه الاعتقادات الإلهية ورووا الخليقة بأجمعها).

أما نحن فنطلب إليهم (بما أنهم اتخذوا من الله إشفاقاً) أن يقدسوا فكرنا بالتوبة ويسرعوا فيلبسونا (حلل النور)..

إلى جانب الرسل تذكر الكنيسة في يوم الخميس القديس نيقولاوس رئيس أساقفة ميراليكية العجائبي. القديس نيقولاوس يمثل هنا رؤساء الكهنة خلفاء الرسل. لقد امتاز بالرعاية الصالحة التي تستجيب بإشفاق للطالبين وتنحني لتضرع المرضى والمتعوبين وتجير المظلومين. إنه (القانون الإلهي للكهنوت الشريف) ودستوراً للإيمان وصورة للوداعة. هو أيضاً، على مثال الرسل (استضاء بأن فاق النور بجملته) فصار عرف الروح الإلهي وركن البيعة. إنه (شفيع حار جداً) يدبر المتلججين في أمواج العمر والخطيئة.. (أنقذني من نوم الكسل الصعب جداً). (امنح النعمة الإلهية للساهرين).

يوم الجمعة:

هو يوم تسمير المسيح على الخشبة من أجل خلاص البشر. لقد بدأت الكنيسة تتأمل سر الصليب يوم الأربعاء كما رأيناه أعلاه. والآن فهذا السر الإلهي يبلغ إلى منتهاه فتتابع الكنيسة تأملها في الموقف الروحي نفسه: دهشة وسجود وتسبيح.

يوم السبت:

يوم السبت مخصص لوالدة الإله والقديسين ونفوس الراقدين على رجاء القيامة.

1- إن ذكر والدة الإله يرافق كل أيام الأسبوع فلها قطع خاصة في كل يوم تدعى الثاوطوكيات وقانون خاص بها أيام الأربعاء والجمعة والأحد. إنها تمثل الكنيسة نوعاً ما، والآن فنحن نذكرها بوصفها على رأس القديسين المنتقلين إلى المجد.

إن الكنيسة إذ تتأمل العذراء إنما تتأمل سر سكنى الله فينا: (لقد اقتبلت في أحشائك شعاع الآب بجملته كما تطهرت بالنفس بضياء الروح الإلهي)، فأنتِ (هيكل لملك المجد). أنتِ (أرحب من السماوات) و(بهجة الطغمات الملائكية).

وبالإيمان بهذا السر نخلص:(ولدتِ الخلاص للذين بأمانة لا تحد يعتقدون بإيمان أنك والدة الإله).

وانطلاقاً من هذا تمدح الكنيسة العذراء مريم وتعظمها في نشوة روحية تبلغ إلى الله: (أنقلي شوقي بجملته إليكِ يا من قدمت حلاوة الشوق الفائق النطق إلى العارفين أنكِ والدة الإله). – (بما أنكِ بهية وجميلة ولا دنس فيكِ بالكلية في النساء اختاركِ وسكن في أحشائكِ). – (إننا نقدم لكِ السلام كتسبحة مطربة ونشيدة إلهية) – (إن محفل المؤمنين لم يكتفوا شبعاً من مديحكِ بل يزدادون أبداً فوق شوقهم شوقاً روحانياً إلهياً).

وكذلك نطلب شفاعاتها، (بما أنها أم) لكي تختطفنا من سيادة الآلام النجسة وتفتح لنا أبواب التوبة المضيئة وتنيرنا (وتوعب ذهننا هدوءاً)..

2- وفي يوم السبت نذكر أيضاً مع العذراء جميع القديسين دون استثناء.

وينبغي هنا أن نخص الشهداء بذكر خاص فإن لهم قطعاً خاصة بهم لا يوم السبت فقط بل كل أيام الأسبوع تقريباً.

ذلك لأن الشهداء اتبعوا المسيح واتحدوا به إلى أقصى حد:(لقد ماثلوا آلام المسيح). (لقد وجدوا سبيلاً واحداً للحياة هو الموت عن المسيح فأقصوا عنهم كثافة الموت).

والكنيسة لذلك تقرظهم وتحث على الاقتداء بهم وتطلب معونة الرب الذي قواهم:(ظهرتم متدحرجين على الأرض كأحجار كريمة، أحجار الماس الصلبة) – (يا من قبلت صبر الشهداء القديسين اقبل منا أيضاً التسبيح يا محب البشر) لكي تصير نفوسنا (ذبيحة مرضية أمامك يا رب).

3- وأخيراً نذكر جميع الراقدين على رجاء القيامة.

نتذكر أولاً الموت: كل شيء يزول (الكل أضعف من الظل).. (فلنستعد للساعة الأخيرة الرهيبة). (إن فخ الموت النفساني أدركني فمن قبل أن أهلك بالكلية خلصني يا رب)..

ولكن المؤمنين بالرب لا يموتون. لأنه ضمحل عزة الموت (فاستبان موت البشر رقاداً) – فنبتهل من أجل الراقدين (الذين عاشوا بالرجاء والمحبة..) ليصفح لهم ويرتبهم في أرض الودعاء مع صفوف الملائكة في مكان الضياء..

يوم الأحد:

لقد تدرجنا في سر خلاص المسيح خلال أيام الأسبوع كله ساعين إلى الله في التوبة والتضرع والتسبيح انطلاقاً من حالة السقوط الأولى ومروراً بالصليب والموت حتى بلغنا إلى يوم الأحد يوم القيامة.

1- إن يوم الأحد يحتل مكاناً خاصاً في الدور الأسبوعي وليس كبقية أيام الأسبوع. إنه (اليوم الثامن) كما يسميه الآباء، صورة ورمز للدهر الآتي بل (سر) الدهر الآتي بيننا كما يدعوه القديس غريغوريوس الذيالوغوس. إنه رسم للأبدية في الزمن. هو ضمن الزمن دون أن يكون من الزمن، إذ يأخذنا من الزمن العادي، من وراء العالم والجسد، لينقلنا ويدخلنا في عالم القيامة والملكوت في حياة الله الثالوث. ولذلك نحن لا نسجد فيه (من غروب السبت حتى غروب الأحد) كوننا على حد قول القديس باسيليوس الكبير في حالة امتداد وانتظار وشيك التلبية، حالة شخوص نحو الحياة الأبدية وتحديق إليها.

2- إن يوم الأحد يستمد قوته هذه ووجهه من يوم الفصح المجيد، محور حياة الكنيسة وينبوعها، إذ هو امتداد بل استمرار لعيد الفصح عينه خلال السنة كلها يوزع عليها حقيقة القيامة الدائمة ونعمتها مع نورها وفرحها ليغذي حياة المؤمنين. ولربما كان من الأصوب أن ندرس أولاً عيد الفصح وأناشيده الغزيرة الرائعة (في كتاب البندكستاري) لننتقل بعدئذ إلى أناشيد يوم الأحد الأسبوعية (في كتاب المعزي) إذ نلاحظ أن هذه إنما هي انعكاس أو ترداد لتلك. ولكنها بصورة مصغرة تلخص كل دور القيامة (وتضيف إليه شيئاً من العنصرة اللاحقة به كما سنرى) وليس من الضائع أن نستعرض باختصار بعض النقاط في أناشيد أيام الآحاد فيما يلي:

3- إن البادرة الخاصة الأولى التي نلاحظها في صلاة يوم الأحد هي أن القانون في صلاة نصف الليل مخصص للثالوث القدوس الذي أبلغتنا إليه قيامة الرب. إن الثالوث القدوس (الإله الواحد للخليقة المنظورة والغير المنظورة) هو الغاية الأخيرة لحياتنا الروحية ولكل شيء، والكنيسة يوم الأحد تخصص صلاة نصف الليل للتأمل في سره الفائق الإدراك. (لقد صورت الإنسان على مثال صورتك ومنحته عقلاً ونطقاً وروحاً لكيما توضح للبشر وحدانية لاهوتك المثلث ضياؤها). إننا نلاحظ فوراً الوجه العقائدي الذي يميز نشائد الكنيسة الأرثوذكسية لأنه لابد أن (نرتل لك بإيمان مستقيم الرأي). ولكن هذا الطابع العقائدي هو في الوقت نفسه طابع تأملي يرفع العقل والروح في تمجيد لا يوصف.

إن نشائد القوانين المختصة بالثالوث القدوس تتكلم عن الآب (ينبوع واصل وعلة اللاهوت)… وعن الابن (الذي أفاضه الآب بما أنه صالح من قلبه قبل كل الدهور).. وعن الروح.. تتكلم عن الولادة بغير سيلان وعن الانبثاق، وعن كون الله مع ذلك (لم يزل بسيطاً غير متجزئ). (بنورك الذي هو الروح نعاين النور الذي هو الابن.. شارقاً نوراً من نور).. إنها تشير إلى حوادث الكتاب المقدس المتعلقة بالثالوث والجارية مع ابراهيم وإيليا وغيرهما:(تراءيت قديماً لابراهيم بإيضاح وأظهرت له طبيعة اللاهوت الواحدة ذات الثلاثة أقانيم)… غير أنها تعود لتؤكد كثيراً على تعالي الله (المحتجز النطق به)، و(الذي هو فوق كل الأزمان). ولذلك يزداد التمجيد بغير فتور (التسبحة المثلث تقديسها… بنغمات متفقة… بإيمان وخوف).. للإله الفائق الصلاح.

إننا في هذه النشائد نطلب نعمة التمجيد من فوق:(علمني أن أتأمل بهاء جمالك.. وأذوق عذوبة مسلسل نورك).. (اسكن في قلبي لأسبحك وأمجدك بغير صمت) (أفعمني من إشراقاتك).. (اجعلني مسكناً إلهياً مع أبيك والروح كما وعدت)..

ونطلب مع ذلك التوبة والمعونة الإلهية (لأن القديسين علمونا أن نرتعد خوفاً على عتبة الفردوس) (اهدنا إلى سبيل التوبة.. نحن المسخطين الرب والجانحين إلى المساوئ الصعبة أبداً)، (احفظني وصني لئلا تحرقني نار الخطيئة)..

كما نطلب أيضاً نعمة حفظ الوصايا الثمينة جداً:(أطلب منك أن تفهمني وتنيرني إلى العمل بإرادتك المقدسة)، لنؤهل (لتكميل مواعيدك الخلاصية)..

4- ثم نلاحظ أن صلاة السحر تخصص (في (الأنافثمي)) أناشيد خاصة للروح القدس تظهر دوره كـ (عنصر) الحياة والكرامة، وينبوع كل حكمة.. :(إن الخليقة بالروح القدس تتجدد جميعها) (بالروح القدس كل أحد إلهي، ينظر وينطق بالعتيدات ويصنع آيات علوية).. ذلك لأن الروح القدس هو الذي يحركنا في حيانا في المسيح وبه نصلي ونشتاق للرب. وهذا أيضاً وجه (عملي) لصلاة الكنيسة (إذا صح القول) لأن حياتنا الروحية تبدأ بالروح القدس.

وتلفت النظر هنا بعض الأناشيد المرافقة لأناشيد الروح القدس والتي يبدو جلياً أنها من صنع الرهبان: (إن عيشة أهل البراري لمغبوطة جداً لأنهم بالعشق الإلهي يتطايرون دائماً).. (إن الزارع في الجنوب حزناً وصوماً ودموعاً هذا يجني أثمار الفرح).. (لقد ابتهجت روحي بالقائلين لي لنسع إلى ديار الرب وفرح قلبي جداً وقدمت صلاة دائمة)..

5- فيما عدا ذلك نرى صلاة الأحد تنصب كلياً على القيامة لأنها مصدر خلاصنا وحياتنا الجديدة (لأنك أنت وحدك الذي أظهرت القيامة في العالم). فنعود إلى ذلك اليوم المجيد، يوم الفصح، ونذهب مع النسوة إلى القبر الفارغ سحراً جداً.. مع مريم المجدلية.. ومع بطرس ويوحنا.. ونسير مع تلميذي عمواس، ونرى الرب ونعرفه ونسجد له قائلين:(إذ قد رأينا قيامة المسيح فلنسجد للرب القدوس البريء من الخطأ وحده).. ويمتلئ قلبنا فرحاً:(أي تسبيح لائق تهدي لك طبيعتنا الواهية سوى الفرح).. ونقول للجبال ابتهجي وللسموات سري. وكأن القيامة حاصلة اليوم بالذات: وهي كذلك.

في صلاة سحر الأحد ثلاثة قوانين: للقيامة وللصليب ولوالدة الإله، ولكنها مشبعة كلها بجو القيامة وفيها نستعيد كل التدبير العجيب على ضوء غايته التي هي القيامة:(المسيح تجسد ليؤلهني، المسيح تواضع ليرفعني، المسيح تألم بطبيعة الجسد ليجعلني غير متألم… وأقامني معه وبعدم البلى مجدني..) (من هو هذا القادم من آدوم المكلل بالشوك، المتوشح حلة حمراء المعلق على عود، هذا هو قدوس إسرائيل الذي أتى لخلاصنا وإعادة إبداعنا..).

يستمر هذا التأمل الحلو طويلاً متخذاً تارة شكلاً (لاهوتياً) دقيقاً وتارة أخرى شكل ابتهال قلبي حار:(أيها المسيح لقد اتخذت من الدم البتولي جسداً طاهراً خالياً من زرع حقيقياً ناطقاً عاقلاً متنفساً فاعلاً مريداً، ذا سيادة وسلطان). (إن آدم لما اتحد بالكلمة أقيم متألهاً.. وتمجد على العرش مثل الابن الجالس مع الآب والروح). (يا من انحدرت إلي حتى الجحيم متنازلاً… إليك أجنح بجملتي ونحوك أميل قلبي وفكري وكل جوانح نفسي وجسدي… لست أخشى بعد من عودتي إلى الأرض لأنك بإفراط صلاحك انتشلتني منها أنا الساقط وبقيامتك المجيدة رفعتني إلى علو عدم الفساد).

وتنتثر هنا وهناك قطع تعزي وتثبت:(لو لم يكن الرب قينا فمن كان كفؤاً أن ينحفظ سالماً من العدو قاتل الإنسان). (إن المتوكلين على الرب مرهوبون لدى الأعداء لأن نظرهم مرتفع جداً).

أو تصف روعة النضال:(إن الفتية الإبراهيميين في الأتون الفارسي التهبوا بشوق حسن العبادة أكثر من السعير… اختبروا في الأتون كفي كور السبك فلمعوا ببهاء حسن العبادة أنقى من الذهب.. وصرخوا مبارك أنت في هيكل مجدك يا رب).

أو تزكي الشوق إلى الرب أبداً:(إن نار الشوق البتولي التي في سويداء القلب تجذبني نحو المديح لكي أهتف إلى الأم البتول أيتها المباركة رب القوات معك).

ولكنها كلها تستضيء بالقيامة وبها تكتسي معناها البهي الكامل…

وهكذا تنعم الكنيسة بيوم الأحد، سيد الأيام، متأملة ومغتذية، متهللة في نور القيامة ويقينها لأن الرب حقاً قد قام.

ج- الدور السنوي

إنه دور التدبير الليتورجي الكبير، دور الليتورجيا المعاشة في كليتها مطابقة لكل تدبير الله. والدور السنوي مبني على أربعة أعمدة أو قل خوافق، هي أعياد رئيسية تنتظم حولها بقية الأعياد:

1) الفصح: إن عيد الفصح المقدس عيد لا يقاس بآخر. إن الكنيسة بالحقيقة لا تعيش إلا من الفصح، إلا في فصح ينسكب على أيام السنة كلها كما سبق القول. ولذلك فهي تعيده ببهاء خاص تعييداً فريداً، وكأنها فيه تتجدد كفي ينبوع.

2) الميلاد والظهور الإلهي: إن عيد الميلاد والظهور أو الغطاس كانا متلازمين حتى القرن الخامس، ومعناهما التعييد للزواج السري بين المسيح والخليقة إذ بمجيء المسيح وعماده يولد المسيح سرياً (جسدياً) في الخليقة وتولد الخليقة في المسيح. إن هذين العيدين يؤلفان إلى جانب عيد الفصح (حيث الولادة الأخروية) القطب الثاني في الدور الكنسي.

3) العنصرة: إن عيد العنصرة (الأيام الخمسين) هو ثمر الفصح. إنه الوقت الفصحي في ملئه الأرضي والسماوي: المسيح القائم من بين الأموات يذهب ليرسل إلينا المعزي.

4) انتقال العذراء: وفيه نعيد للمخلوقة الأولى التي عبرت جسدياً عتبة الدهر الآتي ودخلت إلى ما وراء الحجاب.

إن هذه الأعياد في تركيب السنة الليتورجية الأرثوذكسية تسبقها فترة صوم (باستثناء عيد العنصرة وبإضافة عيد الرسل).وهذا الصوم غايته إدخالنا شخصياً في حقيقة السر المحتفل به و(آنيته):(عندما يرفع عنهم العريس حينئذ سيصومون) (في فترة عيد العنصرة العريس هنا، إنه الوقت الفصحي ولذلك لا يصومون). هذه الأعياد يسبقها صوم من أجل إدخالنا في التركيب الفصحي الذي لكل عيد رئيسي في الكنيسة. فالصوم هو النسك الشخصي، الموت الطوعي الذي ندخل به القيامة.

المعنى الأول للصوم هو الإمساك عن الطعام والماء والأهواء كواسطة لمعرفة الذات في ضعفها وعبوديتها للخطيئة وكواسطة لخلع الإنسان العتيق. ولكننا مع الاحتفاظ بهذا المعنى الأساسي ومع جعله دائماً داخلياً تأملياً كما هي غاية نظام الصوم منذ القديم، يجب أن ننتبه أيضاً إلى المعنى الخارجي والأبدي الذي لفترة الصوم الكنسي. فالصوم الكنسي لا يقتصر على الإمساك عن الطعام بل هو صعود روحي كما يظهر من استعراض سريع لآحاد الصوم الكبير (راجع سنكسار كتاب التريودي):

  • نبدأ بأحد الفريسي والعشار وهذا يعني أن الانسحاق والتوبة شرطان رئيسيان من أجل الصوم، من أجل الدخول في الملكوت المفتوح أمامنا بعيد الفصح.
  • ثم يأتي أحد الابن الشاطر: إنها العودة إلى الآب، المحبة الأبوية التي تنتظرنا.
  • ثم أحد الدينونة (مرفع اللحم): يذكرنا بنهاية التاريخ الرهيبة لكي لا نتهاون ونتوانى متكلين على عطف الله. (في تناقض ظاهر هذه أيام أكل اللحوم و(التبديل)..).
  • ثم أحد طرد آدم من الفردوس (مرفع الجبن): بعد أن وضعتنا الكنيسة أمام نهاية الأزمنة تعيدنا في الأحد التالي إلى بدء تاريخنا، تاريخ السقوط.
  • ثم أحد الأرثوذكسية، الأحد الأول من الصوم. ولا يقصد بالأرثوذكسية المذهب بل العقيدة واستقامة الرأي: ملء الإيمان الذي هو باب الدخول للقيامة.
  • ثم أحد غريغوريوس بالاماس: أي أحد التمثيل الروحي لسر العقيدة الأرثوذكسية في نور التجلي كما مثله غريغوريوس بالاماس وعبر عنه (هو في الحقيقة أحد التجلي).
  • ثم أحد الصليب: في منتصف الصوم نتأمل الصليب الذي نسير بهديه فنذكر معنى جهادنا ونسكنا: إننا إنما نتبع صليب المسيح فقط. نحن نتأمله من أجل السجود له ومن أجل القيامة إذ بالصليب نصير (شفافين) للقيامة:(لصليبك يا سيدنا نسجد ولقيامتك المقدسة نمجد).
  • ثم الأحد الرابع والأحد الخامس نعيد فيهما لتذكار قديسين من النساك هما يوحنا السلمي ومريم المصرية: رجل وامرأة بلغا مسبقاً إلى القيامة لكثرة حبهما للمسيح. إن سنكسار التريودي بكامله عبارة عن نشيد حب للمسيح الذي يدعونا لنتبعه متجاوزين آلام طبيعتنا الساقطة وقلقها لكي نتمتع معه بنور القيامة.
  • ثم أحد الشعانين: وبه ندخل الزمن التاريخي لآلام المسيح. إن زمن الكنيسة في هذا الأسبوع يصبح كثيفاً جداً، فهي تتبع المسيح خطوة خطوة وتجتمع لهذه الغاية كل ساعة بل ما بين الساعات (خدمة الميصوريون). إنه تأمل لا ينقطع في سر المسيح، وحب حتى نبلغ إلى فرح القيامة العظيم.

أما دور عيد العنصرة فالأحدان الأولان منه (أحد توما وأحد حاملات الطيب) هما بمثابة تأكيد وتثبيت للقيامة. والآحاد الثلاثة التالية (المخلع والسامرية والأعمى) موضوعة تحت علامة الماء الذي هو واسطة لنقل الروح القدس إلينا.

فكل دور من أدوار الأعياد السنوية يطلب منا الدخول والسير في طريق، السير في النعمة لكي نحيا في داخلنا السر الذي نحتفل به وكذلك كافة الأعياد السنوية.

2- الخدمة الإلهية وشركة القديسين

إلى جانب الإيقاع ومرافقة الزمن للخدمة الليتورجية معنى آخر مهم هو ذكر جميع القديسين. ولكن ذكر القديسين ليتورجياً لا يعني التذكر النفساني بل الدخول سرياً في شركة معهم: مع فضائلهم وقوة حياتهم والروح القدس الذي فيهم. لأن المعنى الأخير للقداسة في سائر أشكالها إنما هو إعلان الله: ظهور الرب (the’ophanie) وتمجيده تمجيداً كلياً:(عجيب الله في قديسيه). إن القديس أعطى ذاته كلياً للمسيح ليحل فيه وينيره. فذكرنا للقديسين إنما هو إنماء وتعميق لشركتنا بالمسيح نفسه، وفي الوقت ذاته هو ربطنا بنظام الخليقة الجديد الذي هو القداسة.

ويجب هنا أن نكون (بتشديد الواو) مفهوماً صحيحاً عن القداسة. يجب أن لا نفهم القداسة عن طريق الخيال والتصورات السطحية والمغلوطة كأن لا نرى في القديسين إلا أناساً يصنعـون العجائب أو كرجال فوق جميع الرجال لا يتألمون ولا يضعفون بل يؤتون أعمال النسك والجهادات العجيبة بصورة آلية أو تعمل فيهم النعمة الإلهية بصورة آلية خاصة. لا بل القديسون هم أناس بشريون إلى أقصى حد أكثر من جميع الناس، إنهم يعون ضعفهم وحقارتهم وعدمهم كبشر، وعجيبتهم الكبرى هي أنهم لا ييأسون من ذلك بل يقدمون كل ذلك للمسيح لكي يعيشوا منه وحسب.

وإنه لبليغ أن تنهي الكنيسة كل صلواتها بتضرع إلى شركة القديسين قائلة:(بصلوات آبائنا القديسين أيها الرب يسوع المسيح إلهنا ارحمنا وخلصنا آمين). هذا يعني أننا معهم من طبيعة بشرية واحدة، هي ممجدة فيهم، ولا تزال في طريقها للتمجيد فينا. هذا والعيد الأخير في دور العنصرة الليتورجي هو عيد جميع القديسين: إنه ازدهار العنصرة في الناس وختم التدبير الإلهي. إن دور التدبير الإلهي ينتهي ببداية البداية: بالتقديس.

فالخدمة الليتورجية تدعونا إذاً للدخول في شركة القديسين هذه، تدعونا للتقديس وعالم القداسة.

3- الخدمة الإلهية كصلاة وتسبيح

ولكن الخدمة الليتورجية تعاش جوهرياً كصلاة واسعة لا نهاية لها، فلا نستطيع الدخول فيها بدون موقف صلاة.

هي بالدرجة الأولى صلاة الكنيسة وبالتالي فهي صلاة بشرية وإلهية معاً: صلاة البشرية الخاطئة، القلقة، التائبة والواثقة والفرحة بوجود ربها وسيدها. وبهذا وفي هذا هي صلاة إلهية. أعني أن الروح القدس هو الذي يعلمنا أن نصلي، هو قائد الأسرار الأكبر وملقنها.

هذه الخبرة اللامحدودة المسجلة في الخدمة الليتورجية ليس لنا الحق في العبث بها. ليس لنا الحق في تحويل تلاوة الخدمة إلى طقسية خارجية جافة لا روح فيها. إننا بهذا نفقر ذواتنا من عظم غنى شركة القديسين (غنى المزامير والأناشيد والأفاشين وغيرها الموضوعة من قبل كبار القديسين و(اللاهوتيين)…).

أما إذا دخلنا في الخدمة الليتورجية فإننا ندخل بها بالضبط في تيار صلاة الكنيسة والروح. بكل أناة وانتظار نتبناها فتصير صلاتنا. فندخل بها في الذكسولوجيا الكبرى وفي ذلك التسبيح والحمد والتمجيد المرفوع للخالق من أجل جميع أعماله نحونا. وبهذا تكون الخدمة بمثابة معلم لصلاتنا لا مثيل له إذا كنا أهلاً للانتباه إلى ما يقول. منذ الأيام الأولى للمسيحية (منذ الليتورجيا المجمعية اليهودية كانت أوقات التسابيح السبع في النهار) كان المسيحيون يجتمعون ليسبحوا التسابيح صباحاً ومساءً عند قطبي الانتقال. المسيحيون كائنات تسبيحية يشكرون من أجل كل شيء.

4- الخدمة الإلهية كتأمل حي

إننا لا نكون في حقيقة الخدمة الليتورجية إن لم نمثلها ونهضمها من الداخل كرؤية جديدة للأشياء. أعني أنه في الخدمة الليتورجية حكمة الله موجودة ومعروضة، وعلينا أن نفهمها ونتبناها ونكتسب هكذا (فكر المسيح). ولكن عائقين يمنعاننا من تحقيق ذلك:

العائق الأول هو بقاؤنا في الخارج وإتمام الخدمة كطقس يقتصر على ترتيل. في تقليد الكنيسة وتاريخ الخدمة الليتورجية كانت هذه جوهرياً عبارة عن نص مقدس: مقاطع من الأسفار المقدسة وأناشيد تتلى لتضرم فينا حب الله والأشياء الغير المنظورة وتغذي تأملنا الداخلي. ولكن هذه الخدمة أغرقت مع الزمن في الأبهة الخارجية، خاصة في طريقة أدائها وترتيلها. وإذا فحصنا ضميرنا يظهر لنا أننا عندما نشترك في قداس احتفالي أو عيد ما، يصبح القداس مباراة لمن يرتل أحسن من الآخر أو من الفريق الآخر، إننا نبتعد بهذا عن روح التسبيح الأصيل الذي يجري في سلام وهدوء وسكينة. فلا نستطيع أن ننتبه إلى عمق معاني النص المقدس من طروباريات وغيرها ونقف هكذا عند الترتيل الخارجي، عند الطقس (إن الخدمة المثالية من هذه الناحية هي التي تتم في الأديرة إذ لا تكون للاحتفال الخارجي بل تكون طريقاً لدخول فحوى النص التأملي والروحي بواسطة التأمل في الكلام والترتيل بوداعة وسلام).

العائق الثاني هو الوقوف عند حروف الخدمة وألفاظها وعدم بذل الجهد لتمثيلها وتطبيقها لحياتنا. الكثير من الطروباريات الجميلة مثلاً أو الكاطافاسيات التي نتذوقها (إنني أشاهد سر عجيباً مستغرباً… يا من هي أكرم من الشاروبيم الخ…) نقف عند مظهرها الفني الجمالي الخارجي ولا نجتهد في تحويلها إلى مبادئ لفهم الأمور حتى نصل إلى النظر إلى كل خليقة الله نظرة إيمان تأملي معاش، ليس فقط داخل الاحتفال الليتورجي بل في تلك الحياة التأملية التي تؤلف الخدمة الليتورجية مدرسة لها.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى