Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

رجاء المعونة الإلهية

117. لنعد إلى النقطة التي تركنا فيها الموضوع. سنتحدث عمن اتجهوا بأنظارهم إلى الفضيلة وتبعوا موسى في الحياة. عندما يترك هؤلاء حدود الأراضي المصرية خلفهم، فإن هجمات الإغراءات تتابعهم بشكل معين وتجلب لهم الضيق والمخاوف والتهديدات بالموت. وعندما يخافون من هذه الأشياء فإن حديثي العهد بالإيمان يفقدون كل أمل في الخير، ولكن إذا جاء موسى أو قائد مثله للشعب، فإنه يعطيهم المشورة ضد الخوف ويقوي عقولهم المحبطة برجاء المعونة الإلهية.

118. لن تأتي هذه المعونة إلا إذا كان قلب القائد يتكلم مع الله. ويلاحظ أن كثيرًا ممن يشغلون منصب القيادة لا يهتمون إلا بالمظهر الخارجي فقط، ولا يكادون يلقون بالاً إلى الأمور المخفية التي يلاحظها الله فقط. ولكن لم يكن موسى من هذا النوع، فبينما كان يخاطب الإسرائيليون ويحثهم على الشجاعة، كان يصرخ إلى الله بدون صوت، لأن الله نفسه شاهد على ذلك. وأعتقد أن الكتاب المقدس يعلمنا أن الصوت الشجي الذي يصعد إلى أسماع الله ليس هو الصرخة التي تطلقها أعضاء الكلام لدينا ولكن التأمل المنبعث من ضمير نقي (1 تي 1: 5).

119. وبالنسبة لمن يجد نفسه في مثل هذه الظروف، فإن المعونة التي يقدمها أخوه في الصراعات الكبيرة محدودة. والأخ هنا هو أخو موسى الذي قابله وهو نازل إلى مصر تنفيذًا للأمر الإلهي، والذي يفهم الكتاب أنه كان في رتبة الملائكة. ثم حدث استعلان الطبيعة الإلهية، التي تظهر نفسها لكل واحدٍ بالطريقة التي يمكن بها أن يقبلها. إذا ما نسمعه من القصة في الكتاب المقدس أنه حدث، نفهم من التأمل في الكلمة أنه دائمًا يحدث.

120. عندما يهرب شخص ما من مصر وبعد الخروج من حدودها تخيفه هجمات الإغراء، فإن المرشد يجلب الخلاص من أعلى، وكلما أحاط العدو بجيشه شخصًا مُطاردًا، فإن المرشد يمَّكنه من عبور البحر.

عمود السحاب المرشد وعبور البحر الأحمر

121. في ذلك العبور كان عمود السحاب مرشدًا. وقد أحسن من قبلنا بتفسير عمود السحاب على أنه رحمة الروح القدس، الذي يرشد المستحقين نحو الخير، ومن يتبع الروح القدس يعبر المياه، حيث أن المرشد يصنع له فيها طريقًا، وبهذه الطريقة يقوده بأمان إلى الحرية، أما الذي يطارده ليعيده إلى العبودية فيهلك في الماء. لا يجب أن يجهل من يسمعون هذا سرّ الماء. فالذي ينزل الماء مع جيش العدو يخرج وحده تاركًا جيش العدو يغرق في الماء[66].

الجيش المصري بجياده ومركباته

122. من هو ذاك الذي لا يعرف أن الجيش المصري بجياده ومركباته وسائقيها ورماته (بالقلاع والأقواس) وجنوده المسلحين بأسلحة ثقيلة وباقي قوات العدو في خط المعركة هم رمز للأهواء المختلفة للنفس التي تستعبد الإنسان[67]، فإن الدوافع الفكرية والميول الحسية غير المنضبطة للمتعة والألم والجشع مشابهة تمامًا للجيش الذي ذكرناه. والسباب والشتيمة هما مثل الأحجار التي ترمى بالقلاع، والتهور هو سن الرمح المتحرك. أما حب المتعة فهو يتمثل في الجياد التي تجر المركبة بدافع لا يمكن مقاومته.

123. نقرأ في التاريخ بسفر الخروج أن المركبة كان بها ثلاثة يقودونها يسمون “القادة[68]“، وحيث أنك قد تعلمت من قبل سرّ قائمي الباب وعتبته العليا، فتدرك أن هؤلاء الثلاثة الذين تحملهم المركبة يماثلون التقسيم الثلاثي للنفس: العقلاني والعاطفي والروحي.

124. يندفع كل الجيش في الماء مع الإسرائيليين الذين تقدموه في العبور المهلك (للجيش). عندئذ نجد عصا الإيمان تقود الطريق وعمود السحاب يعطي ضوءً، ويعطي الماء والحياة لمن يجدون فيه ملجأً، ويهلك مطارديهم[69].

125. يعلمنا التاريخ (الكتاب) هنا عن نوع الناس الذين سيعبرون الماء ولا يأخذون معهم أيًا من جيش الأعداء وهم يخرجون من الماء. فإنه لو خرج العدو معهم من الماء فسيستمرون في العبودية بعد خروجهم حيث أحضروا الطاغية حيًا معهم ولم يغرقوه في الماء. وإذا أراد أحد توضيح الرمز في هذه الصورة فإن الواضح هو أن الذين يمرون في ماء المعمودية المقدس يجب أن يقتلوا جيش الشر كله، هذا الجيش الذي يشمل الجشع والرغبات غير المنضبطة وأفكار الطمع وأهواء الغرور والصلف، والتهور، والغضب، والحقد والحسد وكل هذه الأشياء. وحيث أن الأهواء بطبيعتها تتبع طبيعتنا، فإننا يجب أن نقتل في الماء الميول الوضيعة للعقل والأعمال التي تنتج عنها.

الفطير وسرّ الفصح

126. وكما كان الفطير يؤكل في سرّ الفصح (اسم يطلق على الذبيحة التي يمنع دمها موت من يقدمها)، فهكذا يأمرنا الناموس الآن أن نأكل فطيرًا في الفصح (الفطير هنا هو الخبز غير المختلط بالخمير الذي يشير إلى الشر 1 كو 5: 7)، ويجب أن نفهم من هذا أن أي بقايا من الشر يجب ألا تختلط بالحياة القادمة. بل يجب أن نبدأ بداية جديدة تمامًا في الحياة، وننهي الاستمرار في الشر بتغيير كامل نحو الأفضل، والمقصود أيضًا أنه نغرق الجيش المصري كله (كل شكل من الشر قارن 1 تسالونيكي 5: 22) في المعمودية المخلصة سنخرج وحدنا ولا نأخذ معنا شيئًا غريبًا في حياتنا التالية. وهذا هو ما نتعلمه من القصة التي تخبرنا بأنه في الماء يتميز العدو من الصديق بالموت والحياة، فيهلك العدو ويحيا الصديق.

127. كثيرون ممن يتلقون نعمة المعمودية المقدسة يجهلون وصايا الشريعة، فيخلطون خمير الحياة القديمة بالحياة الجديدة، وبعد عبور المياه يحضرون معهم الجيش المصري الذي يظل يعيش معهم في أعمالهم.

 128. نأخذ على سبيل المثال شخصًا جمع ثروة عن طريق السرقة أو الظلم، أو اقتنى أملاكًا بالغش أو عاش مع امرأة في الزنا أو قام بأعمال أخرى ممنوعة قبل أن يحصل على نعمة المعمودية، هل يظن مثل هذا الشخص بعد أن اغتسل في المعمودية أنه يمكنه الاستمرار في الاستماع بهذه الشرور المتمسك بها وفي نفس الوقت يتحرر من عبودية الخطية؟ هل لا يستطيع أن يرى أنه تحت نير جبابرة قساة؟

129. إن الأهواء غير المحكومة هي سيد قاس وهائج يسيطر على المنطق (العقل) المستعبد له ويغذيه باللذة كأنها سوط لاذع. والجشع هو سيد آخر مماثل، لا يعطي أية راحة لمن يستعبده، فحتى إذا نفذ الشخص المستعبد أوامر السيد، وخضع له بعبودية وحصل له على ما يرغب فيه، فإن السيد يدفع الخادم للحصول على المزيد. وكل أشكال الشر هي طغاة وسادة يستعبدون مرتكبيها. وفي رأيي أن الشخص الذي مازال يخدم هؤلاء السادة، حتى لو مرّ خلال الماء، فإنه لم يلمس الماء المقدس على الإطلاق، الذي من وظيفته أن يدمر الطغاة الأشرار.

 المحطات الأولى في الصحراء.

130. لنتقدم الآن إلى النقطة التالية في النص. أن الشخص الذي عبر البحر ورأى المصريين يموتون فيه كما نفسر القصة – لا يعود ينظر إلى موسى وحده على أنه حامل عصا الفضيلة، ولكن بالنظر لما سبق فإنه يؤمن بالله – كما يقول الكتاب المقدس. ويطيع عبده موسى (خر 14: 31). ونرى هذا يحدث الآن مع الذين يعبرون الماء حقًا، الذين يكرسون أنفسهم لله. وكما يقول الرسول، يطيعون ويخضعون للذين يخدمون الله في الكهنوت (عب 13: 17).

الماء المر وخشب الشجرة

131. بعد عبور البحر تلت ذلك ثلاثة أيام عسكروا فيها في مكان وجدوا الماء فيه مرًا لدرجة أنهم لم يمكنهم شربه أولاً، ولكن خشب الشجرة الذي طرح في الماء جعل طعمه مقبولاً للذين كانوا يعانون من العطش.

132. يتفق التاريخ الذي نقرأه مع ما يحدث الآن. فبالنسبة للشخص الذي ترك مُتع الحياة في مصر التي كان مستعبدًا لها قبل عبور البحر، تبدو الحياة بدون هذه المتع صعبة وغير مقبولة في بادئ الأمر، ولكن عند طرح الخشبة في الماء، أي عند تلقي سر القيامة (البعث) الذي بدأ بالخشبة (بالطبع فإنك تفهم أن الخشبة هي الصليب)، فإن حياة الفضيلة تصبح عذبة المذاق بالإيمان بالأشياء الآتية، وتصبح أحلى طعمًا وأبهج من كل العذوبة التي تحطم الحواس بالمتعة.

أشجار النخيل والينابيع

133. كان مكان الراحة التالي في الرحلة مليئًا بأشجار النخيل والينابيع، أنعش المسافرين. كان هناك اثنا عشر عينًا من المياه النقية العذبة وسبعون نخلة كبيرة شاهقة الارتفاع. ماذا نكتشف ونحن نتتبع التاريخ؟ سنكتشف أن سرّ الخشبة التي جعلت ماء الفضيلة عذبًا للعطاش تقودنا إلى الاثنا عشر ينبوعًا والسبعين نخلة، أي إلى تعاليم الإنجيل.

134. الينابيع هي الاثنا عشر تلميذًا اختارهم الرب لهذه الخدمة، والذين من خلالهم فجر الرب ينبوع كلمته. لقد تنبأ أحد الأنبياء بتفجير النعمة من التلاميذ عندما قال “في الجماعات باركوا الله الرب أيها الخارجون من عين إسرائيل” (مز 68: 26)، أما السبعون نخلة فهي السبعون رسولاً الذين بعثوا بالإضافة إلى التلاميذ الاثنى عشر إلى العالم كله. كان عددهم نفس عدد أشجار النخيل الذي يخبرنا عنه تاريخ موسى[70].

135. استحسن الإسراع في رحلتنا خلال النص، مع ذكر تأمل عن باقي أماكن المعسكرات التي نزل بها الشعب، وبعض الملاحظات القليلة. إن أماكن هذه المعسكرات التي يلجأ إليها للراحة الشخص الذي يتبع عمود السحاب هي الفضائل. وهنا نذكر معجزة الصخرة، التي تغيرت طبيعتها الصلبة الشديدة المقاومة لتمد ماء للشرب للظمآن عندما تحولت صلابة الصخر إلى نعومة الماء ورقته.

136. ليس من الصعب التوفيق بين التسلسل التاريخي والتأمل الروحي. إن الإنسان الذي ترك المصريين موتى وراءه في الماء، وتنقى بالخشبة، وتلذذ بينابيع التلاميذ وارتاح في ظل أشجار النخيل هو بالفعل قادر على استقبال الله. فالصخرة، كما يقول الرسول، هي يسوع المسيح[71]. وهذه الصخرة صلبة ومقاومة لغير المؤمنين، ولكن إذا استخدم الإنسان عصا الإيمان فإن الصخرة تتحول إلى ماء للظمآن وتتدفق على من يقبلون السيد المسيح، لأنه يقول” (أنا وأبي) إليه نأتي، وعنه نصنع منزلاً” (يو 14: 23).

المن

137. يوجد حدث آخر يجب ألا نمر عليه دون تأمل. فبعد أن عبر المسافرون في الفضيلة البحر، وبعد أن صار الماء عذبًا لهم، وبعد الراحة المنعشة بجوار العيون والنخيل، وبعد الشرب من الصخرة، بعد كل هذا نفدت المؤن التي احضروها من مصر تمامًا. وعندما لم يعد لديهم أي شيء باق من الطعام الغريب الذي كانوا قد اختزنوه في مصر، انهمر عليهم من أعلى طعام كان متنوعًا وواحدًا في نفس الوقت. فمن ناحية المظهر كان الطعام واحدًا، ولكن مختلفًا في النوعية، لأنه كان يوفق نفسه مع رغبة كل واحد[72].

138. ماذا نتعلم من ذلك؟ يجب أن يطهر الإنسان نفسه من شرور مصر والحياة الغريبة فيها (رمز الحياة في الشر)، ويفرغ كيسه من كل الغذاء الذي من عند المصريين، أي يفرغ روحه من كل شر. وبهذه الطريقة يمكن أن يستقبل في نفسه النقية الطعام الآتي من فوق، الذي لم يُزرع في أرض، بل ينزل من فوق ويوجد على الأرض جاهزًا دون غرس بذوره أو نضوج.

139. أنك تدرك بلا شك الطعام الحقيقي في الصورة التي يرسمها لنا التاريخ في القصة: فالخبز الذي نزل من السماء (يو 6: 51) ليس شيئًا غير عادي (معنويًا)، فكيف يمكن لشيء معنوي غير مادي أن يغذي جسم الإنسان؟ ونلاحظ أن هذا الخبز لم يتم إنتاجه بحرث وبذر، ولكن الأرض التي لم تتغير وُجدت مليئة بهذا الطعام الإلهي الذي تغذى عليه الجائعون. وتعلمنا هذه المعجزة سرّ العذراء[73].

140. هذا الطعام غير الآتي من الأرض هو الكلمة، الذي يغير قوته بأشكال مختلفة لتناسب الذين يأكلون (الحكمة 16: 21)، فلم يصر خبزًا فقط بل صار لبنًا ولحمًا وخضروات وأي طعام آخر يناسب الذي يتلقاه[74] هكذا يعلمنا بولس الرسول الذي يبسط لنا مثل هذه المائدة، جاعلاً رسالته لحمًا قويًا للأكثر وخضروات للضعفاء ولبنًا للأطفال الصغار (عب 5: 12 الخ؛ 1 كو 3: 2).

141. كل العجائب التي يعلمنا عنها التاريخ بالنسبة لذلك الطعام هي تعاليم للحياة الفاضلة، فيقول الكتاب أن الجميع اشتركوا في الطعام بالتساوي. ولم يكن لقوة الذين يجمعون الطعام أي أثر يحدث فارقًا، فلم يكونوا يحصلون على أكثر أو أقل من حاجتهم. وفي رأيي- على الأقل – أن هناك نصيحة تنطبق بوجه عام، وهى ألا يتجاوز الناس حدود احتياجاتهم المادية، بل أن تكون هناك قاعدة واحدة للقياس يفهمها الجميع بالنسبة للطعام، وهي أن يكون الطعام كافيًا ليومٍ واحدٍ.

142. إنما حتى إذا أعددنا أكثر بكثير مما نحتاج، فلن تستطيع المعدة تجاوز القدر المناسب لها بطبيعتها، ولن تجعلها الرغبة الشرهة تمتد لتسع ما أعد من الطعام. ويخبرنا الكتاب أن من كان يأخذ أكثر كان لا يستمتع بالوفرة (لأنه لم يكن لديه مكان يخزن فيه الزيادة)، ولا كان من يأخذ أقل يشعر بالاحتياج، (لأن احتياجاته كانت تقل تبعًا للكمية الموجودة).

143. في هذا الشأن ينادي الكتاب المقدس الجشعين ويخبرهم أن الجشع الذي لا يشبع للشرهين الذين يخزنون فائضًا عن احتياجاتهم باستمرار، يتحول إلى دود[75]. إن كل شيء يزيد عن حاجة الشخص الذي يكتنز يتحول في اليوم التالي – أي في الحياة المستقبلية –  إلى دودة بالنسبة للشخص الذي تسيطر عليه هذه الرغبة الجشعة ونتذكر الدود الذي لا يموت عندما نسمع هنا عن الدود.

144. كان الطعام الذي يخزن يظل صالحًا للأكل ولا يفسد فقط في السبت، ومن هذا تعرف أنه يوجد وقت في حياة الإنسان يجب أن يقوم فيه باختزان الأشياء في الوقت الذي لا يفسد ما يجمع، وعندما ننتقل من هذه الحياة إلى الراحة بعد الموت، فإن هذا المخزون ينفعنا. ويسمى اليوم السابق للسبت الاستعداد للسبت، و يرمز هذا اليوم لحياتنا الحاضرة التي نعد لأنفسنا فيها الأشياء اللازمة لنا في الحياة القادمة.

145. في تلك الحياة القادمة لن نقوم بأي شيء نعمله في حياتنا الحاضرة، لا زراعة ولا تجارة ولا خدمة عسكرية ولا أي شيء نعمله في هذا العالم، ولكن نستريح تمامًا من هذه الأعمال ونحصد ثمار ما زرعناه في حياتنا في العالم، وبعضها غير قابل للفساد. إذا كانت البذور التي زرعت في الحياة صالحة، وبعضها مهلك ومدمر إذا كانت الزراعة في هذه الحياة فاسدة، “لأن من يزرع لجسده، فمن الجسد يحصد فسادًا، ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية” كما يقول الكتاب (غل 6: 8)[76].

146. إن ما يسمى الاستعداد هو الاستعداد للأفضل فقط، وهذا ما تؤكده الشريعة. وما يخزن في هذا الاستعداد لا يفسد، والعكس ليس استعداد ولا يسمى كذلك، فلا يعقل أن يسمي أحد الحرمان من الخير استعدادًا، ولكنه عدم استعداد، لذلك يطلب الكتاب في تاريخ موسى من الناس الاستعداد للأفضل، ويترك للأذكياء أن يدركوا العكس دون أن يذكره.

الحرب مع عماليق

147. في حالة تجنيد الأفراد بالجيش، يوفر قائد الجيش المال أولاً لتجنيدهم ثم يعطي الإشارة للمعركة. وبنفس الطريقة، فإن جنود الفضيلة يتلقون أموال الأسرار المقدسة، ويتحركون في المعركة ضد العدو، يقودهم يشوع خليفة موسى.

148. هل تلاحظ الترتيب الذي يسير عليه الكتاب المقدس؟ طالما كان الإنسان ضعيفًا بسبب سوء المعاملة من الطاغية الشرير، فإنه لا يستطيع أن يصد العدو بنفسه، فليس لديه القدرة على ذلك، ويجب أن يحارب شخص آخر بالنيابة عن الضعيف، ويكيل الضربات للعدو واحدة بعد أخرى. وبعد أن يتحرر من عبودية الظالمين، ويستمتع بالماء العذب المحلى بالخشبة. ويستريح من تعبه في مكان الراحة بين أشجار النخيل، ويتوصل إلى معرفة سرّ الصخرة، ويشارك في الطعام السماوي، فإنه لا يحتاج بعد إلى شخص آخر ليصد العدو، فبعد أن نما وتجاوز حجم الطفل، وأصبح يملك قوة الشباب، فإنه يحارب خصومه بنفسه، وقائده في الحرب ليس هو موسى خادم الله، بل الله نفسه، فإن الناموس الذي أعطى منذ البداية كشبه وظل لأمور آتية (عب 8: 5) لا يصلح للحرب في المعارك الحقيقة، ولكن منفذ الناموس وخليفة موسى هو الذي يعمل كقائدٍ، وقد أعلن عنه مسبقًا بالاسم المشترك مع القائد الأسبق (يسوع ويشوع).

149. كان الناس إذا رأوا يدي معطي الناموس مرفوعتين إلى أعلى ينتصرون على العدو في القتال. ولكن إذا رأوا يديه متدليتين كانوا يتراجعون. ويرمز رفع موسى ليديه إلى أعلى إلى تأمل الناموس بأفكار عميقة سامية. ويرمز إرخاء يديه نحو الأرض إلى الأفكار الوضيعة والحرفية في فهم وتطبيق الناموس[77].

150. كان الكاهن يرفع يدي موسى المتعبتين ومن مساعد من عائلته، وهذا يدخل أيضًا في تأملنا. فإن الكهنوت الحقيقي يرفع مرة أخرى إلى أعلى قوة الناموس التي هوت إلى الأرض بسبب ثقل الفهم اليهودي، ويدعم الكهنوت الناموس الساقط إلى أسفل بوضع حجر تحته، بحيث يظهر الناموس على شكل إنسان بيدين ممدودتين لمن يتطلعون إليه.

151. في الواقع كل من له قدرة على الإبصار يستطيع أن يدرك أن الناموس يرمز بوجه خاص لسرّ الصليب. فيقول الإنجيل “لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس” (راجع مت 5: 18)، ويعني بهذا الخطين: الرأسي والأفقي للصليب. كان موسى – الذي يرمز للناموس – عندما يشاهده الناس في وضع الصليب رمزًا وسببًا للنصر.

جيل المعرفة الإلهية

152. مرة أخرى يرتفع الكتاب المقدس بفهمنا إلى المستويات العليا للفضيلة. فبعد أن اكتسب الإنسان قوة من الطعام وأظهر قوته في القتال مع أعداءه وانتصر عليهم، فإنه يقاد إلى معرفة الله التي لا يمكن وصفها أو النطق بها ويعلمنا الكتاب بهذه الأمور طبيعة وعدد الأشياء التي يجب أن ينجزها الإنسان في الحياة قبل أن يجرؤ على الاقتراب بفهمه إلى جبل معرفة الله ليسمع صوت الأبواق ويدخل في الظلام حيث يكون الله ليكتب الألواح بحروف إلهية. وإذا كُسرت هذه الألواح بسبب خطية، يقدم الألواح المصنوعة باليد إلى الله لينقش عليها بإصبع الله الحروف التي تلفت في اللوحين الأولين.

153. من الأفضل بعد ذلك- تبعًا للترتيب التاريخي – التوفيق بين ما يشاهد وبين المعنى الروحي فإن من ينظر إلى موسى وعمود الغمام – وكلاهما يعتبران مرشدين للسائرين في طريق الفضيلة (يمثل موسى في هذا الموضع الوصايا القانونية – وعمود السحاب المرشد هو الفهم الصحيح للناموس)، ومن تطهر بعبور الماء ومن قتل الغريب وفصل نفسه عنه، ومن ذاق مياه مارة (أي الحياة بعيدًا عن المتع) والتي كانت تبدو مرة في بادئ الأمر ثم صارت عذبة لمن قبلوا الخشبة، والذين تمتعوا بجمال أشجار النخيل والعيون (وهي ترمز للذين وعظوا بالإنجيل والذين امتلأوا من الماء الحي الذي هو الصخرة). والذين تلقوا الخبز السماوي، والذين انتصروا على الغرباء، والذين أصبحت يدا معطي الناموس الممدودتان سبب انتصارهم الذي بشر ورمز لسرّ الصليب، إن هؤلاء هم الذين يتقدمون بعد ذلك.

154. إن طريق كل شخص من هؤلاء لهذه المعرفة هو الطهارة، ليس فقط طهارة الجسد الذي يتم رشه من أوعية تطهير، ولكن أيضًا طهارة الملابس التي تغسل من كل ما يلونها بالماء (خر 19: 19). ومعنى هذا أن الشخص الذي يقترب من تأمل الله يجب أن يكون طاهرًا في كل شيء حتى يكون طاهر النفس والجسد، مطهرًا من كل دنس في الاثنين، لكي يبدو طاهرًا لمن يرى ما هو مخفي، أو تكون هذه الطهارة المرئية مطابقة لحالة النفس الداخلية.

155. لهذا السبب فإن الملابس تغسل بالأمر الإلهي قبل صعود الجبل، وتمثل الملابس بالنسبة لنا الحياة الخارجية الطاهرة المحترمة، فلا يمكن أن يقول أحد أن بقعة موجودة على الملابس تمنع التقدم في الصعود نحو الله، ولكن أعتقد أن الأعمال الظاهرة للإنسان في الحياة هي “الملابس”[78].

156. عندما تم هذا وتم طرد الحيوانات إلى أقصى بُعد ممكن عن الجبل، عندئذ اقترب موسى من الطريق الصاعد إلى المدركات السامية. وفي رأيي أن منع البهائم من الاقتراب من الجبل يعني أننا عند تأمل المدركات العقلية فإننا نسمو عن المعرفة التي تأتي من الحواس. فإنه من طبيعة الحيوانات أنها محكومة بالحواس فقط، منفصلة عن الفهم، فإن السمع والبصر عندها يحفزانها لإثارة الشهوات، كذلك فإن الأشياء الأخرى التي تثير الإدراك الحسي لها أهمية بالنسبة للحيوانات التي لا عقل لها.

157. لا نعرف الله بالبصر والسمع، ولا يمكن استيعابه بأي من المدركات العقلية المعتادة، لأنه لم تره عين ولم تسمع به أذن، ولا تنتمي هذه المعرفة إلى الأشياء التي تخطر على قلوب البشر (1 كو 2: 9). إن من يقترب من معرفة الأشياء السامية يجب عليه أولاً أن يطهر طريقة حياته من أي عاطفة حسية غير عقلية، ويجب أن يغسل من فهمه كل رأي نابع من أهواء وأفكار سابقة، وأن يبتعد عن الأفكار الحسية التي تشبه الرفيق، وعندما يتطهر بهذا الشكل يمكنه الاقتراب من الجبل.

158. إن معرفة الله هي جبل شديد الانحدار حقًا وصعب التسلق، ونادرًا ما يصل معظم الناس إلى قاعدة الجبل، وإذا كان الإنسان مثل موسى، فإنه سيصعد إلى أعلى ويسمع صوت الأبواق. وتقول القصة (خر 19: 19) أن هذا الصوت كان يزداد ارتفاعًا كلما تقدم موسى، فإن البشارة ذات الطبيعة الإلهية هي بالفعل صوت بوق يصل إلى المسمع مرتفعًا في البداية ثم يزداد ارتفاعًا في النهاية.

159. أعلن الناموس والأنبياء بالأبواق سرّ التجسد، ولكن الأصوات الأولى كانت أضعف من أن تصل إلى الآذان العاصية. لذلك فإن آذان اليهود الصماء لم تسمع صوت الأبواق. ويقول النص الكتابي إن الأبواق عندما أصبحت أقرب ارتفع الصوت. ولذلك فإن الأصوات الأخيرة – التي أتت من خلال بشارة الأناجيل – بلغت إلى آذانهم، حيث أن الروح يصدر أصواتًا تزداد علوًا ورنينًا مع تعاقب المتحدثين، والأبواق التي تبعث بصوت الروح هي الأنبياء والرسل الذين يقول المرتل عنهم: “في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم” (مز 19: 5) .

160. لم تستطع الجموع سماع الصوت الذي من أعلى، ولكنهم اعتمدوا على موسى ليعرف الأسرار بنفسه ويعلم الناس ما تعلمه من فوق. ويصدق هذا أيضًا على الترتيب في الكنيسة، فلا يدخل جميع من فيها أنفسهم في معرفة الأسرار، ولكنهم يختارون من بينهم شخصًا يستطيع سماع الأمور الإلهية، ويصغون بامتنان له، ويثقون فيما يسمعونه من شخص اطلع على الأسرار الإلهية.

161. قيل في الكتاب المقدس “ألعل الجميع رسل، ألعل الجميع أنبياء” (1 كو 12: 29)، ففعلاً ليس كل الناس كذلك، ولكن هذا لا يراعي في كثير من الكنائس الآن. فإن كثيرًا من الناس الذين مازالوا في حاجة إلى التطهر من طريقة حياتهم التي عاشوها، والذين لم يغتسلوا ومازالوا مليئين بالأقذار على ملابسهم (في حياتهم). ويحمون أنفسهم بحواسهم غير العقلانية فقط – ثم يقتربون من الجبل الإلهي، فهنا يحدث أن يُرجموا بحجارة منطقهم وآرائهم لأن آراء الكفر هي في الواقع حجارة تسحق مبتدع المعتقدات الشريرة[79].

في وسط الظلمة

162. ماذا يعني دخول موسى في وسط الظلمة، ورؤيته لله فيها (مز 20: 21)؟ هذا يبدو مناقضًا للرؤية الأول، ففي تلك الرؤية شوهد الإله في النور بينما شوهد الآن في الظلمة. ولكن يجب ألا نتصور أن هذا يختلف مع سياق تأملنا الروحي، فإن الكتاب يعلمنا بهذا أن المعرفة الدينية تأتي أولاً إلى الذين يتلقونها كنورٍ، لذلك فإن ما يناقض الدين (النور) هو ظلام، وللهروب من الظلام يعيش الإنسان في النور، ولكن مع تقدم العقل وازدياد مثابرته، يتوصل إلى إدراك الحقيقة، عندما يقترب أكثر من المعرفة، ويرى ما هو غير معروف من الطبيعة الإلهية بشكل أكثر وضوحً[80].

163. يترك العقل وراءه كل شيء مرئي ليس فقط ما تدركه الحواس، ولكن أيضًا ما يظن الفكر أنه يراه ويواصل الاختراق إلى الأعماق، مدفوعًا بالاشتياق الفكري، حتى يصل إلى غير المرئي والذي لا يدرك، وهناك يرى الله، وهذه هي المعرفة الحقيقية لما يبحث عنه. هذه هي الرؤية التي لا ترى، لأن ما نبحث عنه تجاوز كل المعرفة، حيث أنه مفصول عنها من جميع الجوانب بسياج لمنع الإدراك أو الفهم، كأنه نوع من الظلام. وفي ذلك يقول يوحنا العظيم الذي اخترق الظلام المنير “الله لم يره أحد” (يو 1: 18). وبهذا يؤكد أن معرفة الجوهر الإلهي لا يمكن التوصل إليها- ليس فقط من جانب البشر ولكن أيضًا من جانب أي مخلوق مفكر.

164. لذلك عندما نما موسى في المعرفة، أعلن أنه قد رأى الله في الظلام، أي أنه قد توصل إلى معرفة أن الأمور الإلهية هي تتجاوز وراء كل المعرفة والإدراك، فيقول النص “وأما موسى فقد اقترب إلى الضباب حيث كان الله. أي إله هذا؟ هو الذي “جعل الظلمة سترة حوله” (مز 18: 11) كما يقول داود الذي دخل إلى الأسرار في نفس المقدس الداخلي[81].

165. عندما وصل موسى إلى هناك، تعلم من الكلمة الإلهية ما كان قد تعلمه من قبل من الظلام، لكي يقوي إيماننا بهذا الأمر بشهادة الصوت الإلهي. وتمنع الكلمة الإلهية في البداية تشبيه الإله بأي من الأشياء المعروفة للبشر (خر 20: 2). حيث أن كل مفهوم (مدرك) يأتي من صورة مدركة بفهم تقريبي وتخمين للطبيعة الإلهية يشكل وثنًا على أنه الله، ولا يستعلن الله.

166. تنقسم الفضيلة الدينية إلى جزئين، جزء يتعلق بالأمور الإلهية وجزء يتعلق بالسلوك القويم (لأن الحياة الطاهرة هي جزء من الدين). ويتعلم موسى أولاً الأشياء التي يجب أن يعرفها عن الله (بالتحديد أنه يجب ألا يعزي شيئًا من تلك الأشياء التي يمكن معرفتها بالإدراك البشري إلى الله) ثم يتعلم بعد ذلك الجانب الآخر للفضيلة، وهو تعلم الأعمال التي تجعل حياة الفضيلة تصل إلى الكمال.

المسكن السماوي

167. بعد ذلك يأتي إلى المسكن الذي لم تصنعه يد. من ذا الذي سيتبع من يشق طريقه خلال تلك الأماكن ويسمو بعقله إلى هذا الارتفاع، الذي يشبه من يصعد من قمة إلى أخرى فيزداد علوًا؟ أولاً يترك وراءه سفح الجبل وينفصل عن كل من هم أكثر ضعفًا من أن يصعدوا. وعندما يزداد ارتفاعًا في صعوده يسمع صوت الأبواق وثم يدخل القدس الداخلي للمعرفة الإلهية، ولا يظل هناك، بل ينتقل إلى المسكن الذي لم تصنعه يد (عب 9: 11) وهذا هو حقًا الحد الذي يصل إليه من يرتفع في هذا الصعود.

168. من ناحية أخرى يبدو لي أن البوق السماوي يصبح مرشدًا ومعلمًا للشخص الصاعد وهو في طريقه إلى المسكن الذي لم تصنعه يد، فإن التناسق العجيب في السماوات يظهر الحكمة التي تشع في الخلق، وتعلن مجد الله من خلال الأشياء المرئية، كما تقول الآية: “السماوات تحدث بمجد الله” (مز 19: 1)، إن صوت البوق يصبح هو الصوت العالي لبوق التعليم الواضح والرنان.

169. إن الذي تنقى ولديه سمع حاد في قلبه يسمع هذا الصوت (أقصد به معرفة القوة الإلهية التي تأتي من معرفة الحقيقة) وهو يقوده إلى المكان الذي يسمح فكره له بالدخول إلى حيث يوجد الله. ويسمي الكتاب المقدس هذا المكان “الضباب” أو “الظلمة” (خر 20: 21) والتي تعني- كما قلت- المجهول وغير المرئي وعندما يصل إلى هناك يرى ذلك المسكن الذي لم تصنعه يد، والذي يريه للناس أسفل الجبل من خلال شبيه مادي له (خر 25-27).

170. ما هو ذلك المسكن الذي لم تصنعه يد، والذي أظهر لموسى على الجبل وأمره الله أن يأخذه كنموذج لكي يصنع مثيلاً يدويًا له؟  يقول الله: “وأنظر فاصنعها على مثالها الذي أظهر لك في الجبل” (خر 25 : 40). كانت هناك أعمدة ذهبية قائمة على قواعد من الفضة ومزينة برؤوس فضية مماثلة، كما كانت هناك أعمدة أخرى من رؤوس وقواعد من البرونز (النحاس) ولكن قضبانها من فضه. وكان قلب كل الأعمدة من خشب لا يسوس. وفي كل أرجاء المكان كان يسطع بريق هذه المعادن الثمينة.

171. وبالمثل كان هناك تابوت من الخشب الذي لا يسوس، مغطى بذهب نقي لامع. وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك منارة بقاعدة واحدة مقسمة في أعلاها إلى سبعة سرج (فروع)، وكانت المنارة من الذهب الصافي وليست من الخشب المغطى بالذهب. وكذلك كان هناك مذبح وغطاء (بساط الرحمة) وفوقه الكاروبان اللذان تغطي أجنحتهما التابوت (عب 9: 5). وكانت كل هذه من الذهب، ليس فقط مظهر خارجي للذهب، ولكن ذهب خالص.

172. كانت هناك أيضًا ستائر منسوجة بفنٍ من ألوان مختلفة، منسوجة معًا بحيث تنتج نسيجًا جميلاً، وكانت الستائر تفصل المسكن إلى جزئين: جزء مرئي ويمكن لكهنة معينين دخوله، وجزء أخر سري ولا يمكن دخوله وكان اسم الجزء الأمامي (الذي يمكن دخوله) القدس، والجزء المخفي “قدس الأقداس” وكانت هناك مغاسل ومجامر وأستار معلقة حول الفناء الخارجي وستائر من الشعر والجلد مصبوغة باللون الأحمر وجميع الأشياء الأخرى الوارد وصفها في النص. أي كلمات تستطيع أن تصف كل هذا بدقة؟

173. ما هي الأشياء غير المصنوعة بيد التي كانت كل هذه ترمز إليها؟ وما هي فائدة التقليد المادي للأشياء التي رآها موسى في أعلى الجبل بالنسبة لمن يشاهدون الأشياء المقلدة، أستسحن أن أترك المعنى الدقيق لهذه الأشياء للذين يهبهم الروح القوة “لفحص أعماق الله” (1 كو 2: 10)، لشخص يستطيع – كما يقول الرسول – أن يتكلم بأسرار بالروح. سنترك ما نقوله بالتخمين والافتراض حول هذا الموضوع لحكم قرائنا، فإن فكرهم الناقد يمكن أن يقرر إذا ما كان سيرفضه أو يقبله.

174. كشف بولس الرسول – جزئيًا –  سرّ هذه الأشياء، ومن اللمحات التي ذكرها يمكننا أن نقول إن الله قد أعلم موسى – عن طريق نموذج – بسرّ المسكن الذي يستوعب الكون. كان هذا المسكن هو المسيح “قوة الله وحكمة الله” (1 كو 1: 24)، الذي بطبيعته لم يُصنع بيدٍ، ولكن كان يمكن أن يُصنع عندما تدعو الضرورة لإقامة هذا المسكن بيننا. وهكذا فإن نفس هذا المسكن هو مصنوع وغير مصنوع، لم يُخلق فيما قبل الوجود (بكونه الابن الإزلي)، لكنه خُلق (جسده) عندما ظهر بهذا التكوين المادي.

175. ما نقوله ليس غامضًا بالطبع لمن تلقوا سرّ إيماننا بدقة. فإن هناك شيء واحد فقط من بين كل الأشياء كان يوجد قبل الزمان ثم أتى إلى الوجود في نهاية الأزمنة (كو 1: 17). كان لا يحتاج بداية زمنية (إذ كيف يحتاج من كان قبل كل الأزمنة والعصور إلى أصل زمني؟) ولكن من أجلنا نحن، الذين كنا قد فقدنا وجودنا نتيجة لانعدام التفكير لدينا، وافق على أن يولد مثلنا لكي يرد الذين تركوا الحقيقة مرة ثانية إلى الحقيقة. هذا هو الإله الوحيد المولود الذي يجمع كل شيء في نفسه، لكنه أيضًا أقام مسكنه في وسطنا (يو 1: 14).

176. إذا سمينا الإله “مسكنًا” فإن هذا يجب ألا يزعج أي شخص محب للمسيح أو يجد في هذه الفكرة تقليلاً من عظمة طبيعة الله. فليس هناك أي أسم أخر جدير بهذه الطبيعة، فإن جميع الأسماء تعجز عن الوصف الدقيق لطبيعة الله، سواء تلك التي يوجد فيها بعض العمق أو التي تعتبر غير مناسبة.

177. تستخدم كل الأسماء الأخرى التي تصف طبيعة الله بخشوعٍ وتدينٍ للتعبير عن القوة الإلهية: الطبيب، الراعي، الحارس، الخبز، الكرم، الطريق، الباب، الماء، الصخرة، الينبوع، وأي أوصاف أخرى مماثله. وبنفس الطريقة نسمي الله “المسكن”، فإن القوة التي تحيط بالكون كله، هي “الذي يحل فيه كل ملء اللاهوت” (كو 2 : 9) حامي الجميع، الذي يضم كل شيء فيه، ولذا يسمى بحق “المسكن“.

178. يجب أن تتناسب الرؤية مع اسم “المسكن” بحيث يؤدي كل شيء يشاهد إلى إدراك مفهوم يليق بالله. ويقول الرسول العظيم أن حجاب المسكن الأسفل (الأرضي) هو جسد المسيح (عب 10: 20)، واعتقد أنه يقول ذلك لأنه يكون من ألوان مختلفة، من العناصر الأربعة وبدون شك فقد رأى بولس الرسول بنفسه رؤية للمسكن عندما دخل القدس الذي في السماوات العليا حيث كشف له الروح (2 كو 12: 4) أسرار الفردوس لذا يحسن عند تأمل التفسير الجزئي أن نطبق عليه التأمل الكلي للمسكن.

179. يمكننا من نفس كلمات الرسول أن نكون صورة واضحة للصور المتعلقة بالمسكن، فإنه يقول عن الابن الوحيد المولود الذي يرمز إليه بالمسكن “فإنه فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين (كو 1: 16) أو قوات. إذًا فإن الأعمدة التي تلمع بالذهب والفضة وكذلك العوارض الحاملة والحلقات والكاروبين اللذين يظللان التابوت بأجنحتهما وكل الأشياء الأخرى الموجودة في الوصف الخاص بإنشاء المسكن – إذا رفعنا نظرنا إلى أعلى إلى الأمور السماوية، فإننا ندرك أن هذه هي القوى السماوية المرموز لها في المسكن والتي تدعم الكون طبقًا للإرادة الإلهية.

180. إن هذه الأشياء هي الأعمدة الحقيقية التي تسندنا، “مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14) وهي تدخل في أرواح من يتم إنقاذهم كأنها تدخل في “الحلقات”، وترفع الراقدين على الأرض إلى سمو الفضيلة. وعندما يخبرنا النص أن الكاروبين يغطيان أسرار التابوت بجناحيهما فإنه يؤكد مفهومنا للمسكن. فقد تعلمنا أن “الكاروبيم” هو اسم القوات التي نراها حول الطبيعة الإلهية. والتي رآها إشعياء وحرقيال (اش 6: 2؛ حز 5: 4 ؛ 10: 1 الخ)

181. ليس تابوت العهد المغطى بأجنحة الكاروبيم غريبًا على سمعك، فإن هذا موجود في سفر إشعياء، الذي يتكلم بصور عن الأجنحة، ويسمى نفس الشيء “تابوت العهد” في موضع، و”الوجه” في موضع آخر، وفي الموضع الأول التابوت مغطى بأجنحة، وفي الثاني الوجه مغطى بأجنحة، فكأن الذي يرى في الموضعين هو شيء واحد، مما يوحي لي باستحالة إدراك الأسرار التي لا يُنطق بها. وعندما تسمع عن المنارة ذات الأفرع الكثيرة الخارجة من أصلٍ واحدٍ، وتلقي بضوءٍ ساطعٍ في كل المكان حولها، فإنك ستستنتج – وأنت على حق – أن هذه هي الأشعة المختلفة للروح، التي تسطع ببريق في هذا المسكن. وهذا هو ما يتحدث عنه إشعياء عندما يقسم أنوار الروح إلى سبعة (رؤ 4: 5 وزك 4: 2)

182. إن غطاء التابوت (أو عرش الرحمة) لا يحتاج في نظري إلى تفسير، فإن الرسول قد أوضح ما هو مخفي حين قال “الذي قدمه الله كفارة” لأرواحنا (رو 3: 25). وعندما أسمع عن مذبح الذبائح ومذبح البخور فإني أفهم التسبيح الذي يقوم باستمرارٍ من القوات السمائية في هذا المسكن، فإن من في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض يسبحون من هو بداية كل شيء (في 2: 10)، وهذه هي الذبيحة التي يسر بها الله – كما يقول الرسول – “ذبيحة التسبيح، ثمر شفاه معترفة باسمه” جامات من ذهب مملوءة بخورًا هي صلوات القديسين (عب 13: 15؛ رؤ 5: 8).

183. وحتى عندما نرى الجلد مصبوغًا باللون الأحمر والشعر منسوجًا (خر 25: 4 و5)، فإن تسلسل الصورة الرمزية لا ينقطع بهذا، فإن عين النبي التي توصلت إلى رؤية الأمور الإلهية قد شاهدت تنبؤًا بإنقاذ البشرية من خلال عاطفة الحب المتقذة، ويرمز اللون الأحمر إلى الدم، كما يرمز الشعر إلى الموت، فالشعر على الجسم لا يحس، ولذلك فهو رمز للموت.

المسكن الأرضي

184. كلما نظر النبي إلى المسكن السمائي الذي فوق، رأى الحقائق السماوية من خلال هذه الرموز، ولكن إذا نظر الإنسان إلى المسكن الذي في الأسفل (يسمي بولس الرسول الكنيسة “المسيح” في مواضع كثيرة) فإنه يجب أن يعتبر أن الأسماء “رسل – معلمين – أنبياء” تشير إلى خدام السرّ الإلهي الذين يسميهم الكتاب المقدس أيضًا أعمدة الكنيسة (1 كو 12: 28 الخ). فليس بطرس ويوحنا ويعقوب فقط أعمدة الكنيسة، ولم يكن يوحنا المعمدان فقط هو “السراج الموقد المنير” (يو 9: 35)، ولكن كل من ساندوا الكنيسة وبأعمالهم الصالحة صاروا “أنوارًا في العالم” (في 2: 15) يسمون “أعمدة” و”أنوارًا”. ويقول رب الرسل لهم: “أنتم نور العالم” (مت 5: 14). مرة أخرى يدعو الرسول الآخرين أن يكونوا أعمدة  بقوله: “كونوا راسخين غير متزعزعين” (1 كو 15: 58)، وجعل من تيموثاوس عمودًا متميزًا، حين جعله كما قال: “عمود الحق وقاعدته” (1 تي 3: 15).

185. في هذا المسكن تقدم ذبيحة التسبيح وبخور الصلوات باستمرار في الصباح والمساء. وقد جعلنا داود العظيم ندرك هذه الأشياء عندما قال: “لتستقم صلاتي كالبخور قدامك، وليكن رفع يدي كذبيحة مسائية” (مز 141: 2). وعندما نسمع عن مرحضة الاغتسال فبلا شك سنرى أنها ترمز لمن يغسلون أدران الخطايا بالماء المقدس. كان يوحنا المعمدان يغسل الناس في الأردن بمعمودية التوبة (يو 1: 4-5)، مثلما كان بطرس الذي قاد ثلاثة آلاف مرة واحدة إلى الماء (أع 2: 41)، وكذلك كان فيلبس مع وزير كنداكة (أع 8: 27 الخ)، وكل من يقدمون النعمة هم كمرحضة الاغتسال لمن يشاركون في العطية المجانية.

186. ترمز الساحات المترابطة للدار المحيطة بالخيمة إلى التفاهم والمحبة والسلام بين المؤمنين ويفسرها داود بهذه الطريقة عندما يقول: “الذي يجعل تخومك سلامًا” (مز 147: 14).

187. يرمز الجلد المصبوغ باللون الأحمر وأغطية الخيمة المصنوعة من الشعر – والتي تزين الخيمة – إلى إماتة الجسد الخاطئ (الجلد المصبوغ باللون الأحمر) وحياة النسك، وهما ما يجَّمل مسكن الكنيسة بوجه خاص، ولا تملك هذه الجلود قوة حيوية في حد ذاتها بحكم الطبيعة، ولكنها تصبح ذات لون أحمر زاهٍ بسبب الصبغة الحمراء. ويعلمنا هذا أن النعمة – التي تزدهر من خلال الروح – لا توجد في الناس إلا إذا ماتوا أولاً عن الخطية. وبالنسبة لما إذا كان الكتاب المقدس يعني بالصبغة الحمراء التواضع العفيف، سأترك الحكم على هذا لمن يرغب. أما الشعر المنسوج الذي كان ينتج نسيجًا خشنًا صعب اللمس، فإن هذا يرمز للتحكم في النفس الذي يُعد قاسيًا، ويوقف العواطف والشهوات المعتادة. ويظهر كل هذا في حياة البتـولية، التي تهذب أجساد من يعيشونها (1 كو 9 :27).

188. إذا كان لا يمكن لجموع الشعب دخول الجزء الداخلي من الخيمة – قدس الأقداس -، فإن هذا لا يتعارض مع الصورة التي تأملناها. فإن حقيقة الحقيقة هي حقًا شيء مقدس، قدس أقداس، ولا يمكن للجموع فهمها أو التوصل إليها. ويجب عدم التدخل في أمور معرفة الحقائق التي تتجاوز الفهم البشري، حيث أنها توجد في المناطق السرية وغير المنظورة من مسكن الأسرار، وبدلاً من ذلك على الإنسان أن يؤمن بأن ما يبحث عنه موجود، ولكنه ليس منظورًا للجميع، بل هو في المناطق السرية وغير المنظورة من الفكر.

ملابس الكهنوت

189. بعد أن تلقى موسى التعليمات عن هذه الأمور وغيرها من خلال رؤيا الخيمة، وبعد أن تطهرت وسمت عين النفس لديه بهذه المناظر، ارتفع مرة ثانية إلى سمو مفاهيم أخرى عندما تلقى تعليمات عن ملابس الكهنوت، ومنها الجبة والأفود والصورة التي تبرق بأشعة مختلفة من الأحجار الكريمة والعمامة للرأس وعليها صفيحة من ذهب والسراويل والرمانات والأجراس، وفوق كل هذا الأوريم والتميم، وهما التعقل والعقيدة (والحق الذي يتميز فيهما) والكتفان المربوطان من الجانبين والمثبتين بأسماء الآباء.

190. إن أسماء الملابس نفسها تجعل معظم الناس لا يدركون تفاصيلها بدقة. فأي ملابس مادية هذه التي يمكن تسميتها العقلانية والعقيدة والصدق؟ ولكن الواقع أن بعض هذه الأسماء تصور بوضوح أن الكتاب المقدس لا يقصد الملابس المادية، ولكن زينة معينة للنفس منسوجة بالأعمال الفاضلة.

191. لون الجبة أزرق وقد حضر بعض من تأملوا هذا النص من قبل اللون على أنه يعني الهواء[82]، وأنا لا أجد شيئًا مشتركًا بين هذا اللون ولون الهواء، ولكن لا أرفض تفسيرهم وهذه الفكرة تؤدي إلى تفكير في الفضيلة، لأنها تتطلب ممن يريد أن يكون كاهنًا لله أن يحضر جسده إلى المذبح كقربان. ليس بأن يموت، بل أن يصبح ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله بالعبادة العقلية (رو 12: 1-2). ولا يجب أن يثقل على نفسه بملابس الحياة الجسدية الثقيلة، ولكن بحياته الطاهرة يجعل كل أعمال حياته ومساعيه خفيفة كخيوط العنكبوت، وعلينا أن نعيد نسج طبيعتنا البشرية الجسدية بحيث نكون خفيفي الوزن مثل الهواء، لكي عندما نسمع صوت البوق الأخير، نكون بلا وزن ونستجيب بسرعة لصوت الله الذي يدعونا، فنرتفع إلى أعلى في الهواء لنكون مع الرب (1 تس 4: 17) ولا يجذبنا أي شيء ثقيل نحو الأرض. والإنسان الذي يتمثل بداود النبي “ويفنى مثل العث مشتهى نفسه” (مز 39: 11)، يكون قد ارتدى تلك الجبة الهوائية التي تمتد من رأسه حتى قدميه، لأن الناموس لا يريد أن يكون ثوب الفضيلة قصيرًا (بل تكون الفضائل كاملة).

192. تمثل الأجراس الذهبية (الجلاجل) التي كانت توضع بالتبادل مع الرمانات بريق الأعمال الصالحة، وهي تمثل الطريقين اللذين من خلالهما تُكتسب الفضيلة: الإيمان بالإلهيات والضمير الصالح في الحياة. يضيف بولس الرسول هذه الرمانات والجلاجل إلى رداء تيموثاوس حين يقول إنه يجب أن يكون لديه إيمان وضمير صالح (1 تي 1: 19). إذًا لندع الإيمان يرن بصوت نقي ومرتفع كالجلاجل في تعليم الثالوث القدوس، ولتكن الحياة في طبيعتها مثل ثمر الرمان.

193. لأن الرمانة مغطاة بقشرة جامدة ومرّة، فإن هذه القشرة الخارجية غير صالحة للأكل، ولكن الداخل جميل المنظر، وبه بذور منسقة بعناية، وطعمه حلو. وهكذا حياة الفلسفة (الحكمة الروحية)، تبدو من الخارج جافة وغير مبهجة، ولكن عندما تنضج تكون مليئة بالآمال الطيبة. وعندما يفتح البستاني (الله) رمانة الحياة في الوقت المناسب ويظهر جمالها المخفي، فإن الذين يذوقونها يستمتعون بحلاوتها. ويقول بولس الرسول: “وأي تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن (أي أول انطباع عن الرمان بالنسبة لقشرته)، أما أخيرًا فيعطي الذين يتدربون به ثمر برّ السلام” (عب 12: 11) (حلاوة الثمرة من الداخل).

194. يأمر الكتاب المقدس بعمل حواشي (شرابات) للجبة. وحواشي الجبة هي دلايات مستديرة ليس هناك هدف منها سوى الزينة فقط. نتعلم من هذا أن الفضيلة يجب ألا تقاس بما هو مطلوب فقط، وإنما يجب أن نكتشف شيئًا إضافيًا نزيده بمجهودنا الخاص لكي نضيف زينة إضافية للملابس. وهكذا فعل بولس الذي أضاف هذه الحواشي الجميلة إلى الوصايا. ففي حين يأمر الناموس بأن الذين يعملون في الأشياء المقدسة من الهيكل يأكلون، والذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون (1 كو 9: 13، 14)، فإن بولس يقدم الإنجيل مجانًا (كو 9: 18؛ 2 كو 11: 7)، وكان هو نفسه يجوع ويعطش ويُعرى” (1 كو 4: 11). هذه هي الحواشي (الدلايات) الجميلة التي تزين رداء (جبة) الوصايا عندما تضاف إليها.

195. كانت تلبس فوق الجبة قطعتان من القماش تصلان من الكتفين إلى الصدر وفي الظهر إلى أسفل وتوصلان ببعضهما بمشبك على كل كتف. وكانت المشابك عبارة عن حجارة كريمة منقوش عليها أسماء ستة من الآباء على كل حجر. وكانت الأقمشة منسوجة من ألوان كثيرة، إسمانجوني مع أرجواني وقرمزي مع كتان، وكانت خيوط الذهب متداخلة في كل هذه، فينتج عن مزج الألوان المختلفة جمال فريد أخاذ.

196. نتعلم من هذا أن الجزء العلوي من الرداء الخارجي، الذي هو رمز لزينة القلب، يتكون من فضائل كثيرة متنوعة. فاللون البنفسجي منسوج مع الأرجواني، لأن الملوكية ترتبط بطهارة القلب. ويمتزج القرمزي مع الكتان، لأن سمة الحياة المضيئة النقية تمتزج باحمرار التواضع (الحياء). ويرمز الذهب الذي يعطي البريق لهذه الألوان إلى الكنز المختزن لهذه الحياة النقية، كما أن أسماء الآباء المنقوشة على الكتفين تسهم إسهامًا عظيمًا في الزينة التي نتزين بها، فإن حياة الناس تتحلى بالقدوة الصالحة لمن سبقوا من الرجال الصالحين.

197. بالإضافة إلى ذلك، هناك زينة أخرى تلبس فوق هذه الملابس الجميلة، فكانت توجد حليات صغيرة تشبه الدروع مدلاة من كلا الكتفين وتمسك بشيءٍ ذي أربعة أركان من الذهب (صدرة)، يزيد من بريقه اثنا عشر حجرًا مرصعة في صفوف. توجد أربعة صفوف، بكل منها ثلاثة أحجار، لم يكن هناك اثنان متشابهان، ولكن كل منها يحمل بريقه الخاص به.

198. هذا هو المظهر الخارجي للحلية، وهذا هو معناها: ترمز الحليات المدلاة من الكتفين التي على شكل دروع إلى الطبيعة المزدوجة لتسلحنا ضد العدو. وكما أسلفت، يوجد شقان لحياة الفضيلة: الإيمان والضمير الصالح في الحياة، ولذلك فإننا نؤَّمن أنفسنا من هاتين الناحيتين في حماية الدروع، وننقي أنفسنا من جروح سهام العدو “بسلاح البرّ لليمين ولليسار” (2 كو 6: 7).

199. الحلية ذات الأربعة أركان (الصدرة) المدلاة من حليتي الكتفين والتي كان عليها حجارة كريمة منقوش عليها أسماء آباء الأسباط تحمي القلب. ويعلمنا الكتاب المقدس في هذه الصورة الرمزية أن من يصد سهام الشرير باستخدام هذين الدرعين يحلي نفسه بجميع فضائل الآباء، لأن كل حجر يسطع ببريقه الخاص على قماش الفضيلة، ولنأخذ الصورة المربعة على أنها رمز للثبات في الخير، لأن مثل هذا الشكل من الصعب تحريكه، حيث أنه مثبت من الأربعة أركان بالتساوي.

200. تُعلمنا الأربطة التي تُشد بها هذه الحليات للذراعين عن الحياة الأسمى، وبالتحديد أن الفلسفة العملية يجب أن ترتبط بالفلسفة التأمُلية، فيصبح القلب رمزًا للتأمل والذراعين للأعمال.

201. ترمز الرأس المزينة بالإكليل للتاج المُعد للذين عاشوا حياة صالحة. ويُجمل هذا التاج بنقش لحروف غير منظورة على صفيحة من الذهب. ومن يرتدي هذه الحلي لا يلبس نعالاً، حتى لا يتعطل في السباق وتعوقه الأغطية القديمة المصنوعة من الجلود الميتة (كما ذكرنا في التأمل عن الجبل). فلا يمكن أن يكون النعل زينة للقدم وهو يُخلع عند بداية التكريس، إذ يعوق الصعود.

اللوحان الحجريان (لوحا الشهادة)

202. مَنْ تقدم في الصعود حتى هذا الحد الذي وصلنا إليه في تأملنا، يحمل في يديه اللوحين المكتوبين بواسطة الله، والمحتويين على ناموس الله. ولكنهما ينكسران، إذ تحطمهما المقاومة القاسية من الخطاة. كانت خطية هؤلاء الخطاة هي أنهم صنعوا وثنًا في صورة عجل ليعبدوه. سحق موسى العجل، وذراه في الماء، وشرب الذين أخطأوا، وهكذا قضى تمامًا على المادة التي استخدمها الناس في إنكار الله.

203. في هذه الواقعة يتنبأ الكتاب المقدس بما حدث في أيامنا هذه، فإن خطية عبادة الأوثان قد اختفت تمامًا من الحياة وابتلعتها الأفواه التقية التي تقضي على إنكار الله بالاعتراف الحسن (1 تي 6: 13)، وبالنسبة للأسرار والعبادات التي أسسها الوثنيون قديمًا، فقد ذابت وتحولت إلى ماءٍ جارٍ تشربه نفس الأفواه التي كانت في وقتٍ ما مجنونة بالوثنية. وعندما نرى هؤلاء الناس الذين كانوا ينحنون من قبل لهذه الأوثان يدمرون ما كانوا يؤمنون به، ألا نرى التاريخ يصيح قائلاً إن كل وثنٍ ستبتلعه أفواه الذين يتوبون عن خطيتهم ويعودون إلى الدين الحقيقي؟

204. سلّح موسى اللاويين ليقتلوا مواطنيهم، وعبروا المحلة من أولها إلى آخرها يقتلون بدون أسئلة، كانت سيوفهم تجد ضحاياها، وقتل كل مَنْ قابلوه، دون تمييز بين عدو وصديق، بين غريب وقريب، أو بين غريبٍ وذي قرابة (كان القتل بضربة واحدة للجميع)، وكانت الضربة تقع بنفس الهمة على كل مَنْ يقابلونه (خر 32: 27).

205. من هذا الوصف نتعلم الدرس النافع التالي: حيث اتفق الإسرائيليون جميعًا على الشر، وشاركوا جميعًا فيه، لذلك حلت عليهم الضربات بلا تفرقة. ويشبه هذا شخصًا يعاقب شخصًا آخر ضُبط متلبسًا بعملٍ شريرٍ، وذلك بجلده، ويمزق أي جزء من جسمه يقع عليه السوط، عالمًا أن الألم الذي يحل بجزء يمتد خلال الجسم كله. ويحدث نفس الشيءٍ عندما يُعاقب الجسم كله لاتحاده في الشر، فإن الضربة التي تقع على الجزء تؤدب الكل.

206. لذلك فإذا رأى أحد في أي وقت الشر في أشخاص كثيرين، ولكن غضب الله لا يحل على الجميع، وإنما على البعض فقط، يجب أن يُدرك أن التأديب يُطبق بحب على لجنس البشري. فإن الضربات لا تحل على الجميع، ولكن الضربات التي تحل على البعض تؤدب الجميع ليرجعوا عن الشر.

207. يخص هذا الفهم القصة حرفيًا، ولكن المعنى الحرفي يفيدنا من الناحية التالية: يقول مُعطي الناموس في نداء عام للجميع: “من للرب فإليّ” (خر 32: 26). كأن موسى يأمر الجميع: “إذا أراد أحد أن يكون صديقًا لله، فليكن صديقًا لي؛ أنا الناموس”. (ذلك لأن صديق الناموس هو بالتأكيد صديق لله). وأمر موسى الذين تجمعوا على النداء، أن يستخدموا السيف ضد إخوتهم وأصدقائهم وأقربائهم.

208. عندما نتأمل في هذه النقطة ندرك أن كل شخصٍ يتطلع إلى الله وإلى الناموس، يتطهر بموت عاداته السيئة. فليس كل مَنْ يسميه الكتاب المقدس أخًا أو صديقًا أو قريبًا يقصد به المعنى الطيب للكلمة. ويمكن أن يكون لنفس الشخص أخ وغريب، وصديق وعدو، وقريب وخصم. ويرمز هؤلاء لأفكارنا الداخلية التي تشبه أشخاصًا تسبب حياتهم الموت لنا، ويسبب موتهم حياتنا.

هرون كأخٍ لموسى يقتل الطغاة المصريين، ويصنع الوثن للإسرائيليين

209. يتفق هذا المفهوم مع دراستنا السابقة لهرون، فعندما قابل موسى رأينا الملاك كنصيرٍ ومُساعدٍ تعاون في الضربات ضد المصريين. ويُنظر لهرون على أنه أكبر من موسى حيث أن الطبيعة الملائكية وغير المنظورة قد خُلقت قبل طبيعتنا، ولكن من الواضح أنه أخ بحكم صلة طبيعته الفكرية بطبيعتنا.

210. مع وجود تناقضٍ في هذا الشأن (إذ كيف يمكن النظر بنظرة طيبة لمقابلة موسى لهرون الذي أصبح خادمًا للإسرائيليين في عمل الوثن؟) إلا أن الكتاب المقدس يشير هنا – بشكلٍ محدودٍ – إلى المعنى المزدوج للأخوة، فإن كلمة “أخ” لا تعني نفس المعنى، وإنما يمكن أن تعني معنى معينًا وعكسه. فهنا نرى هرون مرة كأخ لموسى يقتل الطغاة المصريين، ومرة أخرى يصنع الوثن للإسرائيليين، وفي الحالتين هو نفسه هرون الأخ.

211. عندما أمر موسى بشهر السيوف على الإخوة، كان يقصد هذا النوع من الإخوة: ويفرض موسى على نفسه بوضوح ما يطلبه من الآخرين. وبالنسبة للإنسان فإن بقتله الخطية يقتل أخاه الشرير، وكل مَنْ يقضي على الشر الذي يضعه فيه عدو الخير بقتل الأخ أو الملاك الشرير الذي يعيش داخله عن طريق الخطية.

212. سنورد مزيدًا من التفاصيل حول تأملنا لزيادة التأكيد. يورد الكتاب أنه بُناء على أمر هرون خلع الشعب أقراطهم التي صنع منها الوثن. ماذا يمكن أن نقول عن هذا؟ لقد زيّن موسى آذان الإسرائيليين بحلي هي الناموس، ولكن الأخ الزائف ارتكب خطية المعصية وخلع الأقراط التي في آذانهم وصنع بها تمثالاً.

213. عند بدء دخول الخطية للعالم (تك 3: 1 الخ) وُجدت نصيحة الحية بعدم إطاعة وصية الله، ونتج عن ذلك وضع مماثل لخلع الأقراط. كان أول البشر (آدم وحواء) يعتبران الحية صديقًا وجارًا، ونصحتهما بتعدي الوصية الإلهيّة، حيث يكون ذلك نافعًا لهما. كأن الحية كانت تنصحهما بنزع قرط الوصية من آذانهما. ولذلك فإن مَنْ يقتل مثل هؤلاء الأخوة والأصدقاء والأقرباء الأشرار سيسمع من الناموس العبارة التي قالها موسى للذين قتلوا هؤلاء الأشرار: “املأوا أيديكم اليوم للرب حتى كل واحد بابنه وبأخيه فيعطيكم اليوم بركة” (خر 32: 29).


[66] منذ كتب بولس الرسول ما كتبه في 1 كو 10: 2 أصبح عبور البحر الأحمر رمزًا شائعًا للمعمودية.

[67] يرمز جيش المصريين عند فيلون للعواطف والأهواء، ولكن عند ترتليان يرمز للشياطين، وهنا يستخدمه القديس غريغوريوس كرمز للأهواء مثل فيلون، ولكنه في مواضع أخرى يستخدم التفسيرين مثل أوريجينوس.

[68] يذكر مز 14: 7 و 15: 4 قائدي المركبات وهم ثلاثة لكل مركبة يسمون “جنودًا مركبات”.

[69] ترتبط المعمودية بأشياء كثيرة في الكنيسة الأولى، فهي تقترن بالإيمان والروح القدس والخشب (خشبة الصليب والدم عليه). وكانت عصا موسى تمثل “الأمل” في الكتاب الثاني بند 108، ولكن من الآن فصاعدًا يعتبرها القديس غريغوريوس رمزًا للصليب.

[70] يقارن فيلون الإثني عشر عينًا من الماء بالأسباط الإثنى عشر، والسبعين نخلة برؤساء الأمم السبعين. ويفسر يوستين الإثني عشر عينًا على أنها المعمودية، بينما يقول ايرينيئوس أن الاثني عشر عينًا هي تعاليم الاثنا عشر تلميذًا. ويرى ترتليان أن السبعين نخلة هي السبعين رسولاً.

[71] 1 كو 10: 4. وعند فيلون الماء الخارج من الصخرة هو الحكمة، وعند ايريناوس هو تعليم التلاميذ. ويفسر أوريحينوس ضرب الصخرة على أنه إعلان كلمة الله، ويذكر أن المسيح ضرب على الصليب وجعل ينابيع العهد الجديد تتدفق. ويهتم القديس غريغوريوس بأن يجعل تفسيره من الكتاب المقدس.

[72] لم يرد هكذا في الكتاب المقدس.

[73] عند فيلون وأوريجينوس يرمز المن لكلمة الله، ويراه القديس غريغوريوس على أنه كلمة الله المتجسد، الابن الذي ولد من العذراء.

[74] تقليد اختلاف طعم المن طبقًا للأكل مستوحى من سفر الحكمة 16: 20. وينظر إليه أوريجينوس من وجهة نظر رو 14: 2.

[75] يقول العلامة أوريجينوس: [إن أخذ غير المؤمن كلمة الله ولم يأكلها (أي يعيش بها) بل أخفاها، يتولد فيها الدود.] In Exodus, homily 7:8.

[76] ويقول العلامة أوريجينوس: [يليق بنا في اليوم السادس إن نجمع ونخزن ما يكفي لليوم التالي. إن كنت تجمع هنا أعمالاً صالحة، إن كنت تخزن هنا كنوزًا للبرّ والرحمة والتقوى، فإنها تمثل غذاءك في الدهر الآتي. ألا تسمع في الإنجيل أن الذي ربح عشر وزنات أخذ مقابلها عشر مدن، والذي ربح خمس وزنات أخذ مقابلها خمسة مدن. هذا ما يقوله لنا الرسول بصورة أخرى “ما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد” (غل 7:6).] كما يقول: [من خزن للسبت لم يفسد ولا أتى فيه دود بل بقى سليمًا، أما إن كنت تخزن للحياة الحاضرة حبًا في هذا العالم فسيتولد فيك الدود.] In Exodus, homily 75, 6..

[77] يقول العلامة ترتليان في إجابته على اليهود: [إني مندهش أنه في الوقت الذي كان فيه يشوع يحارب مع عماليق، كان موسى يصلي جالسًا بيدين منبسطتين. مع أنه كان في ظروف حرجة وكان بالأحرى يلزمه أن يصلي بركب منحنية، ويدين تقرعان على الصدر، ووجه منبطح على الأرض… لكنه كان ضروريًا أن يحمل رمز الصليب حتى يغلب يسوع المعركة بالصليب.]

[78] يقول العلامة أوريجينوس: [إن أتيت بملابس قذرة تسمع هذه الكلمة: “يا صاحب لماذا دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العريس؟” (مت 12:22). إذن، لا يستطيع إنسان ما أن يسمع كلام الله إن لم يتقدس أولاً فيكون مقدسًا جسدًا وروحًا (1 كو 34:7)، يغسل ثيابه ليدخل بعد لحظات إلى مائدة العريس ويأكل جسد الحمل ويشرب كأس الخلاص. لا يدخل أحد إلى هذه المائدة بملابسٍ قذرةٍ، وقد أوصت الحكمة بذلك في موضع آخر: “لتكن ثيابك كل حين بيضاء” (8:9). لقد غسلت ثيابك مرة واحدة عندما نلت نعمة المعمودية، وتطهر جسدك. وتخلصت من كل دنس الجسد والروح، “فالذي طهره اللَّه لا تدنسه أنت” (أع 10: 15).] In Exodus, homily 11:7.

[79] يرى البابا أثناسيوس في هذا الاستعداد رمزًا للدخول إلى الحياة الفاضلة التي بدونها لا يقدر أن يدخل موسى إلى حضرة الله ويتسلم الشريعة، إذ يقول: [خلال الفضيلة يدخل الإنسان إلى اللَّه كما فعل موسى في السحابة الكثيفة حيث كان الله. أما خلال الرذيلة فيخرج الإنسان من حضرة الرب كما حدث مع قايين حين قتل أخاه (تك16:4)، إذ خرج من لدن الرب عندما قلقت نفسه.] Paschal Epistles 10:4.

[80] يقول القديس غريغوريوس: [وبعدما سكت الذين كانوا ينصتون إلى العروس فيقول النص: “افتحي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي لأن رأس قد امتلأ من الظلّ وقصص من ندى الليل” (نش 2:5). إن تفسيري سيساعدك على فهم معنى هذا النص. أبتدأ ظهور الله لموسى العظيم خلال النور (خر 18:19)، وبعدها كلمه من خلال السحاب (خر 21:20). وبعدما أرتفع موسى إلى أعلى وأصبح أكثر كمالاً، رأى موسى اللّه في الظلام (خر 15:24-18). نتعلم من هذا المثال أن ابتعادنا عن الأفكار الغير صحيحة الخادعة عن الله هو انتقال من الظلام إلى النور. بعد ذلك يقود الفهم الدقيق للأشياء المخفية، والنفس لمعرفة طبيعة اللّه الغير منظورة، من خلال الرؤى التي يُرمز لها بالسحاب، وهو لا يسمح بالرؤية الكاملة لما يوجد خلفه. ولكن تتعود النفس بالتدريج أن ترى ما يختفي وراءه. وأخيرًا تُقاد النفس إلى أعلى، وتنسى ما تتمكن الطبيعة البشرية من فهمه، وتدخل إلى قدس معرفة الله حيث تحاط من كل جانب بالظلمة المقدسة. وتتخلى النفس عن كل شيء آخر، أي المظاهر والأفكار، والشيء الوحيد الباقي لفهمها هو حيث يسكن الله الغير منظور والذي لا يمكن الوصول إليه. يقول الكتاب من معُطى الشريعة: “وأما موسى فقد اقترب من الضباب حيث كان اللّه” (خر 21:20).] عظة 11 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[81] يقول القديس جيروم: [الرب في الضباب، هو في النور وفي الضباب أيضًا. هو في النور بالنسبة للمبتدئين الذين يتحدث معهم بوضوح، لكنه بالنسبة للمتقدمين يحدثهم بطريقة سرائرية mystically فهو لا يتحدث مع الرسل كما مع الجماهير، إذ يتحدث مع الرسل بطريقة سرائرية. ماذا يقول؟ “من له أذنان للسمع فليسمع” (لو 8:8). هذا هو معنى “وضباب حوله”، أي حوله أسرار. لهذا يقول في سفر الخروج إن كل الشعب كانوا واقفين أسفل وأما موسى وحده فصعد على جبل سيناء في ضباب سحابة ثقيل، لأن كل شعب الله غير قادر على التعرف على الأسرار، أما موسى فكان وحده يقدر أن يفهم. لهذا يقول الكتاب: “جعل الظلمة سترة حوله” (مز 12:18).] On Ps. Homily 24.

[82] ربما قصدوا جلد السماء، فإن كثير من الآباء يرون في اللون الأزرق إشارة إلى السماء.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى