غريغوريوس النيصصي

غريغوريوس النيصصي

غريغوريوس النيصصيلا نملك المعطيات الكافية عن تفاصيل حياته إنما نستطيع أن نتبع مراحلها من خلال معلومات مبعثرة في كتاباته، من رسائل  باسيليوس ومن وثائق تاريخية كنسية. فقد استقصى المؤرخون مراحل حياته كما يلي:

هو الابن الرابع لباسيليوس الشيخ وإميليا القديسين وأخ كل من القديسين باسيليوس الكبير والبارة مكرينا والأسقف بطرس السبسطي. أصغر من أخيه باسيليوس بسنوات قليلة. لذلك قيل إنهُ ولد سنة 331م على وجه التقريب، وقيل أيضا ًسنة 335م.نشأ غريغوريوس في عائلة مسيحية عرفت بالتقوى والقداسة، أعدّته منذ نعومة أظافره للحياة الإكليريكية. فرُسم قارئاً في الكنيسة وهو ما يزال فتى. إلا أنه تحول لفترة دعوته وآثر تعليم الخطابة ثم تزوج من فتاة ذات ثقافة دينية مميزة أحبها جداً. ولكن تحت تأثير أخيه باسيليوس وصديقه غريغوريوس اللاهوتي ترك منبر التعليم، واقتنع بأن كل شيء في هذه الدنيا باطل فالتحق بهما في عزلة الدير الذي أسسته عائلته على ضفاف نهر الإيريس في كبادوكيا. بقي في هذا الجو الرهباني الهادئ لمدة عشر سنوات، إلى أن انتزعه أخوه من الدير حيث طابت له الحياة ليفرض عليه أسقفية مدينة نيصص.

لا نعلم شيئاً عن مصير زواجه وزوجته، ولكن ثمة عبارة تدل على أن علاقته مع زوجته أصبحت روحية فقط وربما توفيت قبل سيامته أسقفاً. إلا أنه لم يقبل هذه المهمة التي فرضها عليه باسيليوس إلا مرغماً.

شخصيته لم تتحرر من تأثير أخيه ولم يستطع أن يعارض مشيئته. ولكننا نشعر بأن هذا العمل الرعائي لم يوافق طبعه، فهو لم يكن يملك المؤهلات الكافية للأعمال الإدارية. كان باسيليوس يشكو في رسائله من سذاجة أخيه وعدم خبرته الكلية في شؤون الإدارة الكنسية.

ترعرع القديس غريغوريوس في قيصرية الكبادوك. درس على يد أبيه باسيليوس وانكبَّ على مكتبتِهِ. درس الفلسفة بشغف وإمعان. ارتياده المدارس كان متقطِّعاً. لم تستهوِهِ نزعة أمه ولا شغفها بالمسيحية. مع ذلك كان مقبلاً على الكنيسة وسيم قارئاً. كان يتأفف في شبابه من الصلوات الطويلة والتلاوات المزمورية التي تدوم الليل بطوله.

تعلَّم غريغوريوس في شبابه علم البلاغة وصار معلِّماً بارعاً, حتى أنساهُ ذلك أنهُ قارئ في الكنيسة, وهذا ما دفع صديقه القديس غريغوريوس اللاهوتي أن يكتب له طالباً منهُ أن لا يسعى لكي يُدعى بليغاً بل مسيحيِّاً.

بإيعاز من باسيليوس الكبير أخي القديس غريغوريوس , كتب هذا الأخير كتاباً حول العذريَّة. الكتاب أدنىَ إلى التأملات الفلسفية منهُ إلى المعاش. وقد أبرز فيه غريغوريوس أنَّ المثال بالنسبة إليه يكمن في الثاوريا، في تأمل النفس لله بعد أن تكون قد تجردت من الهموم إلا من محبة الله. وقد اعتبر أن الزواج والخوض في الهموم العالمية نتيجة ذلك, إنَّما يشكل تهديداً لنقاوة النفس. لم يدافع عن العزوبية كعزوبيَّة بل تحدَّث عن المعاناة والهموم التي تواكب الزواج, وخلص إلى أن الوجه الداثر للزواج سبب كافٍ للإعراض عنهُ.

اسقفيَّتُهُ:

سيم غريغوريوس أسقفاً على نيصص التي تبعد عشرة كيلو مترات عن قيصرية الكبادوك لجهة الشرق، من قِبل أخيه باسيليوس الكبير عنوةً. نتيجةً للصراع الذي دار بينه وبين الإمبراطور فالنس الذي شطر أبرشية قيصرية إلى شطرين وعيَّن أحد أتباعه الأريوسيين المسمَّى أنثيموس في تيانا.

لذلك جاء تعيين القديس غريغوريوس كي لا يضعَف سلطان القديس باسيليوس, بالرُغم من أن غريغوريوس لم يكن يعرف شيئاً بما يخص الأسقفيَّة.

لم يكن لغريغوريوس أية معرفة بالسلوك البشري. اللبَّاقة في التعاطي مع الناس كانت تنقصه, كما لم تكن له أية فكرة عن القضايا المالية وكيفيَّة معالجتها. لذلك لم يلبث أعداؤه من الآيوسيين أن وجَّهوا له اتهامات تتعلق باستعمال أموال أسقفيته وتحويلها لمصلحته.وقد أدين ووضع الحرس الأمبراطوري الأصفاد في يديه. لكنَّه تمكن من الإفلات واختبأ لدى بعض أصحابه. في تلك الأثناء أطاح به مجمع ضمَّ عدداً من الأساقفة الأريوسيين, وقد أقام في التواري سنتين إلى حين وفاة فالنس الإمبراطور.

استهواه رغم ذلك شيءٌ ما في نيصص. فقد تعلَّق به الناس هناك تعلقاً كبيراً وأحب هو بيته الصغير فيها حبَّاً جمَّاً. وقد أبدىَ غيرةً على شعبه وإخلاصاً. وكان يقوم بواجباته ويقضي أيَّامه في صلاة مع ربّه في صلاة وشكر.

حبُّهُ للصَّلاة:

كان القديس غريغوريوس يعلِّق على حياة الصلاة أهميَّة قصوى. من أقوالِهِ فيها:” الصلاة هي بهجة الفرحين, وتعزية المضنوكين, وتاج العروس, والعيد في أعياد الميلاد, والكفن الذي يلفُّنا في مثوانا الأخير”.

غريغوريوس النيصصيحامي الأرثوذكسيَّة:

وكان الإمبراطور الحاكم والنس يميل إلى الهرطقة الآريوسية فساندهم في عقد مجمع محلي سنة 376 أقال غريغوريوس. فاضطر إلى التخلي عن أبرشيته لفترة من الزمن. إلا أن بعد موت الحاكم عاد غريغوريوس إلى مدينة نيصص منتصراً واستُقبل بحفاوة، وتابع عمله الرعائي بسلام.

بعد وفاة القديس باسيليوس, والقديسة مكرينا, مصدرا ومعلما الإيمان والسند الوحيد لأخيهما غريغوريوس, شعر هذا الأخير بالوحدة والضعف، لكن هذه الوحدة والعزلة وضعت غريغوريوس في موضعٍ لا يحسد عليه, من البؤس والحزن. ومن قلب البؤس والحزن شقَّ قديسُنا طريقه نتيجة شعوره بالمسؤولية الكبرى التي صارت على عاتقه. فعمل على أن يكون أكبر من مصابه, وأن يكون راعياً حقيقياً أميناً على الرسالة المسيحية التي أتُمنَ عليها. وكان كذلك حتى شهد لهُ كل آباء زمانه والأزمنة اللاحقة حتَّى اليوم.    

سنة 379م اشترك غريغوريوس في مجمع إنطاكي وكُلِّف القيام بجولة استطلاع على كنائس البنطس. كذلك سنة 381م اشترك وصديقه غريغوريوس اللاهوتي في المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية. وقد ألقى الخطبة الافتتاحية فيه. سمَّاه الإمبراطور ضامن الأرثوذكسية في بلاد البنطس. كانت مهمته أن يمتحن إيمان أساقفتها, فيثبِّت النيقاويين ويُقيل الآريوسيين. جرى تكليف القديس غريغوريوس بعدد من المهام منها الاطلاع على وضع الكنيسة في العربية وبابل.

مؤلفاتُهُ:

كتب القديس غريغوريوس كتباً عديدة منها:” في التعليم المسيحي”,”حياة موسى”,” في صلاة الأبانا”,” حياة مكرينا”,” في نشيد الأنشاد”,” في المؤسسات المسيحية”,” في التطويبات”.

رُقادُهُ:

رقد القديس غريغوريوس سنة 395م بعد اشتراكه في المجمع المنعقد سنة 394م.

ألقابُهُ بحسب ما وصفته الكنيسة:

” أعظم اللاهوتيين الروحيين في الكنيسة”,” عمود الأرثوذكسية”،”أبو الآباء”.

تعيّد له كنيستنا الأرثوذكسية في العاشر من كانون الثاني

طروبارية باللحن الرابع
يا إله آبائنا الصانع معنا دائماً بحسب وداعتك، لا تُبعد عنا رحمتك، بل بتضرّعاتهم دبّر بالسلامة حياتنا.

قنداق باللحن الثاني
إن رئيس كهنة البيعة الإلهي، ومسارّ الحكمة الموقرَّة المختار، ذا العقل الساهر غريغوريوس الراتع مع الملائكة والمتنعم بالنور الإلهي، يتشفع بغير فتور من أجلنا جميعاً.

في سنة 379 يبرز اسمه في المجمع المنعقد في مدينة أنطاكية الملتئم لإنهاء مشكلة الانشقاق فيها. تسلطت الأضواء عليه في هذا المجمع نظراً لموهبته الخطابية المميزة، فنال ثقة المجمع وأُرسل بمهمة إلى فلسطين والعربية. فيما بعد نلتقيه في مجمع القسطنطينية سنة 381 حيث حيّاه المجتمعون كـ “عمود الأرثوذكسية”. نلاحظ أن في هذه الفترة كان قد توفي باسيليوس ولذلك برزت شخصيته بقوة إلى حيّز الوجود. فمثّل دوراً هاماً أثناء انعقاد المجمع وشعر الجميع بأنه وريث فكر أخيه الذي اختارته العناية الإلهية لكي تنتصر الحقيقة بواسطته. يبدو أن فصاحته نالت فيما بعد إعجاب بلاط القسطنطينية، فنراه ما بين سنة 385 و386 يلقي عظة رائعة في تأبين الأميرة بولكاريا، ثم بعد ذلك استدعي لوفاة الأمبراطورة فلاسيللأ زوجة ثيودوسيوس، فاستذوقت كلمته التأبينية الطبقة الأرستقراطية وذاعت شهرته وازداد نفوذه. إلا أن هذا الأمر لم يؤثر على كبريائه بل بقي متواضعاً مبتعداً عن أمجاد الدنيا. بعدئذ يذكر اسمه سنة 394 في مجمع ثان عقد في القسطنطينية ثم يتوارى ذكره من صفحات التاريخ. توفي على الأرجح سنة 395.

يُطلَق عليه مع أخيه والنازينزي لقب الآباء الكَبادوكيّين لأنهم يتحدّرون من منطقة الكَبادوك في وسط تركيا. ألّف الكثير من المقالات والتفاسير الكتابية والكتابات الروحية والمواعظ. من أهم أعماله: خلْق الإنسان, شرح ستة أيام الخليقة, حياة موسى, شرح التطويبات (متى 5: 1-12) والصلاة الربية… توفي حوالي العام 395, وتعيد الكنيسة لذكراه في العاشر من كانون الثاني.

لعب الآباء الكبادوكيون دورا كبيرا في توضيح لاهوت الثالوث الأقدس. فهم قد ميّزوا بين الأقنوم(أو الكائن) والجوهر(الطبيعة), وقالوا إن الآب والابن والروح القدس إله واحد وطبيعة واحدة. كما أنهم أكدوا على أن الأبوة هي ميزة الآب, والولادة من الآب هي ميزة الابن, والانبثاق من الآب هي ميزة الروح القدس. ويبيّن قديسنا النيصصيّ, في مقالة عنوانها “ليس هناك ثلاثة آلهة”, أن كل عمل في التاريخ يقوم به الآب أو الابن أو الروح القدس, إنما يقوم به بالاشتراك مع الاثنين الآخرين, فيقول: “في الطبيعة الإلهية لا يعمل الآب شيئا ما إلا مع الابن, وكذلك الابن لا يقوم بعمل ما منفصلا عن الروح القدس, بل كل عمل يمتد من الله إلى الخليقة, ويمكننا تمييزه وفق مفاهيمنا, إنما أصله في الآب, ويأتي من الابن, ويجد كماله في الروح القدس”. واضحةٌ إشارة غريغوريوس هنا إلى وحدة الطبيعة الإلهية, وإلى عدم تعدد الآلهة في المسيحية. كذلك فإن النص ذاته يشدد على وحدة العمل, وكأن الكاتب أراد بهذا القول الإشارة إلى الإرادة (أو المشيئة) الإلهية الواحدة التي تجمع الآب والابن والروح القدس.

واهتمّ الآباء الكبادوكيون, ومنهم القديس النيصصيّ, بتبيان ألوهة الروح القدس ضد مكدونيوس وإفنوميوس وأتباعهما. أما مكدونيوس فكان ينكر ألوهة الروح ويردد أن الروح هو “أحد الأرواح الخادمة, وأنه لا يختلف عن الملائكة لا بالرتبة”, لذلك دُعي أتباعه “محاربي الروح”. أما إفنوميوس فكان يجعل الروح القدس ثالثا في الكرامة والمرتبة والطبيعة بعد الآب والابن. تصدى النيصصيّ لهؤلاء المبتدعين ودحض ادّعاءاتهم انطلاقا من عمل الروح الذي لا ينفصل عن الآب والابن. فيتساءل إذا كانت النعمة الإلهية تأتينا من الآب والابن والروح, فكيف يمكن أن يكون الروح مخلوقا, وهو الذي يحيينا بالمعمودية؟ لا بد, إذا, أن يكون الروح أزليا. وفي الإطار ذاته, يصوّر غريغوريوس العلاقة بين الآب والابن والروح القدس, بشكل بديع, فيقول إن “الآب هو الماسح, والممسوح (أو المسيح) هو الابن, والمسحة نفسها أو زيت البهجة هو الروح القدس”.

يعرض أسقف نيصص في كتابه “خَلْق الإنسان” لمركز الإنسان في الخليقة وعلاقته مع الله خالقه. فيستخلص من روايتي الخلق في سفر التكوين درسا مفاده أن “آدم”, أي “الترابي”, يمثل الإنسانية كلها. وهذا يعني بالنسبة إلى الكاتب أن “آدم” هو تسمية جماعية لا تدل على شخص واحد بل على مجموعة. وفي هذا يلتقي النيصصي وأحدث التفاسير المعاصرة. وهو يعتقد أيضا أن الإنسانية مجتمعة هي صورة الله. أما الفرق بين الله والإنسان, الذي هو صورة الله, فهو أن الأول غير مخلوق والثاني مخلوق. الفرق الأساسي هو أن الأول كائن بذاته, أما الثاني فيستمد وجوده من الأول مخلوقا من العدم.

وفي الكتاب عينه يتطرق النيصصي إلى موضوع الشر, فيؤكد أن حرية الإنسان, التي جعلها الله فيه, هي التي دفعت بالإنسان إلى ارتكاب الخطيئة والوقوع في الشر. والحرية هبة مجانية من الله تميّزه عن باقي المخلوقات غير العاقلة. والإنسان قد خطأ في استعمال حريته هذه, بسبب جهله وعدم تمييزه وقلّة خبرته, فانحرف عن سلوك طريق القداسة واختار الابتعاد عن الله. وغريغوريوس يرى أن الشهوة هي أصل كل الشرور. ومع اعترافه بأن الإنسان كان ضحية الشيطان ومكائده, إلا أنه يتوانى عن إلقاء المسؤولية باستشراء الشر في العالم على عاتق الإنسان.

يجعل القديس غريغوريوس النيصصيّ تماهيا بين الروح القدس والملكوت السماوي, إذ ينقل إلينا أن الآية “ليأتِ ملكوتك” في الصلاة الربية وردت في إحدى القراءات “ليأتِ الروح القدس علينا ويطهّرنا”. هذا التماهي استمر في الإيمان المسيحي والتقليد. ولأن الروح القدس حاضر دوما في حياة الكنيسة والمؤمنين, فالملكوت ليس شيئا مستقبليا ننتظره بل هو حاضر أيضا في حياة الجماعة المسيحية.

انتقل إلى أعلى